السبت، 12 نوفمبر 2022

بورخيس والزمن [أو: بورخيس متفلسفاً]؛ ترجمة حسن ناصر.

 


بورخيس والزمن

حسن ناصر

2008

 

https://elaph.com/Web/Culture/2008/10/370952.htm


المقال التالي هو واحد من النصوص المدهشة التي كتبها بورخيس في سعيه الدائم الى مزاوجة الفلسفة بالآدب. ومع أنه مقال أدبي في نهاية الأمر لكنه مكرس للفلسفة وبشكل يكاد أن يكون نادرا بين أعمال الكاتب الأخرى. يلجأ بورخيس عادة الى نوع من الأليغورية [التورية] الفلسفية ولكنه في هذا المقال يلج الجدل الفلسفي دون قناع ليناقش بطريقة حاذقة مباديء الفلسفة المثالية متناولا بيركلي وهيوم بشكل خاص. لا أريد طبعا أن أضعف من توقعات القاريء بذكر التفاصيل التي يخوض فيها بورخيس هنا ولكني أريد أن ألفت نظر القاريء الى السخرية الحكيمة الكامنة في العنوان (تفنيد جديد للزمن) والتي يشير اليها الكاتب في البداية وتنعكس على كل ما يرد فيه. يتكررهذا النوع من السخرية المبطنة في نصوص بورخيس الأخرى بل هو أسلوبه النقدي المحبب كما يشرح ذلك في قصته الشهيرة بيير مينار مؤلف دون كيخوته.إنها رحلة شيقة مع بورخيس ولعلها مما لا يُنسى. 

حسن ناصر

تفنيد جديد للزمن

((لم يوجد زمن قبلي ولن يوجد بعدي
معي ولد الزمن ومعي سوف يموت))
دانيال فون تشيبوك

توطئة:
لو كان هذا التفنيد أو عنوانه قد نُشر في منتصف القرن الثامن عشر لظهر على الأرجح في فهرست لمراجع هيوم ولحظى بسطر من هكسلي أو كمب سميث. أما وقد نُشر في 1947 وبعد بيرغسون فليس هو إلا ايجاز توضيحي لنظام مطلق، أو- على نحو أسوأ الحيلة الواهية لأرجنتيني تائه في بحر الميتافيزيقيا. القول بأي من الرأيين أعلاه ممكن وربما حقيقي ولكن ليس بوسعي أن أعد بالتوصل الى نتائج يشار اليها بالبنان اعتمادا على منهجي الجدلي القديم. الفرضية التي أنا بصدد الكشف عنها قديمة قدم سهم زينون أو عربة الملك الأغريقي في الميليندا بانا ، وتكمن فضيلتها، اذا كان لها شيء من الفضيلة، في تطبيقي وسيلة بيركلي الكلاسية للتوصل الى مقاصدي النهائية. إن نتاج بيركلي وكذلك خليفته هيوم يزخر بما يتناقض بل ويلغي طروحاتي هنا، لكني أعتقد على الرغم من ذلك بأني في الواقع انما استشف النتائج الحتمية لمذهبهما.
كُتب المقال) ألف) عام 1944 وظهر في العدد 115 من مجلة (سور) وكُتب الثاني (باء) عام 1946 وهو نسخة منقحة من الأول ولكني لم أشأ عن سابق تصميم أن أختزل المقالين المتشابهين في مقال واحد مفترضا أن قراءتهما معا قد تسهم في فهم لهذا الموضوع الشائك.


ملاحظة: أكتفي بنشر النسخة الثانية من المقالة. ويمكن الاطلاع على النسخة الأولى من خلال الرابط المنشور في أول الصفحة.


النسخة الثانية:


اللغة كلها ذات طبيعة تعاقبية ولا تمنح نفسها لعقلنة السرمدي أو القضايا اللازمنية ولهذا قد يفضّل القرّاء - الذين لم يجنوا من محاججتي السابقة سوى الإمتعاض ndash; هذه المقطوعة التي تعود الى 1923 وعنوانها quot; الشعور في ثنايا الموت quot; وقد اشرت اليها في بداية هذا المقال:
أود أن اسجل هنا تجربة عشتها قبل ليال قليلة شأن، أكثر عادية وعرضية من أن يكون مغامرة وأشدَّ لامعقولية وحسيّة من أن يكون فكرة. أتحدث هنا عن مشهد وكلمته. كلمة قلتها من قبل ولكني لم أعشها عميقا قبل تلك الليلة. سأبدا بوصفها الآن بظرفي المكان والزمان اللذين كشفا عنها. أتذكرها كالتالي: كنت قد أمضيت الظهيرة في براكاس وهو مكان تندر زيارتي له ويبدو أن وقوعه خارج خارطة نزهاتي الأخيرة أضفى هالة من الغرابة على ذلك اليوم. ولما لم يكن لدي ما افعله في ذلك المساء ولأن الطقس كان جيدا فقد خرجت بعد تناولي العشاء لأتمشى وأتذكّر. لم تكن لدي رغبة في تحديد وجهتي فسرت متبعا مسارا عشوائيا على قدر استطاعتي. أستسلمت الى أكثر نداءات الصدفة خفاء دون أي أحتراز واع مني سوى تفادي الطرقات والشوارع العريضة. شدني نوع من الانجذاب الحميم الى أماكن سيظل اسمها ماثلا في ذاكرتي لإثارتها شيئاً من الجلال فيَّ. ولا أتحدث هنا عن بيئة معينة أرتبطت بطفولتي أو ملاعب الصبا بل عن حدودها الجامدة الغامضة التي حزتها بكلماتي ولم أفز منها الا بالقليل في واقع الأمر، منطقة أليفة وخرافية في الآن ذاته. كانت الشوارع هي الجانب الاخر المقابل للمعلوم، أو هي وجهه الآخر، خفية ً تماما على الأغلب كما أساسات بيوتنا المتوارية أو هياكلنا العظمية غير المرئية. أدت بي نزهتي الى زواية فأستنشقت الليل في هدأة صفاء من عمل الفكر. بدت الرؤيا التي أمامي، وهي التي لم تكن معقدة على اية حال، وقد تبسطت بدافع من أرهاقي. كانت عادية للحد الذي تبدو معه وكأنها غير واقعية. جادة تحف بها بيوت خفيضة، ومع أن الانطباع الأول كان فقرها إلا أن الانطباع الثاني كان هو البهجة بلا شك. كانت الجادة فقيرة جدا وقريبة من النفس أيضا وليس فيها بيت واحد يند عن الترتيب ليخرب استواءها. هناك شجرة تين تلقي بظلالها على حائط عند المنعطف أما الأبواب المطلة على الجادة والتي تعلو على مستوى الجدران فقد بدت وكأنها مجبولة من ذات المادة اللانهائية التي تؤلف الليل. يرتقي الممشى مع الجادة، جادة الطين القديم طين أمريكا التي لم تُكتشف بعد. تختفي الجادة بعد مسافة قصيرة على مشارف السهل المفتوح باتجاه مالدونادو. على الأرض الطينية الوعرة كان هناك جدار يبدو وكأنه لا يأوي إئتلاق القمر بل يشع نوره الخاص الذي لا توجد طريقة أفضل لوصف رقته سوى الوردي المحمر. وقفت محدقا في ذلك المشهد البسيط وفكرت بصوت عال بلا شك: "هذا هو بالضبط ما كان هنا قبل ثلاثين عاماً" حدست تلك الفترة التي قد تبدو قصيرة في بلدان أخرى ولكنها طويلة في هذا الجزء المتبدل من العالم. ربما كان هناك طائر يغرد فشعرت لتغريده بوخزة وجد لا تزيد عن حجم الطائر، ولكن من المؤكد أن الضوضاء الوحيدة في ذلك الصمت الباعث على الدوار كانت أزيز الجنادب المتواصل. لم تعد الفكرة اليسيرة "أنا في سنة ما من القرن السابق" مجرد كلمات عابثة بل أصبحت متجذرة في الواقع. شعرت بأنني ميت وبأني محض مراقب للعالم مصعوقا بخوف يخالطه العلم أو الوضوح السامي للميتافيزيقيا. كلا، لم يخطر في بالي اني أجتزت مياه الزمن المفترضة بل ظننت أني فزت بالمعنى العصي أو الغائب لكلمة الأبدية. ولم اتمكن من تحديد هذه المعاني إلا فيما بعد.
والآن ساسعى الى تفسيرذلك بالطريقة التالية: إن التمثلات الصافية لتلك الحقائق المتطابقة، الليل الهاديء والجدار الرقراق والرحيق الريفي للأشجار هناك والطين، لم تكن مشابهة لما كان في ذلك الركن من العالم قبل سنوات عديدة بل ودون تشابه وتكرار هي عينها. إذا تمكنا من حدس تلك العينية فما الزمن الا ايهام اذ أن حيادية واندغام ظاهر لحظة من زمن الأمس وظاهر لحظة أخرى من اليوم كافية لتقويض سلسلة الزمن.
من الثابت أن عدد هذه اللحظات البشرية هو عدد نهائي. أما اللحظات الأساسية الفاصلة فهي أشد في لاخصوصيتها وشيوعها ومنها المعاناة واللذة الحسيّتان واطباق النوم والاستماع الى قطعة معينة من الموسيقى واللحظات الحرجة أو لحظات الكآبة الضارية. يبدو أنني وصلت مقدما الى الحقيقة التالية: أن الحياة أكثر جدبا وفقرا من ان تدوم الى أبعد من أجلها المحتوم. ولكننا في الآن ذاته غير واثقين من فقرنا هذا إذ أن الزمن الذي يمكن لحواسنا نفيه بسهولة لايمكن نفيه بالسهولة نفسها من قبل العقل والذي لا يمكن فصل مفهوم التعاقب عن طبيعة جوهره. لتبق إذا ً فكرة لمحتها كطريفة عاطفية، لتبق اللحظة الحقيقية من النشوة والتجلي الممكن للأبدية التي تكشفّت أمامي تلك الليلة منفية على هذه الورقة لا يطالها التفسير.

 

باء
من بين المذاهب التي شهدها تاريخ الفلسفة تبقى المثالية، على الأرجح، هي الأكثر قدما وشيوعا. هذا ما لاحظه كارليل في نوفاليس 1829. وبإمكاننا، دون طموح لإتمام قائمة الفلاسفة التي يدرجها كارليل، إضافة الأفلوطينين الذين رأوا أن الحق الوحيد هو عالم المثال (نوريس، يهودا ابرابانال، جيمستوس، افلوطين) واللاهوتيين الذين عدّوا كلَّ ما لا يمت للجلالة بصلة أمراً عابراً (مالبرانش، جوهانس ايكهارت) والقائلين بوحدة الوجود الذين جعلوا من الكون صفة ضئيلة للمطلق (برادلي، هيغل، بارمنيدس).

المثالية إذاً قديمة قِدم القلق الميتافيزيقي. من بين دعاتها جميعا يبقى جورج بيركلي الذي ازدهر اسمه في القرن الثامن عشر هو الأكثر المعيّةً. على خلاف ما قال به شوبنهاور في العالم إرادة وفكرة، لم تكن فضيلة بيركلي تكمن في الاستكشاف الذوقي لمذهب المثالية بل في الحجج التي ساقها ليبرهن فكريا على صوابه. لقد استخدم بيركلي محاججاته لتفنيد مفهوم المادة وطبّقها هيوم بصدد الوعي وأزعم تطبيقها بصدد الزمن. سأحاول أولا تقديم إيجاز للمراحل المختلفة لهذه الاساليب الجدلية.
نفى بيركلي وجود المادة ولكن هذا لا يعني طبعا أنه أنكر وجود الألوان والروائح والمذاقات والأصوات والأحاسيس الملموسة، ما نفاه هو وجود شيء آخر بمعزل عن هذه المدركات: مكونات العالم الموضوعي، شيء خفي يفوق الإدراك يدعى (الموضوع). نفى بيركلي أن يكون هناك ألم لا يشعر به أحد ولون لا يراه أحد وأشكال لا يلمسها أحد. وجادل في أن إضافة (الموضوع) إلى تصوراتنا العقلية إن هو إلا إضفاء عالم مبهم فائض على العالم. لقد آمن بعالم الهيئات التي تحوكها وتواشجها حواسنا ولكنه اعتبر العالم المادي ازدواجا وهميا. يلاحظ بيركلي في (مباديء المعرفة البشرية):
ليس لأفكارنا ولا عواطفنا ولا الأفكار التي تصوغها مخيلاتنا أن توجد دون وجود للعقل وهذا ما يتفق عليه الجميع و لايخالفه أحد. وبالنسبة الي فإن من الثابت أيضا أنّ الأحاسيسَ المختلفة والأفكار المطبوعة على حواسنا ومهما كانت متراكبة أو ممتزجة وأيّاً كان الموضوع الذي تشكله لا يمكن أن توجد في مكان آخر غير العقل الذي يستوعبها.. أقول إن المنضدة التي أكتب عليها موجودةٌ بمعنى أني أراها وألمسها وإذا كنت خارج مكتبي فسأقول إنها كانت موجودة بمعنى لو أنني كنت في مكتبي لشهدت وجودها أو ان هناك ذاتا أخرى تدرك وجودها بالفعل، لأن ما قيل عن الوجود المطلق للأشياء من غير ذوات العقل دون وجود علاقة لذلك بوجود عقل يستوعبها هو: بالنسبة الي - مما يستعصي على الفهم كليا. إن وجودها يكمن في كونها مُدْرَكة (esse est percipi ) وليس ممكنا أن يكون لها وجود خارج العقل أو دون وجود ذوات مفكرة تعقلها.

ثم يردّ في السطر الثالث والعشرين على اعتراض محتمل بقوله:
لكنك قد تقول بأن لا شيء أيسر من تخيل شجرة على سبيل المثال في حديقة أو كتب في خزانة مقفلة وحيث لا يوجد هناك من يدركها. جوابي على ذلك هو أنك قد تتخيل ذلك وهو أمر لا ينطوي على شيء من الصعوبة ولكني أسألك بدوري هل في هذا كله شيء أكثر من تركيبك لأفكار معينة في عقلك تسميها كتبا وأشجارا ثم، وفي الوقت ذاته، تلغي فكرة وجود ذات تدرك وجود ذلك اصلا؟ ألست أنت الذات التي فكرت بوجود الأشجار والكتب وأدركته! لذا فإن هذا القول لا يتناقض والأطروحة الأولى وإنما يُظهر قدرتَك على التخيّل وعلى تكوين الأفكار في عقلك فحسب ولا يعني أنّ إدراكك للأشياء يؤكد أنّ لها وجوداً خارج عقل يدركها.
وكان بيركلي قد صرّح قبل ذلك في الفقرة السادسة:
ثمّة حقائقُ قريبةٌ وجلية للعقل حتى إن الإنسان لا يحتاج إلى أكثر من فتح عينيه ليراها. من هذه الحقائق على سبيل المثال حلية السماء وأثاث الأرض، بكلمة واحدة أقول: ليس لتلك الأجرام التي تكوّن صورة العالم كلها وجود دون العقل. وإن وجودها يكمن في كونها مدركة أو معلومة وبالنتيجة فإنها إن لم تكن مدركة من قِبَلي أو موجودة في عقلي أو في عقل ذات مفكرة أخرى فهي إما غيرُ موجودة على وجه الاطلاق أو أنها ماثلة في عقل ذات ٍ سرمدية.
(
يبدو أن إله بيركلي هو متفرج علوي مطلق مهمته ضبط الوحدة الموضوعية للعالم).

لقد جرى تأويل المذهب (الذي قمت بشرحه تواً) بطريقة محرّفة حتى أن هربرت سبنسر ظن بأنه قام بتفنيده (مباديء السايكولوجيا) مجادلا في أنه إذا لم يكن يكن هناك شيء موجود خارج الوعي فإن هذا يعني سرمدية الوعي في الزمان والمكان. يعد الشطر الأول مثبتا إذا أدركنا أن الزمن كله هو زمن مُدْرَك من قبل شخص ما، ولكنه سيعد خطأ فادحا إذا استبطنا من ذلك أن الزمن ينطوي بالضرورة على عدد لانهائي من القرون. أما الشطر الثاني فهو مغلوط لأن بيركلي نفى مرارا فكرة المكان المطلق (مبادي المعرفة البشرية). من ناحية أخرى يبدو تحريف شوبنهاور أشد غموضا (العالم إرادة وفكرة) حين يزعم أن العالم بالنسبة للمثاليين هو ظاهرة مخيّة. لكن بيركلي، على أيّة حال، كان قد كتب في (محاورة بين هيلاس وفيلونوس): "لذلك فالدماغ الذي تتحدث عنه، كونه معقولا، لا يمكن أن يوجد إلا في العقل. الآن يصبح من اليسير عليَّ أن أعرف اذا كنت تعتقد أنه من المعقول افتراض أن فكرة واحدة أو شيئا ما موجودا في العقل هو الذي يسبّب كل الأفكار الأخرى. اذا كنت تعتقد بذلك حقا فكيف ستفسر اذا ً أصل تلك الفكرة أو الدماغ ذاته؟"
إن الدماغ في واقع الأمر لا يقل في كونه جزءاً من العالم الخارجي عن غرابة كائن خرافي مثل القنطروس.
نفى بيركلي أن يكون هناك موضوع خلف الانطباعات الحسيّة ونفى هيوم أن تكون هناك ذات أبعد من ادراكنا المتغيرات. نفى بيركلي وجود المادة ونفى هيوم وجود النفس. لم يكن بيركلي يريد إضافة الفكرة الميتافيزيقية عن المادة إلى سلسلة الانطباعات الحسية ولم يكن هيوم يريد إضافة الفكرة الميتافيزيقية عن النفس إلى سلسلة الحالات العقلية.
لقد كان اتساع محاججة بيركلي منطقيا جدا بحيث لم يكن بيركلي نفسه قادرا على استشرافه وحسب (كما يلاحظ الكساندر كامبل فريزر) بل وحاول أيضا مناقشته بالوسيلة الديكارتية (اذا أنا موجود). يقول هيلاس في المحاورة الثالثة والأخيرة مستبقا ما سيقوله هيوم فيما بعد: "نتيجة ً لمبادئك ذاتها يتحتم أن تكون أنت نفسك نظام من أفكار عائمة ليس هناك من جوهر يسندها. لكن الكلمات لا تستخدم دون معنى وطالما لم يعد هناك معنى في الجوهر الروحي يفوق ذلك الذي في الجوهر المادي فإن الإلغاء يطال الأول كما يطال الثاني." وعزز هيوم ذلك بقوله في (رسالة في الطبيعة البشرية):
ما نحن إلا حزمة أو خليطٌ من إدراكات مختلفة تتبادل الأدوار بترتيب لا يمكن استيعابه.... إن العقل هو مسرح بطريقة ما تلعب عليه الإدراكات المتعاقبة دورها وتختفي ثم تعود للظهور وتغيب ثانية ممتزجة في تنوع لانهائي من التشكيلات والمواقف. وينبغي ألا يضللنا هذا التشبيه بالمسرح فهي إدراكات متعاقبة لا غير وهي التي تشكل في النهاية هذا العقل وليس لدينا أدنى فكرة عن المكان الذي تتمثل فيه هذه المشاهد أو عن العناصر التي تكونه.
وبقبولنا المذهب المثالي اعتقد أنه من الممكن بل من المحتّم على الأرجح أن نمضي قدما. الزمن بالنسبة لبيركلي هو" تعاقب الأفكار الذي يتدفق مترابطا في عقلي وتسهم فيه كل الموجودات" (مباديء المعرفة البشرية).

 أما بالنسبة الى هيوم فهو: "تعاقب لوحدات لا تقبل القياس" (رسالة في الطبيعة البشرية). ولكن إذا تم نفي سيرورتي الموضوع والذات مع نفي المكان فلا أدري بأي حق نبقي على السيرورة الأخرى التي هي الزمن. لا توجد المادة خارج أي ادراك (حقيقيا كان أم حدسيا) كما ليست هناك روح خارج أيّة حالة عقلية وهكذا فليس هناك زمن خارج لحظة الحاضر. لنختر لحظة في غاية البساطة، حلم تشونغ تسه على سبيل المثال (هربرت ألن جيلس: تشونغ تسه 1899). قبل ما يقارب أربعة وعشرين قرنا من الزمان حلم تشونغ تسه بأنه فراشة، ولما أفاق لم يعد يعرف ما أذا كان رجلا حلم بأنه فراشة أو أنه فراشة [تحلم] بأنها رجل. دعونا نهمل يقظته ونركّز على لحظة الحلم ذاته أو لحظة واحدة من زمنه: "حلمت بأني فراشة تحلّق في الهواء ولا أعرف شيئا عن تشونغ تسه" يقول النص القديم. ولن نعرف أبدا اذا كان تشونغ تسه حديقة بدا له أنه يطير فوقها أم أن المثلث الأصفر الطائر كان هو تشونغ تسه نفسه، ولكن من الواضح أن الصورة هي في النهاية صورة ذاتية وإن جاءت اليه من الذاكرة. سيذهب مذهب التوازي السايكولوجي الى أن هذه الصورة حدثت نتيجة تغيير في الجهاز العصبي للحالم أما بالنسبة إلى بيركلي فإن جسد تشونغ تسه في تلك اللحظة لم يكن موجودا ولا غرفة النوم الظلماء التي كان يحلم فيها والمحفوظة كمدرك في عقل الله. ويذهب هيوم إلى تبسيط أكبر لما حدث: لم تكن روح تشونغ تسه موجودة في تلك اللحظة، كل ُّ ما كان موجودا هو ألوان الحلم ويقينه من أنه فراشة. كان موجودا فقط في كونه فكرة صغيرة في (حزمة أو خليط من ادراكات مختلفة) كوّنت، قبل ما يقارب أربعة وعشرين قرنا قبل الميلاد، عقل تشونغ تسه. كان تسه موجودا بقدر وجود المتغير (n) في السلسلة الزمنية اللامتناهية بين (n-1) و (n+1). ليس هناك واقع بالنسبة إلى المثاليين أبعد من العملية العقليّة ولذا فإن اضافة فراشة موضوعية إلى الفراشة المدركة هي ازدواج عابث، وإضافة نفسٍ إلى العملية العقلية لا تبدو أقل عبثا. تتمسك المثالية بأن هناك احتلام، عملية ادراك فقط وليس هناك حالم أو حتى حلم، فالحديث عن موضوعات وذوات هو سقوط في ميثولوجيا زائفة. إذا كان الأمر كذلك وكانت كل حالة طبيعية مكتملة بذاتها وإذا كان ربطُها بظرف أو ذاتٍ ما غيرَ جائز بل هو إضافة شائهة، فأي حق يتبقى لنا اذا ً في تعيين موقع زمني لها؟
حلم تشونغ تسه بأنه كان فراشة وفي خضم ذلك لم يكن هناك تشونغ تسه بل فراشة طائرة، كيف إذاً، بعد إلغاء المكان والذات، يمكن أن نربط تلك اللحظات الحلمية بلحظات صحوه وبعصر الاقطاعيات في التاريخ الصيني؟ لا يعني هذا أننا لن نعرف أبدا وإن على وجه التقريب تاريخ وقوع الحلم، بل ما عنيته فقط هو أن الحصر التقويمي لحادثة ما، أية حادثة في هذا العالم، هو غريب وخارجي عن الحادثة. إن حلم تسه هو مضرب أمثال في الصين فلنتخيل واحداً من عدد القراء اللانهائي الذين مروا عليه حلم بأنه فراشة ومن ثم بأنه تشونغ تسه نفسه، لنتخيل أيضا بأن الحلم الأخير، وبفرصة ليست بالمستحيلة، كان تكرارا حرفيا لحلم المعلم تسه. اذا افترضنا هذا فلنا أن نسأل: أوليست هاتان اللحظتان المتوافقتان متطابقتين ايضا، أوليس تكرار برهة من الزمن كافيا لتفكيك ودحض تاريخ العالم ولكشف حقيقة عدم وجود تاريخ كهذا؟
إن انكار الزمن ينطوي على نفيين: نفي تراتب الفترات في سلسلة ونفي تزامن تلك الفترات في سلسلتين متوازيتين. إذا كانت كل فترة هي كلٌّ قائم بذاته فإن هذا يعني في واقع الأمر أن علاقاتها قد أُختُزِلت إلى الوعي بوجود تلك العلاقات. تلي حالة ما حالة أخرى إذا كانت تعلم بتقدم الأخيرة عليها: الحالة حاء مقترنة زمنيا بالحالة التي تليها (طاء) إذا كانت تعي هذه الاقتران. وعلى خلاف ما قاله شوبنهاور في جَدْوَلَتِهِ للحقائق الأساسية (العالم إرادة وفكرة) فإن أية برهة من الزمن لا تعم المكان كلّه في الآن ذاته لأن الزمن ليس كلّي الوجود (من المؤكد أيضا في هذه المرحلة من النقاش أن المكان لم يعد موجودا).
يقرُّ مينونغ في نظريته عن الادراك بحقيقة ادراك المواضيع المتخيلة مثل البعد الرابع على سبيل المثال أو تمثال كوندياك الحسّاس أو حيوانات لوتز الافتراضية أو الجذر التربيعي لـ (-1). وهكذا إذا كانت الأسباب التي أشرت اليها سابقا أسبابا نافذة فإن المادة والنفس والعالم الخارجي والتاريخ الكوني وحيواتنا كلها تنتمي أيضا الى تلك الكرة الغامضة. علاوة على ذلك فإن عبارة (نفي الزمن) هي عبارة غامضة. يمكن لهذه العبارة أن تعني سرمدية افلاطون أو بوثيوس وكذلك مشكلات سكستوس امبيريكوس فقد نفى الأخير الماضي الذي غبر اصلاً والحاضر الذي لم يحن بعد مجادلا في أن الحاضر إما أن يكون قابلا للقياس أو غير قابل له. ليس الحاضر مما لا يقبل القياس، لأنه أذا كان كذلك فهذا يعني عدم وجود بداية له تربطه بالماضي أو نهاية له تربطه بالمستقبل وليس هو في الوسط لأن كلّ ما ليس له بداية ولا نهاية ليس له وسط. وليس الحاضر بالقابل للقياس أيضا لأنه في هذه الحالة سينطوي على جزء كان وآخر ليس كذلك. إذاً الحاضر غير موجود وبما أن الماضي والمستقبل غير موجودين فإن الزمن غير موجود. يعيد برادلي اكتشاف هذه الأحجية ويطورها ويلاحظ في كتابه (الظاهر والواقع) أن الآن إذا كان قابلا للانقسام الى آنات أخرى فهو ليس أقل تعقيدا من الزمن، أما أذا لم يكن قابلا للانقسام فالزمن هو محض علاقة بين أشياء لازمنية. من الواضح أن منطقا كهذا يسعى الى نفي الأجزاء في طريقه الى نفي الكل بينما أسعى أنا إلى نفي الكل لصالح مركزية كل جزء من الأجزاء. وهكذا، عبر جدلية بيركلي وهيوم، أصل الى مقولة شوبنهاور:
إن شكل مظهر الإرادة هو الحاضر وحسب وليس الماضي أو المستقبل إذ لا ينوجد الأخير إلا كفكرة ومن خلال الربط الذي يقوم به الوعي طالما سار ذلك طبقا لمباديء العقل. لم يعش إنسان في الماضي أبداً ولن يعيش إنسان في المستقبل، الحاضر وحده هو شكل الحياة بأسرها وهو الملكية التي لن تقدر على سلبها الأحداث.... لعل بأمكاننا مقارنة الزمن بدائرة تدور، جزؤها الهابط أبداً هو الماضي وجزؤها الصاعد هو المستقبل، أما النقطة غير القابلة للقياس على قمة الدائرة التي يمسها المؤشر فهي الحاضر. جامدا كالمؤشر نفسه، يؤشر الحاضر عديم الامتداد نقطة التماس بين الموضوع ذي الهيئة الزمنية والذات عديمة الهيئة لأنها لا تنتمي إلى ما يمكن معرفته لكنها الشرط المسبق للمعرفة كلها. (العالم ارادة وفكرة)
توضح رسالة بوذية من القرن الخامس (الطريق الى الصفاء) المذهب نفسه وبالطريقة ذاتها: وبقول أدق فإن الحياة تدوم بقدر دوام فكرة ما. كما تمس العجلة الدائرة للعربة الأرض في نقطة واحدة بالضبط، كذلك الحياة تدوم بقدر دوام فكرة واحدة. (راداكريشنا الفلسفة الهندية.)

تقول نصوص بوذية أخرى بأن العالم يفنى ويقوم ستة مليارات وخمسمئة مليون مرة في اليوم وأن كل انسان هو وهم مجبول من دوّامة سلسلة من أشخاص معزولين لحظويين.  يخبرنا (الطريق الى الصفاء) أن إنسان اللحظة الماضية عاش ولكنه لا يعيش ولن يعيش. إنسان اللحظة المستقبلية سيعيش لكنه لم يعش ولا هو عائش الآن. إنسان اللحظة الحاضرة يعيش لكنه لم يعش ولن يعيش. يمكننا مقارنة هذه المقولة بمقولة بلوتارك: ابن الماضي مات في ابن اليوم، وابن اليوم يموت في ابن الغد.
وبعد... وبعد.. وبعد... إن نفي سلسلة الزمن ونفي النفس ونفي الكون بأفلاكه لا تعدو كونها أفعالا يائسة وعزاءات سرية. فقدرنا (وعلى خلاف جحيم سويدنبيرغ أو جحيم ميثولوجيا التيبت) ليس مخيفا لأنه غير حقيقي بل هو مخيف لأنه لا يستعاد وصلب كالفولاذ. الزمن هو المادة التي منها جُبِلت. الزمن هو النهر الذي يجرفني بتياره ولكني أنا النهر، إنه النمر الذي ينهشني لكني أنا النمر، هو النار التي تبتلعني لكني أنا النار، فالعالم، للأسف، حقيقي. وانا، للأسف، بورخيس.
[ صاحبي، في هذا ما يكفي
إن رغبت في قراءة المزيد
فأذهب بنفسك وكن أنت الكتابة
كن أنت الجوهر ]
(
أنجيلوس السيلسي 1675)

_____________________

i : تشير جميع الدراسات التي تتناول البوذية الى الميليندا بانا وهي عمل يعود الى القرن الثاني يسرد جدالا بين ميناندارملك بخارى والناسك ناغسينا . يحاجج ناغسينا في أنه مثلما عربة الملك ليست هي المحور ولا العجلات ولا الهيكل ، كذلك هو الانسان ليس جوهر أو شكل أو انطباعات أو أفكار أو غرائز أو وعي كما أنه ليس مزيجا من ذلك ولا يمكن أن يكون بدونها . بعد المجادلة التي دامت أياما عديدة اعتنق مناندر ( ميليندا ) البوذية . وقد ترجم ريس ديفيدس الميليندا بانا ( أوكسفورد 1890- 1894 ) .


ii
خوان كريسوتومو لافينور: العم الأكبر لبورخيس وهو شاعر ومعلّم استطاع من خلال تدريسه الفلسفة أن يحدث نقلة مهمة من التفكير السكولائي الى التفكير الليبرالي وتأسيس الفكر العلماني في الأرجنتين. تعرّض للانتقادات بسبب تبنيه التفكير المادي ونُفي نتيجة ذلك (م)
iii
لتسهيل الأمر على القاريء قمت باختيار لحظة بين نومتين ، لحظة أدبية وليست تاريخية ، فاذا شعر أحدكم بالشك حيال هذا المثال فبامكانه أستبداله بمثال آخر من حياته .


الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

نظرية النيابة الملَكِيّة (عن تأثير الصفويّين في الفكر الشيعي)؛ أحمد الكاتب؛ عن كتاب "تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه.

 


نظرية النيابة الملَكِيّة

أحمد الكاتب

بينما كانت نظرية النيابة العامّة تنمو ببطء وبصورةٍ جزئية ومحدودة، على أيدي علماء الحلّة وجبل عامل، في القرن السابع والثامن الهجريّين، كان الواقع الشيعي السياسي يتطوّر بعيداً عن الفكر السياسي الإمامي حيث انفجرت ثورة السربدارية في نيسابور/ خراسان، وأقامت دولةً دامت خمسين عاماً، من سنة 738هـ إلى سنة 782 هـ، كما رأينا في الصفحات الماضية، كما قام الشيعة بتأسيس دولةٍ لهم في مازندران وخوزستان وجنوب العراق.

ثم انفجرت حركةٌ جديدة في تبريز على أيدي الصفويّين ـ وهم حركة صوفيّة تركمانيّة تحوّلت إلى التشيّع ـ بقيادة شابٍّ صغير لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، اسمه إسماعيل بن صفيّ الدين بن حيدر، الذي أعلن قيام الدولة الصفوية في مطلع القرنالعاشر الهجري سنة 907هـ، في تبريز، وكان يعتبر قطباً في الحركة الصفويّة، وقد ورث هذا اللقب عن أبيه،كما كان شيخ تكيّة ويتمتّع بمنزلة روحيّة بين أتباعه، خاصّةً وأنه ينتمي إلى السلالة العلويّة؛ والانتماء إلى أهل البيت يحتلّ مكانةً مميّزةً عند الصوفية.

وبالرغم من التطوّرالكبير الذي كان قد حصل في نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام

المهدي في مجال الخمس والزكاة والحدود وصلاة الجمعة، إلا أنّها ـ حتى ذلك التاريخ ـ لم تكن قد تبلورت بعد كنظرية سياسية متكاملة، بديلة عن نظرية الإمامة الإلهية،ولازمتها الانتظار، بحيث تستطيع أن تبادر إلى تفجير الثورة وإقامة الدولة في عصر الغيبة وذلك لاشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينيّة في الإمام (الرئيس)، وعدم جواز تولّي غير المعصوم لمقاليد السلطة في البلاد، حسب النظرية الإمامية القديمة... ومن هنا كانت نظرية الانتظار تفرض نفسها على الفقهاءالشيعة الإمامية الاثنيّ عشرية، وتشلّ حركتهم وتمنعهم من العمل والتحرّك السياسي.

وعندما أراد الصفويّون التحرّك العسكري لإقامة دولةٍ خاصّةٍ بهم، وجدوا نظرية الانتظار غير معقولة ولا واقعيّة، وتشكل حجر عثرةٍ أمام طموحهم وتحرّكهم. وبالرغم من أنهم كانوا، منذ فترة، قد أعلنوا التمسّك بالمذهب الإمامي الاثنيّ عشري، إلا أنهم في الحقيقة لم يستوعبوا نظرية الإمامة الإلهية التي تشترط العصمة والنصّ في الإمام، وحوّلوها إلى نظريّةٍ تاريخية، ورفضوها عملياً، حيث أجازوا لزعمائهم، وهم غير معصومين ولا منصوصٍ عليهم من الله، أن يستولوا على الملك، ويقوموا بمهامّ الإمامة تماماً كما فعل الأمويّون والعبّاسيّون والعثمانيّون، ولم يصعب عليهم الالتفاف على نظرية الانتظار وتجاوزها.

واختلفت تجربة الدولة الصفويّة في مرحلتها الأولى، أيّام الشاه إسماعيل بن صفيّ الدين، عن التجارب السياسيّة الشيعيّة السابقة، كالدولة البويهيّة والسربدارية والمرعشية والمشعشعيّة، في أنّ هذه التجارب كانت دولاً سياسيّةً بحتة، أي غير إيديولوجية، بينما حاولت الدلدولة الصفويّة تقديم نفسها كدولةٍ عقائديّة، ومرتبطة بالأئمّة الاثنيّ عشر بصورةٍ روحيّة غيبيّة. وكانت تشكّل تطوّراً انقلابيّاً في الفكر السياسي الشيعي، نقل الشيعةَ من نظرية الانتظار السلبيّة الانعزاليّة إلى سدّة الحكم والسلطنة.

وقد طوّر الشاه إسماعيل، أو تطوّر على يديه، فكرٌ سياسيٌّ جديد حاول الالتفاف على فكر التقيّة والانتظار، فادّعى ذات يومٍ أنّه أخذ إجازةً من صاحب الزمان، المهدي المنتظر، بالثورة والخروج ضد أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون إيران، وبينما كان ذات يوم مع مجموعةٍ من رفقائه الصوفية خارجين للصيد في منطقة تبريز، مرّوا بنهرٍ، فطالبهم بالتوقّف عنده وعبر هو النهرَ بمفرده ودخل كهفاً، ثم خرج متقلّداً بسيف، وأخبر رفقاءه أنّه شاهد في الكهف صاحب الزمان وأنه قال له: "لقد حان وقت الخروج"، وأنه أمسك ظهره ورفعه ثلاث مرّات ووضعه على الأرض وشدّ حزامه بيده ووضع خنجراً في حزامه وقال له: "اذهب فقد رخّصتك".

وادّعى بعد ذلك أنه شاهد الإمام عليَّ بن أبي طالب في المنام، وأنّه حثّه على القيام وإعلان الدولة الشيعيّة، وقال له بالحرف الواحد: "ابني.. لا تدع القلق يشوّش أفكارك.. أحضِر القزلباشيّة، وهم من ميليشيا الصوفية، مع أسلحتهم الكاملة إلى المسجد (في تبريز) وأْمرهم أن يحاصروا الناس... وإذا أبدى هؤلاء أيّة معارضة أثناء الخطبة باسم أهل البيت فإنّ الجنود ينهود الأمر".

وهكذا فعل الشابّ إسماعيل بين صفيّ الدين، (قطب الصوفيّة)، حيث أحضر القزلباشيّة وحاصر جامع تبريز ذات جمعة، وأعلن سيادة المذهب الإماميّ الاثنيّ عشريّ وقيام الدولة

الصفوية، وذلك بناءً على دعويَين، دعوى الوكالة الخاصّة عن الإمام المهديّ، ودعوى رؤية الإمام عليٍّ في المنام.

وقد أتاحت له هاتان الدعويان للحركة الصوفية الصفويّة أن تتحرّر من نظرية التقيّة والانتظار، وتأسيس الدولة الصفويّة الشيعيّة الاثنيّ عشريّة.

يقول راجر سيوري في كتابه "إيران في العصر الصفوي": "اعتمد الصفويّون على فكرة الحق الإلهي للملوك الإيرانيّين قبل الإسلام، منذ سبعة آلاف سنة، وذلك بوراثة هذا الحق باعتبارهم "سادة" وأنّ جدّهم الإمام الحسين بن عليّ قد تزوّج بنت يزدجرد فأولدها الإمام زين العابدين، فاجتمع الحقّان، حق أهل البيت في الخلافة، (حسب النظرية الإمامية)، وحقّ الملوك الإيرانيّين فيهم، بالإضافة إلى نيابة الإمام المهديّ".

وبناءً على ذلك، فقد كان الشاه إسماعيل يعتبر نفسه "نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الاثنيّ عشر، وممثّل الإمام المهديّ في غيبته". وكان جنود القزلباش الصوفيّة يعتقدون أنه تجسيد لله.

وتقول بعض الروايات الصوفيّة إنّ أحد شيوخ الصوفيّة، وهو الشيخ زاهد الكيلاني، قد تنبّأ من قبلُ بظهور الشاه إسماعيل، وقال لجدّه صفيّ الدين الذي زوّجه ابنته: "السلام عليك يا ولدي سيّد صدر الدين، مشيراً بذلك إلى حفيده الذي ادّعى أنه قد رآه قبل أن يولد، وأعطى علائمه وتنبّأ قائلاً: "إنّ أولاد هذا الزعيم سيملكون العالم، ويترَقَّوْن يوماً بعد يوم إلى زمان القائم المهديّ المنتظَر".

وقد انتشرت هذه العقدةُ الغيبيّةُ بين الصفويّين الذين أقاموا الدولة الصفويّة، واعتقدوا أنها ستدوم حتى ظهور المهديّ المنتظر، محمّد بن الحسن العسكري؛ ولكنّها اهتزّت بعد هزيمة الشاه إسماعيل في موقعة جالدران مع السلطان العثماني سليمان القانونيّ عام 920 هـ / 1512م، حيث بدأ القزلباش بتخلَّوْن عن الاعتقاد الغالي به أنّه موجودٌ إلهيٌّ أو نصفُ إلهيّ، أو أنه ظل الله في الأرض، ويخرجون على سلطته ويتقاتلون فيما بينهم.

وقد ساعدت الأرضيّة الصوفيّة للحركة الصفويّة الشاه إسماعيل على ادّعاء الكشف والارتباط الشخصيّ بالأئمّة المعصومين، وأخذ التعليمات المباشرة منهم، وهو ما أعطاه سلطةً دينيّة ودنيويّة مطلقة.

وبالرغم من حدوث تطوّرات فكريّة سياسيّة عديدة، فقد ظلّت نظريّة الدولة الصفويّة الأولى، (نيابة السلاطين عن المهديّ) حاكمةً، بشكلٍ أو بآخر، إلى وقتٍ طويل. وامتدّت حتى ما بعد انهيار الدولة الصفويّة...

ويذكر المؤرّخون أنّ الميرزا عبد الحسين ملاّ باشي، (رئيس العلماء أيّام نارد شاه)، قد عارض هذا الأخير الذي جاء بعد انقراض الدولة الصفويّة وقال: "إن الشرعيّة مع السلالة الصفوية المتمثّلة في طهماسب ميرزا أو ولده عبّاس ميرزا فقتله نادر شاه".

وقد قامت بعض الحكومات اللاحقة في إيران باسم الصفويّين، ولم يعلن كريم خان زند الذي سيطر على إيران، نفسَه ملكاً على البلاد، بل "صغيراً من آل الصفوي" وحاول القاجاريّون البحث عن رابط دمويّ مع عائلة الصفويّة، وأراد الشاه الأول في تلك السلالة، فتح علي شاه، أن يعلن نفسه شاهاً صفوياً لرابطة القرابة معهم، ولكنّ رؤساء القاجار منعوه.

ومن الجدير بالذكر أن الملوك الصفويّين لم يكونوا يلتزمون بصورةٍ عامّة، ما عدا بعضِهم بالشريعة الإسلامية، وأحكام الدين الحنيف، فكانوا يشربون الخمر ويمارسون التعذيب والقتل العشوائي، ويرتكبون المحرّمات كما يحلو لهم، وكان حكمهم لا يختلف عن أيّ حكمٍ ديكتاتوريّ طغيانيّ فاسد.

وقد غطّت الدولة الصفوية على تناقضها الكبير هذا، وانقلابها على التشيّع، بجملة طقوس وشعاراتٍ متطرّفة أساءت إلى الشيعة والتشيّع عبر التاريخ.. كسَبّ الخلفاء الثلاثة على المنابر وفي الشوارع، وهو منهج مناقضٌ لسيرة أهل البيت وأخلاق الشيعة الجعفرية، وإقحام الشهادة الثالثة، (أشهد أنّ عليّاً وليُّ الله)، في الآذان، وهو عملٌ كان بعض المتطرّفين الغلاة في القرن الرابع الهجري قد حاول تنفيذه، ولكنّ العلماء الشيعة الإمامية رفضوه بشدّة، واعتبروه بدعةً محرّمة، كما يقول الشيخ الصدّوق في كتابه "من لا يحضره الفقيه". وكذلك التطرّف في إحياء الشعائر الحسينيّة من العزاء واللطز والأعلام والأبواق وصنع التربة للسجود في الصلاة.

وكان أسوأ عملٍ قام به الصفويّون، هو إجبار الناس على التحوّل بالقوّة إلى المذهب الاثنيّ عشريّ، وقتل الألوف من الناس والعلماء من المذاهب الأخرى.. الأمر الذي أدّى إلى ردّة فعلٍ عنيفة من قِبل الدولة العثمانية، وإبادة الكثير من الشيعة هنا وهناك، والتسبّب في تمزيق الوحدة الإسلامية، وزرع الأحقاد الطائفيّة بين الشيعة والسنّة، منذ ذلك الحين إلى اليوم.

لقد كان التشيّع قبلئذٍ منهجاً ثوريّاً، ونظريّة سياسيّة تختلف مع الآخرين حول النظام الدستوري للمسلمين، وإن الخلافة بالشورى أو بالوراثة لهذا البيت الهاشمي أو ذاك..

ولم يكن التشيّع أبداً فكراً طائفيّاً يعادي أبناء الأمّة، أو يشكّل دائرةً منعزلةً ضيّقة في مقابل دائرة الأمة الإسلامية الواسعة، بل كان تيّاراً سياسيّاً فقهيّاً في قلب الأمّة، فجاء الصفويّون وجرّدوا التشيّع من روحه الحسينيّة الجعفريّة، ومسخوه إلى عقدةٍ طائفيّة مستعصيةٍ ومعاديةٍ للمسلمين.

وكان الصفويّون بعد ذلك أبعد الناس عن أخلاق أهل البيت في الزهد والحلم والتواضع، إذ كانوا يتصارعون فيما بينهم ويقتل بعضُهم بعضاً من أجل السلطة.. وكان كثيرٌ من ملوكِهم يقتلون أولادهم وإخوانَهم وأرحامَهم، ويقتلعون عيونهم، ويمثّلون بهم في صراعهم من أجل السلطة، وفي الحقيقة كانوا أسوأ من الأمويّين والعبّاسيّين والحكّام الظلمة الذين سبقوهم أو لحقوهم.

ولا زال الشيعة، إلى اليوم يدفعون ثمن سياساتهم الخاطئة، ويعانون من البدع التي أدخلوها في الثقافة الشيعية الشعبيّة.

ولسنا بصدد دراسة تاريخ الصفويّين.. وإنما أردنا الإشارة إلى دور الحركة الصفويّة في تطوّر الفكر السياسي الشيعي، والقول بأنّ بروز التجربة الصفويّة كان نتيجة الفراغ السياسي الذي كان يهيمن على الشيعة في ظلّ نظرية الانتظار السلبية الانعزاليّة، في تلك الأيام، واستغلال الشاه إسماعيل لنظريّة الإمام المهدي الغائب، في أخذ الشرعيّة لنظامه الاستبداديّ المطلق المناقض لروح التشيّع.

فعندما يجمد الفكر ويتحجّرالعلماء، وينامون على أفكارٍ خاطئة، كنظرية الانتظار، فإنه لا بدّ أن يأتي من يرفض تلك الأفكار، وإذا لم يجد أمامه الفكر السليم، فإنه قد يلجأ إلى إنتاج أفكارٍ خاطئةٍ أخرى، قد تكون أشدّ خطورةً من الأفكار السابقة.. وهكذا كانت الإيديولوجية الصفويّة أشدّ خطورةً من نظريّة الانتظار.

بالرغم من كلّ ذلك، فقد استهوت التجربة الصفويّة، في بدايتها، الشيعة المضطهَدين في العراق وجبل عامل والبحرين، وذهبالعلماء بالخصوص، ليدعموا تأسيس الدولة "الشيعيّة" الوليدة. وعندما شاهدوا الواقع الصفويّ السلطويّ الظالم والمخادع، انكفأ بعضُهم راجعاً إلى النجف وأنكر على الشاه إسماعيل دعاوى النيابة الخاصّة عن الإمام المهدي. (379)

 

 

 


الاثنين، 31 أكتوبر 2022

الأساطير القومية؛ (فصل من كتاب "لماذا يكذب القادة؟") جون جي. ميرشيمر؛ ترجمة عادل النجّار.

 

 


الأساطير القومية

(فصل من كتاب "لماذا يكذب القادة؟")

جون جي. ميرشيمر

ترجمة عادل النجّار

 

مع ظهور القومية الوطنية في القرنين الماضيين، سَعَت عرقيّاتٌ ومجموعةُ قوميّاتٍ وطنيةٍ عديدةٍ حولَ العالمِ نحو تأسيس دُولِها. التي عُرِفت بـ "الدول القومية". وفي أثناء عملية البناء هذه، حاولَتْ كلُّ مجموعةٍ أن تخلقَ أساطيرَها الخاصةَ المقدّسةَ عن ماضيها، تصوّرها بشكل أفضل، وتصوّر خصومها من المجموعات القومية الأخرى بصورةٍ سلبية. وقد كتب أستاذ العلوم السياسية بجامعة MIT الأميركية، ستيفن فان إفيرا، أنّ هذه الأساطيرَ الشوفينيةَ "تأتي في أشكالٍ ثلاثة: تقديسُ الذات، تنقيتُها من الأخطاء، والإضرارُ بالآخر". ويتطلب اختراعُ هذه الأساطير ونشرُها على نطاق واسع حول العالم الكذبَ في الوقائعِ التاريخية أو الأحداثِ السياسية المعاصرة. "الغلطة التاريخية"، كما وصفها المنظّر السياسي الفرنسي أرنست رينان، تشكّل "عنصراً مهمّاً في صناعة الدولة".

لماذا صنعَت النخبةُ الأسطورةَ القوميّة؟

تتحمّل النخبة التي تسيطر على مسارات التفكير في دولةٍ ما مسؤوليةً كبيرة عن خلق هذه الأساطير، وهم يفعلون ذلك لسببين أساسيّين. تساعد هذه القصص الكاذبة في تعضيد التضامن الجماعي؛ وكذلك تساعد في خلق شعورٍ قويٍّ بالوطنيّة. وهو عنصر أساس في بناء الدولة والمحافظة عليها. وعلة وجه الخصوص، فإن هذه القصص الخيالية تضفي على المجموعة العرقية أو القومية الإحساس بالانتماء إلى مشروعٍ نبيل، الذي لا يستدعي الفخر به فحسب، بل يستحقّ تحمّل المصاعب لأجله، والقتال والموت في سبيله إن استدعى الأمر. تظهر هذه الحاجة إلى إبراز الجوانب الإيجابية لأمةٍ ما في القانون الذي أقرّتهالحكومةُ الفرنسية في فبراير 2005، واذي ألزم اكتب امقررات التاريخ في مدارسِ الثانوية العامة بإبراز الجوانب الإيجابية في التاريخ الاستعماري الفرنسي.

بيد أنه من المهمّ الإشارة إلى أن خلقَ الأساطير القوميّة ليس مجرّد تأليفِ بعضِ النخب قصصاً مختلَقَةً وتمريرها إلى جماهيرهم. فالحقيقة هي أنّ الناس العاديّين يكونون عطشى لتلك الأساطير؛ فهم في حاجةٍ إلى سماعِ قصصٍ وحكاياتٍ عن الماضي، تُصَوِّرُهُم بأنهم أخيارٌ ذوو قبعات بيضاء، بمواجهة القوميّات الأخرى ذوي القبّعات السوداء. وبالتالي، فإنّ خلقَ الأساطير القوميّة هو فعلٌ مدفوعٌ من الأدنى كما هو مدفوعٌ كذلك من الأعلى.

يخلقُ أفرادُ النخبةِ الأساطيرَ القوميّةَ أيضاً لاكتساب مشروعيّةٍ دوليّة والعائد من وراء هذا قليل، لأنه من الصعب جرّ الغرباء والأجانب إلى قصص تتعارض مع الروايات الموضوعيّة للأحداي التاريخية. ومع ذلك، فهناك استثناءات لتلك القاعدة. فقد يتمكن القادةُ من "بيعِ" أساطيرِهم القوميّة لحليفٍ لصيقٍ تكون له عادةً مصلحةٌ في قبولها وتصديقها. ففي بداية الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، خلقت النخبة الألمانية أسطورةَ أن جيشهم ـ الفيرماخت ـ لم تكن له أيُّ علاقةٍ بقتل المدنيّين الأبرياء على الجبهة الشرقيّة خلال تلك الحرب الوحشية. وقد قيل حينها إن جهاز الاستخبارات إس إس ـ الذي يمثّل فئةً صغيرةً من الشعب الألماني ويرتبط بهتلر بصورةٍ مباشرة ـ هو المسؤول عن تلك الأعمال المرعبة. فالجيش الألماني، استناداً إلى هذه الرواية، كانت يداه نظيفتَين.

لقد "بلعَت" الولايات المتحدة هذه القصّة الكاذبة خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة، حين كانت تعمل بشكلٍ لصيقٍ مع نازيّين سابقين، ومتعاونين مع النازيّين، ومنتسبين سابقين إلى الجيش الألماني، وأيضاً لأنها كانت تعمل على إعادة تأهيل الجيش الألماني، وجعلِه جزءاً لا يتجزّأ من حلف شمال الأطلسي. فلم يكن إذاً مستغرباً، كما يذكر كريستوفر سمبسون في كتابه عن تجنيد واشنطن للنازيّين بعد الحرب العالمية الثانية، أن "تترك مراجعة أكثر كتب التاريخ انتشاراً في الغرب عن الحرب، مع استثناءاتٍ بسيطة، انطباعاً قويّاً بأن كل الوحشيّة التي تمّت في محارق النازيّة كانت مسؤولية جهاز إس إس، وليس كل الجهاز أيضاً. غير أنه وفي أواخر الستينيات، بدأ الباحثون الألمان في كشف النقاب عن القصة الحقيقية،وهي أن الجيش الألماني كان جزءاً لا يتجزّأ من آلة القتل الألمانية التي تسبّبت في كلّ هذا الدمار البشري خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن آنذاك، كان كلٌّ من الجيش الألماني الجديد "البونديزفير" والناتو قد تأسسا بالفعل، فلم يعد تقبّل حقيقة ما حصل على الجبهة الشرقية بين العامي 1939 و1945 يمثّل مشكلةً سياسيّةً كبيرة للولايات المتحدة.

كذلك يحدث أحياناً أن تُصدِرَ دولةٌ لديها جاليات مؤثرة وذات نفوذ قويّ في الشتات الأساطيرَ القوميةَ لجالياته في الخارج. وأحسن مثال لهذه الظاهرة هو إسرائيل والجالية اليهودية في أمريكا. فلم يكن للصهاينة أن يؤسسوا دولةً يهوديّةً في فلسطين من دون إبادةٍ عرقيّةٍ واسعة لسكانها العرب الموجودين هناك منذ قرون. وقد أدرك قادةُ الصهاينةِهذه النقطة على نطاقٍ واسع قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية. وجاءت الفرصةُ المؤاتية لطرد الفلسطينيين في أوائل العام 1948، عندما نشبت الحربُ بين الفلسطينيّين والصهاينة بعد قرار الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين إلى دولتَين. أجلى الصهاينة عرقياً نحو سبعمائة ألف فلسطيني من أرضهم التي أصبحت لاحقاً إسرائيل، ورفضوا بإصرار السماح لهم بالعودة إلى منازلِهم حتى بعد أن توقّفت الحرب. وبالطبع، هذه قصّةٌ تضع إسرائيلَ في دور المعتدي، مما يجعل من الصعب على هذه الدولةِ الناشئةِ أن تكسب الأصدقاء وتخلقَ أثراً في العالم، وعلى الأخص في الولايات المتحدة.

ولهذا لم يكن مستغرَباً أن تبذِل إسرائيل وأصدقاؤها الأميركيّون جهوداً مضنيَةً بعد أحداث العام 1948 لتوجيه اللوم في عملية طرد الفلسطينيّين إلى الضحايا أنفسِهم. واستناداً إلى الأسطورة التي جرى اختراعُها وتأليفُها، فإن الفلسطينيّين لم يجرِ "تطهيرهُم عرقيّاً" من قِبل الصهاينة، ولكنهم، كما قيل، فرّوا من منازلِهم لأنّ الدولَ العربية المحيطة بهم طلبت منهم المغادرة، حتى تتمكّن جيوشُها من الدخول وإلقاء اليهود في البحر. ومن ثَمّ يعود الفلسطينيّون إلى منازلهم بعد أن يجري "تطهيرُها" من اليهود. هذه القصّة لم يتمّ ترويجُها وقبولُها بشكلٍ واسعٍ في إسرائيل فحسب، ولكن في الولايات المتّحدة كذلك على مدى ما يقرب من الأربعة عقود، وقد أدّت دوراً أساسياً في إقناع الكثير من الأميريكيّين برؤية إسرائيل بصورةٍ إيجابية والتعاطف معها في صراعها المستمرّ مع الفلسطينيّين. غير أنّ باحثين إسرائيليّين، وآخرين، فكّكوا أوهام تلك الأسطورة، وغيرها من الأساطير، على مدى العقدين الماضيَين، وبدأ التاريخ الجديد  للحكاية يظهر ببطء في سياق المنطق الأميركي تجاه الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، بطرق جعلت بعض الأميريكيّين أقلّ تعاطفاً مع ماضي إسرايل وسلوكِها تجاه الفلسطينيّين.

عندما تعمل النخبة على صناعة الأساطير القومية:

تعتزّ الأمم بشكلٍ مستمرٍّ بأساطيرِها الأساسيّة، لأنّ أغلب أفرادِها يحتاجون إلى مثلِ هذه القصص لتعزّز فيهم الإحساس بالهوّية، ولأنها تقوّي من التضامن المجتمعي. وعليه، فإننا نستطيع القول إنّ عمليّةَ صناعة الأساطير القوميّة هي عمليّة مستمرّة طوال الوقت. وبالطبع، تحتج تلك القصص إلى تحديثٍ من فترةٍ إلى فترة، مع ظهور معلوماتٍجديدة عن الماضي تستلزم خلقَ اساطيرٍ جديدة للتعامل مع المرال الجديدة في تاريخ الأمة. ولذا، يمكن للفرد أن يتوقّع احتدام إطلاقِ الأكاذيب القوميّة في بداية الحروب، وفي الأحداث عالية التأثير قوميّاً، والتي تتضمّن النزاعات الحادّة حول سلوك الدولة محلّ الخلاف، والتي بدورِها يمكن أن تحيِي صراعاتٍ قديمةً اندثرت في زمن مضى. وفي مثل هذه الأحوال، تعمل النخبة ليلاً ونهاراً لإظهار امّتها في أبهى صورةٍ ممكنة، وتظهر الأمم المنافسة في أبشع صوره.

يمكننا كذلك أن نتوقّع أن تصبح صناعةُ الأساطير القوميّة في أعلى حالاتِها عندما يكون هناك خلافٌ حادٌّ بشأن قضايا تتعلّق بنشأةِ الدولة. ترتبط شرعية الدولة بالظروف والملابسات التي أحاطت بولادتها، وأغلب الناس لا يريدون الاعتراف بأن ولادة دولهم جاءت من رحم الخطيئة. فمقدار الأكاذيب التي تُطلَق في هذه الأحوال يعتمد على عاملين: حجم القسوة والوحشية التي صاحبت إنشاء تلك الدولة، ومدى حداثتِها.

وبالتحديد، فكلما كانت ظروف إنشاء الدولة قاسيةً وعنيفةً، كان هناك مزيد من السلوك المشين الذي يتطلّب إخفاءه، وبالتالي تزداد حاجةُ النخبة إلى الكذب بشأن ما جرى فعلاً وقتَ إنشائها. وتعدّ أساطير "تلميع الذات"، كما لاحظ إفيرا، أكثر أنواع الكذبات القوميّة الثلاث. كلما كانت الأحداث حديثةَ الوقوع، كان الناس على الأطراف المختلفة من النزاع يتذكّرونها ويتأثرون بها أكثر. باختصار، عندما يكون إنشاء الدولة حديثاً وقاسياً، فعلى النخبة أن تكدّ وتجتهد أكثر لتلفّق قصّةً تصوّرُهم كأنّهم فرسانٌ نبلاء، وتصوّر الجانب الآخر بأنهم شياطين. على سبيل المثال،انظر إلى الخمس عشرة دولة التي ظهرت على إثر تفكك الاتحاد السوفييتي السابق بطريقة سلميّة. لم يكن للنخبة في هذه الدول حاجةٌ إلى تلفيق قصص عن كيفية ظهور هذه الدول إلى حيّز الوجود في العام 1991، لأن تفكك الاتحاد السوفييتي كان سلمِيّاً. (بالطبع، هناك دوافعُ قويّةٌ لتلك الدول للكذب عن نواحٍ أخرى في تاريخها الطويل، وهم يفعلون ذلك على أيّ حال). على العكس من حالةِ تلك الدول، نجد إنشاء إسرائيل والولايات المتحدة، وكلتاهما قد تورّطت في جرائمَ خطيرةٍ ضدّ البشر الذين كانوا يعيشون في تلك الأراضي التي احتُلّت وأصبحت تحت الاستعمار. ليس من المستَغرَب أن تبذل إسرائيل وأمريكا جهوداً مضنيةً لتصوير ذلك التاريخ بأنه مشرق بدلاً من سرد الوقائع بكل ما فيها من قسوة. ولكن هذا لم يعد أمراً مقلقاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، لأن الأحداث الخلافية حصلت في زمنٍ بعيد، فهي تبدو كالتاريخ المندثر. أما إنشاء إسرائيل، في المقابل، فهو وجودٌ حديث، وقضيّة إنشائها تعدّ موضوعاً حالياً ومثيراً للجدل، ليس لما للفلسطينيّين من صوتٍ عالٍ ومسموعٍ فحسب، ولكن لأنّ عدداً قليلاً من المباحثين (ومعظمهم من الإسرائيليّين أنفسهم) قد تحدَّوْا هذه الأساطير. وكما هو متوقَّع، فلم يغيّر معظم الإسرائيليّين، وأنصارُهم من الأميركيّين، وجهة نظرهم تجاه نشأة إسرائيل، بل هم يضاعفون جهودَهم المضنية لتسويق تلك الأساطير. (94)

 

ن كتاب "لماذا يكذب القادة؟"؛ سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر 2016)

 

تعريف بالمؤلِّف: جون جي. ميرشيمر

يعَدّ البروفيسور ميرشيمر، أستاذُ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأميريكية، أحد أبرز الباحثين الأميركيّين في السياسة الخارجية، وله عدّة كتب منها: "مأساة السياسة في الدولة العظمى"، و"اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية"، والذي تُرجِم إلى أكثر من 19 لغة، وأثار جدلاً واسعاً لموضوعيّته في بحث مسألة حسّاسة مثل العلاقات الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، وربما كان هو الذي دفع اللوبي الإسرائيلي إلى إصدار كتابٍ مضادّ بعنوان "اللوبي العربي".