الخميس، 28 يوليو 2016

ما العقلانيّة، أيُّ عقلانيّة؟/ سعيد ناشيد (ملف عن العقلانية)



ما العقلانيّة، أيّ عقلانيّة؟ (1)

أيّها العقلانيون لا تتوقّفوا!


الثلاثاء 21 كانون الأول (ديسمبر) 2010

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=8929

أيّ عقلانية نريد؟
 بهذا السؤال، الذي اقترحته أسرة الأوان ملفاً للكتابة ومحوراً للتفكير، نشعر كما لو أننا أمام لحظة توقّف للتأمّل والتساؤل حول الحال والمآل : من نحن؟ وماذا نريد؟

 قد يكون التوقّف خيانة للعقلانية، ربّما، لذلك سيكون تقويمنا حركيا فلا نضطر إلى التوقف ولو قليلا.

 لا بأس.

 هل يكفينا أن نقول بأننا عقلانيون وبأننا نريد العقلانية ونبتغيها ما استطعنا إليها سبيلا؟

 هذا الانتساب الإجمالي إلى العقلانية لا يقنع من خبروا بأن العقلانية ليست مجرّد انتماء بالجملة، وإنما هي انخراط في التفاصيل. وفي التفاصيل تسكن الشياطين، وهي لا تسكن إلا بصيغة جمع الكثرة والتكثير.

 أليس كذلك؟

 يجعلنا هذا الملفّ نشعر كما لو أننا أمام مرحلة من إعادة التأسيس، وأن نصوصا سيكتبها الكتاب، قد تضعنا في حالة "ولادة ثانية"، بلغة البروتستانت الأمريكيين.

 سنرى، وستكون لنا عودة إلى التقويم.

 إلى ذلك الحين..

 أمّا الآن فما مبرّر السؤال؟

 لنحاول أن نعرض، ولو بنحو إجماليّ، لأهمّ التيارات الفكرية التي تقدم نفسها وكأنها أحد أقصى مظاهر العقلانية وتجلياتها :

 التقنوقراطيون، البيروقراطيون، البراغماتيون، الميكيافيليون، الوضعانيون، الشيوعيون، المحافظون الجدد، جميعهم، وغيرهم كثير، يزعمون بأنهم أعلى مراحل التفكير العقلاني، ولكن..

 هل هناك ثابت مشترك بين كل هذه التيارات؟

 لن نكون من المجازفين إذا أجبنا بالنفي.

 من هنا يكون سؤال الملف مبرراً، بل وراهنيا : أي عقلانية نريد؟

 لا يدعونا هذا الملف إلى المنافحة عن العقلانية، كما جرى دأبنا، وإنما يدعونا إلى أن ننتقل مباشرة إلى الخطوة التالية وهي التوضيح : ما الذي نقصده بالعقلانية؟

 "التوضيح" (l’explication) هو عنوان كتاب صدر مؤخرا عن منشورات (lignes) الفرنسية (2010). وهو عبارة عن حوار بين الفيلسوف اليساري ألان باديو والفيلسوف اليميني المحافظ ألان فانكيلكروت. يتعلق الأمر بسجال بين نمطين من العقلانية :

 - عقلانية مغلقة يمثلها فانكيلكروت، عبر دفاعه عن جود قيم عقلانية قطعية ونهائية ولا تقبل أي تغيير أو صيرورة أو مساومة، ومن هنا موقفه من الهوية والأقليات والمهاجرين ونحو ذلك.

 - وعقلانية مفتوحة يمثلها باديو، من خلال ربطه بين العقلانية وبين حاجتنا إلى التغيير الدّائم والتحوّل باستمرار نحو واقع إنساني أفضل.

 تحيل العقلانية، عند فانكيلكروت، إلى وجود قيم ثابتة وراسخة، وهي مثل "السرّ الأسطوري" الذي يمتلكه البعض، لأسباب حضارية أو عرقية أو دينية، دون أن يمتلكه الآخرون إلا قليلا. وهي تحيل، عند باديو، إلى القدرة على تدبير التغيير وقيادته من أجل واقع إنساني أفضل بصرف النظر عن أوهام الهوية وثوابت العقل والمرجعيات الفكرية والثقافية.

 وفي كل الأحول تظل مساءلة العقلانية دليل عنفوان عقلاني؛ ليس لأن كانط يعلمنا بأن نقد العقل هو إحدى أهم وظائف العقل، وإنما لأن العقلانية المرتبطة بالتغيير لا تشترط أيّ ولاء لأيّ شيء يزعم الثبات، حتى ولو كان العقل نفسه أو قواعد العقل أو مبادءه أو شيئا من هذا القبيل. ومن هنا نفهم لماذا نجحت الكنيسة الغربية في استغلال منطق أرسطو، خلال العصر الوسيط، وجعلته في خدمتها. ذلك أن العقلانية المغلقة، التي تزعم وجود قيم وقواعد ثابتة، عادة ما كانت تنتهي إلى إنتاج نظم محافظة ومغلقة.

 هذا ما يتهدّد المجتمعات الغربية التي تشهد نوعاً من الانتكاسة الجماعية نحو الهوية المغلقة، جرّاء شيّوع خطاب يدّعي وجود قواعد قطعية ومطلقة للسلوك العقلاني.

 وليس ثمة من شك في أن المآسي التي اقترنت بالعقلانية الصناعية إبان القرن العشرين، من حروب عالمية وإبادة على خلفية مفهوم الدولة الوطنية، وقنبلة ذرية وتدمير للبيئة على خلفية مفهوم سيطرة الإنسان على الطبيعة، وأنظمة شمولية على خلفية التخطيط والبرمجة والتحكم، كل ذلك قاد إلى مساءلة العقلانية الشمولية في علاقتها بإنتاج العنف.

 وهكذا سيتميز النصف الثاني من القرن العشرين بمناخ فلسفي متسم بنقد الأنماط المغلقة من العقلانية والتنقيب عن الألغام المبثوثة داخل العقلانية الصناعية والتي تجعل من إضفاء طابع الحساب والتقنية والتخطيط والبرمجة مدخلا إلى العنف وتشييء الإنسان وضياعه. وهكذا عثر مشيل سير على بعض تلك الألغام في المنهج الديكارتي والذي حدّد غاية العلم في سيطرة الإنسان على الطبيعة، وعثر عليها كارل بوبر في مفهوم الحتمية (سواء في شقها العلمي أو التاريخي)، وأما هابرماس فقد عثر عليها في مفهوم العقل الأداتي، وفتش عنها مشيل فوكو في مفهوم الحقيقة... في حين أن ليو شتراس سيزعم العثور على تلك الألغام المنتجة للعنف في مفهوم النسبية كما تبلور داخل في خطاب الحداثة السياسية منذ ميكيافيلي.

 وإن كانت منظورات بوبر وهابرماس وفوكو وسير وغيرهم، من شأنها أن تساهم في الخروج من دائرة العقلانية المغلقة، إلا أن منظور ليو شتراوس، في نقده لمفهوم النسبية، قد ساهم في تثبيت الرّؤية المحافظة والعودة إلى أنماط العقلانية المغلقة، بل والأشد انغلاقا. وهو ما يتراءى لنا عندما نتفحص الخطاب الناقد لنسبية القيم والذي يحمله كل من الفاتكان والمحافظين الجدد ومرشد الثورة في إيران، فضلا عن رؤساء دول من رموز اليمين المحافظ، أمثال بيرلوسكوني وستيفن هاربر وطوني بلير وجيمي كارتر ونحوهم.

 طبيعي أننا، وكما نتساءل "أي عقلانية نريد؟ يجب علينا أن نتساءل أيضا "أي نقد للعقلانية نريد؟" : هل هو النقد الذي يقوض "العقلانيات الشمولية" ليقود إلى بناء المجتمع المفتوح، كما يريد كارل بوبر؟ أم هو النقد الذي يرفض مفهوم النسبية ليقود إلى بناء مجتمعات تصبح، بدعوى حماية الديمقراطية، أشدّ انغلاقاً، كما يريد ليو شتراوس؟

 فبدعوى حماية قيم الديمقراطية، يناضل اليمين المحافظ في كل من النمسا وسويسرا وهولاندا وفرنسا وغيرها، من أجل نمط من العقلانية المغلقة التي لا تقبل أي حوار أو تسوية أو مساومة أو توافق ولا تجد نفسها معنية بأعباء عقلنة "الآخر" سواء بالحكمة أو المؤهلات أو التضامن، وإنما تكتفي بتسييج الذات "العقلانية"، بنحو عصابي أحياناً، ما يُهدد الغرب نفسه بالعودة إلى مجتمعات أشدّ انغلاقاً.

 قبل بضع سنوات ألقى أحد أصدقاء جاك ديريدا (وهو مفكر نمساوي لا أتذكر اسمه) محاضرة بفاس حول التفكيك، وردّا على بعض الأسئلة فقد أسرّ للحاضرين أثناء المناقشة، بأن أخشى ما كان يخشاه جاك ديريدا، هو أن يتحول التفكيك ويصير أداتا في يد قوى محافظة جديدة.

 وإذا كان انطباع ذلك المحاضر صادقا، فلعل ديريدا كان على بينة مما يخشاه؛ إذ سبق لأرسطو أن تحول إلى أداة في يد الكنيسة الغربية طيلة العصر الوسيط، وتحول ماركس نفسه من فيلسوف ثوري إلى أحد أكثر الفلاسفة محافظة وانغلاقا على يد الأنظمة الستالينية، وكادت النازية تجعل من نيتشه أداة فاشية وعنصرية، إلخ.

 والسؤال :

 ما الذي يأمن لنا عدم تحول أي فكر عقلاني أو علماني أو تحرّري إلى أداة في يد نظم محافظة ومغلقة، كما سبق أن حدث مع معظم الأفكار، وكما خشي ديريدا على مصير فكره، ربما؟

 مبدأ واحد قد يحمينا جميعا :

 ليس فقط أن نكون عقلانيين وعلمانيين وتنويريين، وإنما أن نعتبر كل شيء خاضعا للصيرورة وللتغيير بما في ذلك قيم العقل وقواعد العلمانية ومبادئ التنوير.

 سيكون تعريف العقلانية، باعتبارها القدرة على تدبير التغيير وقيادته، ترياقاً ضدّ كل ما هو محافظ.

 فيا أيها العقلانيون لا تتوقفوا.


روابط مقالات الملف عن العقلانية:

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=8989

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9041

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9074

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9159

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9192

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9198

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9204

http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=9207

 

.. بين فوكو وهابرماز/ مقالة لـ هاشم صالح (من جزأين)







الفلسفة الغربية في ختام القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين:

أزمة عقل وعقلانية، أم انسدادات حضارية؟ (1/2)

 

مرور 24 سنة على وفاة ميشال فوكو(3)

الثلاثاء 8 تموز (يوليو) 2008 (مجلة الأوان)


بقلم: هاشم صالح  


 الجزء الأول:

الشيء الوحيد الذي جاءت به الفلسفة هو الفكرة البسيطة التالية : العقل يحكم العالم وبناء عليه فإنّ التاريخ البشري ّ(أو الكونيّ) هو عقلانيّ تماما.(هيغل)
إنّ العقل (أي عقل التنوير) الذي خلق الحريات هو الذي خلق السلاسل والأغلال أيضا!(ميشيل فوكو)

سوف يكون من الغرور والتبجح الزعم بأنّي قادر على استعراض كل تيّارات الفلسفة الغربية في مقالة واحدة! فهذا الأمر يتطلب عدة مجلدات وتعاون العديد من الاختصاصيين والباحثين. ولكني سوف أقتصر على استعراض بعض الأسماء والتيارات الفكرية التي أخذت أهمية في السنوات الأخيرة وشاعت على الألسن. وسوف أهتم بها من خلال تركيزها على قضية واحدة أساسية: هي قضية العقل وأزمته في نهايات القرن الماضي (أي أواخر القرن العشرين). أقول ذلك رغم أن أزمة العقل تعود إلى بداياته وليس فقط إلى نهاياته. فالواقع أنّ العقل الأوروبي ظل مسيطراً وواثقاً من نفسه منذ عصر التنوير وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918). عندئذ تلقّى لأوّل مرّة صدمة موجعة ترنّح بعدها وأخذ يطرح الأسئلة على نفسه وإنجازاته. فحتى ذلك التاريخ –أي طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر- كان هذا العقل مفعما بالتفاؤل ويعتقد بأنه سائر نحو التقدم إلى ما لانهاية، وأن عهد الحروب والمجاعات والعصبيات الهمجية قد انتهى إلى غير رجعة. وأكبر دليل على ذلك عبارة هيغل الشهيرة التي وضعتها على رأس هذه الدراسة. وفجأة تندلع هذه المجزرة الرهيبة التي ذهب ضحيتها ملايين البشر في فرنسا وألمانيا ومختلف أنحاء أوروبا. وشكلت تلك الحرب صدمة نفسية قاسية للملايين التي بقيت على قيد الحياة ولم تعد تثق بشيء، لا بالتقدم ولا بالحضارة. ومن المعلوم أنّ القصف الجوّيّ استخدم لأول مرة في التاريخ أثناء تلك الحرب. كما استخدمت فيها لأول مرة الأسلحة الكيماوية التي خلَّفت وراءها آثاراً لا تمحى من الذاكرة. ويقال بأنه لم تبق عائلة فرنسية واحدة تقريباً بدون أن تفقد أحد أبنائها أو رجالاتها.

وراح الناس يتساءلون مستغربين: في الماضي كنا نفهم أن يقتل الناس بعضهم بعضاً بشكل وحشيّ بل وعلى الهوية لأنهم كانوا متخلفين أو همجيين يسيطر عليهم التعصّب الدينيّ ولم يستنيروا بعد بضوء العقل. ولكن الآن لماذا يفعلون ذلك وأبشع منه بعد أن تقدمت البشرية الأوروبية واستنارت وسيطرت على الطبيعة بفضل العلم والتكنولوجيا. لقد خرجنا من عصور التعصب الديني ومحاكم التفتيش واعتقدنا أننا نجونا من المجازر والأنانيات والحروب الهمجية إلى الأبد. وقد عبّر الشاعر بول فاليري عن هذه المشاعر بنوع من الغضب العارم عام 1919، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة. يقول: "الأشياء أصبحت واضحة لا شفقة فيها ولا رحمة. لقد سقط في هذه الحرب آلاف الشباب من كتّاب وفنانين. وسقط أيضاً وهم الثقافة الأوروبية، وتبين لنا عجز الثقافة عن إنقاذ أي شيء كان. وسقطت هيبة العلم من الناحية الأخلاقية سقوطاً مريعاً لأن تطبيقاته التكنولوجية أدت إلى قتل الملايين بسهولة مرعبة. وبدلاً من أن كان شرفاً ومجداً للحضارة الأوروبية أصبح عاراً عليها..." (1).

يصعب علينا، نحن التنويريين العرب، أن نفهم سبب هذه المشكلة: أقصد أزمة العقل والعقلانية. فبما أننا نناضل من اجل انتصار العقل في بلداننا والخروج من أسر العقل اللاهوتي الطائفي التقليدي، فإننا لا نتوقع أننا سوف نواجه أزمة جديدة بعد انتصار العلم والعقل!.. فنحن نتوقع أنه بعد انتصار التنوير فسوف تُحَلُّ كل مشاكلنا دفعة واحدة. ولكننا لا نعرف أن التاريخ تراجيديّ، وأنه قد ينقلب على ذاته في حركة غريبة وغير متوقعة. كما أننا لا نعلم أن البشرية تحمل في أعماقها جرثومة الانتحار الذاتي أو التدمير الذاتي للذات كما قال عالم نفس الأعماق فرويد. وإلا كيف نفهم أن البشرية الأوروبية التي كانت في أوج مجدها وحضارتها عام 1914 راحت تدخل فجأة في حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر؟ هذا هو السؤال الذي طرحه المثقفون الأوروبيون على أنفسهم آنذاك. فهل ماتت العقلانية في ساح الوغى كما مات ملايين الجنود والضباط الأوروبيين؟ وهل انهار مشروع التنوير في معركة "فردان" الشهيرة التي تطاحن فيها الألمان والفرنسيون وجها لوجه وبالسلاح الأبيض؟ ولماذا ذبحت تلك الأمم المتحضرة بعضها البعض من أجل قطعة أرض هنا، أو هناك؟ وما نفع العقل أو العقلانية إذا كانت لا تمنع من ارتكاب الحماقات والأعمال الهمجية؟ أم إن العقل قد يدخل في أزمة وينقلب إلى ضده: أي إلى جنون؟

لم يكن الفلاسفة وحدَهم الذين طرحوا هذه الأسئلة على العقلانية الغربية التي أدت إلى الكارثة، وإنما راح الفنانون أيضاً ينتفضون ويثورون ضد كل ما هو عقل، أو قفص، أو سجن. وهكذا ظهرت الحركة الدادائية في زوريخ عام 1916 بقيادة ماكس أرنست، وتريستان تزارا، ومارسيل دوشام وغيرهم. ولم تثر هذه الحركة على القيود الفنية الأكاديمية أو الكلاسيكية فحسب، وإنما ثارت أيضاً على القيم "المزعومة" للحضارة الغربية. فهذه الحضارة رغم عبادتها للتنوير، إلا أنها سمحت بإرسال أبنائها إلى المسلخ، أو المجزرة. إن هذا الاستلهام الانقلابي أو التدميري للدادائية راح يؤثر على الأدب والفن بشكل عام ويولّد حركة أكبر وأهم هي السريالية. وهذه الأخيرة راحت تركز على استكشاف القوى الغامضة والهوجاء التي تسيطر على منطقة اللاوعي القابعة في أعماق الإنسان. وفي ذات الوقت راح فرويد ينشر مؤلفاته التشاؤمية عن مستقبل الحضارة الغربية. بل وراح يتحدث عن "غريزة الموت" التي تسكن في أعماق الإنسان فرداً كان أم جماعات وتدفعه لأن يشتهي الانتحار أو التدمير الذاتي اشتهاء كما ذكرنا. ثم نشر كتابيه الأساسيين في أواخر عمره: مستقبل وهم ما سنة 1927، ثم توعك في الحضارة أو مرض الحضارة (2) سنة 1930.

ولكن رغم وحشية الحرب العالمية الأولى وفواجعِها إلا أن بعض الفلاسفة ظلوا مخلصين لمشروع التنوير متمثلاً في أعلى ذراه: أي الفلسفة الكانطية. نذكر مثالا مدرسة "ماربورغ" التي كان يتزعمها ارنست كاسّيرر. وقد اضطر هذا الأخير إلى خوض مناظرة كبرى مع القطب المضاد للفلسفة العقلانية ألا وهو مارتن هيدغر. وقد جرت هذه "المناطحة" الفلسفية الكبرى إذا جاز التعبير في مدينة دافوس بسويسرا، وشهدها جمهور غفير من الفلاسفة والمثقفين الأوروبيين. واستمرت من 17 مارس إلى 26 أبريل عام 1929 (3). وفتح هيدغر عندئذ النار على تراث التنوير المتمثل بالمدرسة الكانطية الجديدة وعلى رأسها كاسيرر. وقال هيدغر بالحرف الواحد: ينبغي تدمير كل ما شكَّل حتى الآن أسس الميتافيزيقا الغربية: أي الروح، فالمنطق، فالعقل"!... وراح كاسيرر يتواضع أمامه ويقبل بمراجعة نقدية للفلسفة الكانطية من أجل إنقاذ العقل ومواصلة الحوار. ولكن هيدغر رد عليه بنوع من العنجهية والاحتقار قائلاً بأن الحل الوحيد يكمن في أن ندير ظهرنا للتراث العقلاني الذي سيطر علينا منذ القرن الثامن عشر (أي لحظة كانط). واعتبر الشهود أنّ هيدغر هو الذي ربح المعركة، وبدا وكأنه البطل الجديد للفلسفة الألمانية. وهكذا انتصر التيار اللاعقلانيّ على التيار العقلانيّ في الساحة الفلسفية. ثم ترجم ذلك واقعياً عن طريق صعود النازية والفاشية وتدمير أوروبا مرة ثانية من خلال الحرب العالمية الثانية. فهل كان هيدغر هو الذي مهَّد لهتلر؟ البعض يتهم نيتشه وأسلوبه البركانيّ المتفجّر، وهوسه بإرادة القوة والعظمة... ولكن هيدغر ليس إلا تلميذاً لنيتشه بمعنى من المعاني. ومعلوم انّه كان في البداية معجبا بالفوهرر الذي يمثل روح ألمانيا. ثم سرعان ما اختلف مع النازيين ففصلوه من عمادة الجامعة وأبعدوه. ومع ذلك فقد ظل ملاحقا بتهمة النازية حتى الآن..ولكن لا ينبغي أن نحكم على هيدغر فقط من خلال مناظرته مع كاسيرر وهجومه على العقلانية الكانطية التي كانت قد انتصرت وترسخت آنذاك وأصبحت ضيقة ومملة ككل شيء ينتصر ويترسخ. ففلسفته أعمق وأشمل من ذلك. والبعض يعتبره اكبر فيلسوف ظهر في القرن العشرين. وينبغي أن نضع الأمور ضمن سياقاتها التاريخية كي نفهمها جيدا. وهذا بحد ذاته يتطلب دراسة خاصة. وبالتالي فإنّ هجوم بعض غلاة المثقفين اليهود عليه في الساحة الباريسية خصوصا شيئا مبالغا فيه ومستهجنا إلى درجة انه أزعج شخصا مثل فيليب سوليرز الذي لا يستطيع أحد اتهامه بأنه مع العرب وضد اليهود. فقد صرح أكثر من مرة بأنه يكاد يشعر بالخوف لأنه مضطر للاستشهاد بهيدغر وإعلان حبه له..بل وصل الأمر ببعض الغلاة المسعورين إلى حد المطالبة بمنع تدريس فلسفته في الجامعات الفرنسية!

ثم اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية معركة جديدة ضد العقلانية الغربية، ولكنها كانت هذه المرة بقيادة مدرسة فرانكفورت. فقد قامت بأكبر محاكمة للعقل الغربي وللجرائم التي ارتكبت باسمه للمرة الثانية على الصعيد العالمي. وكان قائدا المدرسة الفلسفية الجديدة هما: هوركهايمر وأدورنو. ومعلوم أنهما اضطرا للهجرة إلى الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية خوفاً من بطش النازية بسبب أصلهما اليهوديّ. وأصدرا عام 1947 كتاباً بعنوان جدلية التنوير أو جدلية العقل (4). ولا يقصدان بالتنوير هنا فقط تلك الحركة التي ظهرت في القرن الثامن عشر وتمثلت بالانقضاض الكبير للعقل على التراث التقليدي والأصولية المسيحية. وإنما يقصدان أيضاً، وبشكل عام، تلك الحركة التي ظهرت منذ اليونان القديمة وأدت إلى تحكّم العقل بمجمل الحياة الاجتماعية والثقافية للغرب. وبالتالي فإن مدرسة فرانكفورت راحت تدرس تاريخ العقل منذ أفلاطون وأرسطو وحتى الحرب العالمية الثانية! وراح هوركهايمر وأدورنو يطرحان هذا السؤال: لماذا انحرفت البشرية الأوروبية في اتجاه البربرية في الوقت الذي بلغت فيه أقصى ذرى التطور المادي، وفي الوقت الذي كانت تمتلك فيه كل الوسائل والإمكانيات لتحقيق السعادة؟ كيف انقلب التقدم إلى تراجع وتأخر، أو كيف انقلب العقل إلى نقيضه؟ وكانت الأطروحة التي قدماها كجواب هي التالية: إن العقل ونقيضه (أي الأسطورة) ليسا منفصلين عن بعضهما البعض إلى الحد الذي نتصوره. وإنما هما مرتبطان ببعضهما البعض من خلال علاقة جدلية مستمرة على مدار التاريخ. صحيح أن العقل ولد بعد تحرره من الأسطورة، إلا انه اضطر فيما بعد إلى التحول إلى أسطورة بدوره لكي يكافح الأسطورة بشكل أفضل (نفتح قوساً هنا ونقول إنّ العقل معاصر في ولادته لملحمة هوميروس أي للأسطورة). كيف تحول العقل إلى أسطورة بدوره؟ على هذا السؤال يجيب زعيما مدرسة فرانكفورت قائلين: إن "الأساطير العقلانية" ذات غموض رهيب. ومن بين هذه الأساطير العقلانية نذكر الاعتقاد الحديث بالقدرة الإلهية للعلم والتكنولوجيا، ثم الاعتقاد أيضاً بالطابع اللانهائي واللامحدود للتقدم الناتج عنهما. هنا تكمن أسطورة الحداثة بالضبط، وهي أسطورة مغلَّفة بغلاف العقل كما رأينا. وهذا الاعتقاد الغربي يرافق منذ عصر النهضة الجهود التي يبذلها البشر لكي يسيطروا على الطبيعة ويصبحوا أسياداً عليها كما قال ديكارت أستاذ العقلانية الغربية في عبارة شهيرة. ولكن هذا الانتصار الذي حققته الحداثة الأوروبية دُفِع مقابلَه ثمنٌ باهظ: ألا وهو الاستلاب، أي استلاب الإنسان في عالم الصناعة والتكنولوجيا. فهيمنة العلم الموضوعي البارد لا تُمارَس فقط على العلاقات الكائنة بين البشر والطبيعة (أو العالم)، وإنما أيضاً على العلاقات الكائنة بين البشر أنفسهم. إن هيمنة التكنولوجيا تتجسد في الدولة الحديثة وتولّد تشيؤ الوجود الاجتماعي، و"استعمار" الحياة اليومية من قبل إدارة بيروقراطية توتاليتارية لا وجه لها ولا اسم. فكل شيء في مجتمعات الحداثة يُحرَّك من وراء الستار، أو من خلال الضغط على الأزرار. وهذه هي الصيغة الحديثة للنظام الرأسمالي والتكنولوجي المتقدم. ومن وجهة النظر هذه لا يوجد إلا فرق في الدرجة بين الديمقراطية الأمريكية والفاشية الهتلرية!. فالهدف واحد في النظام الرأسمالي العلمي البارد: ألا وهو سحق الفكر وتدجين البشر ومعاملتهم كالقطيع. وبالتالي فإن المسؤول عن انحراف العالم الغربي في القرن العشرين هو ما يدعوه هوركهايمر وأدورنو بالفلسفة الوضعية: أي هيمنة العلم الموضوعي التكنولوجي البارد على البشر والأشياء. إنه علم جاف، متغطرس، لا قلب له ولا روح، ولا يهدف إلا إلى تحقيق المزيد من الفعالية والربح وتراكم المال ورأس المال إلى ما لانهاية... وهكذا ظهر الإنسان ذو البعد الواحد والمفرغ من كل الأبعاد الأخرى بحسب أقوال هيربرت ماركوز، الأستاذ الآخر لمدرسة فرانكفورت الشهيرة.

إن هذا النقد للعقلانية الغربية يشمل كل تاريخ الفلسفة الأوروبية من ديكارت إلى برتراند رسل مروراً بكانط وهيغل، الخ... فديكارت هو المسؤول الأول عن بلورة هذا العقل التكنولوجي والعلمي البارد (5). وبالتالي فهو مسؤول أيضاً عن محرقة اليهود وليس فقط فلاسفة الألمان من هيدغر إلى نيتشه إلى هيغل فكانط. وربما عدنا بالمسؤولية حتى إلى أرسطو المؤسس الأول للعقل الغربي!..هكذا نلاحظ أن فلاسفة مدرسة فرانكفورت وقعا في نوع من الهذيان الذي لا ضابط له. ربما كان موقفهما مفهوما من الناحية النفسية بسبب فداحة المحرقة اليهودية التي كانت لا تزال طازجة عندما ألفا كتابهما الشهير. ولكنهما بالغا جدا في الهجوم على العقل والعقلانية. ولحسن الحظ فان تلميذهما يورغين هابرماس استطاع إنقاذ العقل من براثن هذا الهجوم الكاسح الذي كاد أن يفقد صوابه.(نفتح قوسا هنا ونقول بأنه سقط في الحرب العالمية الثانية أكثر من خمسين مليون قتيل من مختلف الجنسيات الأوروبية. وبالتالي فاليهود لم يكونوا هم وحدهم الضحايا. ولكن الفرق الأساسي هو أنهم لوحقوا وقتلوا عن سابق قصد وتصميم لأنهم يهود. ينبغي أن نضيف إليهم أيضا الغجر الذين لا يتحدث أحد عنهم وكذلك الشاذين جنسيا والمرضى عقليا. وهنا يكمن الطابع المجرم للنازية).

ولكن هل يعني ذلك التخلي عن العقل والعقلانية؟ بالطبع لا، يقول أساتذة مدرسة فرانكفورت. فعلى الرغم من كل ما حصل ينبغي إنقاذ العقل من براثن الوضعية الرأسمالية الجافة التي تمثل الصيغة المنحرفة والمفسدة للعقل الأوروبي. ولهذا السبب فإن مدرسة فرانكفورت تدعو لفرز العناصر المعرفية البريئة في العقل عن البقايا والشوائب الأسطورية. باختصار فإن العقل الغربي بحاجة إلى غربلة ونقد وتمحيص من أجل تجديده أو تصحيح انحرافه الذي أدى إلى كوارث الحربين العالميتين. وهذا ما أنجزه هابرماس لاحقا بكل تمكن واقتدار حتى استحق اسم: كانط جديد!فالعقلانية الكانطية كانت قد جمدت وتخشبت وضاقت وأصبحت بحاجة إلى توسيع، إلى ضخ دم جديد في عروقها وشرايينها. وهذا يعني أن للعقل تاريخا وانه يتطور في كل عصر لكي يناسب الحاجيات المستجدة وليس شيئا جاهزا معطى مرة واحدة والى الأبد. صحيح أننا لا نزال نعيش، أو قل بان الأمم المتقدمة لا تزال تعيش، في ظل العقلانية التنويرية الكانطية والهيغلية ولكن بعد إجراء رتوشات عديدة عليها، وربما ما هو أكثر من الرتوشات..

سوف ألخص كل ما سبق بكلمات معدودات قبل أن أنتقل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من دراستي هذه.

 قبل عام 1920، أي قبل الحرب العالمية الأولى، لم يكن يخطر على بال أحد قط أن ينتقد العقل أو العقلانية التي صنعت مجد أوروبا. كان هذا العقل يتخذ صفة العصمة المطلقة، وبخاصة بعد تحقيقه لكل تلك النجاحات العلمية والتكنولوجية والصناعية الباهرة. كان عقل التنوير قد حل محل الدين المسيحيّ من حيث الأهميةُ والمشروعية. أو لنقل بأن العقل العلمي الحديث حلَّ محل العقل اللاهوتي القديم ووعد البشرية الأوروبية بتحقيق آمالها في التقدم المطرد والسعادة والرفاهية المادية على هذه الأرض. وبالفعل فقد حقَّق لها الكثير من هذه الأشياء خلال القرن التاسع عشر، ولذلك آمنت به ووثقت بإمكانياته وتخلَّت عن العقل الأصولي المسيحي الذي سيطر عليها طيلة قرون وقرون. وإذن فإن نقد العقل أو وضع العقل على محك التساؤل والشك هو إحدى خصائص القرن العشرين وحده. ولولا كوارث الحربين العالميتين مضافاً إليهما الحروب الاستعمارية البشعة وهيروشيما وناغازاكي وغيرها لما تجرأ أحد على نقد العقل، ولاتُّهم بالجنون لو فعل ذلك. ضمن هذا السياق العام والعريض ينبغي أن نموضع أزمة العقل والعقلانية الغربية لكي نفهمها على حقيقتها.

 

1- هذا المقطع مأخوذ من كتاب بول فاليري: أزمة الروح 1919، ولكنه منشور أيضاً في كتاب منوعات رقم1، باريس، غاليمار، 1924، ص16.

 

- Paul Valéry: La crise de l’esprit, Variété 1, Paris, Gallimard, 1924.2

الكتابان المشار إليهما لفرويد هما التاليان في الترجمة الفرنسية الأخيرة 2

 

- Freud: L’Avenir d’une illusion, PUF 1991. فرويد : مستقبل وهم ما، المنشورات الجامعية الفرنسية، 1991

 - Freud: Malaise dans la civilisation, PUF 1992. فرويد: توعك في الحضارة، المنشورات الجامعية الفرنسية، 1992

3- صدرت مناظرة هايدغر-كاسيرر في ترجمة فرنسية عام 1972 بعنوان مناقشة حول الكانطية والفلسفة (دافوس، مارس، 1929) باريس، 1972.

- Ernest Cassirer, Martin Heidgger: débat sur le kantisme et la philosophie (Davos, mars 1929), Paris, 1929.

4- عنوان الكتاب في الترجمة الفرنسية هو جدلية العقل، غاليمار، باريس، 1983. ولكن العنوان في الأصل الألماني هو: جدلية التنوير.

- Horkheimer et Adorno: La dialectique de la raison, Paris, Gallimard, 1983

- للمزيد من التوسع حول نظرية مدرسة فرانكفورت انظر كتاب كريستيان دولاكامبانييه: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين، باريس، سوي، 1995، الصفحات: 224-233.

- Christian De la Campagne: Histoire de la philosophie au XXe siècle, Seuil, Paris 1995. pp. 224-233

 

الجزء الثاني من المقالة: 
 

المعركة الفلسفية الكبرى بين فوكو النيتشوي/ وهابرماس الكانطي- الهيغلي

 

مرور 24 سنة على وفاة ميشال فوكو (4) الفلسفة الغربية في ختام القرن العشرين(2/2)

السبت 12 تموز (يوليو) 2008



 بعد ما رأيناه في القسم الاوّل من هذه الدراسة، سوف أنتقل الآن إلى المرحلة الثالثة، وربما الأخطر والأهم، من نقد العقل الغربي. وقد سيطرت عليها شخصيات فلسفية من أمثال فوكو ودريدا وديلوز من جهة، ثم هابرماس وجماعته من جهة أخرى. بالطبع فإنّ هذه المعركة بين تيّار فوكو وتيّار هابرماس لا تزال مستمرّة من خلال الفلاسفة الشباب، وبخاصة لوك فيري الصاعد حالياً بقوّة في الساحة الباريسية والذي يمثّل هابرماس. كان ميشيل فوكو قد قام بأكبر محاولة لنقد العقل الغربيّ وتعرية ملابساته السلطويّة وكلّ أشكال الهيمنة التي ترافقه. وأثبت أنّ هذا العقل ليس بريئاً إلى الحدّ الذي يوهمنا به، وليس معرفياً محضاَ كما يزعم، وإنما هو متورط في ممارسات القوة والهيمنة والتسلُّط. أو قل إنّه تحوّل في لحظة من اللحظات من عقل تنويريّ استكشافي تحريريّ إنسانيّ، إلى عقل قمعي يشبه الأخطبوط الذي يهيمن على كل مستويات الوجود الاجتماعي للبشر ويسير الأمور من خلف الستار أو الضغط على الأزرار إلى درجة أنّك لم تعد تعرف من الذي يحكم بالضبط. إنها أجهزة سرية لا مرئية لا وجه لها ولا صورة. ثم انضافت إليها مؤخرا أجهزة المراقبة أو كاميرات التصوير الاتوماتيكية المسلطة على الأماكن العامة والساحات والشوارع إلى درجة انه لا يمكن لأيّ شخص أن يفلت منها. وقد أصبحت تسجل كل شاردة وواردة عنك مهما فعلت وأينما حللت وارتحلت. هذا هو مجتمع "المراقبة والعقاب" الذي تحدث عنه ميشيل فوكو في كتابه الشهير الذي يحمل نفس الاسم. فمجتمع الحداثة يطوعك ويدجّنك شئت أم أبيت، بشكل مباشر أم غير مباشر.

وهنا يلتقي ميشيل فوكو بمدرسة فرانكفورت التي سبقته إلى نقد انحرافات العقل الغربي وانتهازيته. وقد صرح الفيلسوف الفرنسي في ما بعد بأنه لو اطلع مسبقاً على نظريات هذه المدرسة لما احتاج إلى كتابة كل ما كتبه. ولكنه يأسف ولا يأسف في ذات الوقت على هذا التأخر. فعدم اطلاعه على هذه النظريات النقدية دفعه إلى أن يتوصل إلى نفس النتائج عن طريقه الخاص. وهذا شيء إيجابي لا ينكر. ما هو الشيء الذي استفاده فوكو من النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت؟ إنه يتمثل بالفكرة الأساسية التالية: اكتشاف الآثار السلطوية المرتبطة بممارسة العقلانية التي أخذت تتبلور في الغرب بدءاً من القرن السادس عشر. فنحن كنا نتوهّم أنّ العقل بريء كلياً ولا علاقة له بالسلطة، فإذا بنا ندرك، ولكن بعد فوات الأوان، أنه ينتج سلطة بدوره، وأحياناً سلطة قمعية.

ويرى الفيلسوف الفرنسي الكبير بأن القدر الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي والثقافي والعلمي للأمم الغربية كان مرتبطا بشكل وثيق ببلورة هذه الصيغة من صيغ العقلانية. يقول بالحرف الواحد:
"كيف يمكننا أن نفصل هذه العقلانية عن آليات السلطة ومجرياتها وتقنياتها وآثارها؟ أقصد السلطة التي رافقت العقل الغربيّ والتي لا نستطيع تحمُّلها إلا بصعوبة شديدة. فهي تشكل صيغة قمعية مرتبطة بالمجتمعات الغربية الرأسمالية، وربما الشرقية الاشتراكية. ألا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن وعود التنوير في التوصل إلى الحرية عن طريق ممارسة العقل قد انقلبت إلى عكسها؟ فاستخدام العقل في الغرب لم يعد واعداً بالحرية كما كان عليه الحال سابقاً. هذه هي المشكلة الأساسية المطروحة علينا اليوم. وهي مشكلة نتخبط فيها نحن جميعاً. وأود أن أقول بهذا الصدد أن المشاكل التي نواجهها حالياً كانت قد طرحت بشكل رائع ومدهش من قبل مدرسة فرانكفورت" [1] .

ثم ينتهي الأمر بفوكو إلى القول بأنّ العقل هو استبداد وتنوير في آن معاً. أو قل: إنّ عقل التنوير الذي خلق الحريات هو الذي خلق السلاسل والأغلال أيضاً! حقا لقد انقلبت الأمور إلى عكسها، والعقل الذي صنع كل هذه الحضارة يوشك أن يدمرها أيضا إذا لم يردعه رادع أو وازع..لقد انقلب العقل إلى جنون: جنون الهيمنة، أو جنون العظمة، أو جنون التسلط والتحكم بكل شيء، سمّه ما شئت..

سوف نلاحظ في ما بعد كيف أنّ هابرماس وتلامذته الفرنسيين من أمثال لوك فيري سوف يهاجمون فوكو حول هذه النقطة بالذات. فالعقل لم يكن فقط أداة لتدجين الناس وقمعهم عن طريق أجهزة التنصت والمراقبة السرية أو العلنية، وإنما هو الذي أسّس كل هذه الحضارة المرتبة المنظمة التي تحسدنا عليها جميع أمم الأرض. ولكنه لا يرى فيها إلا السلبيات. ولذا فسوف يتهمونه باللاعقلانية والفوضوية بل ومحاولة تدمير الحداثة وإنجازاتها. ولكن فوكو يستبق هذا الانتقاد ويتخذ كل الاحتياطات إذ يقول:
"هل ينبغي أن نقيم محاكمة للعقل؟ في رأيي إن هذا شيء عقيم ولا معنى له. فأولاً المسألة ليست مسألة إدانة أو تبرئة. فالتاريخ هو التاريخ. وما جرى فيه ينبغي أن نحاول فهمه وليس إطلاق حكم قيمة عليه. وثانياً لأنه من العبث أن نعتبر العقل بمثابة القطب المضادّ لشيء نعتبره اللاعقل. وثالثاً لأن مثل هذا العمل يجبرنا على أن نلعب الدور الاعتباطيّ والمملّ والمتمثل بفرز الناس إلى فريقين، فريق مع العقلانية، وفريق ضد العقلانية.
الشيء المهم في ما يبدو لي هو أن نشرع بتحليل هذا النمط من العقلانية والذي يبدو وكأنه خاص بثقافتنا الحديثة ولم يكن معروفاً سابقاً. وأقصد بذلك العقلانية المتولدة عن عصر التنوير. هذا ما فعله بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت. ولكن هدفي ليس مناقشة أعمالهم المهمة والثمينة. وإنما أهدف إلى تقديم نمط آخر من تحليل العلاقات الكائنة بين العقلنة والسلطة" [2] .

وفي مكان آخر يرد ميشيل فوكو على انتقادات هابرماس له ويقول بما معناه: إنّ هابرماس ليس وفياً لمدرسة فرانكفورت على الرغم من أنّه آخر ممثليها رسمياً. لقد خرج عليها وتناقض معها. فهو يمارس عليّ نوعاً من الابتزاز إذ يقول لي: إما أن تقبل بالعقلانية، وإما أن اتهمك بالسقوط في أحضان اللاعقلانية! إنه يريد أن يمنعني من القيام بأي نقد للعقل، أو من طرح أي تساؤل نقدي على تاريخ العقلانية الغربية. يحصل ذلك كما لو أنه يستحيل علينا أن نقوم بنقد عقلاني للعقلانية!
والآن ما هو موقف هابرماس؟ سوف أقول باختصار شديد إنه يتفق مع فوكو على الاعتراف بانهيار التصور الكلاسيكي المضخم للعقل الغربي. فلم يعد أحد مقتنعاً بوجود عقل كبير ومعصوم يقف فوق كل نقد كما كان يعتقد هيغل مثلاً أو كانط حيث تبلورت العقلانية الغربية في أعلى ذراها. لا. لقد تحطمت أسطورة عقل التنوير أو عصمته بعد كل ما حصل من جرائم وكوارث ونكبات استعمارية وغير استعمارية، داخلية وخارجية. وما عدنا نستطيع الاستمرار وكأن شيئا لم يكن..

ولكن هابرماس على الرغم من كل ذلك يعتقد بإمكانية إنقاذ فكرة العقل والعقلانية. كيف؟ عن طريق طرح تصوّر متواضع ولكنه فعّال للعقل. فلم يعد العقل، بحسب تصوّر هابرماس، شيئاً جوهرانياً موجوداً في أعماق الأشياء أو في قلب العالم. وإنما أصبح صفة ننعت بها الأشخاص أو المقولات التي تطمح إلى تحقيق صلاحية إجرائية معينة سواء أكانت هذه الصلاحية تخصّ الحقيقة، أو الاستقامة، أو الصدق. فنقول مثلاً عن سلوك هذا الشخص بأنه عقلانيّ، ونقول عن مضمون هذا الكتاب بأنه عقلانيّ أو لاعقلانيّ.. وبالتالي فقد تحوّل العقل إلى عقلانية، أي إلى صفة تُلصق بمن يتّسمون بهذه السمة. هكذا نزل العقل من برجه العاجيّ أو من مثاليته الطوباوية لكي يصبح مجرد فعالية إجرائية هدفها التوصل إلى نتيجة ايجابية معينة في مجال من المجالات[3] . ولهذا السبب يموضع هابرماس العقل داخل المجتمع، أي داخل الفعالية التواصلية أو العقل التواصلي والحواري. فعلى كل مستويات الوجود الاجتماعي يوجد حوار وتواصل بين أفراد مختلفين، وعن طريق هذا الحوار التواصلي يتوصلون إلى إجماع أو قاسم مشترك يجمع بينهم ويحل مشكلتهم. (انظر التفاوض بين العمال وأرباب العمل في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، أو التفاوض بين الأساتذة والطلاب، أو حتى بين الأب والابن، أو بين البائع والمشتري، الخ...). ويفترض هابرماس أنه توجد في لغة التفاوض شحنة عقلانية كامنة هي التي تؤدي إلى تقارب المواقف وإيجاد حلّ للخلاف الناشب. ولكنّ خصوم هابرماس من أمثال ديلوز أو دريدا أو جان فرانسوا ليوتار يشكّون في هذه النزعة الإنسانية المتفائلة التي تنضح بها نظرية هابرماس الفلسفية.
 وهم يتساءلون: هل إنّ البشر يريدون حقاً التفاهم في ما بينهم، وأنهم يبحثون عن إجماع؟ ودريدا لا يرى في مسار هابرماس إلا نوعاً من تأليه العلم أو العودة إلى ميتافيزيقا العلم. وهذه العودة أسيرة الفلسفة الوضعية بالضرورة، هذه الوضعية التي ينبغي أن نتحاشاها. ويرد عليهم هابرماس قائلاً بأنّه يفضل التركيز على الاتفاق، وليس على الاختلاف كما يفعلون هم. ثم إنه يريد أن يثق بالطبيعة البشرية وبالعقل التنويري أكثر مما يفعلون. ثم إن الحوار التواصلي الديمقراطي بين الذوات الحرّة هو البديل الوحيد عن الجنون والضرب والقمع والاستبداد. هكذا نلاحظ أنّ الرجل وجد الحلّ في نظرية العقل الحواريّ التواصليّ الذي يتناسب مع طبيعة المجتمعات الديمقراطية المتقدمة. وهذه هي آخر نظرية فلسفية في الغرب.

ثم راح يتهم الفلاسفة الفرنسيين من أمثال فوكو ودريدا وليوتار وديلوز بأنهم عدميون أو فوضويون يريدون القضاء على الحداثة والانتقال فوراً إلى مرحلة ما بعد الحداثة. وأما هو فيريد الدفاع عن مشروع الحداثة أو مشروع التنوير بعد تنقيحه وإصلاح نواقصه وانحرافاته. باختصار فإنه يتهم الفلاسفة الفرنسيين المذكورين بأنهم من أتباع نيتشه (اللاعقلاني)، في حين أنه هو من أتباع كانط (العقلاني). فكانط هو الذي أسس مشروع الحداثة لأول مرة عندما نشر كتبه الأساسية. ويمكن اعتبار نصه الشهير "ما هو التنوير؟" بمثابة أول خطاب فلسفيّ تأسيسيّ للحداثة يحصل قبل هيغل مباشرة [4] . ولكن يظل هيغل هو المؤسس الأكبر للخطاب الفلسفي للحداثة. من المعلوم أن هابرماس يعتقد انه في كل عصر أو جيل تحصل ظلمة جديدة وتخيم على الفكر فتسدّ الأفق.

في كلّ عصر يحصل انسداد تاريخي ثم يظهر المفكر الكبير لحلحلة الأمور وفتح هذا الانسداد أو تبديد الظلمة والكربة الجديدة. بهذا المعنى فإنّ الفكر هو نور يشق دياجير الظلام. فديكارت هو الذي فتح الانسداد التاريخيّ الناتج عن هيمنة الفلسفة القروسطية السكولائية التي كانت قد أصبحت مملة وعقيمة. وكانط هو الذي فتح الانسداد التاريخي الناتج عن تصارع التيارين الدوغمائي القطعي والارتيابي الشكوكي. وهيغل فعل نفس الشيء ضمن ظروف أخرى. وفي كل مرة كان الفكر الأوروبي يتنفس الصعداء ويشعر بالارتياح وينطلق على أسس جديدة ويستعيد الثقة بالنفس. وهابرماس نفسه ليس إلا كانط أو هيغل جديد يريد أن يزيح الظلمة الجديدة عن وجه الحضارة الأوروبية بعد أن وصلت إلى الجدار المسدود مرة أخرى. بهذا المعنى أيضا فإنّ الفلاسفة الكبار هم أطباء حضارات. فهم وحدهم القادرون على تشخيص المرض العضال وإيجاد العلاج الشافي.

هكذا اندلعت المعركة بين فيلسوف الألمان والفلاسفة الفرنسيين حول القضية المركزية التالية: تقييم تجربة الحداثة الأوروبية منذ عصر التنوير وحتى اليوم: أي على مدار مائتي سنة من تاريخها. هل الحصيلة إيجابية أم سلبية؟ في رأي هابرماس أن الحصيلة إيجابية في مجملها رغم كلّ الكوارث التي حصلت ورغم المحرقة والحروب العالمية والمجازر الاستعمارية. أما الفلاسفة الفرنسيون فيبدون متشائمين ويركزون على السلبيات أكثر من الإيجابيات. نقول ذلك رغم أنّ فوكو في أواخر أيامه، وباعتراف هابرماس نفسه، عاد إلى حظيرة الحداثة والتنوير بعد طول مشاغبة ومشاكسة [5] . ولكنه في مراحله الأولى كان نيتشوياً محضاً يريد تدمير كل شيء بنته الحداثة أو يريد تعريته اركيولوجياً كما يقول. أما دريدا فقد أمضى كلّ عمره في تفكيك الميتافيزيقا الغربية (أي العقلانية الغربية والعرقية المركزية الأوروبية). أمّا عن ديلوز فحدّث ولا حرج...

هكذا نجد أنّ مسألة نقد الحداثة أو تقييم تجربتها التاريخية تعتبر أهمّ قضية فلسفية مطروحة على البيئات الثقافية الغربية من أوروبية وأمريكية طيلة الثلث الأخير من القرن المنصرم. وبهذه المسألة سوف يُخْتتم القرن فلسفياً، على الأقل بالنسبة للمثقفين الغربيين. ولكن الشيء الذي نلاحظه هو أنه إذا كانت النظرة السلبية للحداثة هي التي سادت منذ عام 1945 وحتى أوائل الثمانينات (تاريخ وفاة ميشيل فوكو)، فإنّ النظرة الإيجابية هي التي أخذت تسود بعدئذ. وهذا يعني أنّ هابرماس انتصر على فوكو في نهاية المطاف، ورافق انتصاره سقوط الشيوعية عام 1989، وانتصار الليبرالية الديمقراطية على الشيوعية التوتاليتارية. ومن المعلوم أنّ فوكوياما صفّق لهذا الانتصار واعتبره نهاية التاريخ. وراح يحتمي بمرجعية هيغل الكبرى لتدعيم أطروحته المتفائلة بمسيرة التاريخ البشري. بل راح يعتقد أنّ النموذج الديمقراطي الغربي سوف يهيمن تدريجيا على البشرية كلها. وبالتالي فهو نهاية التاريخ. حقا لقد انتصر هيغل! وانتصر أيضا كانط على نيتشه وربما كاسيرر على هيدغر..

وقد ردّ عليه دريدا بقسوة في كتابه شبح ماركس أو أشباح ماركس بالأحرى[6] . بمعنى أنّ شبح ماركس لا يزال يهيمن على الغرب الرأسمالي رغم انتصاره على الشيوعية. فدريدا يقول بأن الديمقراطية الليبرالية لم تترسخ حتى الآن كنظام سياسيّ في القسم الأكبر من العالم. يضاف إلى ذلك أنها غير قادرة وحدها على حلّ المشاكل الناتجة عن تفاقم البؤس والفقر ليس فقط في بلدان العالم الثالث وإنما في الغرب نفسه. فالحداثة أنتجت شرائح واسعة من المهمَّشين والعاطلين عن العمل، والذين يسرحون الآن للشحاذة حتى في "مترو" باريس..يضاف إلى ذلك أن العولمة الأميركية التي يتبجّح بها فوكوياما ويعتبرها نهاية التاريخ والنموذج الأمثل للبشرية تجوّع مليار شخص في العالم على الأقل وتهدّد الكون بالتلوّث والحروب اللانهائية في عهد بوش العظيم! أنظر أبحاث المفكر السويسري جان زيغلير عن "أسياد العالم الجدد" أو "إمبراطورية العار والشنار" حيث يشن هجوما كاسحا على العولمة الغربية وشركاتها الأخطبوطية متعدّدة الجنسيات أو العابرة للقارات.. وبالتالي فلا بأس من العودة إلى ماركس والآفاق التي افتتحها، ثمّ من خلال ماركس إلى السفح الإيجابيّ من تراث التنوير. هكذا نجد أنّ دريدا أيضاً اضطرّ إلى العودة إلى التنوير بعد أن أمضى عمره في تفكيك العقل الغربي، ومهاجمة التنوير البورجوازي!
 

والواقع أنّ الهجوم عليه وعلى فوكو وديلوز أصبح لا يُحْتمَل في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم. وجاء هذا الهجوم من جهة الفلاسفة الشباب الصاعدين حالياً وبخاصة لوك فيري. فقد أصدر هذا الأخير عام 1984 كتاباً عنيفاً يدين فيه فلسفة فوكو ودريدا وديلوز وبورديو ولاكان، أي جميع الأقطاب الذين سيطروا على الساحة الفرنسية أثناء المرحلة البنيوية (1960-1980). واتهمهم بأنهم معادون لكل قيم الحضارة الغربية الحديثة كالنزعة الإنسانية (هيومانيزم)، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والعقلانية... ثم راح "فيري" يحتمي بمظلة هابرماس لكي ينقضّ عليهم بقوّة أكثر ويدين كرههم للمناقشة الحرّة والديمقراطية التي قد تؤدي إلى الإجماع والوفاق واتخاذ القرار الصحيح وتسيير أمور المجتمع دون حرب أو ضرب. ومعلوم أنّه لا بديل عن الحوار الديمقراطي إلا الضرب والحروب الأهلية كما يحصل في المجتمعات المتخلفة التي لم تستنر بعد. كما ويدين تركيزهم الشديد على الاختلاف والحقّ في الشذوذ والخروج على المألوف وعدم الاعتراف بقيم كونية تجمع بين الناس. وهنا يلمح لاعقلانيتهم النيتشوية وكرههم للقيم الكونية لفلسفة التنوير [7] . وبما أن الدائرة كانت قد دارت على فوكو وجماعته فإنّ الناس راحوا ينصرفون عن فلسفتهم الراديكالية في نقدها والتي تكاد تطيح بالمكتسبات الأكثر إيجابية للحداثة وفي طليعتها دولة الحق والقانون. وهكذا انتصر هابرماس على فوكو أو كانط على نيتشه مرة أخرى في أواخر القرن المنصرم، دون أن يعني ذلك أن المعركة قد حسمت نهائياً. فالتاريخ يخبّئ في باطنه العقلانية واللاعقلانية، فأحياناً يهدأ ويركز، وأحياناً ينفجر ويثور كالبركان الهائج. يضاف إلى ذلك أن الجرائم التي ارتكبت باسم الحداثة الغربية أثناء الفترة الاستعمارية تشهد لصالح فوكو ضد هابرماس ولوك فيري وسواهما. ولكن المناقشة تظلّ مفتوحة، وسوف نعود إليها حتماً لاحقاً. فهي اكبر من أن تختصر في دراسة واحدة مهما طالت.


 أريد قبل أن أختتم هذا الحديث أن أشير إلى الظاهرة التالية المرعبة والدالة على مدى حجم التفاوت التاريخي بيننا وبينهم : وهي انه في الوقت الذي ينشغلون فيه بنقد تطرفات أو انحرافات العقل العلمي الرأسمالي البارد والتكنولوجي نحن مشغولون بنقد العقل الأصولي اللاهوتي! وهو شيء كانوا قد فرغوا منه منذ مائتي سنة على الأقل..الفرق الوحيد بين أزمتنا وأزمتهم، بين انسدادنا الحضاري وانسدادهم (على فرض أن عندهم انسدادا بالفعل) هو أن أزمتنا من النوع البنيوي المفصلي: إنها قصة حياة أو موت، وجود أو عدم وجود. في حين أنهم تجاوزوا هذا النوع من الأزمات التي تخص المنعطفات التاريخية الكبرى والعبور الحضاري الخطير. ولهذا السبب ترددت كثيرا قبل كتابة هذه الدراسة أو بالأحرى قبل نشرها لأني خشيت أن يتخذها التيار الارتكاسي الأصولي عندنا حجّة ضد العقل أو وسيلة للهجوم على التنوير. من الواضح أني ما إلى هذا قصدت. فنحن في أمسّ الحاجة إلى العقل والعقلانية والتنوير في حين أن الأوروبيين شبعوا منها حتى درجة التخمة. ولذلك ينبغي موضعة الأمور ضمن سياقها التاريخي وإلا فلن تفهم على حقيقتها.فمثل هذه المناقشات الفلسفية العويصة غير مفهومة خارج السياق الأوروبي الذي عاشها ودفع ثمنها بعد أن جرب الحداثة على مدار مائتي سنة متواصلة.





[1] - انظر كتاب ديدييه اريبون: ميشيل فوكو ومعاصروه، فايار، باريس 1994، ص. 300-301.
- Didier Eribon: Michel Foucault et ses contemporains, Paris, Fayard, 1994. pp: 300-301.
[2] - انظر كتاب الفيلسوفين الأمريكيين: هوبيرت دريفوس وبول رابينو عن ميشيل فوكو، مسار فلسفي، غاليمار، 1984. ص: 300.
- Hubert Dreyfus et Paul Rabinour: Michel Foucault, un parcours philosophique, Gallimard, 1984, p. 300.
[3] - حول التشابه والاختلاف بين تصور هابرماس للعقل وتصور فوكو انظر مقالة برنار والدنفيل في مجلة الدراسات الفلسفية، عدد أكتوبر-ديسمبر 1986، ص 473 وما بعدها. المقالة بعنوان: انقسام العقل أم تبعثره؟ مناقشة بين هابرماس وفوكو.
- Les études philosophiques: octobre-décembre 1986, Bernard Waldenfels: Division ou dispersion de la raison? Un débat entre Habermas et Foucault.
[4] - كان هابرماس قد وضح موقفه من الحداثة ومن الفلاسفة الفرنسيين في كتابه الضخم الخطاب الفلسفي للحداثة. غاليمار، باريس، 1988. (حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير).
- Hurgen Habermas: Le discours philosophique de la modernité. Gallimard, Paris, 1988.
[5] - انظر حول هذه النقطة الهامة رثاء هابرماس لفوكو في مقالة مشهورة بعنوان: سهم في قلب الأيام الحاضرة، مجلة كريتيك الفرنسية، عدد أغسطس-سبتمبر 1986، ص 794-799. -
urgen Habermas: Une flèche dans la cour du temps présent, Critique, août-septembre 1986, pp. 794-799.
بمعنى أن حياة فوكو مرت كسهم في قلب الأيام الحاضرة لأنه لم يعش طويلاً (57 سنة).
[6] - انظر كتاب دريدا: أشباح ماركس ويمكن ترجمة العنوان أيضاً بـ: أطياف ماركس. منشورات غاليليو، باريس، 1993.
- Jacques Derrida: Spectre de Marx, Galilée, 1993.
[7] - انظر كتاب لوك فيري وآلان رينو بعنوان: فكر مايو 1968: مقالة حول الفلسفة المعاصرة المضادة للنزعة الإنسانية. باريس، غاليمار، 1985، ص. 162-164.
- Luc Ferry et Alain Renaut: La pensée 68. Essai sur l’anti-humanisme contemporain. Gallimard. 1985. pp. 162-164.

 

في جذور فكر ميشيل فوكو/ ترجمة يحيى البوبلي (توجد روابط ملف كامل عن فوكو)



في جذور فكر ميشيل فوكو

ترجمة: يحيى البوبلي
 
الخميس 24 تموز (يوليو) 2014
http://alawan.org/spip.php?page=article&id_article=13343

ملاحظة: توجد روابط الملف كاملة عن فوكو في نهاية المقالة. (عن مجلّة ألوان)
 
ميشيل فوكو (1926-1984) هو فيلسوف ومؤرخ فرنسي، ارتبط اسمه بالاتجاهات البنيوية وما بعد البنيوية. كان له تأثير كبير ليس فقط في حقل الفلسفة، لكن أيضاً في مدى عريض من التخصصات الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
مخطط لسيرة فوكو
ولد فوكو في بواتييه، فرنسا، في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1926. بدا في سنواته الدراسية أنه كان معذَّباً نفسياً، لكنه كان متألقاً فكرياً. أصبح فوكو معترفاً به أكاديمياً خلال الستينات، حينما تدرج في سلسلة من المناصب في الجامعات الفرنسية، حتى انتخب عام 1969 ليكون بروفيسوراً لتاريخ أنظمة الفكر في الكوليج دو فرانس المرموقة جداً حتى وفاته. ومنذ بداية السبعينات، أصبح فوكو نشطاً جداً في المجال السياسي، فأسس مجموعة المعلومات حول السجون، وغالباً ما تظاهر للدفاع عن حقوق المثليين وغيرهم من الفئات المهمشة. كثيراً ما حاضر فوكو خارج فرنسا، خاصة في الولايات المتحدة، وفي عام 1983 وافق على أن يعطي محاضرات سنوية في جامعة كاليفورنيا. مات فوكو في باريس في الخامس والعشرين من حزيران عام 1984، ضحية مبكرة لمرض الإيدز. بالإضافة للأعمال التي نشرت خلال حياته، فإن محاضراته في الكوليج دو فرانس، التي نشرت بعد وفاته، تحتوي توضيحات وامتدادات مهمة لأفكاره.
يصعب التفكير بفوكو كفيلسوف فقط. لقد كان تكوينه الأكاديمي غنياً بعلم النفس والتاريخ كما هو بالفلسفة، وكتبه كانت بمجملها تواريخ للعلوم الطبية والاجتماعية، وشغفه كان الأدب والسياسة. مع ذلك، فإن كل كتب فوكو تقريباً يمكن قراءتها بشكل مثمر باعتبارها فلسفية بإحدى الطريقتين التاليتين أو كليهما: باعتبارها ممارسة للمشروع النقدي التقليدي للفلسفة بطريقة (تاريخية) جديدة، وكذلك باعتبارها اشتباكاً نقدياً مع فكر الفلاسفة التقليديين. هذا المقال سيقدم فوكو كفيلسوف من خلال هذين البعدين.
خلفية فكرية
لنبدأ بمخطط للبيئة الفلسفية التي تعلم فوكو فيها. التحق بمدرسة الأساتذة العليا (قاعدة الإطلاق الرئيسية لمعظم الفلاسفة الفرنسيين) عام 1946، خلال فترة الذروة للفينومينولوجيا الوجودية. ميرلوبونتي(الذي حضر فوكو محاضراته) وهيدغر كانا مهمان بشكل خاص. هيجل وماركس حظيا أيضاً باهتمام كبير من قبل فوكو، الأول من خلال ترجمة أعماله من قبل جان هيبوليت، والثاني من خلال القراءة البنيوية التي قدمها لويس ألتوسيرـ كلا الأستاذين (هيبوليت وألتوسير) كان لها تأثير قوي على فوكو في مدرسة الأساتذة. ليس مفاجئاً بالتالي أن تكون بواكير أعمال فوكو ( مقدمته الطويلة لكتاب الحلم والوجود للطبيب النفسي الهيدغري لودفيغ بينسوانغر، وكتابه الصغير المرض العقلي والشخصية ) قد كتبت تحت سيطرة الوجودية والماركسية، على التوالي. لكنه بعد فترة قصيرة ابتعد بشكل قاطع عن كليهما.
على الرغم من أن جان بول سارتر (عاش وعمل خارج النظام الجامعي) لم يكن له تأثير شخصي على فوكو، فإن النظرة إليه باعتباره المفكر الفرنسي الرئيسي قبل فوكو دائماً متواجدة في الخلفية. مثل سارتر، انطلق فوكو من كراهية شديدة للمجتمع والثقافة البرجوازيين وتعاطف تلقائي للمجموعات الهامشية (الفنانين، المثليين، المساجين، إلخ). لقد كان لهما أيضاً اهتمامات متشابهة بالأدب وعلم النفس والفلسفة، وأصبح كلاهما ناشطين قويين سياسياً، بعد فترة مبكرة من عدم الاهتمام بالسياسة. لكن في النهاية، بدا فوكو مصرّاً على تعريف نفسه كنقيض لسارتر. فلسفياً، رفض فوكو ما رآه عند سارتر من مركزية للذات (والتي وصفها ساخراً بالنرجسية المتجاوزة). شخصياً وسياسياً، رفض فوكو دور سارتر باعتباره “مفكراً كونياً”، يحكم على المجتمع اعتماداً على مبادئ متعالية. تبقى هناك صبغة من الاحتجاج الشديد في فصل فوكو نفسه عن سارتر، ويبقى سؤال العلاقة بين أعمال الرجلين ميداناً خصباً للبحث.
ثلاثة عوامل أخرى كان لها تأثير إيجابي واضح على فوكو الشاب. أولاً، كان هناك تقليد فرنسي في التاريخ وفلسفة العلم، ممثل بشكل خاص من خلال جورج كانغيلام، وهو شخصية ذات نفوذ في الجامعة الفرنسية، وقد زودت أعماله في حقول التاريخ وفلسفة علم الأحياء أنموذجاً لما ستكون عليه معظم أعمال فوكو لاحقاً في تاريخ العلوم. دعم كانغيلام أطروحة الدكتوراه لفوكو حول تاريخ الجنون، وكان من أهم الداعمين لفوكو طوال مسيرته المهنية. لقد منح منهج كانغيلام في تاريخ العلم (وهو منهج تطور عن طريق غاستون باشلار)، منح فوكو إحساساً قوياً بالانقطاعات الموجودة في التاريخ العلمي، بالإضافة لفهم عقلاني للدور التاريخي لمفاهيم جعلها ـ من خلال هذا الفهم ـ مستقلة عن الوعي المتجاوز الذي قدمه الفينومينولوجيون. وجد فوكو أن هذا الفهم مدعوم في اللسانيات البنيوية والعلوم النفسية التي طورها ـ على الترتيب ـ فيرديناند دو سوسور وجاك لاكان، بالإضافة لعمل جورج ديموزيل حول الأديان المقارنة. إن وجهات النظر المضادة للذاتية هذه تقدم سياقاً لتهميش فوكو للذات في أعماله التاريخية البنيوية: ميلاد العيادة (حول أصول الطب الحديث) والكلمات والأشياء (حول أصول العلوم الحديثة).
من جهةأخرى، افتتن فوكو بالأدب الفرنسي الطليعي، خاصة كتابات جورج باتاي وموريس بلانشو، حيث وجد التماسك التجريبي للفينومينولوجيا الوجودية دون الفرضيات الفلسفية المشكوك فيها حول الذاتية. والمميز بشكل خاص هو استعانة هذا الأدب بالتجارب الحديّة، التي تدفعنا للدرجة القصوى حيث تبدأ الفئات التقليدية للوضوح بالانهيار. 
لقد قدمت هذه البيئة الفلسفية مواد لنقد الذاتية وللأساليب الأركيولوجية والجينالوجية في كتابة التاريخ التي أعلنت عن مشاريع فوكو في النقد التاريخي، كما سنرى الآن.
نقد فوكو للعقل التاريخي
منذ بداية الفلسفة مع سقراط، فقد اشتملت على مشروع التساؤل عن المعرفة المقبولة في الحاضر. لاحقاً، طور لوك وهيوم وخصوصاً كانط فكرة جديدة بشكل متميز عن الفلسفة باعتبارها نقداً للمعرفة. إن ابتكار كانط الإبستمولوجي العظيم كان التأكيد على أن نفس النقد الذي يكشف عن حدود قوانا المعرفية يمكن أيضاً أن يكشف عن الظروف التي تؤدي إلى تمرينها. ما كان أن يبدو مجرد ملامح عرَضية للمعرفة البشرية (على سبيل المثال، الصفات المكانية والزمنية لمواضيعها) أصبح حقائق ضرورية. لكن فوكو اقترح أننا نحتاج لقلب هذا التوجه الكانطي. بدلاً من التساؤل عن الشيء الضروري فيما يبدو عرَضياً، اقترح فوكو أن نتساءل عن الشيء العرَضي فيما يبدو ضرورياً. التركيز في تساؤله ينصب على العلوم البشرية الحديثة (علم الأحياء، علم النفس، علم الاجتماع). إن هذه العلوم ترمي إلى توفير حقائق علمية كونية عن الطبيعة البشرية، التي هي (الحقائق) في الغالب مجرد تعبير عن الالتزامات الأخلاقية والسياسية لمجتمع ما. إن فلسفة فوكو النقدية تقوّض هذه الادعاءات من خلال بيان أنها فقط نتاج قوى تاريخية عرَضية، وليست مبنية على أسس علمية.
 
المصدر: موقع موسوعة ستانفورد الفلسفية.
 
روابط الملف عن فوكو: