السبت، 24 سبتمبر 2016

من العقلانية الإيبيستيمولوجية إلى العقلانية النهضوية في فكر محمد عابد الجابري./ يوسف بن عديّ.

من العقلانية الإيبيستيمولوجية إلى العقلانية النهضوية في فكر محمد عابد الجابري   
    
يوسف بن عدي (مؤمنون بلا حدود، آب 2013)
http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D8%A7%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D9%8A-646


التمهيد
لا أحد يجادل في أن مشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري ـ رحمه الله ـ ما زال يثير سجالات فكرية ومنهجية وإيديولوجية. والشاهد على ذلك، تعدد القراءات لنصوص الجابري التراثية والنهضوية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى فرادة مشروع ناقد العقل العربي الذي رسم حدودا فاصلة بين استعمال سلاح النقد واستعمال نقد السلاح.
من الواضح أن مبررنا النظري والفكري في الجمع بين العقلانية والنهضة هو مبرر يصدر من صاحب المشروع ذاته، حينما استشكلت العلاقة بينهما كما يلي: "هل يمكن تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية؟ هل يمكن تحقيق نهضة بدون عقل ناهض؟"(1)
ومن الجلي أيضا أن من وظائف العقلانية النهضوية في فكر الجابري هي محاولتها ترتيب قضايا الفكر العربي المعاصر، وإعادة النظر فيها في ضوء تحولات الواقع العربي الذي يسهم بقوة في تجدد المنظومات الإيديولوجية العربية؛ أي من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الفلسفة الجامدة إلى الفلسفة الحية، ومن الاتباعية المقلدة إلى الإبداعية المتفردة.(2)
وبهذا الاعتبار، فإن الجابري يعمل على التمييز-الإجرائي- ما بين العقلانية الايبيستيمولوجية والعقلانية النهضوية، وهو تمييز يشير إلى أن للعقلانية استعمالين مختلفين للعقلانية ذاتها. وأما العقلانية المنهجية (الايبيستيمولوجية)، فهي التي رسم معالمها وخصائصها ناقد العقل العربي في أكثر من سياق ومعرض. ألم تر كيف يحدد الرجل العقل باعتباره عقلا سياسيا أو أخلاقيا..؟ وهي مناحي للعقل العربي الفاعل والسائد على حد سواء. يقول الجابري في هذا السياق: "يمكن النظر إلى "العقل العربي" بوصفه عقلا سائدا قوامه جملة مبادئ وقواعد تؤسس المعرفة في الثقافة العربية(...)، ومن جهة أخرى يمكن النظر إلى "العقل العربي" بوصفه عقلا فاعلا ينشئ ويصوغ العقل السائد في فترة تاريخية ما، الشيء الذي يعني أنه بالإمكان إنشاء وصياغة مبادئ وقواعد جديدة تحل محل القديمة..".(3)
وينتج من هذا أن للعقلانية مراتب ـ إن صح التعبير ـ عقلانية منهجية، وهي لا تنفصل على الإطلاق عن الإيديلوجيا. هذه الأخيرة التي هي أكثر من تمثل الفرد أو الجماعة, إنها بينية جماعية لاشعورية. وهكذا يتبدد النقد التي يثار في مشروع الجابري عن علاقة الايبيستيمولوجيا بالإيدولوجيا. من حيث إن المبدأ ليس في اجتثاث فكرة الإيدولوجيا عن العقلانية الابستيمولوجية أو المنهجية، بقدر ما هو الوعي بمسالكها والقدرة على التحرر منها. وهذا لا يتحصل إلا إذا تمكنا من التمييز بين" الدرس الايبيستيمولوجي وبين التوظيف الايبيستيمولوجي بمعناها المعاصر تتعلق بالمعرفة العلمية.(...)، أقول كل معرفة يمكن أن تتصف بهذا الوصف العلمي تسمى علما، أو يمكن أن تتعامل كعلم".(4) وينجم من هذا، أن ترديد القول بأن مشروع نقد العقل العربي هو في الأساس "غياب الابستيمولوجيا وحضور الإيدولوجيا مما انعكس سلبا على الفلسفة العربية الإسلامية..".(5)
وهذا كله من شأنه أن يبرز لنا أن مفهوم العقل والعقلانية في أعمال الجابري يختلف من حيث (الفعل) والإمكان (القوة)؛ فالعقل من حيث الاستعداد هو ملكة أو أحسن قسمة بين الناس كما يقول ديكارت، ولأنه من جهة الفعل والاستدلال هو متباين بتباين خصوصية لسان الأمة وتاريخها.
ومن ثمة فالعقلانية هي كالعقل الهيولاني استعداد وإمكان، إنها ليست خارجة إلى الفعل على الدوام(كالعقول المفارقة)، بل إنها عقلانية ممكنة وفق شروط ومجالات تداولية محددة. ويترتب عن ذلك أن مسوغات كلام الجابري عن محددات العقل العربي أو الثقافة العربية ومحاولاته انتخاب مرجعيات نظرية وفلسفية مشار إليها، هي مسوغات لها صلاحيتها وملائمتها بالمعنى العلمي. وهذا الأمر يدفعنا إلى بيان مراتب العقلانية وفعاليتها في فكر الجابري في هذه الورقة المقدمة.

أولا- العقلانية الايبيستيمولوجية: جدل الانفصال والاتصال
لاشك أن البحث عن مقومات العقلانية الايبيستيمولوجية في أعمال الجابري، إنما يمتد إلى ما قبل إصداره لكتاب:" نحن والتراث"(1980). إذ لا يخفى على المطلع على مشروع نقد العقل العربي أن يستوقفه شغف الرجل بتاريخ العلوم والابستيملوجيا، وهو الدافع الرئيس في كتابته لـ"مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن-1976)/ الجزء الأول: "تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة"؛ والثاني: "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي). ومعلوم أن إشكالية نقد العقل العربي هي إشكاليتي: التراث والحداثة، ومعنى هذا أن نقد التراث عند الجابري، يستلزم التوسل بجملة من الأدوات والمفاهيم والتصورات التي تنتمي إلى مكتسبات الفكر الحديث ومنجزاته. لهذا كان "حضور الابستيمولوجيا ضمن المشروع الفكري للجابري يهدف إلى إعطاء هذا المشروع حداثة ما..".(6) وهكذا دعوته إلى قراءة التراث " قراءة عصرية أو حداثية" عن طريق الإشكال التالي: كيف يمكننا قراءة التراث الفلسفي العربي؟.
إن طريق الحداثة هو طريق الانتظام النقدي في التراث، سواء كان التراث العربي الإسلامي أم التراث الأوروبي الحديث. يقول الجابري:" لقد انطلقت كل منهما من الانتظام في التراث، وهو تراثها الخاص أو ما نعتقده أنه كذلك، ولكن لا ليتفق عنده جامدة راكدة، بل لتتكئ عليه في عملية التجاوز النهضوي، تجاوز الماضي والحاضر عن طريق امتلاكهما..".(7)
والأهم من هذا كله، أن العقلانية الابستيمولوجية في فكر الجابري قد ارتكزت على مناهج وتصورات حداثية، تحيل على مرجعيات وسلط معرفية غربية، منها مثلا، مفهوم القطيعة و اللاشعور المعرفي والنظام المعرفي والعقل المكون(بفتح الواو) والعقل المكون(بكسر الواو).. والتي توسلها بها الجابري بمقتضى "العمل على تبيئتها في وسطنا واستنباتها في تربتنا، حتى تكون على صلة عضوية بمعطيات واقعنا".(8)
ويترتب عن هذا، أن طريق الحداثة في فكر الجابري-على نقيض عبد الله العروي- لا تعني رفض الماضي والتراث جملة وتفصيلا" بقدرما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى "كسر قيود التقليد وقطع خيوط التبعية. إنه"الاستقلال التاريخي" الذي لا ينال إلا بممارسة النقد المتواصل للذات والآخر أيا كان هذا الآخر".(9)
إننا لا نبالغ إذا قلنا إن العقلانية الايبيستيمولوجية التي نروم بيان مقوماتها هي عقلانية منهاجية؛ حيث تم رسم معالمها من قبل الجابري عن طريق- كما أشرنا- استثمار المفاهيم والأدوات التي سوف تمكنه فيما بعد من نقد المجتمع، ونقد الاقتصاد ونقد العقل، إذ أن غياب هذه الخلفية الفلسفية والنظرية، يجعل كل حديث عن النهضة والتقدم من باب الحلم والأمل.
من الواضح أن التمييز في مشروع نقد العقل العربي ما بين العقلانية الايبيستيمولوجية و بين العقلانية النهضوية، قد يبدد الكثير من الانتقادات التي كانت مدار حدود الابستيمولوجيا والإيدولوجيا في أعمال الجابري. والحال أن علاقة المعرفي والإيديولوجي من أساسيات قراءة التراث الفلسفي العربي لدى ناقد العقل، على عكس ما تم ترويجها من قبل بعض النقاد والدارسين. والأهم من كل هذا، أن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، قد عقد ندوة تحت عنوان: "المعرفي والإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر" بتاريخ 10-12 أيار/مايو 2010. وذلك لقيمة الموضوع وأهميته النظرية والفكرية.(10) فانظر كيف لفت هذا التمييز(بين عقلانية ابستيمولوجية وعقلانية نهضوية) انتباه رضوان السيد في عبارة دالة وقوية تحت مقول: "محمد عابد الجابري: من ثقافة البرهان إلى ثقافة النهوض".(11)
ولعل من مميزات اللحظة الثقافية النهضوية الثالثة(12)، والتي ينتسب إليها الجابري، أنها تتسم بالقدرة الفائقة على تنظيم المعارف وتنسيق المفاهيم وتصريفها عند قراءة التراث الفكري العربي والغربي على السواء. وهذا على خلاف مع اللحظة الثقافية النهضوية الأولى والثانية التي يتفاوت فيها التضخم الإيديولوجي بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، لهذا "من المبكر أن نطالب اليوم هؤلاء بأن يكونوا أمس نقديين تجاه ما أخذوه من مراجعهم وأخذوا به، ففي ذلك إسقاط يفتقر إلى التاريخية(...) وإنما بالإمكان القول إن إيمانيتهم المفرطة بما آمنوا به كانت فقيرة إلى الاحتياط المنهجي.(13)
ويتحصل من هذا، أن الحداثة في فكر الجابري هي تحديث التراث ونقد تصوراته التقليدية واللاتاريخية التي لم تسهم إلا في ترسيخ الجمود الفلسفي والعمى الفكري في الفكر العربي المعاصر. لهذا كانت علاقة الذات العربية المسلمة بالتراث، ليست"علاقة نظرية مجردة يكتفي فيها بعقله، وإنما هي علاقة عملية ووجدانية يحياها بكليته، ولا هي علاقة اختيارية يدخل فيها متى يشاء ويخرج منها متى يشاء وإنما هي علاقة اضطرارية لابد له في الدخول فيها لا في الخروج منها".(14) ولذلك يندفع الجابري لدراسة التراث العربي الإسلامي لبيان محدوديته المعرفية والتاريخية وفعاليتها الإيديولوجية المستقبلية. وفي هذا الموضع، اتجه الكاتب نحو تقويم ونقد القراءات السلفية المرتدة عن مقومات الفكر التاريخي المتجلية في قراءة السلفي ونزعات الليبرالي وتطلعات الماركسي، إنها قراءات تفتقر إلى روح الموضوعية والنقد. وهكذا، أضحت مشكلة التراث لدى الجابري هي مشكلة المنهج كقوة استدلالية على دفع الدعاوى المقلدة(اللاتاريخية) وتطوير المطارحات الفلسفية(ابن باجه -ابن رشد -ابن خلدون..) المضطلعة بأدوار إيديولوجية عربية مرتقبة. يقول الجابري في هذا المعرض: "لا سبيل إلى التجديد والتحديث، ونحن هنا لا نتحدث عن العقل العربي إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكاناته الذاتية".(15)
وبهذا الاعتبار، استطاع المفكر العربي أن يبني عقلانيته الابستيمولوجية(المنهجية) على أساس منطلقات وخطوات منهجية واضحة، تتجلى في رهانين هما: مشكلة الموضوعية ومشكلة الاستمرارية.
أما مشكلة الموضوعية، فهي مشكلة" فصل المقروء عن القارئ، بمعنى تلك العلاقة " الذاهبة من الذات إلى الموضوع، والموضوعية ـ كما يرى الجابري. تعني فصل الموضوع عن الذات".(16) كما أن العلاقة الثانية في معرض الموضوعية فهي:" الذاهبة من الموضوع إلى الذات، والموضوعية تعني في هذا المستوى فصل الذات عن الموضوع". (17)
ويتولد من هذا، أن تحقيق الموضوعية تتمثل في الانفلات من سيطرة الموضوع التراثي على الباحث بمخزونه الوجداني والإيديولوجي. وفي منأى عن إسقاط الذات ورغباتها وميولاتها على الموضوع المدروس. ومن ثمة، فإن الموضوعية هي: "جعل التراث معاصرا لنفسه"،(18) أي لحظة " الانفصال".
وبهذا، نقول إن مشكل الموضوعية في قراءة التراث الفلسفي العربي في فكر الجابري لا يتحصل إلا من خلال ثلاث خطوات أساسية، وهي كالآتي:
(أ)- المعالجة البنيوية: وهي المعالجة التي تنصب على تحليل النص تحليلا بنيويا، بمعنى "التعامل مع النصوص كمدونة، ككل تتحكم فيه ثوابت ويغتني بالتغيرات التي تجري عليه حول محور واحد".(19)
(ب)- التحليل التاريخي: وهي الخطوة الثانية التي تسد ثغرات التحليل البنيوي، وذلك بربط صاحب النص"بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية". هذا الربط ضروري ليس فقط لاكتساب فهم تاريخي للفكر المدروس، بل أيضا لاختيار صحة النموذج(البنيوي)..".(20)
(ج)- الطرح الإيديولوجي: فهو أيضا إضافة خطوة منهجية أخرى في عملية فهم وتعقل الوظيفة التي يقوم بها هذا الفكر في لحظة تاريخية معينة؛ أي الأدوار الإيديولوجية والسياسية" التي أداها الفكر المعني، الذي ينتمي إليه"(21). فانظر كيف أن "الكشف عن المضمون الإيديولوجي للنص التراثي هو، في نظرنا، الوسيلة الوحيدة لجعله معاصرا لنفسه لإعادة التاريخية إليه". (22)
أما مشكلة الاستمرارية في مشروع نقد العقل العربي، فهي، بالأساس، مشكل وصل القارئ بالمقروء؛أي "المعاصرة المتبادلة لتحقق الاستمرارية: استمرارية تقدم الوعي من خلال البحث عن الحقيقة"(23). ويتولد عن هذا ممارسة النقد ونقد النقد عن طريق عملية الانفصال عن التراث " من أجل تحديد الاتصال به، والاتصال به كان من أجل تحديد الانفصال عنه".(24)
وهكذا، فقد تصور الجابري لتاريخ الفكر أنه ينطلق من اعتباره وحدة إشكالية؛ وهذا يعني أن جميع أشكال الفكر وألوانه وتجلياته وتياراته تلج إشكالية واحدة كلية. وهذا هو التحليل البنيوي. فضلا عن ذلك، أن علاقة المعرفي بالإيدولوجي في مشروع الجابري، يعني ضرورة التمييز- من الناحية المنهجية- بين المادة المعرفية(جهاز،مفاهيم،تصورات...) وبين الوظيفة الإيديولوجية التي يتطلع إليها الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي.. من جراء تلك المادة المعرفية.(25) فـ"المحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي اللذان يجمعهما فكر واحد ليس من الضروري أن يكونا متساوقين، أي على درجة واحدة من التطور، بل غالبا ما يكون أحدهما متقدما والآخر متخلفا، بعبارة أخرى أن الانتماء إلى نفس الإشكالية وإلى نفس الحقل المعرفي لا يعنى بالضرورة الانخراط في نفس الإيدولوجيا. ولا توظيف المادة المعرفية التي يقدمها ذلك الحقل في أغراض أيديولوجية واحدة، بل ما يجعل في كثير من الأحيان ما تحمله المنظومة الواحدة، بل الفكرة الواحدة، مضامين إيديولوجية مختلفة".(26)
من هنا، فإن لحظة" الاتصال" تنجلي في سياق الاستمرارية؛ حيث يصبح التراث" معاصرا لنا، أي إعادة وصله بنا".(27) بالرغم من أن الجابري قد وضح في أكثر من مناسبة أن "لحظة الاتصال أو الوصل لم تبدأ بعد. وآية ذلك، أنها لحظة إبداع لا لحظة استهلاك، هي لحظة تجديد لا لحظة التقليد الأعمى، إذ ليس أدهى من الوقوع في تقليد التقليد وشراك التبعية. والمطلوب هو العمل بمبدأ لا وجود لحداثة مبدعة مع وجود التقليد.
وعلى الجملة، نقول إن عملية الانتظام النقدي في التراث الإسلامي العربي هي الخطوة المركزية في بناء مشروع نقد العقل العربي عن طريق جدل الانفصال والاتصال، وإن كانت لحظة الفصل قد تم تحقيقها وإنجاز معظم عملياتها وخطواتها، بيد أن لحظة الوصل هي لحظة الإبداع والانخراط في بناء المشروع النهضوي العربي عن طريق تحقيق " الاستقلال التاريخي للذات العربية" وتوسيع الكتلة التاريخية بين الفرقاء من أهل السياسة والإيديلوجيا والفكر لمحصلة الأمة العربية ووجودها الثقافي والحضاري.

ثانيا- العقلانية النهضوية:تفاعل المعرفي بالإيديولوجي
لا مراء، في أن معركة التراث في الفكر العربي هي معركة النهضة؛ لذلك كان السؤال النهضوي هو سؤال إيديولوجي مشروع.(28) ألم تر أن نهضة الأمم والحضارات عبر التاريخ في حاجة ماسة إلى نظام إيديولوجي، يضخ الآمال والأحلام في الوجدان العربي.
من المؤكد أن نظام الأيديولوجيا هو نظام مفعم بالتناقضات والتحايلات ،وهو أمر من طبيعة التشكلات الإيديولوجية. فضلا عن ذلك،أن "قد تعرض نفسها في صورة غير إيديولوجية،علمية مثلا، والعلموية مثال ذلك،فهي إيديولوجيا بامتياز. كما أن مناهج تحليل الخطاب الحديث تطلعنا على الكيفيات المختلفة التي تتمظهر بها الايدولوجيا وتخادع بها العقل الواعي".(29) لهذا، فان التحرر من وطأة الأيديولوجيا وهيمنتها هو الوعي بها وعدم" الاستسلام لها استسلاما كليا".(30) ويترتب عن هذا،أن الجابري في قراءته التشخيصة قد اعتبر أن التناقض من عيوب الخطاب النهضوي العربي العام، وهو الأمر الذي يجافي تطور العلوم الإنسانية ومناهج الفكر الفلسفي المعاصر؛حيث صار التناقض من صميم العقل العلمي والايبيستيمولوجي المناهض لمبادئ المنظومة الأرسطية الكلاسيكية.
وبهذا الاعتبار،كانت العقلانية النهضوية في فكر الجابري هي معاودات مطردة لإعادة بناء الفكر العربي في ضوء الواقع العربي وتحولاته المشهودة. من هنا تتفاعل العلاقة بين المعرفي والإيديولوجي في المشروع النهضوي العربي. وكان هذا الأخير مشروعا غير مكتمل بلغة هابرماس؛ فانظر مليا كيف أسهم ويسهم مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت من فتح سجالات فكرية واقتصادية وإيديولوجية رفيعة المستوى الأكاديمي والعلمي من أجل ترسيخ الأهداف الستة:التجديد الحضاري- الوحدة- الديمقراطية-التنمية المستقلة- العدالة الاجتماعية- الاستقلال الوطني والقومي.(31)
ومن البين، أن عودة مركز دراسات من جديد إلى صياغة مشروع النهضة العربية والحرص على مشاركة جميع الأطياف السياسية والقوى الوطنية والفكرية لشاهد على أن بناء قضايا الفكر العربي، يستلزم حضور المستجد الإيديولوجي والمعرفي على الدوام. يقول الجابري في هذا المعرض:"إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية بدل مبدأ العلمانية وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة. تلك من جملة الأسس التي يجب أن ننطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي"(32).
وينتج عن هذا عملية الوعي العميق للجابري بمقتضى التداول الإيديولوجي العربي القائم، بالرغم من انتقادات كمال عبد اللطيف في كل مرة وحين بأن الأمر هنا، يتم من خلال عقل التوافق لا نقد العقل مادام في نهاية المطاف أن الديمقراطية هي ثابت من ثوابت العلمنة.
من هنا يسعى الجابري في سياق بناء الفكر العربي أو المشروع النهضوي العربي إلى نقد الأساس المعرفي؛ أي كيفية تصور المثقف العربي لفكرة الديمقراطية والعقلانية والشورى والدين والعروبة..وذلك حتى لا يقع في نقد إيديولوجي للايدولوجيا.(33)
إن الكتابة في شؤون التراث لا تخلو من الهاجس الإيديولوجي، مهما حضر البعد المعرفي بثقله الإجرائي والوظيفي.لذا لا نعجب من محاولة الجابري لبلورة موقف تركيبي، يجمع بين حسه المنهجي وبين موقفه الإيديولوجي المتزن، حينما ينخرط في تفكيك الخطاب ونقد المنتوج النهضوي العربي العام. ألم تر كيف انتقد الجابري مسألة العلمانية، باعتبارها مسألة مزيفة لأنها لا تتطابق مع حاجيات المجتمع.(34) ولعل المطلوب وفق الحاجة الإيديولوجية العربية هو تعويض العلمنة بشعاري "الديمقراطية والعقلانية"، "فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي"(35) الايبيستيمولوجية، بأن الانتماء إلى نفس الإشكالية، نفس الحقل المعرفي لا يعني بالضرورة "الانخراط في نفس الإيديولوجي(...)، بل إن ما يحصل في كثير من الأحيان هو أن تحمل المنظومة المعرفية الواحدة، بل للفكرة الواحدة مضامين إيديولوجية مختلفة".(36)
لا يخفى على ذي بصيرة، أن استغراق المثقف الإيديولوجي العربي اليوم ضمن وحدة إشكالية، قد أضحى من الأمور غير الملائمة من أجل بناء عقلانية نهضوية متوازنة. بعبارة أدق، لقد استبد في الفكر العربي عملية التصنيف والمماثلة الخاطئة بين المثقف والمنظور الإشكالي الذي يقارب به الواقع:" إشكالية المثقف القومي هي الوحدة،وإشكالية داعية التاريخانية هي الثورة الإيديولوجية،وإشكالية السلفي هي الإصلاح..".(37)
ويتحصل من هذا، أن هناك إجماعا بين هؤلاء المثقفين العرب أن الواقع متردي ومتخلف عن مراكب النهضة وموجات الحداثة؛ فمتى علمنا أن المثقف العربي هو صدى لواقعه المأزق : سياسيا واقتصاديا وفكريا، فإن تبديد عملية المماثلة،كما قلنا،بين الإشكالية وطبيعة الرؤية الأيديولوجية، إنما يستلزم حتما، توسيع رقعة القراءة لمشاهد المجتمع وتطور الأفكار والتصورات.
إذ بهذا الاعتبار، صارت العقلانية النهضوية في فكر الجابري خطوة متقدمة لترسيخ ما نسميه " التعدد الإشكالي". وهذا معناه، قدرة المثقف القومي العربي اليوم على اشتكال أو استشكال المفهوم في علاقتها بالمفاهيم الأخرى؛ فالوحدوي لم يعد الآن محشورا في دائرة الوحدة ، وإن كانت هي الغاية والنهاية، بل أضحى يفكر في الوحدة من خلال الدولة القطرية كقوة دافعة لتحقيقها في أتون التجارب. يقول الجابري:" قيام الدولة القطرية العربية أولا ودخولها في مرحلة "التشبيع" من الذات ثانيا. ونحن نقصد ب"الشبع" من الذات الحاجة إلى تأكيد الذات والدخول في "التاريخ" من جهة، والشعور بالقصور الذاتي والعجز التاريخي من جهة أخرى".(38) واللازم من هذا، أن فكرة المماثلة المغلوطة بين التجزئة والوحدة، التي سادت في العقود الماضية عند القومي العربي لا مقتضى لها اليوم، إذ استجدت ديناميات اجتماعية وفكرية وسياسية داخل نظام الفكر والواقع أسهم في هذا التحول التصالح الإشكالي، إن صح التعبير، ما بين الدولة القطرية والوحدة العربية..
ومن البين أن وثيقة المشروع النهضوي العربي التي أشرف عليها مركز دراسات الوحدة العربية، قد رسمت معالم رؤية رصينة في منأى عن انتظار الانتقال الديمقراطية للدول القطرية؛ حتى يتم طرح فكرة الوحدة كقضية مصيرية للوجود العربي..تقول الوثيقة:"لا نهضة للأمة من دون وحدتها القومية وهذا ليس مبدأ نظريا نستفيده بعملية استنباط ذهني،بقدرما هو ترجمة مادية،وحصيلة موضوعية للسيرورة التاريخية التي قطعتها مجتمعات وأمم في سبيل تحقيق نهضتها،التي أتى انجازها وحداتها القومية المدخل إليه والرافعة السياسية التي عليها قام". (39)
إذن، فالديمقراطية في عقلانية الجابري النهضوية هي الشرط أو بلغة المناطقة، المقوم الذاتي للوحدة. وبهذا، فان الديمقراطية هي الرهان في "الاعتراف بجميع الدول العربية بحق مساو في هذه الوحدة مادامت الوحدة لم تتطور إلى مرحلتها الأخيرة مرحلة إلغاء الدولة القطرية"،(40) وهذا بطبيعة الحال، وهذا لا يفوت الجابري، من إعادة التفكير في الوحدة والعروبة ذاتها، إذ من غير المعقول مطالبة الدولة القطرية بالتحول الديمقراطي من دون التفكير في جوهر المشروع النهضوي العربي هو الوحدة. وبالتالي، فالمراجعة هي مراجعة مزدوجة. ولعل هذا الهاجس في المراجعة النقدية هو ما عبر عنه بلقزيز حينما اصدر كتابه: "نقد الخطاب القومي" (منشورات مركز دراسات الوحدة العربية/2010). فالعروبة في الفكر العربي المعاصر، لم تعد تتأسس على رابطة العرق والدم، بل امتدت إلى المعنى الحضاري من حيث هو" رابطة ثقافية- لغوية- اجتماعية صهرت العرب وغير العرب في شخصية حضارية جديدة".(41)
فانظر كيف ينفض الواقع العربي المعاصر عن ذاته غبار الاستبداد والاهانة والتهميش والإقصاء عن طريق الثورات والانتفاضات الشعبية من أجل التجديد الحضاري- الوحدة- الديمقراطية-التنمية المستقلة-العدالة الاجتماعية، وهي جوهر العقلانية النهضوية العربية. ويتحصل من جميع ما تقدم،أن مشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري يميز بين مراتب من العقلانية، وهما: العقلانية الايبيستيمولوجية والعقلانية النهضوية.
وأما الأولى، فتتمحور في الجانب المنهجي والأداتي أو قل منطلقات الرؤية وخطوات المنهج التي تم تحديد معالمها البارزة منذ مؤلفه الأساس: "نحن والتراث". وأما العقلانية النهضوية أو ثقافة النهوض، فهي التي تتمثل في انخراط الجابري في إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، وهي عقلانية مطبقة على حد تعبير غاستون باشلار. وذلك لأنها تتوسل بالعقلانية المنهجية (الايبيستمولوجية) في مراجعة مفاهيم: الوحدة والديمقراطية والدين والدولة والمسألة الاجتماعية.. وهي أمور تستلزم تفاعل المعرفي بالإيديولوجي بصورة كبيرة.وبهذا الاعتبار،فإن العقلانية النهضوية العربية في فكر الجابري هي "لحظة الاتصال" على وجه التدقيق من حيث هي عملية الإبداع والتجديد وفق مقتضى التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية العربية المشهودة. ولعل مشروع النهوض العربي يحتاج إلى تجريح تصورات خلاقة وصوغ مقولات مثمرة، كلما حصلت ديناميات تنم عن مراحل الانتقال والتحول.
من المعلوم أيضا، أن العقلانيتين أعلاه،عقلانية واحدة بالذات ومتعددة بالاعتبار، أو قل هي عقلانية واحدة لها استعمالان. من ثمة، كان الجابري يحلم بكتابة تاريخنا الثقافي العربي بصورة عقلانية وبروح نقدية نابعة من صلب التراث العربي الإسلامي، وهواجس الأمة العربية وآمالها.
وبكلمة، إن العقلانية عند ناقد العقل العربي تتأرجح بين هدفين كبيرين، هما:"التراث ومشكلة المنهج" و"النهضة ومشكلة العقلانية".
*يوسف بن عدي أستاذ باحث في شؤون الفلسفة – المغرب


هوامش المقال
1- الجابري (محمد عابد): "في نقد الحاجة إلى الإصلاح"،منشورات مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الأولى،بيروت،أيلول/سبتمبر2005، ص18.
(2)- يقول الباحث المغربي حمو النقاري في دراسته المعنونة : "في المفهوم من "التقليد" ومن "التجديد": "نعتقد أن التقابل بين "التقليد" و"التجديد" تقابل باطل، فكون الناظر والعارف والعالم مقلدا لا يمنع من جواز كونه مجددا أيضا، ومكونه مجددا لا يمنع من كونه مقلدا أيضا". راجع كتاب: "التقليد والتجديد في الفكر العلمي" – تنسيق بناصر البوعزاتي،منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية-سلسلة: ندوات ومناظرات رقم 10،ص 17.
(3)- الجابري(محمد عابد): تكوين العقل العربي، الجزء الأول، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الثامنة، دار النشر المغربية، الدار بيضاء، 2000، ص17.
(4)- الجابري (محمد عابد): "مواقف،اضاءات وشهادات،/ العدد19، الطبعة الأولى: سبتمبر2003،ص 36
(5)- الإدريسي(حسين):" محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي،منشورات مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت،الطبعة الأولى،2010، ص268.
(6)- الجابري (محمد عابد): "مواقف،اضاءات وشهادات،/ العدد19،الطبعة الأولى: سبتمبر2003، ص28. يقول محمد وقيدي في السياق ذاته: "..الابستيمولوجيا عندما تحضر في هذا المشروع لا تحضر كابستيمولوجيا، وإنما تختزل قبل أن تحضر، تختزل في مجموعة من المفاهيم التي أخذها الأستاذ الجابري عن باشلار،أو عن بياجي أو غيرهما، وهي مجموعة محددة من المفاهيم!"، ص28 من المصدر نفسه.
(7)- الجابري (محمد عابد): "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة 1990، ص24.
(8)- الجابري(محمد عابد): "وجهة نظر...نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1992، ص 129. قارن بينه وبين كتاب:" المشروع النهضوي العربي" (1996).
(9)- الجابري (محمدعابد): "مواقف،اضاءات وشهادات،/ العدد19،الطبعة الأولى: سبتمبر2003،ص60. ضرورة العقلانية هي ضرورة مراجعة مفاهيم وتصورات المشروع النهضوي العربي"في ضوء الواقع تحت ضوء سلاح النقد"،ص112 من المصدر نفسه.
(10)- راجع المعرفي والاييولوجي في الفكر العربي المعاصر(ملف)،ضمن مجلة المستقبل العربي، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، ببيروت، العدد381-11/2011.
(11)- يقول د. السيد: "ويبدو من ذلك الكتاب،كما من الكتاب السابق عليه: مدخل إلى فلسفة العلوم (عام 1976) أن الجابري مال منذ البداية إلى الايبيستيمولوجيا، فاختارها منهجا يسهم في تفكيك بينة العقل وفهم آليات اشتغاله. واقترن لديه منذ البداية أيضا الهم المعرفي بالهم الإيديولوجي."ص 122، ضمن مقال: "الإيديولوجي والمعرفي في تحقيقات التراث العربي وقراءاته"، المنشور في مجلة المستقبل العربي، العدد381-11-2010.
(12)- يقول عبد الإله بلقزيز: "إذا أمكن رد اللحظة الثقافية النهضوية الأولى إلى مفكرين ومثقفين عرب في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين (مثل الطهطاوي، وعبده، والكواكبي، والشدياق، والبستاني، واليازجي، وفرح انطون، وحسين المرصفي، وقاسم أمين، وجرجي زيدان...)، وإذا أمكن رد الثانية إلى علي عبد الرازق، ولطفي السيد، وطه حسين، وأحمد أمين، وساطع الحصري، وقسطنطين زريق، وإحسان عباس، وجمال حمدان..الخ، فان في قلب اللحظة النهضوية الثالثة عبد الله العروي، وهشام جعيط، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، والياس مرقص، وأنور عبد الملك، وسمير أمين، وناصيف نصار، وحسن حنفي، وعلي امليل...على اختلاف في المنابت الفكرية والمقالات"، راجع كتاب: "من النهضة إلى الحداثة"، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الاولى2009، الهامش 8- ص 236.
(13)- بلقزيز(عبد الإله)، مقال: "المعرفي والإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر"، ضمن مجلة المستقبل العربي،الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 382-12-2010، ص15.
الجابري (محمد عابد): "التراث والحداثة. دراسات. ومناقشات"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006.ص10.
(14)- عبد الرحمن (طه): "حوارات من أجل المستقبل"، منشورات الزمن، 2008، العدد 13, ص11.
(15)- الجابري (محمد عابد): "العقل الأخلاقي العربي"، الجزء الرابع، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية/الدار بيضاء، 2001،ص 568.
- يقول الجابري في ضوء تأكيد أن الانتظام النقدي في التراث يعم جميع الأمم والحضارات..: "جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبرت، إيديولوجيا، عن بداية انطلاقها بالدعوة إلى الانتظام في التراث، بالضبط إلى العودة إلى "الأصول"، ولكن لا بوصفها كانت أساس نهضة مضت يجب بعثها كما كانت بل من أجل الارتكاز عليها في نقد الحاضر ونقد الماضي الغريب، الملتصق به المنتج له المسئول عنه، والقفز إلى المستقبل" راجع كتاب: "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" (1990)، ص21.
(16)- الجابري (محمد عابد): "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء، 1986،ص22.
(17)- المرجع ذاته ذاته، ص22
(18)- الجابري(محمد عابد): "التراث والحداثة. دراسات. ومناقشات"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006. ص47.
(19)- المرجع ذاته ذاته، ص32. ثم راجع كتاب: "نحن والتراث" ص24-23.
(20)- الجابري (محمد عابد): "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء، 1986، ص24.
(21)- المرجع ذاته ذاته، ض24.
(22)- الجابري(محمد عابد): "التراث والحداثة. دراسات. ومناقشات"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006. ص32.
(23)- الجابري(محمد عابد): "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء، 1986، ص26.
(24)- الجابري(محمد عابد)ن: "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة 1990. ص33.
(25)- المصدر ذاته، ص29.
(26)- المرجع ذاته ذاته، ص30.
- يقول الجابري:" المنهج تؤطره وتوجهه رؤية ما، صريحة أو ضمنية، والرؤية ذاتها نتيجة منهج في التحليل وطريقة في المعالجة" راجع كتاب: "التراث والحداثة"، ص35.
(27)- الجابري(محمد عابد): "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء،1986،ص47.
(28)- الجابري (محمد عابد): "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة 1990.ص20.
(29)- بلقزيز(عبد الإله)، مقال: "المعرفي والإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر"، ضمن مجلة المستقبل العربي، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد382-12/2010، ص23 و22.
(30)- الجابري (محمد عابد): "التراث والحداثة. دراسات. ومناقشات"، منشورات دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006. ص35.
(31)- لمزيد من التفصيل راجع مداخلة الأستاذ الفاضل إبراهيم العيسوي تحت عنوان: "زيارة جديدة للمشروع النهضوي العربي"، ضمن مجلة المستقبل العربي، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 383-1/2010.
(32)- الجابري(محمد عابد): "وجهة نظر...نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1992، ص 12.
(33)- الجابري (محمدعابد): "مواقف،إضاءت وشهادات،/ العدد19،الطبعة الأولى: سبتمبر2003، ص19 و20.
(34)- الجابري (محمد عابد): "في نقد الحاجة إلى الإصلاح"، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، أيلول/سبتمبر2005، ص86.
(35)- المصدر ذاته، ص86.
(36)- الجابري(محمد عابد): "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار بيضاء، 1986، ص30.
(37)- بنسعيد العلوي(سعيد): "الايدولوجيا والحداثة،قراءات في الفكر العربي المعاصر"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،1987، ص7.
(38)- الجابري (محمد عابد): "وجهة نظر...نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،1992، ص227
(39)- العيسوي (إبراهيم)، مقال: "زيارة جديدة للمشروع النهضوي العربي"، ضمن مجلة المستقبل العربي، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 383-1/2010، ص78.
(40)- الجابري (محمد عابد): "وجهة نظر...نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر"، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،1992، ص231
(41)- بلقزيز (عبد الإله)، مقال: "العروبة في معنى حضاري"، ضمن مجلة المستقبل العربي، العدد 379-9/2010، ص80.

عندما قال محمد عابد الجابري: الآن مرحباً بملك الموت./ عصام عابد الجابري.


عندما قال محمد عابد الجابري: الآن مرحباً بملك الموت.
عصام عابد الجابري.

http://www.hespress.com/orbites/304733.html

كلما رحل عنا شخص عزيز نتوقف دائما حائرين أمام فلسفة الحياة وكأننا نسينا أن الموت حدث عادٍ موعد مؤجل، منذ الميلاد ننساه لكي نحيا وقد نتذكره أحيانا في الحروب والمرض وفي الشدائد، ثم ننساه مرة أخرى لكي نعيش.
لكن الموت لا يعني الفناء؛ فالكبار لا يموتون، تبقى أعمالهم تتحدى الموت وتخلدهم في عقولنا ووجداننا، تمدد في عمرهم وتجعلنا نشعر بأنهم معنا أحياء. الكبار وحدهم ينتصرون على الموت ويحولونه إلى خلود أبدي. الإبداع، الكتابة، الفن، المعمار...أدواتهم وشواهدهم على ذلك الانتصار.
والمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري من هؤلاء الكبار الذين هزموا الموت من خلال كتاباتهم ومشاريعهم الفكرية. نقرأه وسيقرؤه القادمون، مثلما قرأ هو ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون وغيرهم، سيقرؤونه وسيتساءلون مثلما نتساءل اليوم ماذا استفدنا من صاحب "نقد العقل العربي".
أربعون سنة قضيتها مع الراحل مرت بسرعة البرق، تعلمت فيها معنى حب الوطن والوفاء والإخلاص للمبادئ، تعلمت فيها معنى العفة وعدم التهافت على المناصب ومعنى التواضع ومعنى الصداقة، صداقة من نوع صداقة الأطفال التي تنطوي على أسرار لا يعرفها الكبار، أسرار فقدوها نهائيا عندما فقدوا براءة الأطفال. أربعون سنة تعلمت فيها ما معنى أن تكون عروبيا وأن تكون مسلما في زمن كثر فيه التطرف وتجار الدين، تعلمت فيها كيف يعيش الكبار في صمت وكيف يهزمون الموت بأعمالهم.
ست سنوات خلت منذ أن دفنت جسدك في التراب، لكن فكرك ظل حيا يوجهني وينير لي الدرب المظلم نحو آفاق أخرى وغد زاهر وهّاج. أتذكر أول مرة تعرفت فيها على فكرك من خلال ذلك الكتاب الأصفر الرديء الطباعة، كتاب "دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي".
يومها كنت قد أثقلت عليك بكثرة السؤال فكان جوابك "اقرأ أولا وسنناقش في ما بعد"، لعلك رأيت فيّ كائنا تراثيا، شعرت بذلك الارتباك والقلق الذي كنت أعاني منه- كما عانى منه شباب جيلي وما يزال يعاني منه شباب اليوم- بسبب التحدي المفروض علينا لمواجهة تحديات العصر، وبناء ذاتنا، والمساهمة في تحقيق الحداثة دون أن نفقد هويتنا.
ومن خلال "نحن و التراث" سأفهم أنه من الضروري أن ندخل في حوار نقدي مع أسلافنا، وذلك من أجل فهمهم فهما أعمق وربطهم بنا بشكل من الأشكال كلما كان ذلك ممكنا. فتراثنا كما كنت تقول: "ما زال لم يعقلن ويقدم في تطوره على أساس أنه تاريخ وتطور وصراع. إنه لا زال أكواما من الأفكار والاتجاهات المعزولة: شيعة، خوارج، فلاسفة، متصوفة، شعراء... كل هذا الخليط حاضر أمامنا، ولكن ليس حضورا تاريخيا، كشيء استوعبناه وفهمناه وانتقدناه ودخلنا معه في حوار ورتبناه في تاريخنا".
إن الدرس البليغ الذي اقتنعت به هو ما انتهيت إليه في الكثير من دراساتك، وهو أننا ما لم نؤسس ماضينا تأسيسا عقلانيا فلن نستطيع أن نؤسس حاضرا ولا مستقبلا بصورة معقولة، وبهذا تمكنت، بفضلك، من حل -في ذهني- هذا الصراع بين التراث والحداثة. ومن سؤال التراث إلى سؤال النهضة.
لقد كان طرحك للإشكالية طرحا جديدا عندما اعتبرت أن هذا السؤال سيظل ناقصا ومحدود الآفاق ما لم يطرح على الصعيد الإيبيستيمولوجي، ما لم يتجه مباشرة إلى "العقل العربي" ذاته؛ ذلك أن العرب إنما بدؤوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه.
لم يكن نقدك للعقل العربي شعارا إيديولوجيا للمدح أو القدح، وإنما كان دراسة للقوانين العامة المؤثرة في تكوين هذا العقل، تلك النظم المعرفية التي أسستها ظروف آنية وجعلتها تحكم هذا العقل وتتسلط على رؤية الفرد العربي إلى الأشياء في اكتساب المعرفة. كان هدفك الإنسان الذي تقولب عقله في ذلك الإطار المرجعي الوحيد الذي تشكل في عصر التدوين وبقي هناك يتحرك في زمان ومكان وحيد نعيشه نحن كما عاشه أجدادنا دون أن نعي سلطة ذلك الماضي.
ورغم محاولات الكندي والفارابي وابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون وغيرهم تأسيس البيان العربي على البرهان واستبعاد العرفان، إلا أن تصادم النظم المعرفية التي كونت العقل العربي، سيؤدي في الأخير إلى أخذ المضمون من "البيان" والشكل من "البرهان" ويقال هذا للعوام، والأخذ من "البيان" الشكل ومن "العرفان" المضمون ويقال هذا للخواص.
أما ما تم إلغاؤه بإصرار فهو مضمون "البرهان"؛ أي السببية، وبالتالي العلوم العقلية الرياضية والطبيعية، على أن هذه العلوم لم تلغ ايبيستيمولوجيا وحسب، بل ألغيت اجتماعيا وتاريخيا كذلك، مما أدى بالعقل العربي إلى تقديم استقالته وإلى هيمنة الأسطورة والعرفان الصوفي.
وهكذا توصلت إلى أن سر تخلفنا يرجع إلى "البنية المحصلة- من النظم المعرفية الثلاثة (البيان العرفان والبرهان)، إلى البنية المعرفية اللاشعورية التي تؤسس التفكير وتوجهه داخل الثقافة العربية الإسلامية ككل.
ومن هنا تبرز أهمية وراهنية دعوتك إلى "عصر تدوين جديد" لتكوين عقل عربي جديد، جاعلا من إعادة ترتيب تراثنا الطريق نحو ذلك. وعملية الترتيب هذه في السياق التاريخي تستلزم العقل وتستلزم الاعتماد على الاستقراء والاستنتاج والمقاصد والكليات والنظرة التاريخية والتحرر من سلطة اللفظ وسلطة القياس الفقهي وسلطة التجويز.
ومن هذه الممارسة سيتكون لدينا عقل خاص، سيتجدد العقل العربي من هذه الممارسة النقدية للتراث العربي، لأنه عندما نقوم بممارسة نقدية للتراث العربي قصد إضفاء المعقولية عليه، قصد ترتيبه في سياقه الزماني المكاني الحضاري، قصد ترتيبه منطقيا، فنحن نقوم، لاشعوريا، بالشيء نفسه لبنيتنا الذهنية.
ورغم إيمانك القوي، أيها الأب الحكيم، بأن قيام عقلانية عربية لا بد أن تكون مؤسسة على تعامل عقلاني نقدي مع التراث، لم تفتك الإشارة إلى ضرورة الانتظام في الفكر العالمي المعاصر دون أن تتركه يهيمن على تفكيرنا، وإنما يجب التعامل معه بمثل المنهج والروح النقدية التي نتعامل بها مع تراثنا، فكما يجب أن نقرأ تراثنا في تاريخيته، يجب أن نقرأ تراث الغير أيضا في تاريخيته، ولو كان حاضرا.
وتبقى لحظات تعرفي على ابن رشد من خلال كتبك لحظات فريدة، ومن مجمل ما استفدته أذكر على الخصوص تطوير مفهوم "العقيدة". فابن رشد يقترح فهما علميا متقدما للعقيدة؛ ذلك أنه بدلا من الانطلاق في بناء الصرح النظري للعقيدة من وضع الإرادة الإلهية المطلقة كشيء يناقض إرادة الإنسان وقوانين الطبيعة، الشيء الذي يثير مشكلة المسؤولية والجزاء ومشكلة اطراد قوانين الطبيعة ويدفع إلى طرحها طرحا لاعقلانيا ولا علميا، ويفرغ مفهوم الحكمة والعناية الإلهيتين من مضمونهما، فابن رشد يرى أنه بدلا من ذلك ينبغي الانطلاق من النظام والترتيب اللذين في العالم بوصفهما تجليات للحكمة والعناية الإلهيتين ودليلا عليهما، وبالتالي دليلا على وجود الله ذاته.
"وفي هذه الحالة لن يكون هناك أي تعارض بين العقيدة الدينية وبين القول بالسببية والطبائع واطراد قوانين الطبيعة والقول بإرادة الإنسان وقدرته في ظل الشروط التي يقتضيها النظام والترتيب اللذين في العالم بما في ذلك بدن الإنسان نفسه. أما الإرادة الإلهية المطلقة فلن ينال منها كل ذلك شيئا لأنها هي التي قضت أن يكون ذلك كذلك. فحرية إرادة الإنسان وقدرته واطراد قوانين الطبيعة الخ، كل ذلك مظاهر لسنة الله: "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الفتح 23).
وهكذا يتحرر العقل العربي من ذلك التصور الذي يربط بين التجويز، بين اللاعقل والعبث المخيف، وبين العقيدة الدينية، ويصبح القول بالتالي بارتباط المسببات بأسبابها ارتباطا ضروريا جزءا من العقيدة الدينية نفسها، الشيء الذي يعني منح العقل ما به قوام وجوده وما به يمارس سلطته، وهل العقل شيء آخر غير "إدراك الموجودات بأسبابها"، كما يقول ابن رشد" (بنية العقل العربي ص435).
وتشاء الأقدار أن تختتم أعمالك بمحاولة تفسير القرآن الكريم، وذلك بحسب ترتيب النزول، تنتهي سيرتك الفكرية على أعتاب النص القرآني الذي تشعبت منه مختلف العلوم الإسلامية. هذا التفسير الذي أطلقت عليه "التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" اعتمدت فيه منهجية جديدة في التعامل مع آيات الكتاب وشرحها، جاعلا بذلك تسلسل سوره يباطنه تسلسل منطقي لوقائع الدعوة.
ذلك أنك انتبهت إلى أن التفاسير السابقة اتسمت بالغموض لأنها خلطت السور المكية بالسور المدنية ولم تأخذ تواريخ النزول في الاعتبار، ما أخرج النص من سياقه. وهكذا اعتمدت ترتيب النزول لتوضيح التفسير وشرح المعاني وفق مسار التنزيل وتساوقه مع السيرة النبوية ومسيرة الدعوة.
وعند استلامك نسخة من الجزء الأخير من تفسير القرآن الكريم، قلت مقولتك الشهيرة: "الآن مرحبا بملك الموت". لقد كُنْتُ، من موقع الابن المهموم بصحة والده، شاهدا على ما أحدثه الداء فيك من آثار. لقد أتعب الداء والدواء جسدك، أما عقلك فلم يتعب وكنت تستعد لمشروع جديد؛ مشروع "نقد العقل الغربي"، لكن القدر أراد لك أن "ترحل" عنا وتستريح.
فلكل بداية نهاية ونهاية كل واحد منا الانتقال من هذه إلى تلك... وقد توفقت أيما توفيق أيها الوالد في ترك بصمتك الواضحة في تضاريس الفكر العربي المعاصر، فنلت لقب "عميد الفكر العربي" باستحقاق لا يماري فيه إلا مكابر.
ها هي ذي ذكرى "غيابك" السادسة تحل بيننا، وبكل صدق أقولها لك أيها الوالد غيابك حضور؛ فحال العرب يستدعيك... يستدعي أفكارك... نزاهتك... ورعك... عفتك... طهرك...إن كتبك التي تركتها بيننا بعد موتك تَحْيَا وتُحْيِي وتبذر الأمل في أمتنا التي تئن. ثق أيها الوالد أن التقدير هو ما يستشعره كل من يقرأ لك اليوم ومن سيقرأ لك غدا. ولذلك فإنه لا يسعني إلا أن أفتخر بك أبا ورجلا أفنى حياته في التفكير إلى أن أصبح لا يذكر اسمه إلا وذكر معه الفكر العربي وكأنه هو هو.
فسلام عليك يا أبت يوم ولدت.. وسلام عليك يوم مت.. وسلام عليك يوم ستبعث حيا.

هوبز، المجتمع صناعةً./ محسن المحمدي.



توماس هوبز: المجتمع صناعةً.

(مؤسسة مؤمنون بلا حدود)

سنقف في هذه الدراسة عند رائد الفلسفة السياسية الحديثة توماس هوبز (1588/1679) في كتابه الشهير"الليفيتان" أو "التنين"، وهو كتاب يشيد نظرة جديدة غير مسبوقة لمفهوم الدولة وطريقة تدبير الحق فيها، وسنعمل على قراءة هذا الفيلسوف، ضمن سياق القرن السابع عشر تحديدًا، وهو عصر العلم الحديث بامتياز، وسنكتشف كم كان للثورة العلمية آنذاك من تأثير على نشوء طرح جديد في الفكر السياسي ما يزال صداه قائمًا إلى حد الساعة؛ فالمنجزات العلمية تلقي بظلها دائمًا على كل المجالات الأخرى، وسنعول على المنهج الذي اشتغل به مؤسس الفيزياء الحديث "غاليليو" (1564/1642)، الذي التقى بهوبز في زيارة يذكرها لنا التاريخ، وهو منهج عزل الظواهر، فهو المنهج نفسه الذي سيشتغل به توماس هوبز، ولم يخرج أبدًا عن النزعة الميكانيكية التي كانت هي السقف النظري للاشتغال آنذاك.

أولاً: الأرضية العلمية لتوماس هوبز
يجسد توماس هوبز الصدى الواضح للطفرة العلمية السائدة في القرن السابع عشر، فهو سيوجه النظرة الفيزيائية الميكانيكية نحو الحياة الاجتماعية، وسيتوج مجهوده بكتاب يعد من الكتب المؤسسة للفلسفة السياسية الحديثة ٳنه كتاب "الليفيتان". فالرجل، كما هو معروف من سيرته، كان كثير السفر، واستطاع أن يراقب ﺫلك الهجوم الضاري على الأرسطية، وكيف أنها تتآكل بطعنات لا تنتهي، بل سيساهم بإنهاء ذلك التصور الأرسطي الذي يرى أن أساس الاجتماع البشري طبيعي نحو تصور آخر يقول إن المجتمع صناعة تعاقدية حرة. ويجب ألّا ننسى الإعجاب الشديد الذي قابل به هوبز كتاب "الأصول" لإقليدس (ولد حوالي 300 قبل الميلاد)[1] عندما اطلع عليه، إلى درجة انه أخد القرار بأن يطبق منهجه في كل أبحاثه، وﺫلك ما تحقق في كتابه "الليفيتان"، إذ نلحظ تلك الطريق الهندسية في صياغة الأفكار، إلى درجة أنه قيل عنه أنه أراد أن يكون "إقليدس السياسة"،[2] وهي طريقة القرن السابع عشر بامتياز، ويكفي التذكير بأن معاصره ديكارت (1596/1650) استمد منهجه من الرياضيات وكتب اسبينوزا (1632/1677م)، فكتابه علم الأخلاق[3] يتبع أسلوب إقليدس الهندسي نفسه. إضافة إلى هذا، فهوبز التحق بحلقة الراهب مرسن[4] صديق ديكارت الذي نظم بينهما المراسلات، فإحدى أهم الاعتراضات الموجهة لكتاب "تأملات ميتافيزيقية" لديكارت كانت من طرف هوبز، كما تمكن من زيارة العالم غاليليو واللقاء به في فلورنسا سنة 1636.[5]
يبدو واضحًا، مما سبق، أن هوبز قد انخرط كليًا في هموم عصره، فقد تشرب الأفق الذهني لتلك الحقبة؛ أي أفق النظرة الآلية للطبيعة، التي زعزعت كامل النظام المعرفي السائد آنذاك٬ فكانت هي المرجعية النظرية الموجِّهة لكتاباته السياسية. فقد كان طاغيًا في فكر هوبز أن العالم مؤلف من جزئيات مادية تتحرك ميكانيكيًا، وقد كان يوضح منهجه باستخدام مثال الساعة، فيقول: ٳنه عندما نريد فهم كيف تعمل الساعة، نقوم بتفكيكها وندرس مكوناتها المختلفة وخواص هذه المكونات، ثم نجمع أجزاء الساعة، وبجمعنا الأجزاء بشكل يعيد الساعة إلى العمل من جديد نتعلم كيف ترتبط الأجزاء بعضها ببعض٬ وكيف تعمل الساعة. ولقد حاول تطبيق هذا المنهج التحليلي والتركيبي على المجتمع إذ عمل على تقسيمه إلى أجزائه الواضحة، وجزؤه الجوهري، كما سنرى، هو الفرد بأهوائه وأنانيته، ثم إعادة جمع هذه الأجزاء، فنرى روابطها وكيفية عملها، وبفعلنا ذاك نفهم ماهو المجتمع. ولكن هذا التقسيم لن يكون قسمة واقعية بل خياليًا افتراضيًا، وهو ما يجعل هوبز يشتغل بطريقة غاليليو كما سنرى.[6]
- غاليليو: التجارب الذهنية والعزل المنهجي:
لعل أهم ما يمكن اقتناصه من المنهج العلمي في القرن السابع عشر بزعامة غاليليو هو فكرة "العزل المنهجي"، وهو ما تنبه له الفيلسوف كانط في مقدمة كتابه "نقد العقل الخالص"،[7] فعندما أراد غاليليو دراسة سقوط الأجسام قام بتجربة ذهنية لمّا رأى أن دراسة السقوط الحر في الطبيعة صعب المنال، لأن السقوط العمودي الحقيقي لا يمكن ضبطه، والطبيعة لا تقدم لنا الظواهر كما نريدها، وسيضطر غاليليو إلى التدخل والقيام بتجربة مصطنعة مستحدثة،[8]وذلك بعزل الظاهرة وأخذها إلى المختبر، إذ صنع سطحًا مائلاً، وأحضر كرة حديدية وبدأ يسقطها ويقيم المقارنة ما بين المسافة وزمن السقوط، فاستنتج غاليليو أن السقوط يتم بشكل منتظم وهو ما يسمح بالتنبؤ. وكان ذلك أول قانون يكتشف في السقوط الحر، وهو القانون الذي لم تبحْ به الطبيعة إلا بعد التدخل المنهجي القائم على التخطيط للتجربة وعزل الظاهرة، وهذا ما يقال في قانونه الآخر القائل إن: الأجسام الساقطة في الفراغ، حيت تنعدم كل مقاومة، تسقط كلها بسرعة واحدة مهما اختلفت أوزانها وطبيعتها. وهو قانون يبرز قوة التجربة الذهنية في المنهج العلمي، وقد قام غاليليو بتجربة في غياب إمكانية الحصول على الفراغ تجريبيًا، ولم يكتشف الفراغ إلا بعد غاليليو مع تورشيلي وباسكال. ولعل ما يزيد من توضيح المنهج العلمي القائم على عزل الظاهرة المدروسة في شروط مثالية، الذي تم تأسيسه مع غاليليو، والذي سيوجه الفكر البشري إلى حد الساعة، هو مبدأ "القصور الذاتي" الفيزيائي، وهو ليس واقعيًا بل افتراضيًا، ينطلق من فكرة مفادها أنه: إذا ما عزلنا جسمًا ماديًا عن كل تأثيرات القوى المسلطة عليه، فماذا سيحدث؟
ثمة إجابتان على هذا السؤال، فإما أن الجسم سيبقى في حالة سكون، أو في حالة حركة مستقيمية منتظمة مادام لا تعترض سبيله أية قوة أخرى. هذه التجربة لا تتحقق واقعيًا، لأنه لا يمكن إيجاد جسم معزول عن القوى الأخرى واقعيًا، ولكن هو افتراض وعزل ذهني ومنهجي من خلاله تم التأسيس لفيزياء كاملة، لأنه سمح لنا بتغيير نظرتنا للمادة فالجسم مع هذا المبدأ ليس حرًا أصلاً، بل خاضع لقوى تتربص به. فإذا كان أرسطو يرى أن الأصل في الجسم هو الثبات والسكون، فإن هذا الأمر، حسب مبدأ القصور الذاتي مع غاليليو، سيتغير ليصبح الأصل في الجسم هو الحركة، فالسكون هو حركة أيضًا، لأن السفينة هي ساكنة بالنسبة للبضائع فوقها ولكن هي متحركة بالنسبة للميناء،[9] فإذا كنت ساكنًا في جهة فأنا متحرك بالنسبة لجهة أخرى.
قدمتُ هذه النماذج من عمل غاليليو لإبراز نوعية المنهج الذي سيرهن الزمن الحديث، بل سيرهن فيلسوفنا توماس هوبز في عمله السياسي كما سنرى، وخلاصة هذا المنهج هوأن نقوم بعزل الظاهرة في ظروف نموذجية ومثالية كي نحصل على منطلق واضح، وسيسهل بعدها بناء تصورات وأفكار في ضوء هذا المنطلق.

ثانيًا: نحو نظرة ميكانيكية للسياسة ما بين غاليليو وهوبز
- توماس هوبز: العزل المنهجي، بين حالة الطبيعة وحالة التعاقد الاجتماعي
سيطبق توماس هوبز(1588/1679م) المتشبع بالأفق الذهني العلمي للقرن السابع عشر منهج العزل والتصور الميكانيكي في المجال السياسي، ونجده كما هو معروف يقسم المجتمع إلى قسمينالمجتمع في حالة الطبيعة والمجتمع في حالة المدنية، وذلك على النحو التالي:
المجتمع في حالة الطبيعة:
ينطلق هوبز من السؤال الافتراضي التالي: ماذا سيحدث إذا ما عزلنا مجتمعًا معينًا في حالة يغيب فيها القانون وتغيب فيها السلطة السياسية؟ وماهي طريقة الحياة التي ستسود إذا لم تكن هناك قوة عامة تردع الناس؟ تبدو بوضوح هنا ملامح المنهج العلمي، ويجيب بأن الوضعية ستكون هي الفوضى والبطش والسلب والنهب... الخ، فكل فرد سيتجند جراء الخوف للدفاع عن نفسه بنفسه، والعمل على ضمان سلامته بكل القوة والمؤهلات التي بحوزته٬ مما سيدخل المجتمع في "حرب الكل ضد الكل"، على حد تعبير توماس هوبز نفسه، فيبرز الشر والعدوانية في الإنسان، وهو معنى عبارة هوبز المشهورة"الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".[10]
إن مما يميز وضعية حالة الطبيعة في مملكة الإنسان عن مملكة الحيوان هو كون الحيوانات تعيش حالة من غياب التساوي في القوة، فالذئب مثلا ينسحب ويستسلم بسهولة أمام قوة الناب والمخلب التي للأسد. أما عند الإنسان، فالأمر مختلف تمامًا، فإمكانات القوة عنده أوسع بكثير من إمكانات الحيوان؛ عضلات ومال وحسب ومنصب وذكاء وجمال...الخ٬ فهناك مساواة بين البشر في القدرات مما يهدد باستمرار الصراع، فكل عنف سيولد عنفًا مضادًا بالضرورة، [لكن لماذا يقارن هوبز فارق القوة بين نوعين عند الحيوان، بينما يقارن الفارق في القوة بين الأفراد داخل النوع الواحد عند الإنسان؟].
 يقول توماس هوبز:" إذا ما نظرت إلى القوة البدنية لوجدت أن الأضعف جسميًا في مقدوره أن يقتل الأقوى، إما باستخدام الحيلة أو بالتحالف مع الآخرين مهددين بنفس الخطر الذي يهدده".
وإذا كانت حالة الطبيعة كما أثبتت الفيزياء الميكانيكية هي حالة حركة غير منقطعة إذ لا وجود للسكون، وما يبدو سكونًا في الأجسام هو في أصله حركة٬ فإن هوبز سيرى بالمثل أن حالة الطبيعة الاجتماعية هي حركة قوة منبعثة من الأفراد غير متوقفة٬ فالمجتمع في أصله عبارة عن ذرات بشرية متنوعة تدور وتتصادم[11] وهو ما سيفضي إلى تطاحنات مخيفة ومرعبة تخلق عالمًا دراميًا مأساويًا، لن يسمح للمرء بالعيش إلى حدود السن المعتاد.
إذن حالة الطبيعة، والتي هي تجربة ذهنية، والتي يعتبرها هوبز هي الوضع الأصلي المفروض في الاجتماع البشري٬ يجسد حالة غير مريحة تهدد المرء في أقدس حق لديه: إنه حق البقاء٬ ومادام أن حق الفرد، لن يتوقف إذا غابت الكوابح، وسينطلق دون حدود٬ فلا خيار إلا العمل على صده من الخارج، وذلك بأن نرغمه على التعايش مع حقوق أخرى هي أيضًا تتملك اللامحدودية في الطلبات والرغبات.[12]
تنبني فلسفة توماس هوبز السياسية على أبعاد سيكولوجية واضحة، فهو ينطلق من كون الإنسان يخشى الموت ويبحث عن البقاء بأي ثمن٬ فإذا ما واجهتك بمسدس ولديك المال وهو حقك في الملكية٬ فإنك لا محالة ستتنازل عن مالك من أجل بقائك٬ فالبقاء لا يساوم لأنه أقدس الحقوق على الإطلاق٬ وهو ما سيكون له مستقبلاً الأولوية في المدونات الحقوقية٬ فلا شيء يضاهي حق البقاء٠ ومادام الأمر كذلك فقد وجب الخروج من حالة الطبيعة نحو صناعة الدولة٬ فقد افترض هوبز حالة الطبيعة لتبرير الحاجة إلى نظام سياسي محكم٬ ولقد قدم حكاية طريفة عن بلاد فارس القديمة تقول: إنه٬ كان عندما يموت الملك٬ يترك الناس دون حكم عمدًا لمدة خمسة أيام٬ فيكثر البطش والنهب والاغتصاب...وبعد هذه المدة ينصب الملك الجديد فيسرع الناس الذين بقوا على قيد الحياة نحو هذا الملك لأداء الطاعة والولاء، لأنهم استوعبوا رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع في غياب السلطة السياسية الرادعة٠ وللحفاظ على الحق الأسمى للإنسان وضمان سلامته وأمنه٬ على المجتمع أن ينتقل نحو الحالة المدنية أو حالة التعاقد الاجتماعي، وهو ما سنوضحه الآن.
- الحالة المدنية: حالة التعاقد الاجتماعي المثالي:                      
بعد الافتراض الذهني لحالة الطبيعة التي أوصَلنا من خلالها هوبز إلى أن أصل الاجتماع البشري مأساوي ومهدد لأثمن حق٬ أي حق البقاء٬ سيقترح حلاً سيكون هو نظريته في السياسية٬ ٳنه حل التعاقد الاجتماعي٬ فما هي ملامح هذه النظرية؟
يرى هوبز أنه لا مخرج من حالة الطبيعة الدرامية إلا بإحداث تفاوض يتنازل فيه أفراد المجتمع عن قوتهم كاملة لصالح حاكم قوي يكون على شاكلة "الليفيتان"، وهو عنوان كتابه ذائع الصيت٬ فتسمية الكتاب بهذا الاسم لم يكن اعتباطًا، فالليفيتان مستوحى من اسم وحش أو تنين بحري ورد الحديث عنه في التوراة،[13]  وهي قصة تحكي عن وحش قوي جدًا كان يحكم بقية الوحوش الأخرى٬ لكن ذات يوم قررت هذه الوحوش التمرد عليه والخروج من سيطرته، فتزعزع عرشه وكاد أن يسقط لولا أنه استجمع قواه وكان لهم بالمرصاد وأوقف عصيانهم٠ يرى هوبز أن الحاكم المتعاقَد حوله يجب أن يكون شبيهًا بالليفيتان بحيث تكون له كل الصلاحيات التي تسمح بردع كل تمرد محتمل يعيد المجتمع إلى حالة الطبيعة٬ ويكفي إلقاء نظرة حول غلاف كتاب الليفيتان ليبرز لنا أن الحاكم عليه أن يمسك السلطتين المدنية والدينية معًا، بحيث تكون كل مقاليد الحكم بيده، فهو من يسن الشرائع ويضع القوانين، ويشرف على الحقول والصناعة والزراعة والمدن والقرى والكنائس والمجامع والقلاع والحصون والغابات والقصور...الخ، فلا شيء ينفلت من قبضته، وإرادات جميع أفراد الشعب تتحد في إرادة واحدة هي إرادة هذا الحاكم، الذي يسميه هوبز بالإله الفاني، الذي سينعم الكل تحت إمرته بالأمن والسلم.
ويضيف توماس هوبز أن الاجتماع الحيواني مختلف عن الاجتماع الإنساني، فالأول قائم على الغريزة أما الثاني فيرتكز على الاتفاق والتوافق، وهو في هذا يعارض أرسطو، إذ يقول: "إن رضا هذه الكائنات لأمر طبيعي٬ بينما رضا البشر ناتج عن اتفاقية٬ وهو أمر مصطنع: لا عجب بالتالي أن يكون المطلوب شيء آخر [إلى جانب الاتفاقية] بغية جعل رضاهم مستقرًا ومستمرًا: هذا الشيء هو السلطة المشتركة التي تؤمن انضباطهم وتوجههم نحو الخير العام."[14] إن المخرج النهائي، حسب هوبز، من فوضى وغريزية حالة الطبيعة وضمان الأمن والسلام المشترك لن يتأتى إلا "بموجب اتفاقية كل فرد مع كل فرد٬ كما لو كان كل فرد يقول للأخر: إنني أخول هذا الرجل أو هذه المجموعة من الرجال٬ وأتخلى له أو لها عن حقي في أن يحكمني أو تحكمني٬ شرط أن تتخلى له أو لها أنت عن حقك وتجيز أفعاله أو أفعالها بالطريقة عينها".[15] [الحاكم ليس طرفاً في العقد، وله سلطة مطلقة]

صناعة المجتمع وعلمنة السياسة:
يعد هوبز من دعاة عدم تفتيت السلطة والعمل بجهد غير منقطع من طرف أفراد المجتمع على تجميعها في قبضة واحدة إلى درجة يصبح معها هذا المجتمع كالساعة، ومن هنا نفهم لماذا يركز هوبز على كون الدولة هي كائن صناعي،[16] ولا تعني كلمة صناعي هنا أنها كذلك بسبب قيام الدولة على العقد الاجتماعي فحسب٬ بل لأنها كذلك تحتاج إلى أن نحافظ على وجودها عمدًا، تمامًا مثل الساعة التي يضطر المرء إلى ملئها لكي تستمر في العمل، أو القطار الذي يحتاج باستمرار إلى تزويده بالوقود لكي يستمر سيره٠ تلك هي حال الدولة، فإذا تركت لذاتها لوقعت فريسة للحرب الأهلية أو الفوضى، وستكف عن أن تكون منظمة بل إنها لن تكون دولة على الإطلاق، ويكون المخرج بالانتقال من الوضع الطبيعي نحو الوضع الصناعي، ومن هنا نصل إلى فكرة جوهرية هي أن الحق ليس جاهزًا، بل يصنع، وإذا ما تركنا أنفسنا مع الجاهز فهذا الحق سيكون منطلقًا دون حدود إلى درجة ضياع هذا الحق.
إن من إضافات توماس هوبز القوية هي: أنه إن كان الإنسان قد خلق وضعًا صناعيًا يؤطر وينظم به نفسه من خلاله، فهو لم يصل إلى الوضع الصناعي العقلاني إلا ابتداء من القرن السابع عشر٬ إضافة إلى أن هوبز قد رفض التراث الأرسطي القائم على أساس أن الدولة طبيعية، والتراث الديني القائم على أساس أن الملك هو ظل الله في الأرض، أي ما سمي بالحق الإلهي، موجهًا السياسة نحو العلمنة، فالشعب هو من يقوم باختيار الحاكم لدواعٍ أرضية خالصة، هي ضمان الأمن والاستقرار، فبناء الدولة يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، أي من أفراد الشعب إلى الحاكم المتكفل لهم بسبل الحياة، وإلا وجب التحرر منه والتخلي عنه.
وقد يسأل متسائل، بعد كل ما سبق: كيف يمكن لرجل كهوبز وهو من المدافعين عن الحكم المطلق٬ أن يكون من واضعي اللبنات الفلسفية المؤسسة للسياسة الحديثة؟ ونحن نعلم أن الحكم المطلق بما فيه من استبداد ضد كرامة الإنسان، وأن حقوق الإنسان مرتبطة بالفردانية وليس الكليانية. تكمن الإجابة بالقول، إن اطلاقية الحكم عند هوبز لا تتنافى والفردانية، فهي ليست مفروضة من فوق، ولكنها اختيارية من أجل المنفعة الفردية الخاصة، وهي ضمان السلم والحياة، فما سيربحه المرء في الحالة المدنية لن يربحه في حالة الطبيعة٠ ومسألة الأمن هي أم الحقوق، وهو ما نجده منصوصًا عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في مادته الثالثة التي تقول: "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه"[17]، ناهيك عن أن فكرة هوبز تعد اللبنة الأولى للفكر الليبرالي، عند البعض، فالتنظير لحفظ الذات مع هوبز مهد الطريق لجون لوك للحديث عن حقوق هذه الذات المنيعة، وبخاصة الحرية والمساواة والملكية التي ستتوج في النهاية بتنظير في اللذة والربح.[18]

خاتمة: ماذا عن عالمنا العربي الإسلامي؟
نختم دراستنا بسؤال قوي طرحه المرحوم عابد الجابري[19] يقول: لماذا أدت فكرة "حالة الطبيعة" وفكرة "التعاقد الاجتماعي" إلى بلورة مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الأوروبي، ولم تؤدِّ الأفكار التي توازنها في الثقافات الأخرى مثل فكرة "الطبع" و"الفطرة" و"الميثاق" إلى النتيجة نفسها؟
يكمن الجواب في أن فكرة الطبع مختلفة تمامًا عن فكرة حالة الطبيعة٬ فالطبع ثابت وقارّ ويجب ألّا يتغير، فهو كجبرية عمياء[20]، وواقع لا يرتفع٬ بل لا يرغب الناس في رفعه وتغييره، وهذا يعني، كما يرى الجابري، أنه لابد من الحفاظ على "تقسيم العمل" السائد، ولا بد من أن يحافظ كلُّ على منزلته الخاصة؛ فالفلاح يجب أن يبقى هو وبنوه في الفلاحة، والصناع يجب أن يبقوا صنّاعًا، والعبيد عبيدًا٬ والجند جندًا والرؤساء رؤساء،[21] فالعدل هو إنزال الناس منازلهم، ومن هنا فما يحكم وضعية الفرد هو "الواجب" وليس "الحق"، وعلى الفرد أن يعمل في مكانه في إطار منزلته، فلا يخرق نظام المجتمع، بل عليه محاكاة نظام الكون ليس فقط في اتساقه وتراتبه بل في ثباته وعدم تغيره.[22]
ويضيف الجابري، رحمه الله، أنه "لم يكن من الممكن للفكر الإنساني التوصل إلى مفهوم "حقوق الإنسان" من هذا المنطلق الذي يكرس بصورة قبلية فكرة التعاون والتضامن واحترام المنازل. المنطلق الذي يكرس فكرة أن "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، فكان لا بد من تشييد منطلق آخر، منطلق أن الواقعة الأولى في الحياة البشرية هي الفوضى والفردية والعدوان."
تكمن قوة توماس هوبز في كونه قلَبَ الأطروحة القديمة رأسًا على عقب، فللدخول إلى عالم الحق وجب افتراض العدوان والاعتداء على الحرية والمساواة، مما سيؤدي إلى التفكير في الطريقة التي نوقف بها هذا العدوان٬ إذ لا حاجة لنا للحق إذا لم أحس أنه قد اعتدي علي، ولكي أعي حقي وجب أن أدرك الظلم الممارس علي. وهذا يفسر سبب مهاجمة هوبز لفكرة أرسطو القائلة، إن "الإنسان مدني بالطبع"، ليعوضها "بأن الإنسان ذئب للإنسان" ولا خيار لتجاوز مضار هذا العدوان إلا بالتعاقد الاجتماعي٬ إذن عملية التأسيس النظري لحقوق الإنسان تطلبت فكرة "الإنسان الذئب".

مسرد الهوامش والإحالات:
- انظر مثلاً: إحسان عبد الهادي النائب، تومايس هوبز وفلسفته السياسية، منشورات مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني، ط1، 2012
[1] - المرجع نفسه.
- باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، تر: جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009
- كان مرسن راهبًا يكبر ديكارت بسبع سنوات، وقد تعلم مثله في مدرسة لافليش ودامت صداقتهما حتى وفاة مرسن في عام 1648.انظر: ديكارت، أعلام الفكر والأدب، ضمن سلسلة: عالم المشاهير، دار الراتب الجامعية، سوفينير، لجورج مدبك، 1992، ص11. كما كان يدعى الموظف الخاص بالسيد ديكارت، فهو بمثابة صندوق بريد ينظم النقاشات بين العلماء والشخصيات، حتى صار مركزًا لنشاط تراسلي برمته حتى مماته. وقد ظل مرسن ينقل لديكارت الاعتراضات والأسئلة، ويتلقى إجاباته لمدة عشرين سنة. انظر الحسين سحبان، مجلة الجدل، ص51، خريف 1985، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء.
- إحسان عبد الهادي النائب، مرجع سابق.
- انظر غنار سكيريك ونلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي، من اليونان القديمة إلى القرن العشرين، تر: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2012، ص393
- إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، تر: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2013
- انظر تفاصيل عن تجارب غاليليو، المتعلقة بالسقوط الحر والسقوط في الفراغ، عند عابد الجابري، مدخل إلى فلسفة العلوم، وهي تجارب توضح قوة النظر وقوة الافتراض الذهني.
- فرانسواز باليبار، أينشتين غاليليو ونيوتن المكان والنسبية، تر: سامي أدهم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والنشر والتوزيع، ط1، 1993
- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، الفصل الثاني المتعلق بتوماس هوبز.
- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق.
- فرانسوا فالانسون، الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان، ضمن كتابفي التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان نصوص مختارة، إعداد محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد الله ومصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013
- إحسان عبد الهادي النائب، تومايس هوبز وفلسفته السياسية، مرجع سابق.
- توماس هوبز، اللفياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، تر: ديانا حرب وبشرى صعب، تقديم: رضوان السيد، ط1، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2011
- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، دراسة في فلسفة الحكم، مرجع سابق.
- انظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضمن كتاب، في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، نصوص مختارة، إعداد محمد سبيلا٬ عبد السلام بنعبد الله، مصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013
- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق.
- محمد عابد الجابري، الأساس العلمي لعالمية حقوق الإنسان، ضمن سلسلة مواقف، العدد 38، ط1، 2005

[1]- انظر مثلاً: إحسان عبد الهادي النائب "تومايس هوبز وفلسفته السياسية"، منشورات مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني، ط1، 2012، ص ص 45- 63
[2]- المرجع نفسه، ص 63
[3]- باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، تر: جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009
[4]- كان مرسن راهبًا يكبر ديكارت بسبع سنوات، وقد تعلم مثله في مدرسة لافليش ودامت صداقتهما حتى وفاة مرسن في عام 1648
انظرديكارت، أعلام الفكر والأدب، ضمن سلسلة: عالم المشاهير، دار الراتب الجامعية، سوفينير، لجورج مدبك، 1992، ص 11. كما كان يدعى الموظف الخاص بالسيد ديكارت، فهو بمثابة صندوق بريد ينظم النقاشات بين العلماء والشخصيات حتى صار مركزًا لنشاط تراسلي برمته حتى مماته. وقد ظل مرسن ينقل لديكارت الاعتراضات والأسئلة ويتلقى إجاباته لمدة عشرين سنة. انظر الحسين سحبان، مجلة الجدل، ص 51، خريف 1985، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء.
[5]- إحسان عبد الهادي النائب، مرجع سابق، ص 52
[6]- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي "تاريخ الفكر الغربي، من اليونان القديمة إلى القرن العشرين" ترجمة د.حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1/2012، ص 393
[7]- إيمانويل كانط "نقد العقل المحض" ترجمة غانم هنا. المنظمة العربية للترجمة، ط1/2013، ص 34
[8]- انظر تفاصيل عن تجارب غاليليو (خاصة المتعلقة بالسقوط الحر والسقوط في الفراغ) عند د.عابد الجابري "مدخل إلى فلسفة العلوم". مرجع سابق من ص 25 الى 44. وهي تجارب توضح قوة النظر وقوة الافتراض الذهني.
[9]- فرانسواز باليبار، اينشتين غاليليو ونيوتن المكان والنسبية، تر: سامي أدهم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1993، ص 16
[10]- إمام عبد الفتاح إمام، الأخلاق...والسياسة، دراسة في فلسفة الحكم، المجلس الأعلى للثقافة، الفصل الثاني المتعلق بتوماس هوبز، ص 269
[11]- انظر:غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق، ص 405
[12]- فرانسوا فالانسون "الأسس الفلسفية لحقوق الإنسان"، ضمن كتاب في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان نصوص مختارة، إعداد محمد سبيلا٬ عبد السلام بنعبد الله٬ مصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013، ص 36
[13]- إحسان عبد الهادي النائب "تومايس هوبز وفلسفته السياسية"، مرجع سابق، ص 11و12
[14]- توماس هوبز "اللفياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة" ترجمة: ديانا حرب وبشرى صعب، تقديم رضوان السيد، ط.1، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة 2011، الفصل 17، ص 179
[15]- المرجع نفسه ص 180
[16]- إمام عبد الفتاح إمام "الأخلاق..والسياسة ﴿دراسة في فلسفة الحكم﴾" مرجع سابق، ص 268
[17]- انظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضمن كتابفي التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان، نصوص مختارة إعداد محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد الله ومصطفى لعريصة، دار توبقال، ط1، 2013، ص 14
[18]- انظر: غنار سكيريك ونلز غيلجي، مرجع سابق، ص 407
[19]- محمد عابد الجابري، الأساس العلمي لعالمية حقوق الإنسان، ضمن سلسلة مواقف، العدد 38، ط1، 2005، المقال 87، ص 15
[20]- المرجع نفسه، ص 17
[21]- المرجع نفسه، ص 18
[22]- المرجع نفسه، ص 18