السبت، 25 ديسمبر 2021

زكي نجيب محمود؛ العربي بين حاضره وماضيه.

 


العربي بين حاضره وماضيه

زكي نجيب محمود

فصل من كتاب "عربيّ بين ثقافتين"

١

تجيء الأيام وتمضي، أعوامًا بعد أعوامٍ، فيتغير من الإنسان ما يتغير، فلا الملامح هي الملامح، ولا القوة هي القوة، ولا الطموح هو الطموح، ولا العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، هما العاطفة المشبوبة والانفعال المشتعل، ولم تعُد الحواس تفعل اليوم فعلها كما كانت بالأمس؛ فالعين لا تبصر كما كانت تبصر، والأذن لا تسمح كما كانت تسمع، بل واللسان لا يتذوق الطعوم كما كان يتذوق. إلا أن شيئًا ما — برغم ذلك التغيير كله — يبقى ليظل به فلان هو نفسه فلان الذي عَرفَه الناس. ولقد وقعتُ اليوم على شاهدٍ جديد يؤيد هذه الحقيقة، وكان شاهدًا من نوعٍ جديد غير مألوف.

كان ذلك حين هممتُ بالكتابة عن العربي بين حاضره وماضيه، فقذفَت لي الذاكرة فجأة بشبح من أصدائها الخافتة الباهتة؛ إذ وسوسَت لي بشيءٍ كتبتُه سنة ١٩٥٠م، أو ما يقرب جدًّا منها، عن «نشر القديم» فألحَّت عليَّ الرغبة في أن أبحث عن ذلك المقال القديم الذي كُتب منذ أربعين عامًا (نحن الآن سنة ١٩٨٨)؛ لأرى ما فيه، سواءٌ أكان ذا صلة بما أعددتُه في رأسي من أفكار لأتناول في ضوئها حديثي هذا عن حاضر العربي وماضيه. ووجدتُ ضالتي بين مجموعةٍ من أخوات لها، كنتُ جمعتُها معًا في كتابٍ جعلتُ عنوانه «الكوميديا الأرضية». وقرأتُ المقال القديم فإذا بالشعور الغريب يغمرني فيصوِّر لي نفسي في أوائل أربعينياتها، وكأنما شُغلتُ عمَّا كنتُ بصدد البحث عنه؛ لأنصرف إلى شيءٍ آخر، هو المقارنة بين الرجل الواحد في لحظتَين من عمره، تباعَدتَا بما يقرب من نصف القرن، كيف كان يكتب حينئذٍ عن «التراث» ونشره وكيف يكتب عن الموضوع نفسه اليوم؟ وأمعنتُ النظر ما أمعنتُه لعلي أقع على مواضع الشبه بين الحالتَين ومواضع الاختلاف، فكان أول ما لحظتُه هو أن كل ما قد حدث للرجل من تغيير، برغم هذه المدة الطويلة هو أن فتَرتْ قُوَّته مع الشيخوخة وخفتَتْ نبرته وبَردَت حرارته؛ فما كان رجل الأربعين يجرؤ على قوله بلا حذر ولا حَيْطة، هو هو نفسه الذي يريد رجل الثمانين أن يقوله، ولكنه تعلَّم كيف يضبط عبارته ويقيِّدها، حتى لا تندفع في تعميماتٍ لا حق لها في إطلاقها؛ فقد يكون الشيء المعيَّن الذي هو موضوع الحديث «أبيض» اللون، لكن «الأبيض» ليس على درجةٍ واحدة من البياض دائمًا. وأظنُّني قد ذكرتُ للقارئ في مناسبةٍ سابقة، تلك اللوحة الفنية التي رأيتُها في مُتحفٍ للفن الحديث، وهي لفنانٍ له قيمته الكبرى في عالم الفن الحديث، ولم يكن في اللوحة شيءٌ قط إلا مربَّعات من اللون الأبيض، مع درجاتٍ مختلفة حتى لَيرى الرائي عشرات من أطياف اللون، لكلِّ طيفٍ منها ما يُميِّزه عن سائر الأطياف، ومع ذلك فجميعها «أبيض». وهكذا يكون الفرق بين كاتب الأربعين وكاتب الثمانين؛ فالفكرة قد تكون واحدةً في الحالتَين، إلا أن رجل الأربعين كان يُطلقها بلا قيد، وأما رجل الثمانين فقد تعلَّم مع طول الخبرة كيف يُحدِّد المطلق ليُبرز أوجه التبايُن بين جوانبه.

وبعد أن أشبعتُ رغبتي في رؤية نفسي كيف كانت، بدأتُ مع «سلَفي» مناقشةً صامتة فيما أوردتُه في مقاله الغاضب. نعم فلقد خُيِّل إليَّ أنه كتَب ما كتَبه في اختلاجة الغضب مما كان يُنشر عندئذٍ من كتب التراث ويُشير إليها دون أن يسمِّيها، إلا أن الذي هالَه في المقام الأول هو كثرتُها كثرةً أفقدَتْها التوازن في البنيان الثقافي، أو هكذا ظن رجل الأربعين، فهمستُ لنفسي قائلًا: إنني لا أعلم الآن، وقد مرت أربعون عامًا أو ما يزيد عليها، منذ كتبتُ مقالة «نشر القديم» ولم أعُد أذكُر ماذا كانت تلك الكتب القديمة التي أثارت في نفسي يومئذٍ ما أثارت، لكن الذي أذكُره جيدًا هو أنني كنتُ قد عُدتُ منذ قريبٍ من إقامة بالخارج لم تقصُر ولم تطُل، لكنها كانت إقامةً شهدَت من قلاقل الحرب العالمية الثانية ما شاهدت. وحسبنا أن كان ختامها قنبلتَين ذريتَين تُسقِطهما أمريكا على اليابان، إحداهما على مدينة هيروشيما والأخرى على مدينة ناجازاكي. وبتلك الضربة القاضية وضَعَت تلك الحرب الضروس أوزارها — كما يقولون — وماذا يُجدي أمام مئات الألوف من البشر يُفتَك بهم فتكًا في أقل من لمح البصر، ماذا يُجدي أن نقرأ للمقاتل الطيار الذي ألقى بالجحيم من عليائه على الأرض وأهلها، أنه بكى بدمعٍ سخينٍ لمَّا رأى عمود الدخان يَصْعد فيملأ جو السماء. نعم عاد صاحبنا إلى وطنه ليجد حوارًا بين علمائنا في الصحف يختلفون فيما بينهم أهو الأصحُّ في اللغة أن نقول عنها «قنبلة أم أن نقول قنبرة»؟ فلما دار ببصرِه فيما حولَه من كتبٍ تدور بها عجلات المطابع عندئذٍ ألفى كثرتها الغالبة نشرًا للقديم فكتَب ما كتَب.

قرأتُ ما كتَبه رجل الأربعين فتساءلْت: تُرى كم بقي عندك من سلَفك هذا ما يجعلكما إنسانًا واحدًا وكم تغيَّر بينكما بفعل الزمن وما يحمله للأحياء من خبرة تتحدد وتزداد يومًا بعد يوم؟ ها هنا رأيتُ أن أجري حوارًا هادئًا بين الرجلين: ابن الثمانين وسلفه ابن الأربعين، ليتبيَّن من الحوار كم بقي برغم الزمن وكم تغيَّر.

رجل الثمانين قرأتُ مقالك عن «نشر القديم» فوجدتُني راضيًا عنك حينًا، متشككًا حينًا، مخالفًا حينًا، وأول ما وقفتُ عنده هو قولك: «… إن كثيرًا جدًّا مما نقوم على نشره هذه الأيام من كُتب العرب الأقدَمين، لا تُساوي قيمتُه قيمةَ الورق الذي طُبع عليه، وليتَ الأمر في ضرره يقف عند حدِّ انعدام قيمته، بل إنه ليُعيد لنا جوًّا فكريًّا، قد يَضطَرنا اضطرارًا إلى تنفُّس هوائه حتى تمتلئ به رئاتنا وصدورنا فنكون عندئذٍ بمثابة من يعود بالزمان القَهقَرى، ولستُ أدري بأي حَلقٍ أصيح حتى تُسمَع الصيحة، فأقول: إننا يا قوم في وادٍ والدنيا الجديدة في وادٍ آخر.» وملاحظاتي على قولك هذا تدور حول كلماتٍ وردَت فيها، أجريتَها على قلمكَ بغيرِ حساب، وكانت تتطلَّب ما يُحدِّدها، فبأي مقياسٍ تزن «قيمة» الكتاب المنشور عن القدماء؟ لو كانت كل «قيمة» الكتاب عندك هي ما فيه من معلوماتٍ تنفع قارئها في صنع الأشياء، كأن يعرف منها كيف يزرع الأرض وكيف يُنجِّر الخشب أو يَصهَر الحديد، فقد بعُدتَ عن الصواب؛ لأن ذلك كله — على ضرورته — إنما هو جانب من النفع، لكنَّ هنالك جانبًا آخر يُراد له أن يشيع، وهو العمل على تشكيل «الرؤية» العامة التي ينظر بها الإنسان إلى العالم وما فيه وما يؤدي إليه، وها هنا تختلف الشعوب. ونحن وإن كنا نتشابه مع غيرنا في الوسائل التي يجب أن نتوسَّلَها في زراعة الأرض وفي نجارة الخشب وفي صهر الحديد، إلا أننا نعود فنتميز برؤيةٍ خاصة إلى الحياة الدنيا، أو هكذا ينبغي أن نكون. وتلك الرؤية «العربية» المنشودة وسائلها كثيرة منها أن نضع أنفسنا — عامدين — آنًا بعد آنٍ مع أسلافنا في مناخٍ واحد، لننظر معًا بعينٍ واحدة ولنسمع معًا بأذنٍ واحدة ولتنبض قلوبنا معًا بدقةٍ واحدة، ومن هذه المشاركة ينشأ الألف بيننا وبينهم، لكننا بعد ذلك أحرارٌ، نستقل بذواتنا في مواجهة دنيانا. وليس في ذلك تناقُض كما قد يبدو؛ فأنت قد تُلاعب طفلكَ فتتقمَّص معه روح طفولته لتتوثَّق الصلة الروحية بينك وبينه، ولا بد لك بعد تلك اللحظة الوجدانية أن تعود إلى حقيقتك رجلًا ناضجًا يواجه الحياة بما تقتضيه، فلو أنك قد استحضرتَ هذا الفارق حين كتبتَ لتقول عن كثيرٍ من القديم الذي ننشُره لا تساوي قيمته الورق الذي طُبع عليه، ثم وجدتَ أن ذلك الغَثَّ الذي يشغلنا أحيانًا، لا هو مما ينفع في الجانب العملي من الحياة، ولا هو مما يربط النفوس ليتألَّف حاضرٌ وماضٍ، لاقتربتَ من الصواب، فلعلنا متفقان على أن «قيمة» الكتاب القديم لا تنحصر في النفع العملي المباشر وحده، بل لا بد أن يُضاف نفعٌ آخر، هو القدرة على إحداث الأثَر النفيس المطلوب فيما يتصل بين سلفٍ وخلف لتتواصل الحلقات في وجدان الأمة الواحدة.
تلك — إذن — نقطةٌ أُولى فيما لحظتُه من عبارتك التي أسلفتَها، أُضيف إليها نقطةً ثانية وأكتفي، وهي عن الصيحة التي أردتَ أن تصيح بها، لتقول للقوم: إننا يا قوم في وادٍ والدنيا الجديدة في وادٍ آخر. وإني لأصيح معك الصيحة نفسها، بعد أن نتفق على أن الدنيا الجديدة هذه أُسقِطَت فيها قنبلتان ذريَّتان على هيروشيما وناجازاكي، فنحن وإن كنا نَودُّ لأنفسنا أن نشارك دنيانا في علومها الجديدة — ذَرية وغير ذَرية — إلا أننا نودُّ كذلك لو أعطَينا دنيانا شيئًا مما عندنا، والذي عندنا هو عقيدة في «التوحيد» لو سَرتْ بكل قُوَّتها في قلوب البشر، لنتج عنها بالضرورة توحُّد للإنسان المعاصر، يشفيه من التمزُّق النفسي الذي جعلَه يرتفع بالعلم إلى ذروةٍ ويهوي في الوقت نفسه إلى هاوية تُعمي بصيرته حتى ليقذفُ بلدانًا بأَسْرها بقنابله التي صنعها بعلمه. إن علوم دنيانا الجديدة قد وُضعَت ثمارها في أيدٍ مجنونةٍ عابثة، فمن ذا يستطيع أن يرد إلى المجنون رشاده وإلى العابث حكمته ليعتدل الميزان؟

رجل الأربعين قد تكون على كثيرٍ من الصواب فيما ذكرتَه من ضرورة النظر إلى الحقائق من مختلف جوانبها، حتى لا يضيع منها جانبٌ لحساب جانبٍ آخر. على أنني لم أرفض الكتاب القديم على إطلاقه؛ فقد ألحقتُ بعبارتي المذكورة عبارةً أقرر فيها: «إن إخراجَه واستنفاد الورق والحبرِ فيه إذا قام إلى جانبه ألفُ كتاب، مما ينقل إلينا ثمار المدنية الحاضرة والفكر المعاصر لما كان هناك موضع للشكوى …»

رجل الثمانين نعم قرأتُ لك ذلك، فأعجبني أن تطالب بنسبةٍ صحيحةٍ في عناصر الغذاء الثقافي الذي نُقدِّمه، ولكني عجبتُ للنسبة الحسابية التي ذكرتَها وهي أن يكون مع كل كتابٍ ننشُره عن القدماء، ألف كتابٍ ننقل بها فكر الحضارة القائمة. إن الأمر يا أخي ليس مرهونًا بعددِ ما ننشُره من هذا ومن ذاك، بل هو مرهونٌ بما «يوحي» إلى القارئ بانطباعٍ يساعده على نسج الشخصية العربية الجديدة التي نريد لها أن تنتشر، وجوهرها أن يكون العربي عربيًّا قادرًا على مواجهة عصره وتحدياته، فإن جاء هذا الإيحاء من قديم أو جاء من حديث فمرحبًا به في الحالتَين. أما الذي نرفضه — قديمًا كان أو حديثًا — فهو أن يجيء الكتاب عاملًا على الهدم وليس عاملًا على البناء.

رجل الأربعين عفوًا سيدي؛ فأخشى أن يفهم الناس من قولك هذا، أنه إذا عبَّأ المواطن العربي نفسه من مصادر القدماء وحدَهم ففي ذلك ما يكفي إذا كانت المادة المحصَّلة عاملةً كلها على بناء الشخصية العربية الجديدة. وإننا لنرى فيمن حولنا — بالفعل — ألوفًا، بل عشرات الألوف وربما مئاتها ممن مَلَئوا حواصلَهم من الزاد الموروث، ثم عاشوا في غيبةٍ تامة عما يعجُّ به عصرهم من أفكار وفنون ومشكلات، فتلك عزلةٌ قاتلة، أدَّت بنا إلى كوارثَ متلاحقة تكرثنا؛ لأنها تقتحم علينا حياتنا من حيث لا ندري، ومن أين لنا الدراية إذا أغلقنا دون العالم أبوابنا؟ واسمح لي يا سيدي أن أقرأ لك فقرةً أوردتُها في مقالتي التي ذكرتها، فقد قلتُ ما يأتي:
«إن كل أنواع العزلة شرٌ على الحياة إذا أرادت أن تكون حياةً خصبة مليئة، إلا إذا كانت عزلةً مؤقتة فيها استعدادٌ لما بعدها. وشر أنواع العزلة جميعًا هي العزلةُ الفكرية عن سائر العالم؛ فليس الفكر طاحونة تدور في الهواء ولا تطحن شيئًا، إنما الفكر يدور في بحوثٍ علمية حول موضوعٍ من الطبيعة أو الكيمياء أو عن نباتٍ وحيوان ونفس واجتماع واقتصاد وتجارة وزراعة وصناعة، وعن حرب وسياسة ونُظم في الحكم وفي التربية والتعليم وغير ذلك. وفي كل هذه الأمور يكتُب المؤلفون من علماء الغرب عشراتِ الكتب تلو عشراتها بل مئات وألوف تلو مئاتها وأُلوفها، فهل نترك هذه الأكداس الفكرية كلها لننطوي على أنفسنا في جُبٍّ مظلمٍ؟ … إلخ.»

رجل الثمانين إذا عدَّلت من عبارة «جُبٍّ مظلم» ما يجعلها تشير إلى غُرفةٍ غنية بما فيها، لولا أن نوافذها مغلقةٌ وجدتَني على استعداد بأن أوقِّع معك على صِدقِ ما ذهبتَ إليه.

هكذا مضى الرجلان؛ رجل الثمانين ورجل الأربعين، في حوارٍ حول ما كتبه ابن الأربعين عن نشر التراث القديم، لكنه حوار جرى هينًا لينًا هادئًا، لما كان بين الرجلَين من صلة القُربى؛ فلم يكن أكبرهما يتجاهل أن رفيقه هو أخوه الأصغر، كلا، ولا كان أصغرهما يستهين بأن مُحاوره قد أضاف إلى علمه وخبرته حصيلةً جمعها خلال أربعين سنةً تفصل بينهما، بل إن رجل الثمانين حين قرأ ما كان قد كتَبه ابن الأربعين، أَحسَّ كأنه يرى شبابه في مرآة فتذكَّر كم توهَّجَت فيه حرارة الشباب طموحًا وقدرةً وجرأةً ووضوح هدف، لكن ذلك كله لم يعُد يشفع له عند أخيه الأكبر تسرعًا في الحكم وبصفةٍ خاصة حين يُقيم ذلك الحكم على تشبيهاتٍ أخَّاذة بجمال فكرتها وصياغتها معًا، لكنها عند منطلق العقل موضع شك في صوابها، ومن ذلك تشبيهان أجراهما الكاتب الأصغر فيما كتبه عن «نشر القديم» وحقًّا لقد أجراهما بدقة في التصوير وبقلمٍ يعرف كيف يصوغ العبارة وبنى عليها أحكامه، فهل أصابت الأحكام؟ فقد زعم في التشبيه الأول أن الكتاب القديم هو عندنا — نحن المحدَثين — أقرب إلى تُحفةٍ نُعنى بها ونرعاها، منه إلى كتابٍ نبحث في صفحاته عمَّا ينفع حياتنا الحاضرة ويُثريها، ثم راح يبني على هذا التصوير ما يبنيه، فيقول ما معناه إن النسبة بينه — أي الكتاب القديم — وبين المؤلَّفات التي تحمل علمًا جديدًا ومشاعرَ جديدة، يجب أن تتوازى مع النسبة بين متحف الآثار — أو متاحفها مهما بلغ عددُها — وبين سائر المباني التي يسكنها الناس، ويتاجرون فيها أو يُعلِّمون فيها أبنائهم. إن هذه الأخيرة إنما أُقيمت ليعيش فيها الناس، وأما المتحف فيُزار للفُرجة أو للعِبرة. وما دام الأمر كذلك بين قديم وجديد وجب أن تكون هذه هي نفسها النسبة التي نُراعيها فيما نُحييه من تُراث الصلب وبالقياس إلى ما ننقله عن المحدَثين أو ما نُؤلِّفه تأليفًا جديدًا.

وأما التشبيه الثاني فقد أقامه بين موقفنا العاطف إزاء كتابٍ قديم ننشره وبين موقفٍ عاطف يوازيه، حين يقع أحدنا في خزائن كُتبه وأوراقه، على كراسةٍ قديمة كان يكتب فيها موضوعات الإنشاء وهو صغير. إنه لا يُمزِّق الكراسة ولا يُلقي بها في سلة المهملات، بل يبتسم لها ابتسامة إشفاقٍ، ويمسحُ عنها الغُبار، ويتخير لها مكانًا ملائمًا في خزائنه، فهل أصاب كاتب الأربعين في التشبيهَين من حيث صلاحيتهما لاستخراج الأحكام على حركة إحيائنا لتراثنا العربي؟ إن أصحاب الفكر المنهجي يعلَمون أن اللجوء إلى التشبيه منزلقٌ خطير للوقوع في الخطأ؛ إذ يندُر جدًّا أن يكون التطابُق كاملًا بين المشبَّه والمشبَّه به؛ ومن ثَمَّ يجيء خطأ النتائج التي نستدلُّها، ولذلك تراهم يُحذِّرون الباحثين من إقامة التفكير العلمي على تشبيهات.

وعلى ذلك فانظر إلى التشبيه الأول عند صاحبنا رجل الأربعين حين جعل الكتاب القديم ننشُره لنحيي جانبًا من تراث السلف، هو أشبه بالتحفة نحنو عليها ونرعاها منه إلى الكتاب نَدرُسُه ونتفع بما فيه، فهل يصدق هذا القول على كتبٍ تحتوي على شيء من علوم اللغة العربية؟ هل يَصدُق على فقه الفقهاء الكبار؟ هل يصدُق على كتب التاريخ وكتب الرحلات؟ ثم هل يصدُق على ديوان الشعر العربي؟ هل يصدُق على كتب المتصوفة الكبار، التي عبَّروا فيها عن حالاتهم الروحية والنفسية في مجاهداتهم الصوفية؟ هل يصدُق على النثر الفني الغني عند أدباء النثر؟ هل يصدُق على بعض الجوانب العلمية الخالصة في هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك؟ إذن فليس كل ما نُحييه من تراث السلف هو أقرب إلى آثار المتاحف كما زعم. وشيء كهذا يُقال عن التشبيه بكراسة الإنشاء في سنوات الدراسة الأُولى، يعثر عليها صاحبها إبَّان رجولته أو شيخوخته؛ فليست كُتب اللغة التي خلَّفَها الخليل وسيبويه من قبيل الكراسات القديمة نحنو عليها كما يحنو الوالد على صغاره، وليس شعر أبي العلاء المعري، أو من شئتَ من فحول الشعر العربي من قبيل الكراسات القديمة، لا ولا فقه مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة شبيهًا بالكراسة القديمة. وهكذا قل في ذخائر الماضي، التي كُتبَت لتبقى موضوعًا ومنهجًا.

إنه شيءٌ من الجمال الأدبي في صياغة تشبيهٍ فاسد، أدى بصاحبه إلى خطأٍ في حكمه على قضيةٍ كبرى في حياتنا الثقافية. وإن الروابط الوثيقة والحميمة التي تربط كاتب هذه السطور وهو في ثمانينياته، بذلك الكاتب الأربعيني لتجعله على يقينٍ من صدق النوايا عند سلَفه الأصغر، لكن حسن النوايا لا يُحوِّل الخطأ صوابًا. وسر الوقوع في مثل هذا الخطأ عند صاحبنا وأمثاله — وهم كثيرون — هو الحكم على قضيةٍ كبرى، كقضية التراث العربي وإحيائه، وكأنهم يحكمون على سطرٍ واحد من صفحةٍ واحدة في كتابٍ واحد، وربما كانت وسيلتنا إلى النجاة من الوقوع في مثل هذا الخطأ هي أن ننظر إلى المجموعة الكبرى من زاوية مفرداتها، وعندئذٍ لا يكون سؤالنا إلى ماضينا العربي هو: هل نُحيي ذلك الماضي أو نتركه في مخابئه؟ بل ننصرف بسؤالنا نحو المجموعة كتابًا كتابًا؛ ومن ثمَّ فلا يُترك الحكمُ لفردٍ واحد معين مهما بلَغَت درايته؛ فمن المغالطات العجيبة أن يسود فينا ظنٌّ أن للتراث العربي علماءه الخاصين والمختصين، برغم تنوُّع موادِّه تنوعًا يتناسب مع عدة قرون نشأ خلالها ذلك الجسم الهائل الذي نُسمِّيه بكلمة واحدة هي كلمة «تراث»، كما يتناسب كذلك مع عشرات الألوف من رجال العلم والأدب الذين أنتجوه. ومع هذه الكثرة الهائلة على امتداد ذلك الزمن الطويل يُصوِّر لنا الوهم أن فلانًا أو علَّانًا من الناس عالمٌ بالتراث وله كلمته المسموعة، فيما يُنشَر منه وما لا يُنشَر، مع أن البداهة تقضي بأن يُتركَ الرأي لأصحاب العلم في كل ميدان. على أن يُضاف إلى ذلك وجوب الأولوية لما عساه أن يكون أقرب من سواه في قوة الإيحاء بالنهوض.

إن ضخامة سؤالٍ يطرحه إنسان على نفسه بحثًا له عن جوابٍ غالبًا ما تحدُّ من قدرة ذلك الإنسان على الإجابة عن سؤاله، وربما سهَّل أمامه الصعب لو أنه سلَّط فكره على عنصرٍ فرديٍّ واحد من عناصر المسألة المعروضة؛ فبدل أن يسأل العربي نفسه قائلًا: على أي نحوٍ أجعل الصلة بين حاضر حياتي وماضي الأمة العربية؟ يستطيع أن ينصرف بسؤاله بادئَ ذي بدء إلى حاضره هو وكيف يرتبط بماضيه هو في حدود حياته الفردية، وعندئذٍ قد تلمع أمامه حقيقةٌ كبرى استنادًا إلى حقيقةٍ فردية صغرى. ولقد قدَّمَت لنا المصادفة البحتة في غضون حديثنا هذا أن رجع كاتب هذه السطور وهو في ثمانينيات عمره إلى شيءٍ كتَبه وهو في أوائل الأربعينيات في موضوع العلاقة الثقافية بين حاضر العربي وماضيه، ولم يكن هذا الكاتب يتذكَّر مما كتَبه في لحظة ماضيه شيئًا، اللهم إلا أنه كان قد كتب ذات يومٍ بعيد مقالة عن نشر التراث، ودفعه التطلُّع إلى البحث عن تلك المقالة في مظانِّها، حتى وجدها وقرأها فاستَحسَن فيها ما استَحسَن، واستَقبَح ما استَقبَح، مما دعاه إلى وقفةٍ قصيرة يُناقِش فيها نفسه أين الصواب فيما وقع في الماضي وأين الخطأ ولماذا أخطأ حين أخطأ؟ إذن فقد كانت استعادة لحظةٍ فكرية ماضية من مجرى حياته الفردية مناسبةً أثارت حوارًا داخليًّا، ربما أفاد منه هو في توضيح رؤيته، بل صادفَت كلماتُ حواره هذا قارئًا يتابعه بفكرة قبولًا أو تعديلا أو رفضًا، فيعمل كل ذلك عنده على توضيح رؤيته كذلك، فماذا لو وسَّعنا رقعة هذا المثل الصغير الفردي الواحد، لننتقل بعقولنا إلى أفقٍ أوسع، بأن نجعل الأمة العربية تُحاور ماضيها؟ فكيف يتمُّ لها ذلك إلا — أولًا — بأن يجد القارئ العربي مسألةً تقع في دائرة اهتمامه وقد تعرَّض للرأي فيها كاتبٌ من أبناء الماضي، و— ثانيًا — بألا يحيط القارئ العربي الجديد زميله الماضي بهالة التقديس؛ ومن ثَمَّ ينفتح أمامه مجال الحوار الحر بين عربيٍّ وعربي باعدَ بينهما الزمن، لكن بقِيَت بينهما مسألةٌ مشتركة مما يمسُّ عصبًا حيًّا من الحياة العربية أو الحياة الإنسانية على إطلاقها.

وانظر إلى أمثلة حيَّة في نفرٍ من أعلام الفكر العربي الحديث، تجد هؤلاء الأعلام قد استمدُّوا عظمتهم من مثل هذا اللقاء بين عربيٍّ جديد وعربيٍّ قديم في موضوعٍ مشترك، فكان ما كان من اتفاقٍ في الرأي أو اختلاف، فكم كنا لنفقد من موهبة طه حسين إذا لم يكن قد التقى بالشعراء العرب الأقدَمين كما التقى؟ وكم كنا لنفقد من قدرة مصطفى عبد الرازق إذا لم يكن قد أدار فكره في فلسفة الفلاسفة وفقه الفقهاء من العرب الأقدمين؟ وكم كنا لنفقد من عباس العقاد إذا لم يكن قد عاش مع البطولات العربية في أبطالها كما عاش، وكم كنا لنفقد من مصطفى صادق الرافعي إذا لم يكن قد اتجه بقلبه وبعقله نحو السلف؟ وكم كنا لنفقد في عالم الشعر إذا لم يتمثل أحمد شوقي نماذج الفحول من الشعراء العرب؟ وكم كنا لنفقد من أدب توفيق الحكيم إذا لم تكن عيناه قد التقطتا أهل الكهف وشهرزاد والسلطان الحائر وغيرها من التراث العربي؟ وهكذا تستطيع أن تُراجع أعلام حياتنا الثقافية واحدًا واحدًا لتجد الكثرة الغالبة منهم قد انقدَحَت لهم شرارة الموهبة عندما مسَّت مواهبهم كنوز الأقدمين. وهكذا يكون العربي الموهوب بين حاضره وماضيه.

الإحياء في كل معنًى من معانيه لا بد أن يتضمن بث الحياة فيما لم يعُد حيًّا، وبثُّ الحياة في كل معنًى من معانيه لا يتحقَّق إلا إذا سرى في كائنٍ حيٍّ؛ فعناصر التربة الكامنة في الأرض تمتصُّها جذور الشجرة فتُحييها حين تمتصُّها وتجعلها قابلةً لأن تسري في كيان الشجرة فتتغذَّى بغذائها وتنمو بنمائها وتُثمر بأثمارها. وهكذا أيضًا يكون إحياء الماضي بإحياء مأثوراته، فافرض — مثلًا — أن شاعرًا عربيًّا قديمًا ترك ديوانًا من شعره، لكن ذلك الديوان مرَّت عليه أصابع الإهمال لتُغرِقه في هاوية النسيان، ثم يحدُث أن يقيض الله منَّا باحثًا أديبًا محبًّا للشعر، فيهم بإحيائه فماذا عساه صانع به؟ أيكفي أن يُحقِّقه وأن ينشره على ورقٍ أبيض، فإذا بالديوان بعد بعثه قد رُكِن على رفوف المكتبات؟ إنه لو كان ذلك هو مصيره الجديد فالذي أصابه لا يختلف كثيرًا عما كان مصابًا به قبل بعثه، اللهم إلا أن نكون قد بدَّلناه كفنًا جديدًا بكفنٍ أبلاه الزمن والإهمال، ثم هل يكفي أن تُضاف إلى نشره خطوةٌ فيقرأه قارئ أو قل فيحفظه حافظ عن ظهر قلب، دون أن تعمل تلك القراءة وهذا الحفظ على أن يَهتزَّ بالشعر وجدان قارئه وحافظه. إنه لو كان ذلك هو كل ما حدَث فلا يكون قد حدَث للديوان القديم المنشور سوى أن نزل من رفِّه ليمشي بين الناس على رجلَيه، إنه بكل ذلك لم تعُد إليه حياة، وإنما يُبعث الديوان حيًّا إذا ما تمثَّله قُراؤه تمثُّلًا توحَّدَت به قلوبهم مع قلب الشاعر، فأحسُّوا ما أحسَّه الشاعر ورَأَوا ما رآه وسمعوا ما سمعه، ولو للحظاتٍ خاطفة؛ ففي تلك اللحظات تتوحَّد هُوية العربي الجديد مع هُوية الشاعر القديم، ثم تمضي اللحظات لكنها تترك وراءها أثرًا عند قُرَّاء الديوان قد يكون خافيًا خافتًا أول الأمر، لكنه بعد أن يُضاف إليه على امتداد الأيام أثرٌ وأثرٌ وثالث ورابع تكون خيوط الانتماء العربي قد نَسجَت في النفوس نسجًا قويًّا، وكأنما السلف والخلف قد اجتمعوا معًا على صعيدٍ واحد.

إننا لا نطالب العربي الجديد الذي يتلقَّى نتاج سلفه أن يأخذه شيءٌ من خشوع أو خضوع، يكون من شأنه أن يصغُر أمام سلفه، لا، بل الأرجح أن يجد الخلَف في أعمال سلفه قصورًا إذا قيس بما قد تَراكَم للخلف من خبرة السنين، بل الذي نريده هو أن يتلقَّى العربي الجديد أعمال سلَفه بالحب والنقد معًا، لينشأ في نفسه ما يشبه الحوار، وبمثل هذا الحوار الحي قد تنقدح شرارة الإيحاء الذي يتلوه إبداع، فيكون في هذه الحالة إبداعًا يحمل في شرايينه دم الماضي، فيتلاحم ماضٍ بحاضر في نفسٍ واحدة.

إنه ليُخيَّل لهذا الكاتب، أن خطأً ما يقع لنا عندما نتحدث عن إحياء الماضي في قلوبنا بإحياء كنوزه. وربما كان موضع ذلك الخطأ هو أننا لا نُحسن تصوُّر العلاقة بين طَرفَي الموقف؛ ففي الموقف طرفان؛ الموروث عن الماضي من جهة، والإنسان الجديد الذي نُريد له أن يَنعَم وأن ينتفع بهذا الموروث. والخطأ الذي أشرتُ إليه هو أننا ننظر إلى الأمر وكأنه أمر تكليفٍ؛ فهنالك واجب قوميٌّ يفرض نفسه علينا وهنالك مواطنون محدَثون لا بد لهم من الاضطلاع بهذا الواجب، فكأننا بهذه النظرة نُعطي الأولوية للماضي وموروثه، لتقع التبعية على العصر الحاضر وأبنائه. والأقرب إلى الصواب هو أن نعكس الترتيب في أذهاننا بحيث نبدأ من حياة العربي الجديد وكيف نعلُو بها لننتهي إلى أن إحياء شيءٍ من فكر السابقين ومن شعورهم قد يكون إحدى الوسائل الفعَّالة في ذلك التسامي الذي أردناه، إذا نحن عرفنا كيف نُحييه في النفوس، فالغاية المنشودة هي العربي الجديد والرقي بحياته مادةً وروحًا، ومن الوسائل المُحقِّقة لتلك الغاية أن يكون على صلةٍ حيَّة بماضيه من أية زاوية اختارها لنفسه؛ فالماضي وما تركَه لنا واسعٌ سَعَة المحيطات، بعد أن نتصوَّر تلك المحيطات وقد انقلب أُجاجها عذبًا. وليس المطلوب من كل فردٍ عربي على حدة أن يشرب المحيط، بل إنه ليكفينا أن تصل إلى كل مواطنٍ شربةُ ماء يستسيغها فترويه.

٢

لا أستطيع أن أحصُر لك الصفات الأساسية التي ذكَرها رجال الفكر على اختلاف عصورهم وشعوبهم، كلٌّ من وجهة نظره، ليُميِّزوا بها الإنسان من سائر خلق الله، وربما كان أكثر تلك الصفات شيوعًا، صفة «العقل»، على تفاوتٍ شديد بعد ذلك في فهم الناس لكلمة «العقل» هذه، وإن يكن معناها المقصود مُحدَّدًا قاطع التحديد، عند أول من أبرز هذه الصفة مميزًا للإنسان، وأعني أرسطو فيلسوف اليونان، وذلك حين جعل تعريفه للإنسان أنه «الحيوان الناطق» قاصدًا ﺑ «النطق» هنا قدرة الإنسان على التفكير العقلي الذي يعرف كيف يستدلُّ النتائج من مقدماتها استدلالًا صحيحًا. لكن تاريخ الفكر قد شهد رجالًا آخرين بتعريفاتٍ أخرى لما يُميِّز الإنسان؛ فمرة هي «الإرادة»، ومرة هي «الشعور»، والشعور الديني بصفةٍ خاصة.

والراجح عند هذا الكاتب، هو أنها صفاتٌ تصدُق كلها على الإنسان مجتمعةً، ويمكن بعد ذلك ترتيبها ترتيبًا يُبيِّن أيها أسبق من أيها. ومهما يكن الأمر في ذلك، فإن صفة من تلك الصفات المميزة للإنسان، تلفِت نظري من ناحيتَين؛ الأولى أنها نادرًا ما تذكر، الثانية أنها تلزم للعربي في عصره هذا؛ لأنها قد تُنبِّهه إلى ما هو غافلٌ عنه، برغم ضرورته وحيويته، وأعني بتلك الصفة ما قد عبَّر عنه الشاعر الإنجليزي الرومانسي من شعراء الكوكبة العظيمة التي ظَهرَت في مرحلةٍ مبكرة من القرن الماضي، وهو الشاعر «شلي» في قوله عن الإنسان إنه هو ذلك الذي ينظر قبل وبعد، قاصدًا بذلك أنه هو الذي يتميز بذاكرة تحفظ له الماضي وتُعيده أينما استدعى وكيفما، ثم يتميز كذلك برؤية المستقبل المرجُو قبل وقوعه. نعم إنه يمكن القول عن سائر الكائنات الحية، من نبات ومن حيوان، أن في طبائعها ما يفعل فعل الذاكرة، وما يؤدِّي شيئًا يشبه استباق المستقبل قبل وقوعه، وإلا فكيف نضع البذرة المعيَّنة من نباتٍ معين، فإذا هي تُعيد تاريخ ذلك النبات مرحلةً مرحلة؟! وكيف يحدث لهذا النبات نفسه أن تجيء مراحل نموه على النحو الذي يؤدي إلى الثمرة ذاتها التي أخرجها أسلافه؟! وما نقوله في هذا عن النبات، نقول أكثر منه على الحيوان، لكن الإنسان — مع ذلك — يظلُّ له موقفٌ خاص يميِّزه في استدعاء الماضي واستشراف المستقبل، وهو أنه يُدبِّر لنفسه ماذا يريد استدعاءه من ماضيه وماذا لا يريده في اللحظة المعيَّنة، كما يُدبِّر لنفسه كذلك كيف يريد لصورة مستقبله أن يكون، فإذا كانت بذرة القمح لا تستطيع إلا أن تُخرج نباتها كما كان أخرجه أسلافها، والثور مع البقرة لا يملكان إلا أن يجيء النسل ثورًا أو بقرةً على غرار ما قد حدث في نوعهما في أجياله السابقة، فإن الإنسان وحده هو الذي يتحكَّم فيما يستدعيه من مخزونات الماضي، ليستثمره في حاضره على أية صورة شاء، كما يتحكَّم في تصوُّر المستقبل الذي يريده ويسعى إلى تحقيقه.

لكن النظر إلى ما هو «قبلُ» وما هو «بعدُ» — أخذًا بالصياغة التي صاغها الشاعر «شلي» — إنما هما الطرفان اللذان تتوسَّطهما لحظة «الحاضر». وسؤالنا المطروح هو عن موقف العربي اليوم بين حاضره وماضيه، ولم نذكُر «المستقبل» في سؤالنا ذكرًا صريحًا؛ لأن تصوره إنما يتولَّد بالضرورة بناءً على الطريقة التي يجمع بها الإنسان ماضيه وحاضره. وإني لأخشى أن تقع هذه التقسيمات في نفس القارئ موقع التهاويم المجردة التي لا صلة بينها وبين حياته الفعلية كما يحياها، مع أنه لو نظر إلى نفسه من باطن، وجدها تحمل له في وقتٍ واحد ماضيه وحاضره وما يرجوه في مستقبله، إلا أن التفاوت بين الأفراد في درجات وعيهم بالأبعاد الثلاثة، هو تفاوتٌ شديد، بمقدار ما يختلفون فيه من درجات وعيهم، وعلمهم، وخبرتهم، ودقة إحساسهم بما حولهم. إنك أنت بمفردك، وأنا بمفردي، وهو بمفرده، وهي بمفردها، وكل إنسانٍ على وجه الأرض بمفرده، يحمل في أصلابه وأعصابه، هذا الذي نُطلق عليه اسم «الماضي» مع الذي نُطلق عليه اسم «الحاضر» مع تصوُّر ما نتوقَّع حدوثه غدًا أو بعد غدٍ، مما خططنا لحدوثه، فتجيء الأحداث مواتيةً فيتحقق، أو لا تجيء فلا يتحقق كما تصورناه. وبعبارةٍ أخرى ربما كانت أوضح وأقرب إلى الأفهام، أقول إننا حين نتحدث عن «حاضر» العربي وعن «ماضيه» فإنما ينصبُّ حديثنا على حالات «داخل» الإنسان، وليس على أشياءَ خارجه، وإذا كنا نستهدف أن نُغيِّر من وقفة العربي اليوم إزاء حاضره وماضيه، فإن الذي نُريد أن نُغيِّره في حقيقة الأمر، هو تصوراتٌ اجتمعَت له في جوفه عن ماضيه وعن حاضره معًا.

إنني في هذا الموضع من سياق الحديث، حريصٌ كل الحرص على أن يتأكد للقارئ في وضوح ناصعٍ، بأن حديثنا هذا عن ماضينا وحاضرنا، إنما ينصبُّ انصبابًا مباشرًا على حياته الواقعية التي يحياها كل لحظة، وليس هو نسجًا من خيال قد لا يكون ذا صلةٍ وثيقة بلحمه ودمه، ولذلك أدعوه إلى تضييق دائرة الحديث بحيث نحصرها في ثلاثة أيام فقط من حياتك، هي يومك الذي أنت فيه، وأمسك، وغدك، وبعد ذلك نسأل: أين تلتقي هذه الأبعاد الثلاثة؟ هل تراها مجتمعة معًا على قارعة الطريق، أو في غرفة من غرف منزلك؟ لا، بل إنها لا تُوجد ولا تلتقي إلا في رأسك أنت، فما حدث بالأمس مما تعرفه موجود في ذاكرتك الآن؛ أي إنه بالنسبة إليك لم يعُد ماضيًا، بل هو حاضرٌ مع الحاضر، وكذلك قل عن غدك، إنه لم يُولَد بعدُ، لكن توقُّع ما قد يحدُث فيه، مرسوم في خواطرك الآن؛ أي إنه حاضر مع حاضرك، وأما يومك هذا الذي يتوسَّط بين أمسك وغدك، فإذا استثنينا منه اللحظة العابرة التي أنت فيها، تراه ما تراه وتسمع ما تسمعه، وتعاني ما تعانيه، وجدنا أن بقية لحظاته إما مضت مع الماضي المحفوظ في ذاكرتك، وإما هو جزءٌ يُضاف إلى مستقبلٍ لم يُولَد بعدُ، وحضوره هو حضور في ذهنك أنت، تتوقَّع به ما سوف يحدث، سواءٌ تحقق توقُّعك أم لم يتحقق. ومعنى ذلك كله أنك تحمل معك ماضيك ومستقبلك في كل لحظةٍ حاضرة، فإذا أردنا لأي شيء من هذه الأقسام أن يتغيَّر فلن يكون التغيُّر إلا في شخصك أنت وما انطوى عليه.

وأزيد الأمر وضوحًا وتوضيحًا، فأقول ليس «الماضي» شيئًا قائمًا فيما هو قائم حولنا، وإلا لما كان «ماضيًا»؛ فكل ما هو قائم، تقع عليه العين، وتسمعه الأذن، وتمسُّه الأيدي، هو «حاضر» حتى ولو كان الذي صنعه قد مضى وترك وراءه ما صنع، الهرم الأكبر شيءٌ حاضر كأي شيءٍ آخر ذي وجودٍ حقيقي في عالم الأشياء، والذي مضى هو خوفو والذين أقاموا له الهرم، وديوان المتنبي شيءٌ حاضر بين أيدينا لكل من أراد أن يسمع شعره، والذي مضى هو شخص المتنبي، فإذا سُئلنا: أين هو «ماضينا» الذي يُراد لنا أن ننسج خيوطه في ثوب «حاضرنا»؟ أجبنا بأن ماضينا بهذا المعنى الحي، هو ما «نعلمه» عنه؛ أي إنه موجودٌ منسوج في حياتنا بالمقدار نفسه الذي هو «حاضر» به في رءوسنا وفي وعينا وفي سلوكنا، كثيرًا بكثير وقليلًا بقليل، فإذا كنتَ — مثلًا — لا تعرف معرفة المتذوق الواعي، إلا بيتًا واحدًا من ماضي الشعر العربي، كان «الماضي» العربي فيما يختص بالشعر، هو عندك بيتٌ واحد، حتى ولو كان في بيتك خزائنُ تحتوي على ألف ديوان مما وَرِثناه في مجال الشعر. لقد كتب الفقهاء الأقدمون ما كتبوه في فقه العقيدة وفي فقه الشريعة، فإذا لم تكن قد «عَرفتَ» شيئًا منه، كان ماضينا في هذا الميدان بالنسبة إليك صفرًا، وكأنه لم يكن لنا ماضٍ فيه، حتى ولو قيل إن دار الكتب فيها كل ما خلَّف لنا الفقهاء محققًا ومطبوعًا على أجود ورق، وفي صورة هي أجمل ما تستطيعه المطابع. وهكذا لا يكون لماضي الإنسان وجودٌ حيٌّ مؤثر، إلا إذا كان مُحصَّلًا في أذهاننا على نحوٍ يتيح له أن يكون جزءًا لا يتجزأ من حياتنا الواعية. ولا فرق في هذا بين أن نتحدث عن فردٍ واحد من الناس وما قد دسَّ في وعيه — الظاهر منه والباطن — من خبرات ومؤثِّرات، وبين أن نتحدث عن الأمة بأَسْرها، فماضيها الحي المؤثِّر إنما هو على وجه التحديد، ما قد وجد طريقه إلى أذهانهم وإلى قلوبهم، ثم ظهر في تشكيل سلوكهم وفي تعيين أهدافهم وفي طرائق تقويمهم للأشياء والمواقف قبولًا ورفضًا.

وهنا نلفِت الأنظار إلى فكرةٍ ربما كان الشاعر «ت. س. إليوت» (صاحب قصيدة «الأرض اليباب» التي وفَّاها نُقَّادنا عرضًا وتحليلًا) أقول إنها فكرة ربما كان «إليوت» أكثر القادرين شرحًا لها، وأعني بها أن ثقافة الأمة المعيَّنة في حقبةٍ معيَّنة، هي حاصلُ جمعِ ما قد وَعَته الرءوس من مواطنيها؛ فالفرد الواحد من أبنائها، مهما اتسعت دائرة علمه، فهو لا يعلم إلا جزءًا يسيرًا مما نسمِّيه بوجهٍ عام وشامل «ثقافة الأمة» الذي هو فردٌ من أفرادها، وهذه الفكرة مفيدةٌ في سياق حديثنا هذا؛ فنحن نتحدث الآن عن «ماضي» الأمة أين نراه؟! ونجيب بأنه هو ما قد وجد سبيلَه من الموروث عن أسلافنا إلى تيار الحياة الجارية، فهو كامنٌ في خواطرهم، مُثيرٌ لمشاعرهم، مُتمثِّلٌ في مسالكهم. وإن ذلك كله لا يتحقَّق لكل فردٍ على حدة، بل يكون حسابه بالنظر إلى مجموع الأفراد.

فكم — يا تُرى — نجد من الماضي ما هو قائمٌ في حياة الناس، فكرًا ووجدانًا وسلوكًا؟ ثم لا يكفينا أن نجيب عن هذا السؤال وهو قائمٌ برأسه مبتورُ الصلة بأطرافٍ أخرى لها معظم الخطر في حياتنا؛ إذ قد يكون ما هو مُحصَّل من ذلك في الأذهان والوجدان والسلوك، أضخم مما نريد؛ فهو إذا تضخَّم فربما تحوَّل إلى قيدٍ يعرقل سيرنا مع مستلزمات الحياة الحاضرة، وكذلك قد يكون أقل مما نريد؛ لأنه إذا كان كذلك، جاءت الشخصية العربية شاحبة؛ مما يؤدي إلى سرعة ذوبانها في مياه الغرباء، ومع ذلك فليست المسألة في هذا مسألة «كَمٍّ» فقط، ضخمًا وجدناه أم ضئيلًا؛ إذ لا بد من النظر إلى جانب ذلك، بل ربما قبل ذلك، إلى نوع الحصيلة التي اخترناها لتكون هي ماضينا المبثوث فينا، وذلك لأننا قد نُسيء الاختيار — وكثيرًا جدًّا ما نفعل — فنَبُث عوامل الضعف والشلل، من حيث أردنا القوة وانطلاقة الحياة.

وإني لأذكُر في هذا الصدد شيئًا من ذكريات عامٍ واحد من حياتي، وهو العام الذي كنتُ فيه تلميذًا في السنة الثالثة الابتدائية، كما أذكُر مدرسًا واحدًا ممن تولَّوا تعليمنا عامئذٍ، هو مدرس اللغة العربية. كان شيخًا قوي التأثير، يبعث على الرهبة التي تجنح بنا نحو رِعدةِ الخوف، أكثر مما يبعث على الحب وطمأنينة النفس، لكنه كان كذلك جادًّا طموحًا. ولعله أراد أن يرتفع كل طفلٍ منَّا حتى يبلغ مستواه ويصبح صورةً منه، ومن ذلك أنه لم يكن يكتفي بمادة النحو الموجود في الكتاب، بل طالبَنا بأن نرسم بالمسطرة خطوطًا في هوامش الكتاب، تميل بزاويةٍ معينة، لتكون شبيهة بالهوامش التي نراها في الكتب القديمة، وذلك استعدادًا منا لنكتُب في تلك الهوامش ما يُمليه علينا من إضافاتٍ تُضاف إلى ما هو مذكور في الكتاب المقرَّر. وما زلتُ أذكر شيئًا مما أملاه علينا وحفظناه حفظًا أصم وأعمى؛ إذ كان منه تعليق على أداة الشرط «إذا» وهو أنها «ظرفٌ لما يُستقبل من الزمان، خافضٌ لشرطه، منصوبٌ بجوابه». وكم تساءلتُ بيني وبين نفسي كلما وردَت إلى ذهني تلك العبارة: ماذا تفيد؟ لا سيما والمتلقي طفل في الحاديةَ عشرة من عمره؟ ولَكَم أردتُ، حتى وأنا في هذه السن التي تقدَّمَت، أن أفهم لماذا قال عن أداة الشرط، التي هي كلمة «إذا» إنها خافضة لشرطها، ومنصوبة هي بجوابها؟ وخيِّل إليَّ حينًا أنني قد فهمتُ؛ فنحن إذا قلنا — مثلًا — «إذا حل الربيع تفتَّحَت الأزهار» كان ذلك مساويًا لقولنا: «عند حلول الربيع تتفتح الأزهار»، ومن هذه الجملة يظهر لنا أن الشرط في الجملة الشرطية التي ضربناها مثلًا، قد تحوَّل إلى أن يكون «مضافًا إليه» إذ يقول «عند حلول …» ويكون بالتالي في حالة خفض أو كسر، وأما جواب الجملة الشرطية فهو عبارة: «تفتَّحَت الأزهار» فيجعل كلمة «عند» التي هي ظرف زمان، مفتوحة أو منصوبة، كما تقول مثلًا: «قرأتُ الصحف صباحَ اليوم» فتكون كلمة «صباح» منصوبة. هكذا خُيل إليَّ أني أفهمتُ نفسي كيف ولماذا قالت قاعدة النحو لتلميذ الحادية عشرة، إن كلمة «إذا» هي «ظرف لما يُستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه». ومع ذلك فافرض أني قد استطعتُ الفهم الصحيح، وأنا في مثل سني وخبرتي باللغة، فهل كان يستطيعه طفل؟ ثم افرض أن الطفل قد استطاعه، فأين وجه المنفعة؟ وإني لأدعو القارئ إلى استعادة ما أسلفناه، وهو أن العربي إذ يحيا حياته، حاملًا في رأسه هذا الذي قيل له عن كلمة «إذا» وما تؤدِّيه، فإنما هو يحيا حاملًا معه نتفة من «الماضي»، لكنها نتفةٌ عسيرة الهضم، قد تُصيب المعدة بالأذى. وأما اليقين عنها فهو أنها لن تنفع حاملها غذاءً يقتات منه ليكون عربيًّا موصول الهوية بماضيه، فإذا تصورنا أن مئات الألوف ممن يُعدُّون بين حملة العلم في بلادنا، يَحيَون وهم يحملون في رءوسهم أطنانًا من أمثال هذه «المعرفة» التي إن صلَحَت في الأركان الأكاديمية المعزولة عن الهواء الطلق؛ فهي لا تصلُح لحياتنا الناهضة وسيلةَ حَفْز، ودَفْع، وتحريك.

ثم شاء القدر لذلك الشيخ الجاد الطموح، أن يكون هو نفسه المدرس الذي جعل من محفوظاتنا الأدبية خطبة الحجاج في أهل العراق: «أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا، إذا وضعتُ العمامة تعرفوني … إلخ» وهي خطبة مليئةٌ بالتوعُّد والتهديد، مما يكره كل إنسانٍ حُر أن يكون هو أساس التعامُل بين حاكم ومحكوم، فكيف يمكن لمثل هذه النتفة الأخرى من «ماضينا» إذا ما ثبتَت في نفوس الصغار الناشئين، ألا تنتهي بحافظها وحاملها إلى أن يقابل استبداد المستبد بشعورٍ بليد لا يتحرك ولا يثور، اللهم إلا إذا أدركَتْه رحمة الله، فوجَّهَته نحو أن يعصي «ماضيه» ولا ينصاع إليه، كلما صادف منه أمثال هذه الصور برغم روعتها في موازين الصياغة الأدبية.

لكن شيخنا الجليل لم يكن قد اقتصر على أمثال تلك المحاولات المستمدة من «الماضي»، بل تركنا والوعاء مليءٌ بعوامل القوة. وإني لأزعُم بأن أقوى ما يستمده العربي المعاصر من مطالعة الموروث عن أسلافنا، كلٌّ في ميدان تخصُّصه واهتمامه، هو روح الجدية، والوقار، والضمير الحي. اقرأ ما شئتَ من نصوص التراث، وفي أي ميدانٍ تختاره، تَجدْك أمام إنسان يجدُّ ولا يهزل، يسمو بقارئه إلى قمته ولا يهبط من قمته إلى السفوح ليرضى عنه قُراؤه. وإني لأُشهِد الله أن ما قد بثَّه فينا ذلك الشيخ في دروسه، وفي شخصيته، لم يذهب عنا قبل أن يترك فينا أثرًا من الشعور بالجد، والوقار، ويقظة الضمير، انعكَسَت كلها من روح «الماضي» الذي كان الشيخ همزة الوصل بيننا وبينه.

اللغة هي الوسيلة الأولى لربط الصلة بين إنسان وإنسانٍ آخر، يعاصره، أو يسبقه في الزمن أو يلحق به، فإذا كنا نريد للعربي اليوم أن يكون موصول الوجدان بالعربي الذي مضى، فإن أهم ما يُحقِّق تلك الصلة هو اللغة المشتركة بينهما، على أن يكون واضحًا لنا بأن تلك المشاركة لا تنفي أن تتغيَّر أساليب التعبير بين كاتب وكاتب في العصر الواحد، ودع عنك أن تُباعِد بينهما مئات السنين أو ألوفها، لكن اختلاف الأساليب في اللغة الواحدة، يُخفي وراءه أسسًا ثابتة هي التي تضمن للُّغة المعينة استمرارها، أو قل إنها هي «روح» اللغة كما يقولون، وبوحي من هذه الروح يستطيع الذوق الفطري السليم — فضلًا عن النقد العلمي الاحترافي — أن يُفرِّق في مختلف الأساليب بين قويٍّ وضعيف؛ فوجدانية الروح مع تنوُّع الأساليب تنوعًا لا يتناهى عند حدٍّ معلوم، هو سر عجيبٌ من أسرار «اللغة» أيًّا كان نوعها؛ فالأصل واحد، وأما «الإبداعية» اللغوية (كما يسميها «تشومسكي» الذي هو في الطليعة بين فلاسفة اللغة في عصرنا) فلا نهاية لتنوعها؛ فلا يكاد الطفل ذو العامَين يلتقط شيئًا من روح اللغة في قومه، حتى تراه قد بدأ يمارس تلك القدرة على الإبداع اللغوي وهو لا يدري؛ إذ تراه وقد استطاع أن يضع المعنى الواحد في تشكيلاتٍ لغوية لم تكن هي التي سمعها ممن حوله، إنها تشكيلاتٌ من عنده هو، خرط صياغتها على مخرطَته الخاصة، حتى ليحدُث في حالاتٍ كثيرة أن تجيء صياغته بعيدة عن المألوف، ولكنها مؤدية للمعنى، فيضحك السامعون للتركيبة اللغوية العربية، التي جاء بها الطفل، ومن أين جاء بها؟ إن ذلك سِرُّ الإبداع في أبسط صوره وفي أعلاها.

وهذه الحاسة اللغوية وإن تكن مشتقة من فطرة الإنسان، إلا أنها — شأنها شأن ما هو فطري في معظم الأحيان — قابلة للتهذيب والإرهاف بالتدريب الدراسي. ومثل هذه الحاسة المرهفة التي تُميِّز الصواب من الخطأ، كما تُميِّز الأجمل من الأقبح، تكاد تنحصر في أبناء اللغة، دون من يتعلمونها من أبناء اللغات الأخرى. وأذكر أني في مناسبةٍ سابقة قد رويتُ روايةً سمعتُها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه بعد أن أهدى كتابه «فجر الإسلام» إلى أحد المستشرقين الكبار، جاءه خطابُ شكرٍ ختمَه صاحبه بقوله: «نفعنا الله بخرارة علمك»، فالخرارة عند المستشرق الكبير هي ما يخر، أما ملابساتها الأخرى التي يُحسُّها ابن اللغة فهي شيءٌ آخر.

ومثل هذه الحاسة اللغوية هي ما كنا نتوقع من مدرس اللغة العربية أن يبُثها، ويُربيها، ويُنميها، ولو قد فعل لما رأينا هذه الكثرة الكاثرة من الكتَّاب بل ومن الشعراء في هذا الجيل، تكتب على نحوِ ما تكتب، وتَنظِم على نحو ما تَنظِم. وبعض العلة يرتَد إلى جماعةٍ ممن وضعوا أنفسهم مواضع الأساطين في اللغة. وإذا سألتَ عما يفعلونه، وجدتَ ما يفعلونه أقرب الأشياء شبهًا بالحفريات الأثَرية، لا تُفرِّق بين كِسرة من الخزف، وعُملة من الذهب؛ فكلتاهما أثَرٌ نفيس، يستحق على التساوي أن يُعنى به حفظًا في الخزائن. ولا عجب أن تجد هؤلاء الأساطين إذا ما أمسكوا الأقلام ليكتبوا، جرت بهم الأقلام إلى عِي، وغَث، وهُزال.

ولن يتحقق لنا أمل في صلةٍ وجدانية بيننا وبين ماضينا العربي، إلا إذا تغيَّرتْ وجهة النظر إلى طبيعة اللغة، لنبُثَّها في نفوس أبنائنا وبناتنا، بحيث يقرءون ما يقرءونه، أو يكتبون ما يكتبونه، والشعور يملؤهم بأنهم إزاء خلجاتٍ حية كأنها خيوط من عَصبٍ ينتفض تحت سن القلم، وعندئذٍ نقرأ ما نقرؤه مما كتَبه السلف (كلٌّ فيما يثير اهتمامه) فلا يكون الذي بين أيدينا ورقٌ بارد في كتاب، بل يتمثل لنا إنسانًا يتحدث إلينا بما يتحدث، لا لكي نقول له: نعم، صدَّقنا. بل لنُحاوره فيما يعرضه علينا، فيعود هو إلى الحياة عن طريق حوارنا معه، ونزداد نحن حياةً على حياة، عندما تُضاف خبرة الماضي إلى خبرة الحاضر في خطٍّ واحد موصول الطرفَين. ولم يكن هذا هو الذي بثَّه فينا مدرس اللغة العربية وهو يُعلِّمنا أصول الجملة الشرطية، ولا كان هو الذي بثَّه فينا وهو يطالبنا بحفظ خطبة الحجاج، كلا، ولا هو الذي يَبثُّه القائمون على اللغة العربية فيمن يتلقَّاها دراسةً أو قراءة.

ذلك — إذن — هو شيء عن «الماضي» وأين يقع منا ونقع منه. إنها جملةٌ نطالب بربط أواصرها بين حاضرنا وماضينا، لا لكي نستشير السلف كيف نزرع القطن وقصب السكُّر، وكيف نُنشئ مصانع الحديد والصلب ومُولِّدات الكهرباء، ولا لكي نستشيره كيف نُقيم نُظُم الحكم النيابي ونُظُم التعليم الذي تتسلسل حلقاته من روضة الأطفال إلى الدراسات العليا بالجامعات، بل نطالب بربط حاضرنا بماضينا لنستلهم ما عسانا نصونُ به مُقوِّمات الروح العربية في كبريائها وفي حفظها للتوازُن بين ما يزول ويفنى، وما يخلُد ويبقى. وإنه لميزانٌ لو أحسن العربي إقامته كما أحسن السلف في فترات عزَّتهم، لعرفوا ماذا يُضحَّى به من أجل ماذا؟ إننا نُطالع القدماء لا لكي نكون عيالًا عليهم، هم يأمرون ونحن نأتمر، كلا؛ فهم رجال ونحن رجال، لكننا نطالعهم لنشعُر بطمأنينة من يعتصم بالحبلِ حتى لا تقتلِعَه الريح أو يبتلعه الطوفان؛ فالذي نُطالعه حين نُطالع القدماء، إنما هو ما أبقى عليه الدهر لجودته، بعد أن نفخ في الهواء كثيرًا جدًّا من الغث كأنه هَباء من الهباء. وإذا ما طالعتَ لأحد الأسلاف الذين خلَّدهم التاريخ، شعرتَ بصفاته إنسانًا عملاقًا ارتفع كما ارتفع لقدراتٍ فيه، دقة علم، ونفاذ بصيرة، وقوة عزيمة، وفضيلة أخلاق … تحسُّ بهذا كله، وتنطبع به، فيسري في شرايينك من دمائه ما يسري، وحسبك منه أن تشعر بعزةٍ قومية، لكونك خلفًا لهذا السلف. كان الإنجليز أيام امتلاكهم للهند، يقولون: إن نسبَ شكسبير إلى أُمتنا أعظم من تملُّكنا لإمبراطورية الهند. وحين قالوا ذلك عن شاعرهم العظيم، فهم لم يقصِدوا بقولهم ذاك، أن شكسبير سيُعلِّمهم بمسرحياته وبشعره، كيف تغوص الغواصة إلى أعماق المحيط، وكيف تطير الطائرة إلى قلب السماء، وكيف تجري على الأرض سيارةٌ وقطار، بل كان المقصود — بالإضافة إلى النشوة الفنية — الشعور بالعزة القومية. وهكذا نحن حيالَ ماضينا وعمالقته، أو هكذا ينبغي أن نكون.

لكن انظر في غير تعصبٍ وبلا حكمٍ مسبق تُضمره في نفسك قبل أن تنظر لترى، انظر إلى ما يقع في حياتنا من حيث العلاقة بين العربي ورجوعه إلى ما خلَّفه السلَف من فكر وأدب وما شئتَ من ثمرات القلم واللسان! وسوف تعلم كَمْ يقرأ القارئ كتابًا من الماضي، بحثًا عن حلول يفضُّ بها مشكلات يومه، على ظنٍّ بأن حاكم الأمس لا بد أن يكون أعدل من حاكم اليوم، وفقيه الأمس لا بد أن يكون أفقه من فقيه اليوم، وتاجر الأمس لا بد أن يكون أكثر أمانةً ونزاهةً من تاجر اليوم، وامرأة الأمس لا بد أن تكون أعَفَّ من امرأة اليوم وهكذا. نعم هكذا نفتح دفاتر الماضي بحثًا عن حلولٍ لمشكلاتنا على غرار ما حُلَّت به مشكلات الأوائل. ومن هذا الأساس المغلوط، يتحتَّم أن تكثُر في حياتنا الحاضرة أغلاط ننحرف بها عن سواء السبيل.

٣

ما زلتُ أذكرها لحظة من لحظات الانفعال، التي كثيرًا ما أخذَت بزِمامي، فتراجع العقل، وتقدَّم الوجدان ليُمسك باللِّجام؛ فهي لحظة عشتُها في حَيْرة مع نفسي، وكان ذلك في آخر عامٍ من أعوام الأربعينيات، حين قرأتُ — لأول مرة — تفرقة بين شمال العالم وجنوبه؛ فللشمال قوة العلم، وقوة الحرب، وقوة المال، بل وقوة الفن والأدب، وللجنوب ضعف الجهل، وضعف الهزيمة، وضعف الفقر، بل وضعفٌ طرأ عليه في عالم الإبداع. ولم أكد أفرغُ من قراءةِ ما كنتُ أقرؤه، حتى تملَّكَتْني الحالة الانفعالية التي أشرتُ إليها، سبحانك اللهم ربي خلقتنا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، فهل كانت مشيئتك — يا ربَّاه — أن يُنكب الشرق، إن كانت القسمة بين شرق وغرب، وأن يُنكب الجنوب، إن كانت القسمة بين شمال وجنوب، وأن تتراكم النكبتان على من كان «شرقًا جنوبًا» معًا؟! وأن تجتمع النعمتان عند من كُتب له أن يكون «غربًا شمالًا»؟!

نعم، ما زلتُ أذكرها، تلك اللحظة المنكودة؛ فلقد كنتُ قبلها أحترقُ غضبًا كلما وجدتُنا ننساق انسياقًا أعمى وراء من قسَّم الناس إلى شرق وغرب، ليضع الهزال في الشرق والعافية في الغرب؛ ففضلًا عن أن هذه القسمة لا تستقيم مع الواقع الجغرافي، فإننا لو سلَّمنا بتلك القسمة في الثقافات الكبرى التي شَهِدها التاريخ، بحيث رأينا التبايُن الحاد بين شرق في فارس والهند، تميَّز برؤيةٍ صوفية مُلغزة غامضة، وبين غرب في اليونان القديمة، تميز برؤيةٍ عقلية تضع المقدمات محاولةً أن تستدلَّ منها النتائج في وضوح علميٍّ لا يلُفُّه الضباب، أقول إننا إذا سلمنا بهذه التفرقة الثقافية بين شرق وغرب، بقِيَت لنا الرقعة التي تتوسط الطرفَين والتي هي الوطن العربي بمعناه الثقافي؛ ففي تلك الرقعة نشأَت ثقافةٌ ثالثة، ونمت وازدهَرت وأنتجت حضارات، ولم تكن في رؤيتها العامة شرقيةً خالصة، ولا كانت غربيةً خالصة، بل أفرزَت طبيعتها كيانًا ثالثًا تلاقت فيه عقلية الغرب مع صوفية الشرق في وحدةٍ عضوية لا ينفرد فيها أيٌّ من عُنصرَيها بوجودٍ مستقل، فإذا كان لهذا المزيج قدرته على الإبداع الحضاري كما شَهِد بذلك واقع التاريخ، في الحضارة المصرية القديمة، وفي الحضارة الإسلامية العربية بعد ذلك، فلماذا نتنكَّر لأنفسنا ونتجاهل حقيقتنا وطبيعتنا؟

أقول إني كنت قبل أن وقعتُ لأول مرة على قسمةٍ جديدة للأمم بين شمالٍ قوي وجنوبٍ ضعيف، على كثيرٍ من قلق نفسي وعقلي معًا، أُحاول أن أقيم الدليل على أن لنا ثقافة تجمع بين الحسنيَين، فلما صادفَتني القسمة الجديدة في تلك اللحظة المنكودة، أخذ مني الغيظ ما أخذ، هامسًا لنفسي: ألم تكن تكفينا قسمةٌ واحدة تحاول أن تضعنا في كفَّة المغبون، حتى تجيئنا هذه القسمة الثانية لتزيدَ الطين بلةً كما يقولون؟ لكن المواجهة الانفعالية لا تنفع أحدًا ولا تشفع لأحد؛ فأيًّا ما كان الأمر، فنحن في عصرنا هذا أمام حقيقةٍ واقعة، وهي أن هنالك قارتَين في عصرنا هذا، وهما أوروبا وأمريكا الشمالية، تجتمع فيهما «الغرب الشمال» وهما القارتان اللتان اجتمعَت لهما ضروب القوة التي ذكرناها؛ في العلم، والحرب، والمال. كما أن هنالك ثلاثَ قارات، هي آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، تنقصها قوة «الغرب الشمال»، ومنها يتكون — بصفةٍ عامة — «العالم الثالث». وإذا نحينا جانبًا أمريكا الجنوبية، لخروجها عن النطاق الذي يهمُّنا في هذا الحديث، كما نحَّيْنا أستراليا كذلك للسبب نفسه، بقِيَت لنا الكتلة الأفروآسيوية، وهي الكتلة التي يقع فيها الوطن العربي الكبير، مشرقه في آسيا، ومغربه في أفريقيا. وعلينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي لنبحث له عن جواب، في صدق ونزاهة وشجاعة، وهو: ما الذي تميز به «الغرب الشمال» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومتى تميَّز؟ وكيف تميَّز؟ وما الذي نكَب «الشرق الجنوب» المتمثل في آسيا وأفريقيا، ومتى حلَّت به نكبته؟ وكيف؟

وربما انفتَح أمامنا الطريق إلى الإجابة الصحيحة، إذا أضفنا حقيقةً برزَت خلال هذا القرن، وهي أن الشعوب الصفراء قد أخذَت شيئًا فشيئًا تشُق طريقها إلى القوة التي ميَّزت «الغرب الشمال» بقَدْرِ ما أخذت تتخلَّص من الصفات التي أضعفَت سائر الشعوب الأفريقية الآسيوية، فبدأت اليابان وحدها أولًا، ثم تبِعَتها أقطارٌ أخرى من بلدان اللون الأصفر. وهنا قد يُساعِدنا على الجواب الصحيح عن سؤالنا، أن نسأل سؤالًا فرعيًّا، عما فعلته اليابان — مثلًا — لتخرج من زمرة «الشرق الجنوب» ثقافةً وحضارة؟

وتيسيرًا على أنفسنا في عملية المقارنة وصولًا بها إلى الإجابة المنشودة، فلنحصُر النظر في الأمة العربية من جهة، وفي «الغرب الشمال» الذي هو أوروبا وأمريكا الشمالية — من جهةٍ أخرى — قد كانت للأمة العربية ريادةٌ حضارية مدى تسعة قرون «من أول ق٧ إلى أواخر ق١٥ بالتاريخ الميلادي» ثم غابت عنها ريادتها، وكانت أوروبا بلا ريادة إبَّان تلك القرون التسعة نفسها، ثم استحدثتها خلال القرون الخمسة الأخيرة، انفردَت بها في أربعةٍ منها، وشاركَتْها أمريكا الشمالية في الخامس مشاركةً احتلت فيها مكان الصدارة، فسؤالنا — إذن — يتحول ليُصبح: ما الذي كان في أيدينا ثم ضاع؟ وما الذي كان ضائعًا بالنسبة إلى «الغرب الشمال» ثم تحقَّق وحضر؟ تُرى هل تبلغ شيئًا من الحق إذا قلنا إنها القدرة القتالية، كانت لنا إبَّان القرون التسعة التي أشرنا إليها، ولم يكن لهم نظيرها، فهم وإن وُفِّقوا إلى نصر في الحروب الصليبية، فقد كان نصرًا مؤقتًا وانتهى بهم الأمر إلى هزيمة؟ وأما بعد تلك القرون التسعة، فقد انتقلت إليهم القدرة القتالية ولم يعُد لنا منها شيء. على أن نلحظ هنا جانبًا ستكون له في إجابتنا عن السؤال المطروح أهميةٌ كبرى، وهو أن القدرة القتالية حين كانت لنا، كان سندها هو «الدين»، وأما وهي لهم فإن سندها هو «العلم»؛ فقد قاتلناهم — وكانوا هم المعتدين في الحروب الصليبية — دفاعًا عن الدين بالإضافة إلى أرض الوطن. وأما هم إذ يقاتلوننا في مرحلة ريادتهم، فهم يقاتلون بحثًا عن أرضٍ يملكونها، وشعوبٍ يحكمونها، وموادَّ خامٍ يغتصبونها لصناعتهم بعد أن وقعَت لهم ما يُطلِقون عليه «الثورة الصناعية».

وإننا لنقول الحقيقة نفسها بعبارةٍ مختلفة، إذا وضعنا طرفَي المقارنة في صورةٍ أخرى، قائلين إنه بينما كانت أوروبا عند خروجها من عصورها الوسطى؛ لتدخل عصرها الحديث الذي هو عصرُ قوتها، قد جعلَت ينبوعها الذي تستلهمه روحُ نهضتها، أسلافَهم اليونان والرومان، إما بطريق الاتصال المباشر بتُراثهم، وإما عن طريق العرب؛ ومن ثَمَّ فقد عَرفَت طريقها إلى الرؤية العقلية العلمية، وهي الرؤية التي بُنيَت عليها حضارة الغرب الحديثة كلها، وأقول إنه بينما كانت تلك هي مصادر إلهامها، فقد كانت الأمة العربية إبَّان ريادتها خلال القرون التسعة التي أشرنا إليها، تستلهم الدين؛ أي إنها كانت تستلهم وحيًا إلهيًّا أُوحي به إلى نبيٍّ رسول.

ونضَع أمامنا هذه الصورة بجوانبها المختلفة، لننتقل بها إلى حاضر الأمة العربية، فنسأل عن هذا الحاضر نفسه ماذا نعني به في حديثنا هذا؟ وهنا يأتينا الجواب على درجةٍ عالية من الوضوح؛ فحاضر الأمة العربية، من الزاوية التي تهمُّنا في هذا الحديث، هو أنه موقفٌ قوامه طرفان؛ فهناك حضارةٌ ركيزتها الأساسية هي علم طبيعيٌّ بمعنًى جديد، وهنا ركيزةٌ أساسية، هي دين وتاريخ، كانت قد قامت عليها حضارة فتَرتْ قُوَّتها، ولكن بقِيتَ ركيزتُها وستبقى، فكيف يكون سبيلنا إلى مستقبلٍ قويٍّ مزدهر؟ إنه ليبدو للوهلة الأولى «وربما للوهلة الثانية كذلك» أنه لا سبيل إلا إذا عرفنا كيف ننقل حضارة القوة المستندة إلى علم، فنُقيمها على أرضنا فوق ركيزتنا نحن، بما تنطوي عليه من دين وتاريخ، ترى هل هو مطلبٌ ممكن التحقيق؟ وكيف يتحقق؟

ولستُ أريد لنفسي، كلا ولا أريد للقارئ أن يمرَّ على هذه الكلمات مرًّا سريعًا؛ لأننا لو فعلنا، أفلتَت بنا المشكلة التي نحن الآن بصدد طرحها، وشرحها، وحلها، مع أنها مشكلةٌ توشك أن تكون أخطر ما صادف الأمة العربية منذ أُسدل ستار على مسرح إبداعها في أواخر القرن الخامس عشر، فماذا نعني بقولنا: هل يمكن للعقل العربي أن يقيم العلم الطبيعي الجديد على قوائمَ من دينه وتاريخه؟ وهو سؤال إذا وُفِّقنا إلى جوابه، استطعنا اقتحام العقبة التي حالت، وما زالت تحول دون دخول العربي عصره الذي يعيش فيه توقيتًا، ولا يعيش فيه بانيًا، حتى لقد قنع بأن يأخذ من ثمراتِ عصره ما يتصدق به عليه سادة العصر، وأصبح بهذا الوضع تابعًا، ولا يمحو عنه التبعية أن يهتف لنفسه بالحرية! ونعود فنسأل: ماذا نعني بإقامة العلم الطبيعي الجديد «الذي هو سمة العصور الأولى» على ركيزة الدين والتاريخ؟ ولكي نجيب شارحين في حدود علمنا القليل، نقول: إن موضع الجدَّة في العلم الطبيعي الجديد، هو «الأجهزة التي هي وسيلة البحث العلمي على نطاقٍ واسع، ثم هي في الوقت نفسه نتيجةٌ يُنتِجها البحث العلمي في صورته الجديدة، فالوسائل البحثية أجهزة، والنواتج أجهزة»، وتلك هي التقنية «التكنولوجيا» بمعناها المنهجي الصحيح، وهو المعنى الذي لم يكن هناك سواه عندما أُطلق هذا المصطلح لأول مرة في أواخر القرن الماضي، ثم شاع للكلمة معنًى آخر، بحيث أصبح يُطلَق على الأجهزة المنتجة وحدها. وكان الأَولى، إذا أردنا الاقتصار على أحد الطرفَين، أن نطلق الكلمة على أجهزة البحث العلمي، من مقاييس، ومناظير وغيرها مما تمتلئ به معامل البحوث العلمية، وكان الأصح بدل أن نقول العبارة الشائعة «العلم بالتكنولوجيا» فعلاقة العلم الطبيعي بمعناه الجديد، علاقته بأجهزة البحث هي من الشدة بحيث إذا سُئلنا: ماذا نعني ﺑ «التقدُّم» في العلم؟ كان الجواب هو أننا نعني التقدُّم في دقة الأجهزة المستخدمة في البحث، والعكس صحيح أيضًا؛ أي إننا إذا سُئلنا: ماذا نعني بالتقدم في أجهزة البحث؟ كان الجواب هو: إننا نعني التقدُّم العلمي. ولم يكن قَط لهذه العلاقة المتبادلة بين البحث العلمي وأجهزته وجودٌ في ماضي البشرية بأَسْره، وكل ما عرفه رجال العلم الطبيعي قبل القرن الماضي من أجهزة وسائل غاية في القلة وفي البساطة في آنٍ واحد. وكان مؤدَّى هذا التقدُّم الهائل والسريع في أجهزة البحث العلمي، هو أن استطاع الإنسان المعاصر أن يعلم عن الكون علمًا لم يكن يجرؤ فيما مضى أن يحلُم به. وأضرب مثلَين اثنَين وأكتفي؛ أولهما هو أن لدى الإنسان الآن منظارًا فلكيًّا يستطيع به أن يتلقى الضوء من مصادرَ تبعُد عن الأرض — كما قرأتُ أخيرًا — عشرين ألف مليون سنة ضوئية، وأذكِّر القارئ بأن الضوء سرعته في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلومتر، فكم يكون في الساعة؟ وكم يكون في اليوم؟ وكم يكون في السنة؟ ثم كم يكون في عشرين ألف مليون سنة؟ فهذا جهاز يمد آفاق علمنا بالكون إلى هذا المدى. والمثل الثاني هو تلك الأجهزة التي يُطلِقون عليها اسم «الإنسان الآلي» فيتخيل السامع أنها أجهزة تشبه الإنسان في شكله الجسدي، فيكون لها أذرع وأرجل وجذع ورأس، وحقيقتها أنها أجهزةٌ تؤدِّي ما يؤديه الإنسان في عملياته الإدراكية، وقد يأخذ الجهاز منها صورة الصندوق؛ فللإنسان — مثلًا — قدرة على الإدراك البصري، ولاحِظ أن ذلك شيء أكثر من مجرد انطباع صورة شيءٍ خارجي على حاسة البصر، فهذه العملية كانت تقوم بها آلة التصوير «الكاميرا» أما «الإدراك» فهو أن تُترجَم الصورة المتلقَّاة من الخارج إلى «معرفة» بما يترتب على تلك الصورة من ردود الفعل … إلخ … إلخ.

ذلك هو العلم الطبيعي الجديد، في دقة أجهزته، وفي أبعاد نتائجه، ولعله من الواضح أنه يقتضي دقةً بالغةً أقصى مداها في «تحليل» الظاهرة المادية التي تُوضَع موضع البحث، مما حدا ببعض رجال الفكر في الغرب أن يُطلِقوا على هذا القرن العشرين اسم «عصر التحليل» وهي صفةٌ تصدُق على عصرنا كل الصدق، وقد انعكَس صداها على ظاهر الحياة الإنسانية ذاتها، انعكاسًا ظهر أثره واضحًا في العلوم الإنسانية كلها؛ علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وغيرها. وحسبك أن ترى إلى أي حد تلجأ هذه العلوم الآن إلى صياغة قوانينها في صورةٍ رياضية، وإذا قلنا رياضية فقد قلنا آخر درجةٍ من درجات التحليل العقلي. ولا شك في أن كل قارئ يعرف شيئًا قلَّ أو كثر، عن مدى ما وصل إليه علماء الطبيعة من تحليل المادة إلى ذرَّات، والذرة إلى كهاربَ بعضُها سالب، وبعضُها موجب، وبعضها محايد. وها هو ذا ضربٌ جديد يظهر بين مكونات الذرة، كشف عنه ثلاثةُ علماء، استحقوا من أجله جائزة نوبل لعلوم الفيزياء لعام ١٩٨٨م، وهو ضربٌ بلغ من الصغر ومن الخفاء حدًّا جعل مكتشفيه يسمُّونه «الشبح» إذ رأَوه أدخل في باب الأشباح منه في عالم الأجساد، فانظر كَمْ من دقة التحليل يتطلَّبها العلم الطبيعي اليوم ليبلُغ أصغر الوحدات التي فيها نُسجَت الظواهر المختلفة في نسيجٍ واحد متصل، هو هذا الكون العظيم، وكلما بلغ العلماء بتحليلهم ما ظنوا أنه آخر المطاف، وجدوا ما هو أصغر. وأما عن القوة الجبارة التي حُبسَت في تلك الكهارب اللامتناهية الصغر، فحدِّث ولن تجد لحديثك خاتمة يقف عندها.

وما علاقة هذا كله بسؤالنا الذي طرحناه أخيرًا، وهو: هل يمكن للعربي أن يشارك في هذا الجهاد العلمي، شريطة ألا يتنافر مع جذور في حياته ولا تكتمل له تلك الحياة إلا بها، ألا وهي دينه وتاريخه؟ وقد يتعجَّب القارئ من سؤالي هذا، قائلًا لنفسه: وما الذي يمنع الجمع بين الجانبَين في شخصٍ واحد؟ على أن هذا المتعجَّب يرجح له أن يكون على تصوُّر للمشاركة العلمية المطلوبة هو التصور السائد فينا جميعًا؛ أي أن تكون تلك المشاركة مقصورة على دراسة ما قد أنتجه آخرون وكان الله يحب المحسنين. أما أن يتصور بأن المشاركة المطلوبة مختلفةٌ كل الاختلاف عن حفظِ ما بين يدَيه؛ إذ تعني — أولًا — أن نحيا حياةً اجتماعية من شأنها أن تُفرِز لنا وجوب البحث العلمي الذي نُواجه به تلك المشكلات. و— ثانيًا — أن تنشأ في جوف تلك الحياة العلمية، اهتماماتٌ على مستوًى أعلى يرتبط بها رجال الاختصاص العلمي بمن يقابلهم في أنحاء العالم المتقدم، ليكون لنا نصيبنا المعقول في بحث أمهات المسائل العلمية التي تستهدف سَدَّ الثغرات الموجودة، والمتعلقة بأسئلةٍ كبرى لم تجد أجوبتها بعدُ. و— ثالثًا — أن يكون منَّا من يبادر الدنيا بلفتةٍ علميةٍ جديدة في أي ميدانٍ من ميادين الطبيعة، فهذا كله لا يطوف للدارس العربي ببال، إلا إذا حفَّزتْه موهبتُه المحبَطة في وطنه، إلى هجرةٍ تضعه في مكان يقدِّره ويُشجِّعه ويُفسِح له مجال المشاركة العلمية بهذا المعنى الكبير.

إنه لا عجب في أن يكون الوطن العربي قد انفتَحَت أبوابه على الغرب منذ ما يقرب من قرنَين كاملَين، ومع ذلك فهو يُعَد بمنزلة من رفض، ويرفُض تقبُّل هذه الحضارة العلمية، اللهم إلا مستهلكًا لثمارها، ودارسًا في معاهده وجامعاته دراسة التلاميذ، فيُحصِّلون ما بين أيديهم، وعلى أساسه يكون منهم المهنيون والمحترفون في ميادين الحياة العملية، حتى إذا ما واجهَتْهم تلك الحياة بمفاجآتٍ لم تكن مذكورة في المادة العلمية المدروسة، استدعَينا لمعالجتها خبراءَ من خارج بلادنا!

فإلى المتعجِّب الذي يسأل قائلًا: وما هو وجه الصعوبة في أن ندرس علوم العصر لنضيفها إلى دينٍ عندنا وتاريخٍ لنا؟ نقول: إن الصعوبة قد نشأَت من الطريقة التي رُبِّينا عليها، وتعلَّمنا في جوها، وهي طريقةٌ من شأنها أن يُؤخذ الدين وأن يُفهم التاريخ على نحوٍ يظهرهما وكأنما يتنافران مع العلم الطبيعي الجديد ونتائجه؛ ومن هنا نرى دارس العلم عندنا — ودع عنك أفراد الجمهور العام — يتناول ذلك العلم على حذَر، خشية أن يكون الأخذ به أخذًا كاملًا، يصدر عن قلبه حبًّا وإقبالًا، صدوره عن عقله دراسة وفهمًا، قد يتنافى مع الإيمان الديني أو مع أي شعورٍ مما توارثناه عن ماضينا جيلًا بعد جيل؛ إذ قد يتنافى — مثلًا — مع خوارق الأولياء، أو مع الاعتقاد في عجز الإنسان وقصوره بالقياس إلى علم الله وقدرته سبحانه وتعالى.

فما الذي ألقى في رُوعِ العربي الجديد هذا الفزع كله من العلم الطبيعي في صورته الحديثة؟ ولكي تدرك إلى أي حدٍّ قد بلغ منه الحذَر الفازع تجاه هذا العلم، قارن بين موقف العربي في هذا الصدد، وموقف الشعوب الصفراء، كاليابان، والصين، وكوريا، وتايوان؛ لترى الفرق البعيد بينهما في الجرأة على تشرُّب الروح العلمية الجديدة في عالم الصناعة، حتى لترى إنتاجها الصناعي يقتحم على بلاد الغرب أبوابها لينافسها في عقر ديارها، مع أننا وشعوب البلاد الصفراء نلتقي إلى حدٍّ ما في أن لكلٍّ منا تقاليده التي انحدرَت إليه عَبْر تاريخه الطويل، ويرفض أن يُلقيَ بها في البحر ليستقبل الغرب الحديث بكل كيانه. إنني إذ أتأمل موقف العربي من علم عصره، وهو موقفٌ حَذِر رافض بوجهٍ عام، ولا يخدعنا أن تمتلئ أرضنا وسماؤنا بثمرات ذلك العلم، وأن تتجاوب القاعات في جامعاتنا بأصداء المقرَّرات العلمية والمعامل وغيرها؛ لأن ذلك كله — كما ذكرتُ فيما أسلفتُه — إنما هو قطفٌ لنتاج غيرنا، نأخذه ونحفظه ونستخدمه، وحتى إذا صنعنا شيئًا مثله، جاءت صناعتنا في أغلب الحالات نسخةً منقولة عن أصلٍ أنتجه غيرنا، أقول إنني إذ أتأمل هذا الموقف الرافض لحضارة العصر متمثلةً في روحه العلمية، أجدني متجهًا بفكري في اتجاهين؛ في اتجاهٍ منهما أحاول مقارنةَ هذا الرفض بما كان للعربي من ريادةٍ علمية خلال ما يقرب من تسعة قرون، فأسأل لماذا؟ ثم أحاول الجواب. وفي الاتجاه الثاني أُحاوِل أن أتلمَّس في روح العلم الجديد معالم قد تبدو وكأنها تُناقِض روح الدين وروح الحياة كما مارسناها عَبْر عصور التاريخ.

فأما في الاتجاه الأول — الذي أقارن فيه بين موقف العربي من علم اليوم وموقفه من علم الأمس — فما أسرع ما تأتيك المقارنة بما تريد؛ فعلم الأمس منذ بدأ عند الإنسان نظرٌ علمي حتى نهضَت أوروبا في القرن السادس عشر، كان في أغلب حالاته يدور حول استخراج صيغةٍ من رموز، باستدلالها من صيغةٍ أخرى من رموز. ولقد تعمدتُ هنا استخدام كلمة «رموز» لتشمل فيما تشمله، قسمَين هامين هما: «اللغة» وتراكيبها، و«الرياضة» وما فيها من أعداد أو حروف، فكان مدار الفكر العلمي في معظمه؛ إمَّا علومًا لغوية وفقهية وتحليلاتٍ شارحة لما قد سبق السلف إلى قوله، وإمَّا علومًا رياضية خالصة كالحساب والجبر والهندسة، وإما علومًا أخرى تنبني على الرياضة كالفلك، وفي جميع هذه الحالات لم يكن النظر العلمي ينصبُّ على ظاهرةٍ طبيعيةٍ انصبابًا مباشرًا ليستخرج قوانينها، بل كان ينصَب — كما قلتُ — على أقوال، أو مركباتٍ رياضية (ومنهج الاستنباط في كلتا الحالتَين واحد في أساسه)؛ ومن هنا وجبَت الحَيْطة حين نذكر «علم» القدماء، لنقارنه بعلم المحدَثين؛ فالفرق بعيد بين المعنيَين برغم أن كلمة «علم» مشتركة في الحالتَين، فعلم السالفين توليد كلامٍ من كلام، أو رموز من رموز، وأما العلم الطبيعي عند المحدَثين فموضوعه الطبيعة ذاتها، يتناولها تحليلًا ليصل إلى أبسط وحداتها التي هي بمنزلة الخامة الأولية التي هي قوام الكائنات، واستخلاص القوانين التي على نسقها تجري الظواهر الطبيعية كما تجري. وفي هذا الميدان برع العرب الأقدمون براعةً تفوَّقوا بها على معاصريهم في الغرب، مع ملاحظة أن القرون التسعة التي جعلناها فترة الإبداع العربي كانت هي نفسها عصور أوروبا الوسطى التي كثيرًا ما تُوصف بأنها «العصور المظلمة» وتبدَّل الموقف حين نهضَت أوروبا في القرن الخامس عشر؛ إذ وجَّهت نظرها العلمي إلى الطبيعة، بعد أن كان ذلك النظر موجهًا إلى صُحفٍ خلَّفَها السابقون. وفي تغيير الاتجاه من الصحف وكلماتها إلى الطبيعة وظواهرها وكائناتها، اقتضى الأمر منهجًا جديدًا غير منهج التوليد الذي كان مستخدمًا في استخراج كلامٍ من كلام، أو رموزٍ من رموز، وعندئذٍ وقف العرب حيث كانوا؛ فبينما زاوج الغرب في حياته العلمية، فجمع فيها قديمًا مقروءًا إلى جديد مرئي ومسموع؛ مضى العربي في طريقه يستأنف قديمه في جديده. على أننا لا نريد للقارئ أن يتجاهل جانبًا في مرحلة الإبداع العربي، كان فيه النشاط العلمي منصبًّا على «موضوعٍ خارجي» وليس على صيغ كلامية ليستولدها صيغًا كلاميةً أخرى تُنتَج منها.

فإذا أقبل العربي المعاصر على حياةٍ علمية، حاملًا معه نظرة القدماء إلى العلم مادةً ومنهجًا، وجد الهوة عميقةً بينه وبين ما يتطلَّبه العلم التقني «التكنولوجي» المعاصر بأجهزته التي يتوسَّل بها في عملية البحث العلمي، ثم بأجهزته وآلاته التي هي بدورها ثمراتٌ صناعية ينتجها ذلك العلم. ومن هذه المسافة البعيدة بينه وبين عصره في الرؤية العلمية، يشعُر بالغربة التي تؤدِّي به إلى النفور الرافض أو إلى القبول الحذِر الخائف.

وأما الاتجاه الثاني الذي أجدني متجهًا إليه كلما تأملتُ موقف العربي في حاضره من علوم عصره فهو اتجاهٌ أتساءل فيه: ترى هل يكون ذلك الشعور بالغربة الذي ينتاب العربي المعاصر، ناشئًا كذلك من فجوةٍ أخرى تفصل ماضيه عن حاضره، وهي فجوةٌ أعني بها الفرق البعيد بين ما ينتج للعلماء من تحليل المادة الكونية إلى ذرات، والذرات إلى كهارب، والكهارب إلى صنوفٍ منها مختلفة أظنها أربعة في عددها؛ فمثل هذا التحليل الجديد لمادة الكون قد أوحى بعدة أفكار، منها: أن الفاصل بين ما هو «مادي» وما هو «لا مادي» أوشك أن يزول؛ فها هي ذي قطعة الخشب أو الحديد، قد ردَدْناها آخر الأمر إلى «طاقة» كهربية، ثم يُضاف إلى ذلك ما هو أدعى إلى العجب، وهو أن تلك الكهارب التي تتآلف منها الذرة لا تنقاد في نشاطها إلى قوانين حاسمةٍ محكمة، بل هي تنشَط في كثيرٍ من «الحرية» فلا يتمكن العلم من التنبُّؤ في لحظةٍ معينة، كيف تنشط في اللحظة التالية، فإذا أراد العلم إزاء ذلك أن يستخرج للذرة وكهاربها قوانينها، لجأ إلى منهجٍ إحصائيٍّ لا حتمية في نتائجه. وفوق هذا وذاك، قد يتَفرَّع عن الموقف العلمي الراهن، نتيجةٌ نراها بالفعل عند نفرٍ من مفكري هذا العصر وفلاسفته، وهي أن الكون «تعدُّدي» يتعذر على الباحث فيه أن يجد «الواحدية» التي تجعله كونًا واحدًا موحَّدًا فيما يشبه الكيان العضوي الفرد، خصوصًا إذا تذكرنا أن «الكون» كما يراه علم اليوم، «يمتد» في كل اتجاهٍ كأنه كتلةٌ غازية تنتشر وتزداد اتساعًا ثم تظل تنتشر وتتسع آفاقها، وإذا كان ذلك كذلك، فالكون في مجموعه اليوم لم يكن على صورته وحجمه هذا بالأمس، لا، ولن يكون غدًا. ولنا — بالطبع — أن نضيف نتائجَ فرعيةً كثيرةً أخرى مما انتهى إليه علم هذا العصر، كالهندسة الوراثية التي تزداد قوةً كل يوم، ومن شأنها أن يزداد الإنسان قدرةً على التغيير والتبديل في طبائع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان نفسه، وهذا مثلٌ واحد من أمثلةٍ كثيرة.

وحيال هذه الممارسات العلمية العصرية بكل ما ذكرناه وما لم نذكُره من نتائج، أراني مسائلًا نفسي، كلما تأمَّلتُ الوقفة الرافضة التي يصطنعها العربي الجديد، قائلًا: أتكون علة موقفه هذا تلك الهوة السحيقة بين رؤية هذا العصر، وبين ماضيه الذي أورثه رؤيةً أخرى؟ قد يكون ذلك. وبهذا — إذا صحَّ — يصبح الرفض العربي للوقفة العلمية ذات الطراز الذي يُميِّز عصرنا، مؤسسًا — في أعماقه — على عاملَين؛ أولهما هو أن العربي قد وقف بإبداعه الفكري عند مرحلة التوليد الذي يستنبط رموزًا من رموز، والرموز قد تكون مفردات اللغة ومركباتها، وقد تكون رياضيةً، ولم يدخل مع الغرب مرحلته العلمية الحديثة التي تتجه نحو الكون وكائناته وظواهره، بالإضافة إلى الاتجاه الأقدم نحو الكتب الموروثة عن السلف، والنسج على منوالها. وأما العامل الثاني فهو ما قد تطوَّر إليه العلم الحديث نفسه إلى مرحلةٍ تقنيةٍ تقوم على أجهزة وتنتج أجهزة، مما أدى إلى مزيد ومزيد ثم مزيد من تحليلات للكون وكائناته، في دقة أوصلَت الإنسان إلى علمٍ أوسع وأعمق لطبيعة الكون ومادته، فازداد بعلمه هذا قدرةً لم يكن يتصوَّرها بشر من قبلُ، كما أوصلته — بناءً على المعرفة الجديدة — إلى أفكارٍ واعتقاداتٍ تصطدم في — في ظاهرها على الأقل — مع وجهة النظر في الموروث العربي.

ولسنا نريد تبسيط الأمور المعقدة، لكننا مع ذلك إذا ما قلَّبنا النظر في العاملَين المذكورَين اللذَين رأيناهما — على سبيل الظن — علة إحجامنا عن الأخذ بجوهر العصر لنشارك فيه مشاركة سيد مع سيد، وجدنا الخروج من المأزق الحضاري في حدود المستطاع، دون أن نلجأ إلى اعتسافٍ في تصوُّرنا لحقيقة الأمر الواقع، فأما عن العامل الأول، الذي يتلخَّص في أن العربي يسير بفكره على منهج التوليد الاستنباط وحده كما كانت الحال مع السلف ﺑ «صفةٍ عامة» وبرغم أنه يُحصِّل علوم العصر بمناهجها الجديدة، إلا أنه يَحصُر تلك المناهج الجديدة في مجالها الأكاديمي أو المهني وحده، ولا يُجاوز بها تلك الحدود ليجعلها عمادًا من عُمُد منظوره الفكري بصفةٍ عامة، فالتغلُّب على هذا القصور مرهونٌ بضربٍ جديد من التعليم في مدارسنا وجامعاتنا ننقل به إلى الدارس مادةً علمية ومنهجها؛ بحيث يتشرب مع العلم طريقته، فحتى لو أنسته شواغل الحياة العملية بعد ذلك، مادة الموضوع العلمي الذي درسه، بقي له منهج النظر، يستخدمه في شتى مجالات الحياة التي تتطلب فكرًا منهجيًّا يتلاءم مع جو العصر.

وأما عن العامل الثاني، وهو أخطر شأنًا، وأعني به تلك الفجوة بين ما قد انتهى إليه العلم الجديد من تحليل للمادة، ومن قدرة للإنسان على التغيير والتبديل في الكائنات الحية، ومن رؤيةٍ عامة ترى الكون مقطوع الأوصال متعدد الأجزاء، مما قد ينفي عنه التوحد، الفجوة بين هذا كله، وبين ما يظن العربي أنه رؤيةٌ عربية أصيلة، ترى في الكون واحدية، وثباتًا ودوامًا، وتُنكِر على الإنسان حقَّه في العبث بالكائنات كما خلقها خالقها، فذلك كله يمكن إمعان النظر فيه، فنراه غير ما ظنَّه العربي حين قارن بين حاضر الدنيا وماضيه، فلو أن علماءنا القدماء المبدعين الذين — بحكم اهتمامات عصرهم — صبُّوا قدراتهم البحثية على موضوعاتٍ أخرى غير الطبيعة وظواهرها، كاللغة، والفقه، وتحقيق الحديث، وغيرها، أقول لو أن هؤلاء العلماء القدامى المبدعين قد عاشوا في عصرنا هذا، باهتمامات العصر المتجهة نحو مزيد من العلم بالكون وكائناته، لكان الأرجح أن نراهم في الطليعة مع غيرهم، كشفًا لطبائع الأشياء وصوغًا لقوانينها، وتحليلًا للمادة إلى الذرة بمفهومها الجديد وما دون الذرة، وهو تجرؤ للمادة في معامل العلم، لا يؤدي إلى تمزُّق في الكون يُبعده عن واحديته؛ فليس في الدين أمرٌ يُقيِّد الإنسان في تدبُّره لخلق الله عَزَّ مِن خالق.

إنها طريقة التربية، وطريقة التعليم، وطريقة الإعلام في الوطن العربي، لو استنارت فأنارت، لأضحى العربي الجديد عربيًّا حقًّا وجديدًا حقًّا، وفي شخصه يتواصل حاضره وماضيه.

 


زكي نجيب محمود؛ العروبة موقف.

 

 


العروبة موقف

زكي نجيب محمود

(فصل من كتاب "عربيّ بين ثقافتين")

١

لم يكَد هذا الكاتب يُجاوز عامه العشرين، حتى انغمس إلى قمة رأسه في بحر الحياة الثقافية كما يصطحب مُوجهًا من حوله. وكان من أبرز القضايا التي شغلَت الأقلام في مصر عندئذٍ، انتماء المصري لأي عهدٍ من تاريخه الطويل يعود؟ وفي تلك المعركة القلمية الساخنة، كان الصوتُ العالي الذي يملأ الأسماع هو القائلين بوجوب انتماء المصري من حيث الأساس، إلى العصر الفرعوني؛ ففضلًا عن كون هذا الانتماء حقيقةً تاريخية لا يجوز لها أن تُوضع بين الناس موضع «الرأي» الذي يقبلُه فريق ويرفُضه فريق، فهو انتماءٌ فيه من المجد ما يرتفع به عن مضمار التنافس مع سواه؛ فمن ذا الذي «يبيع سمسمًا مقشورًا بسمسمٍ غير مقشور»؟ «كما قال ابن المقفع» على أن أولئك الأعلام الذين دَعَوا يومئذٍ إلى الانتماء الفرعوني للمصري، لم يُريدوا — بالطبع — لتلك الدعوة المصرية أن تشمل الجانب الديني.

فهل كان في وُسْع ذلك الشاب أن يخرج من المعمعة بشيءٍ غير الذي جرت به أقدَرُ الأقلام؟ وهكذا كان، وهكذا دامت به الحال فترةً من الزمن لم تقِلَّ عن عَقدَين، لكنه خلال تلك الفترة كان يتحول من مرحلة الانفعال إلى مرحلة العقل، فلم يعُد أمره مقصورًا على أن يتلقَّى ما يكتبه له سواه، بل أضاف إلى ذلك جانبًا آخر يُشارك به في الرأي يكتبه لمن يقرأ، وهو تحوُّل من شأنه أن يصطحب شعورًا بالتبِعة العقلية يبثُّه في ضمير الكاتب؛ فأنت إذ تقرأ ما كتبه آخرون، فقد تقبل في صمتٍ وقد ترفض في صمتٍ فلا يُؤرِّق ضميرَكَ شيء. أما إذا كتبتَ ليقرأ آخرون، فها هنا تُحسُّ عند كل عبارة تخطُّها وازعَ الضمير يُراجعك ويُحاسبك، فتأخذ في نوعٍ من إمعان فكرك فيما تريد أن تُقدِّمه لقارئك، وتتساءل عند كلِّ كلمة: تُرى أهي الكلمة التي تُؤتَمن على حمل المعنى المراد نقلُه إلى الناس؟ وحصيلة هذه النقلة من موقف قارئٍ غير مسئول عما قرأ، إلى موقف كاتبٍ مسئول أمام ضميره عن صدقِ ما يكتبه ودقة معناه، أقول إن حصيلة ذلك هي إطالةُ النظر في الفكرة قبل عَرضِها، لا سيما إذا كان لها من الخطورة ما لفكرة «الانتماء» من خطورة.

أصحيحٌ ما دعا إليه أعلامنا في مصر خلال العشرينات — ولا أقول «العشرينيات» — وما بعدها بقليلٍ، من أن مسألة الانتماء المصري هي مسألةٌ تضع المصري بين ضدَّين، فهو إما إلى هذا الضد منهما وإما إلى ذلك؛ أي إنه إما يرتد بانتمائه إلى أصوله الفرعونية القديمة وإما أن يقف من ماضيه عند ولادة تاريخه العربي؟ اللهم لا؛ فذلك لا يختلف كثيرًا عن شجرة تسأل نفسها: أترجع أصولها إلى الجذور أم إلى الجذع والفروع؟ ومنذ تبيَّن لهذا الكاتب أن الأمر هو من الوضوح بحيث لا يحتمل مجرد السؤال، لم يعُد يساوره شك. على أن ذلك اليقين القاطع، لا ينفي أن يتطلَّب موضوع الانتماء تحليلاتٍ كثيرة تُوضِّح ما غمض منه. وهكذا فعلتُ في مناسباتٍ سابقة، وهكذا أفعل الآن؛ فلقد قرأتُ منذ قريبٍ لأكثر من كاتب يُعيدون النغمة القديمة على أوتارٍ جديدة، كأن يقولوا إننا إذا تحدَّثنا عن «التراث» فلا يكون المقصود هو ثقافة الصحراء، بل المقصود هو ما أبدَعه الوادي المزروع منذ فجر التاريخ. والذين يقولون ذلك فإنما يقولونَه بلغة الصحراء، يقولونه وكأن الأمر أمر اختيارٍ بين ضدَّين؛ فإما هذا الضد وإما ذلك الضد، ولا يَرونَ الحقيقة الجغرافية الناصعة وهي أن الوطن العربي الكبير إنما هو صحراءُ واحدة فسيحة الأرجاء تمتد من المحيط إلى الخليج — كما نقول — وتتخلَّلها «واحات» بعضها كبير وبعضها صغير، ووادي النيل هو واحةٌ كبرى في صحراء الوطن العربي، فإذا كانت حياة الزراعة فيه قد غَرسَت في أهله نزعاتٍ تتفق وحياة المزارع، فكذلك الصحراء المحيطة بهم قد تركَت بدورها نزعاتٍ بدوية؛ ومن هنا وجب الحذَر عند التعميم؛ فأخلاق المصري نسيجٌ متألف الخيوط بين زراعة وبداوة. وإذا لم يكن الأمر كذلك لما رأينا الفلاح المصري في القرى يستمع أحسن ما يستمع إليه في أوقات فراغه «قبل عصر التليفزيون» إلى قصة عنترة وقصة أبي زيد الهلالي وكلتاهما تعكس فروسية البدو. إن الوطن العربي هو ذلك الامتداد الصحراوي العظيم، الذي زُركِشَت حوافيه وأواسطه ببقاعٍ خضراء تكبر هنا وتصغُر هناك، وليست مصر استثناءً يشذ عن هذه الصورة. وإذا أفلتَت منَّا هذه الحقيقة الأساسية أفلَت منَّا بالتالي مصباحٌ كاشف يُنير لنا الطريق إلى فهمٍ صحيح لجوهر «الثقافة العربية».

إن الشبه جِدُّ قريبٍ بين الروائي الموهوب في اهتدائه إلى المحور المركزي الذي تدور حوله الشخصية التي يُريد تصويرها في روايته وبين رجل الثقافة في بحثه عن المحور الأساسي الذي تدور حوله ثقافةُ شعبٍ معيَّن؛ ففي كلتا الحالتَين يجد الباحث أمامه تفصيلاتٍ لا حصر لها؛ فحياة الفرد الواحد وأكثر منها حياة الشعب الواحد، أو الأمة الواحدة، خِضمٌّ هائل من الأحداث التي قد تبدو للوهلة الأولى متفرقاتٍ مبعثرة لا سبيل إلى جمعها في كيان عضويٍّ واحد. إلا أن الأديب الروائي الموهوب أو مؤرخ الثقافات المتمرس يستطيع أن يخترق تلك الكثرة من أحداث الحياة العملية وأوضاعها ليصل عند القاع إلى ذلك الينبوع المستتر، الذي منه انبعثَت تلك الكثرة من أحداث الحياة. وإذا وقع الأديب الروائي، أو مؤرخ الثقافة المعيَّنة، على ذلك الينبوع الخبيء كان بمثابةِ مَن وقَع على المفتاح الذي تنفتح به الأبواب المغلَقة، وعندئذٍ يظهر الفردُ المرادُ تصويره في رواية الأديب، ويظهر جوهر الحياة الثقافية التي يُراد تصوُّرُها وتصويرها.

فإذا صحَّ ما زعمناه من «صحراوية» في أساس الوطن العربي بأكمله — ممتدًّا من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي — كان لنا بذلك «مفتاح» الفهم لما نحن بصدده، وهو «الثقافة العربية» لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها. وهذا يتضمَّن — بالطبع — اعترافًا مُسبقًا منا، بأن هنالك واقعًا حقيقيًّا اسمه «الثقافة العربية» وأن التاريخ قد امتد بهذا الواقع الحقيقي منذ العصر الفُلاني في الماضي وإلى يومنا هذا. أما إذا زعم لنا زاعمٌ بأن مثل هذا الشيء لا وجود له في التاريخ، أو أنه كان موجودًا في الماضي ولم يعُد له اليوم وجود، فإنه يُصبح من العبث أن نمضي مع مثل هذا الزاعم المنكِر في الحديث.

الغرض الذي نبدأ به حديثنا — إذن — هو أن شيئًا اسمه «الثقافة العربية وثقافة مصر جزءٌ منها» كان موجودًا وما زال موجودًا، وكُل ما يُطلب منا إزاءه هو أن نُقدِّم «المفتاح» الذي نفتح به مغاليقه لنراه رؤية العين، والمفتاح الذي يُقدِّمه كاتب هذه السطور هو «صحراوية» الثقافة العربية. وأوَّل خطوةٍ نخطوها بعد هذه البداية المقترحة هي أن نأخذ في البحث عمَّا تُوحيه الصحراء لساكنها عن الكون وعن الإنسان وحياته وعما وراء الكون والإنسان. إذا أَحسَسنا أن التفسير لا يتم إلا إذا آمنَّا بأن هنالك «وراء» غير منظور فهل نقولُ قولًا عجبًا إذا قلنا إن أول ما تُوحي به الصحراء لساكنيها هو فكرة اللانهاية؟ إن بصر الرائي أينما توجَّه، وجد امتدادًا لا يعرف أين ينتهي، ولا كيف ينتهي، فإذا ما أقبل الليل واتجه البصرُ إلى السماء شهد أرتالَ النجوم التي تفوقُ العَد والإحصاء، فبأي المعاني تنطبع نفس الصحراوي وقلبه وعقله، وهو يشهد تلك اللامتناهيات مكانًا وزمانًا يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، إذا هي لم تنطبع بفكرة اللانهائي الذي يسرح فيه الخيال، ويغوص في أغواره الفكرُ المتأمل ليُبدِع ذلك الخيال وهذا الفكر ما يُبدعانه من معانٍ يَسوقُها المفكِّر ويَصوغُها الشاعر ويهتدي بها الفنان؟

وهنا قد يستوقفني قارئٌ ليصرخ في وجهي قائلًا: على رِسلِكَ يا أخانا؛ فقد شطحتَ بنا شطحًا يُضِل ولا يهدي. إن قوله هذا إذا صحَّ على ساكن الصحراء فكيف يصحُّ على ساكن الوادي الأخضر؟ إننا حتى لو أخذنا بما قدَّمتَه إلينا من أن الوديان المزروعة وفي مقدمتها وادي النيل إن هي إلا واحاتٌ كبرى في الجسم الصحراوي العظيم، فهذا لا ينفي عن الواحة أنها واحةٌ خضراء تختلف في طبيعتها وفيما تُوحي به إلى ساكنها، عن الصحراء ورمالها. ومثل هذا القائل يُشبِه من يجتزئ بقعةً من رقعة أرضٍ ليُنكِر عليها صلِاتِها بما يُجاورُها؛ فكأن ساكن البيت الذي يُطلُّ على بحر أو على صحراء لا يتأثر بهواء البحر أو برمال الصحراء. إن الخط الرفيع الذي يفصل وادي مصر عن صحرائها هو نفسه الذي أظهر للمصري شدة الصلة بين الحياة الدنيا وحياة الخُلد. لقد رأى المصري كيف يمكن أن يضع إحدى قدمَيه في أرضه المزروعة، وأن يضع الأخرى على أرض الصحراء؛ ليعلم علم اليقين أن النقلة من دار الحياة العابرة إلى دار الحياة السرمدية مداها خطوةٌ قصيرة، فكان للمصري ما كان في حياته الثقافية، من دين ومن أدب وفن، مما أقامه على تلك العُروة الوُثقى التي تصل الدارَين.

ومن هذا الانطباع الأول عن «اللامتناهي» تولَّدَت عند «الصحراوي» نتائجُ تشكَّلَت بها وجهة النظر العربية كان من أهمها وأعمقها أثرًا، فكرة العربي عن ديمومة «المبادئ» وثباتها. وأهم تلك المبادئ الثابتة الدائمة التي لا يجوز لها أن تتغير مهما تغيَّرتٍ ظروف التاريخ، مبادئ الأخلاق. وهنا تجب علينا وقفةٌ شارحة؛ فالإنسان في حياته العملية لا بد له من قواعدَ عامةٍ يستعين بها على معرفة الطرق المأمونة للسلوك، لا فرق في ذلك بين إنسان العصر الحجري وإنسان الكمبيوتر والصعود إلى القمر، وتلك القواعد العامة الهادية إلى صور السلوك المأمونة من سوء العواقب هي ما يُسمُّونها ﺑ «مبادئ الأخلاق»، وما دام أمرها كذلك فإن الدنيا لم تعرف مجتمعًا بشريًّا بغير أخلاق، لكن اختلاف جماعةٍ من الناس عن جماعة، فيما يختصُّ بوجهة النظر إلى تلك القواعد الأخلاقية يُمكِّنهم في تصور كلٍّ منهما لحقيقة تلك القواعد ماذا تكون، وفي مصدرها الذي جاءت منه. أما هذا المصدر فقد تتصوره جماعة بأنه ما دلت عليه الخبرة البشرية فيما مضى من التمييز بين سلوكٍ يضرُّ وسلوكٍ ينفع، وعن طريق هذه الخبرة تجمَّعَت مجموعةٌ من الصور السلوكية التي ثبَتَ نفعها وسلامتها من سوء النتائج، فكانت هذه المجموعة هي «مبادئ الأخلاق». وهكذا كان للجماعات المختلفة وجهاتُ نظرٍ مختلفة عن المصدر الذي نبعَث منه تلك المبادئ، يهمنا منها وجهة النظر «الصحراوية» — أو قل «العربية» — وهي أن مصدر تلك المبادئ الأخلاقية إنما هي ذلك «اللامتناهي» الذي رسخَت صورته في القلوب، ثم تأيَّدت تلك الصور وازدادت رسوخًا عندما نزل بها وحيٌ من رب العالمين إلى الأنبياء والرسل لينشروها في الناس، حتى أصبحت الصور السلوكية المطلوبة لا تستند في صوابها على نفعها. نعم إنها بالفعل نافعةٌ، لكن الذي يجعلها «مبادئ» هو أن نزل بها وحيٌ من الله سبحانه وتعالى. وإنه لتنتج لنا نتيجةٌ بالغة الأهمية عن هذا الموقف، وهي أن «مبادئ الأخلاق» لا تتبدَّل ولا تزول، في حين أن من اقتصر على جانب المنفعة في رؤيته للأخلاق مستعدٌّ لاستبدال مبدأٍ بمبدأٍ آخر إذا أثبتَت له خبرة الحياة أن الصورة السلوكية القائمة لم تعُد تصلح، فالعربي — إذن — متميزٌ بجانبَين؛ فهو أولًا يجعل مصدر الأخلاق وحيًا، وهو ثانيًا يجعل مبادئها ثابتةً لا تتحوَّل ولا تتبدَّل. حتى إذا خُيل للإنسان أن مبدأً معينًا منها لم يعُد يؤدِّي بالناس إلى منفعة ظاهرة، قال العربي إن الله أعلم من الإنسان بما ينفع وما يضر. وغنيٌّ عن البيان أن نشير إلى الملاءمة الوثيقة عند العربي بين انطباعه باللانهائي من الكون الذي يحيط به، وبين ما يَهْديه إليه الوحي الديني من وجوب المبادئ الأخلاقية وجوبًا لا يتغير بتغيُّر الأحداث.

وعند هذه النقطة نختصر حديثنا في «المصري» موغلين به فيما قبل الفتح العربي الإسلامي، فماذا نجد في تاريخه الأسبق عن الرؤية الأخلاقية؟ أنراه من الجماعة التي أقامت مبادئها الأخلاقية على خبرة الحياة الماضية في هذه الدنيا؟ أم نراه من الجماعة التي تستمد رؤيتها الأخلاقية من انطباعها باللامتناهي، ومن اعتقادها — بالتالي — في خلود الحياة الآخرة؟ أظن أن الجواب واضحٌ ليس فقط لمن «درس» التاريخ المصري القديم، بل هو واضحٌ كذلك لمن «يُحس» بروح ذلك التاريخ، فالعامل المصري القديم يعمل والفنان المصري القديم يُبدع والمحارب المصري القديم يُحارب، والوالد المصري القديم ينصح ولده، لا بما يتبدل خلال الحياة الدنيا من نفعٍ أو ضرر، بل بما يُرضي رب الخليقة يوم أن يكون حساب. وإننا لنرى على جدران المعابد المصرية القديمة صورة «الميزان» الذي سوف يُوزن به الأعمال يوم الحساب، فها هي الرؤية «الصحراوية» للأخلاق لم يُغيِّر منها أن يكون في قلب الصحراء المصرية وادٍ مزروع.

المثل الأعلى عند العربي — إذن — هو ثبات «المبادئ» التي على أساسها يُحكم على سلوك الإنسان بالاستقامة أو الانحراف، وهو ثبات مستمدٌّ من الحقيقة الكونية كما ينطبع بها ساكن الصحراء، ثم جاءت الرسالات السماوية لتؤكِّده. وأودُّ هنا أن أُعيد القول مرةً أخرى، دفعًا للخلط الذي كثيرًا ما يقع في ظنون الناس، بأن القيم الأخلاقية ذاتها لا يكاد يختلف عليها شعبٌ مع شعب، لكن الاختلاف إنما يظهر عند عملية التنظير، فنسأل أولًا عن مصدر القيم لنعلم من أين جاءت؟ وثانيًا نسأل عن تلك القيم أيجوز لها أن تتغير مدلولاتها مع تغيُّر الظروف؟ وموقف العربي في ذلك هو أن تلك القيم هي التي تحكُم المتغيِّرات ولكنها لا تتغير معها، وأن مصدرها وحيُ السماء من ناحية، وما يتركه المشهد الكوني عند الإنسان من أثَرٍ ينطبع به.

ولعل سؤالًا يَعِن للقارئ فيقول: كيف نَزعُم أن القيم الأخلاقية مشتركةٌ بين سائر الجماعات الإنسانية — أو قل إنها تكاد تكون كذلك — ثم نُقرِّر في الوقت نفسه بأن جماعةً من الناس قد تقبل تغيير المبادئ الأخلاقية إذا استوجَبَت الظروف المتغيرة ذلك التغيير، وأن جماعةً أخرى ترفض قابليةَ تلك المبادئ لمثل ذلك التغيير؟ والجواب الذي يُزيل قسطًا كبيرًا من هذه المفارقة هو أن «أسماء» القيم الأخلاقية لا اختلاف عليها؛ فليس هنالك على وجه الأرض من يُوصي — عن مبدأ — بالخيانة والقتل، والسرقة، والأنانية … إلخ؛ فالكل مُجمِعٌ على وجوب الأمانة، وحق الحياة وحق الملكية والتعاون … إلخ. لكن هذه الأسماء — لحسن الحظ — ليست مُحدَّدة المعاني تحديدًا كالذي نجده في المصطلحات الرياضية، المثلث والمربع والدائرة. ولقد كانت هذه المسألة نفسها هي ما تعرَّض له سقراط؛ إذ جاء ليرفع في عالم الفكر لواءَ «ترييض» الأخلاق؛ أي أن تُحدَّد مفاهيم الأخلاق على نحوِ ما تُحدَّد مفاهيم الرياضة حتى لا يتعرض الناس لفوضى الفهم؛ وبالتالي يتعرضون لفوضى السلوك. وأحسب أن المسألة ما زالت تُغري بالتعرُّض لها، وأما من الوجهة العملية فالضرورة تقضي بمرونة المعنى لأنه لا أمل في دقة رياضيةٍ لهذه الأسماء القيمية. خذ — مثلًا — حق الملكية؛ فإذا أقرَرْنا هذا الحق للإنسان فهل يجوز لرجلٍ واحد — تبعًا لذلك — أن يُتركَ ليملك العالم إذا أُوتي القدرة على ذلك، أو أن هناك إدراكًا فطريًّا عند الإنسان يُوجِب وضع الحدود والقيود؟ وإذا أنكرنا حق الملكية على الأفراد — كما تتصور الشيوعية — فهل تصل بهذه الأفكار حدًّا يحرم الفرد من ملكية ثيابه؟ أو أن هنالك إدراكًا فطريًّا عند الإنسان يُوجِب أن يُتركَ للفرد حدٌّ أدنى من أشياءَ يتملكها؟ وهكذا قل في شتى القيم من حيث ثباتها وتغيرها، فلا الذي يؤمن بوجوب ثباتها «كما هي الحال بالنسبة إلى الرؤية العربية» يريد بذلك الثبات أن يُؤخذ على إطلاقه كما نفعل مع مفاهيم الرياضة، ولا الذي لا يمانع في تغيير المبادئ الأخلاقية إذا تغيَّرت الظروف بحيث لم تعُد تلك المبادئ صالحةً لها، يريد بذلك أن تُمحى «القيم» محوًا، بل يريد أن تُفهم على أُسسٍ تزيد من مرونتها حتى تتلاءم مع الأوضاع الحضارية المستحدَثة.

ومثل هذا الثبات الذي تزيد فيه الدرجة أو تقل مع ظروف الواقع هو الذي نعنيه حين نجعلُه صورةً مثلى أمام العربي. وإننا لنضغط هنا على عبارة «صورة مثلى» لأن القارئ قد ينظُر إلى واقع الحياة العربية، فيرى حياة العربي — على وجه الإجمال — بعيدة بُعدًا شديدًا من ذلك المثل الأعلى. لكن ثقافات الشعوب إنما تُقاس بأهدافها، وليس بواقعها في مراحل ضعفها، كالرجل القوي تُصيبه علَّة فتُلزِمه الفراش حتى يُشفى، فلا تزول عنه صفة «القوة» تأسيسًا على فترة مرضه.

ولا نريد أن نترك هذه الخاصة الخلقية من خواص الرؤية العربية دون أن نُثبِت حقيقةً لغوية تلفِت النظر عند من يُمعن النظر في اللغة العربية؛ فعندئذٍ يجد في الأسماء الدالة على علاقاتٍ اجتماعية، بُعدًا خلقيًّا كامنًا في صميم معناها، مما يدل على عمق النظرة الخلقية عند العربي؛ فكلمة «صديق» تقيم في صلب حروفها صفة «الصدق» كأنما يُراد القول بأن «الصدق» شرطٌ أساسي للصداقة، وكلمة «جار» تحمل في صلب مبناها أن «يجير» الجار جاره إذا استجار، وإلا بطل معناها، وكلمة «صهر» تحمل في معناها صفة «الانصهار» فإذا لم يكن هناك قابليةٌ أن تَنصهِر الأسرتان عند الزواج — أعني أسرة الزوج وأسرة الزوجة — كان ذلك معناه امتناع التكافؤ، وكلمة «مرء» تقضي بحكم حروفها أن تكون «المروءة» صفة للإنسان، وكلمة «أمة» تشارك بحروفها كلمة «أم» مما يقضي أن تكون الروابط بين أبناء الأمة الواحدة هي نفسها روابط الرحم وهكذا وهكذا.

هذا الذي أسلفناه عن الوقفة الأخلاقية عند العربي، والتي هي مستوحاة في المقام الأول من روح «الصحراء» في لا نهائيتها البادية وفي ثباتها النسبي، إنما يُبيِّن للقارئ جانبًا واحدًا من جوانب «العروبة» كما ينبغي أن تعيها؛ فالعروبة في جوهرها «موقف» من الكون ومن الحياة، يتميز مما عداه من مواقفَ تقفها الثقافاتُ الأخرى. لسنا بذلك نريد أن نُفاضِل بين ثقافة، وثقافة، ولكنَّنا نُميِّز ثقافة عما عداها؛ فليست العروبة دالةً على عرقٍ معيَّن، بل هي اسم يُشار به إلى مركَّبٍ ثقافي معيَّن من شأنه أن يُهيِّئ لمن يتشرَّبه ويعيش تحت مظلَّته «موقفًا» يستلهمه عند ردود الفعل، كلما صادفه على طريق الحياة العملية حدَثٌ مثير. وننتقل إلى جانبٍ آخر من جوانب ذلك الموقف العربي، وهو «الذوق» الفني، وسنرى أن العربي قد استَوحَى من الصحراء قيمه الجمالية في دنيا الفن، على نحوِ ما استَوحَى قيمه الأخلاقية كما رأينا؛ فلا يزال «المفتاح» هو نفسه المفتاح، وأعني انطباع ساكن الصحراء باللانهائية وبالثبات النسبي، فكيف ترى أن يُصاغ «الذوق» الفني نتيجةً لهذا الانطباع؟ إن أول ما يقفز إلى الخاطر قفزًا جوابًا عن هذا السؤال هو أن يكون مدار الإبداع الفني «صورة مجردة» قبل أن تنصَبَّ العناية على تحليل الأفراد؛ ومن هنا جاء الأدب العربي القديم أبعدَ ما يكون الأدب عن فن الرواية أو فن المسرحية كما عرفهما الغرب، وعَرفناه نحن حديثًا عن الغرب، ولا عجب إن رفض العرب ترجمة الأدب اليوناني القديم بمسرحياته وملاحمه — عندما ترجموا كل ما عداه من فلسفةٍ وعلم. لقد كان المرحوم توفيق الحكيم في مقدمته المستفيضة التي قدَّم بها مسرحية «أوديب» قد طرح هذا السؤال: لماذا لم ينتج العربي أدب المسرح؟ ثم حاول الجواب وعرض عدة إجاباتٍ ممكنة، لكنه نقدَها جميعًا ليستقر هو على ما ظنه الجواب الصحيح؛ وهو أن العربي بدويٌّ يرتحل من منتجع للكلأ إلى منتجعٍ، فلا تمكِّنه حياته تلك من القرار في مدينة ولا مسرح إلا حيث الحياةُ مستقرة في مكان. وحدث لكاتب هذه السطور أن قرأ تلك المقدمة عند ظهورها ونشَر ردًّا عليها يذكُر منه الآن أن الاستقرار في مدن قد توافَر للعربي طوال العصر الإسلامي؛ في بغداد، ودمشق، والقاهرة وغيرها من العواصم الكبرى، فلماذا لم ينشأ المسرح عندما توافَرتْ له الظروف المستقرة؟ وأما التعليل الصحيح في ظن كاتب هذه السطور فهو أن العربي — عن مبدأ — يتعلق بالكلي المجرد أكثر جدًّا مما يتعلق ﺑ «الأفراد» والمسرح، «وكذلك الرواية» بضاعتها أفراد من الناس يتفاعلون فتظهر لكلٍّ منهم شخصيته المتفردة بخصائصها خلال ذلك التفاعل.

ولا شك أن معظم الطاقة الفنية عند العرب الأولين، قد انصبَّ على الشعر. إذن فلنمعن النظر إلى فن الشعر العربي لنلمَح أخصَّ خصائصِ الإبداع عند الفنان العربي، فأما من حيث الشكل فأوَّل ما يستوقف السمع — بالطبع — تكرارًا نمطيًّا لتفعيلاتٍ بينها مع تكرار قافيةٍ واحدة، فما الذي أوحى للعربي بهذه الصورة في إبداعه؟ أوحى بها إليه ما قد انطبع به من الواقع الكوني الذي يحيط به، وأعني طبيعة الصحراء في لا نهائيتها البادية، وفي ثباتها الظاهر. إن القصيدة العربية تعرف كيف تبدأ ولا تعرف كيف تنتهي، تمامًا كما يُدير الإنسان بصره في أرض الصحراء وفي سمائها؛ فليس هنالك الجبل الذي يصُد سَرحة البصر ولا الجدار الذي يحبسها. إن تلك السرحة تبدأ جَوَلانها من نقطةٍ معينة ولا يوقفها إلا ضرورات الشاعر نفسه، كأن يمل السير أو أن يضعُف دون المضي فيه، أو أن الزمن يعاجله، إلى القارئ الذي يُكرِّر قافية القصيدة بيتًا منها بعد بيتٍ عندما يصل إلى القافية الأخيرة في البيت الأخير، لا يُحس عندئذٍ بأن انتهاء رحلته قد فرضَتْها الضرورة، بل يُحس إحساسَ من وقف أثناء رحلته ليستريح ثم يستأنف الحركة إذا وجد ما يُسعِفه. ألست ترى في هذه الحقيقة الفنية في الشعر العربي — إذا كنتُ قد أصبتُ في تصويرها — انعكاسًا لطبيعة الصحراء عند من يُدير البصَر في فسيح آفاقها.

أتظن أن الشاعر العربي إذا وصف ناقته أو جواده، وإذا تغزَّل في عبلة أو في ليلى، كان يريد حقًّا أن يصف الكائن المفرد المعيَّن الذي يعنيه؟ لا، ليس هذا ما يظنه هذا الكاتب على الأقل، بل إن الشاعر العربي في كل حالاته تلك إنمَّا يصف ما يراه المثل الأعلى للجواد أو للناقة أو للمرأة؛ لأنه في عُمق أعماقه متعلقٌ بالمثال المجرد، لا بالمثل الجزئي مما يرى على الأرض؛ وذلك استلهامًا لديمومة الحقيقة الصحراوية التي تحيط به، فهو مؤمنٌ في حياته الفنية، كما هو مؤمن في حياته الدينية بأن «كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك» فلماذا يحصر فنه الشعري — وغير الشعري — في زيد كما يحيا أو في عمرو كما يعيش؟ إنه يتكئ على هذا الفرد أو ذاك، على هذا الطلل أو ذاك، على هذه الواقعة الجزئية أو تلك لينفُذ منها إلى ما هو أقربُ إلى المثال الأفلاطوني في الموضوع الذي يعالجه. تلك هي «العروبة» في خصائصها، والعربي هو من تجسَّدَت فيه تلك الخصائص.

٢

ختمنا حديثنا السابق بلمحةٍ سريعة عن الشعر العربي، وكيف تجيء نمطيةُ أوزانه وقوافيه انعكاسًا لروح الصحراء كما ينطبع بها ساكنوها، وذلك من حيث الشكل. وأما المحتوى الوجداني فهو كذلك يأتي وكأنه الصدى للَّانهائية والدوام، اللذَين يراهما ويُحسهما ساكن الصحراء في الحقيقة الكونية التي تحيط به، فالفلاة اليوم هي الفلاة بالأمس، وكثبان الرمال هي الكثبان، ونجوم السماء والشمس والقمر، هي النجوم والشمس والقمر، كل شيء مسطور أمام العين في وضوح؛ فقلما تغيم السماء لتحجُب الرؤية، وقلَّما يُشبع الهواء برطوبة تتغير بها ملامح الأشياء؛ ومن هنا كان تعلُّق الشاعر بالمثال لا بالمثل؛ فالكائن الجزئي المفرد، كهذا الجواد، وهذه الناقة، وهذه الحسناء، لا يقف الشاعر عند فرديتها وخصوصيتها، بل ينفذ منها إلى ما يكون عليه مثلها الأعلى كما يتصوره خياله؛ فالأفراد يجيئون ويذهبون، يُولَدون ويموتون، وأما المثال الكامن وراءها فثابتٌ دائمٌ لا يتحول ولا يزول، فقد أصاب من قال عن إيوان كسرى الذي وصفه البحتري في قصيدته السينية، قد بقي على الدهر من حيث هو شعرٌ في ديوان، لكنه سرعان ما زال من حيث هو قصر وإيوان. ربما قيل هذا عن كل شعر وكل فنٍّ، في المقارنة بالأشياء التي دار حولها ذلك الشعر وهذا الفن، لكنه في ظن هذا الكاتب، يتمثَّل في الشعر العربي أكثر مما يتمثل في سواه، وذلك للسبب الذي ذكرناه، وهو أن الشاعر العربي — عن مبدأٍ وفطرة — يتجه بخياله نحو «المثال» خلال «المثَل»، وتلك هي خصيصةٌ من خصائص العروبة؛ فهكذا تُوحي الصحراء لأبنائها، والصحراء هي مسرح العربي أينما كان، فيما تمتد به الرقعة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي.

ولم تقتصر هذه الخاصَّة العربية على الشعر، بل جاوزَتْه لتشمل ضروب الفن رسمًا وزخرفة. وانظر إلى الرسوم على السجاد، أو حيثما جاءت، تجد الفنان يكتفي مما يُصوِّره — طائرًا، أو غزالة أو شجرة — بالخطوط الهيكلية التي تُحدِّد الإطار، وقلما يُعنى بتفصيلة من تفصيلات الجسم، وذلك لأنه يحاول أن يستصفي من الشيء «فكرته» أو «روحه»؛ لأنها هي التي يكتب لها الدوام، فكأن الفنان العربي قد أراد أن يرسم «النوع» وليس فردًا من أفراده، و«النوع» ذو ثباتٍ ودوام، وأما أفراده فإلى زوال. ولنلحظ في هذه المناسبة، أن ذلك هو الفرق دائمًا بين دنيا الكائنات الجزئية كما تقع على حواسنا، وعالم «الأفكار» كما يرتسم في رءوس العلماء؛ فالعلماء يَحيَون مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، يبيعونها ويشترونها، ويأكلونها ويلبسونها، ويرونها بالأعين ويمسُّونها بالأيدي، لكنهم — دون جمهور الناس — يستخلصون من تلك الأشياء ما قد جسَّدَته من أفكار، ليجعلوا هذه الأفكار بعد ذلك موضوع اهتمامهم، يُخرجون منها القوانين العلمية التي بفضلها يمكن للإنسان بعد ذلك أن يرتدَّ إلى دنيا الأشياء فيُلجِمها ويُسخِّرها لخدمة أهدافه.

وشيء كهذا يحدث أيضًا في الإبداع الفني؛ فالفنان — مهما يكن وسيطه الفني صوتًا أو لونًا أو كلمة — هو أيضًا يعيش مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، لكنه — دون جمهور الناس — يستخلص من تلك الأشياء سِرَّها الذي هو جوهر حقيقتها، ثم يعود فيُجسِّد ذلك السر فيما يُبدِعه من ألوان الفن. وإنه لفي مقدور المدرِّب المتمرِّس، أن يسمع معزوفةً موسيقية، فيقول: هذه موسيقى عربية، أو أن يرى صورةً فنية فيقول: هذا فن عربي، أو أيًّا ما كان انتماؤه، وكذلك قل في سائر الفنون، لماذا؟ لأن الفنان الأصيل يتشرب حياة أُمته حتى لكأنَّها تجري في دمائه، ثم تُلهِمه الموهبة الفنية شكلًا ما، ليبُثَّ فيه ما كان قد تشرَّبه وتمثَّله. وهكذا يكون الفرق بين الحياة وهي «مُعاشة» والحياة وهي مُقامة في مبدعات الفن والأدب. ولكم عجب هذا الكاتب من رجال نضعُهم في حياتنا الثقافية في مكان الريادة، يخلِطون بين هذين الظرفَين؛ الحياة كما يعيشها الناس من جهة، والحياة كما يعرضها الإبداع الفني والأدب من جهةٍ أخرى. ويظهر هذا الخلط أكثر ما يظهر عندما يدور الحديث حول «الثقافة» ومعناها، وعندئذِ قد يُصادفك من يقول — وكأنه قد اكتشف قارةً جديدة — إن الثقافة هي مجموعُ ما يعيش به الناس من طعام، وثياب، ومسكن، وطريقةِ حكم وطريقةِ بناء الأُسرة، وعقيدةٍ دينية إلى آخر هذه المُكوِّنات التي تتجسَّد في حياة الناس العملية، أما الفنون والآداب والفكر فأمورٌ قد تهمُّ قلة قليلة، لكنها في عُزلةٍ عن الحقيقة المعاشة. والذي يفوت هؤلاء — هو كما ترى — الفرقُ بين الجانبَين؛ فهذه هي حياةٌ كما يعيشها الناس من جهة وبين هؤلاء الناس أصحابِ موهبة في فن أو أدب، ثم تلك هي — من جهةٍ ثانية — انعكاساتُ الحياة المعاشة في مبدعاتٍ لا تشبه في ظاهرها ما هو مُعاش بالفعل، لكنها تخليص لسرها وجوهر حقيقتها. ويعتقد هذا الكاتب أننا لو أدركنا في وضوحٍ ذلك الفرقَ بين الطرفَين لتقلَّصَت إلى حدٍّ كبيرٍ دعوى الدعاة إلى «ثقافة جماهيرية» إذ ماذا يكون معناها، اللهم إلا في دنيا الكلمة؟ افرض أن بين أيدينا مجموعة مما أبدعه كبار رجال الفن والأدب عندنا؛ قطعة موسيقية لعبد الوهاب، ورواية لنجيب محفوظ، ولوحات لصلاح طاهر … فقل لي بالله كيف أبسط هذه المبدعاتِ لتُصبح ثقافةً جماهيرية؟ إن كل ما يُطلب منا عندئذٍ هو أن نُبيِّن للجماهير كيف ترى حياتها التي تحياها مُكثفةً ومُبلورةً في تلك المعزوفة، أو الرواية أو اللوحة.

ولم يشذ الفنان العربي عن دستور أي فنان وكل فنان، فكان أن استخلص في فنه روح الحياة العربية، فإذا أردنا — إذن — أن نرى «العروبة» في جوهرها وصميمها، فلنُمعن الفكر في مبدعات الفن العربي، وسوف تمثل أمامنا عندئذٍ صفة تميز العربي في رؤيته للكون والحياة، فإذا كان العربي قد انطبع من محيطه الكوني بفكرة اللامتناهي والثابت والدائم، فماذا يكون الفن الذي يُوضِّح هذه الرؤية، إذا لم يكن هو الفن الذي يستخدم أسلوب «التجريد» إلى أقصى درجاته، وأقصى درجاته هي الأشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر وما إليها؟ وهكذا كان، فالزخارف الفنية في الفن العربي سواءٌ أكانت على جدران المساجد والمساكن، أم كانت نقوشًا على خزف أو خشب، أو نُحاس تُقام في معظمها على أسسٍ هندسية، فنُعيد هنا ما قلناه عن تصاوير الطيور والغزلان والنبات عند الفنان العربي، أنه قد استهدف «الفكرة» الكامنة في الشيء ولم يستهدف جسده المادي، أو هو بعبارةٍ أخرى قد بحث عن الثابت وراء المتغير وبحث عن الدائم الذي يُسقِط من حسابه ما يزول ويفنى. وتلك هي «العروبة»، وذلك هو موقفها من الحياة وأحداثها.

إن رؤية العربي لحقائق الوجود من حوله، تجنح به نحو التجريد الذي أشرنا إليه، تجريدًا يُزيل به القشور العارضة في سبيل الوصول إلى اللُّبِّ والصميم، وهو تجريدٌ قد يبلُغ به — كما رأينا — حدَّ التجريد الهندسي في إبداعه الفني؟ وإنَّ شيئًا يُوحي بتلك النزعة الهندسية، يستوقف أسماعنا في العبارة العربية البليغة؛ فها هنا يجد قارئ الأدب العربي نفسه وكأنهما هو إزاء أنغام من معزوفةٍ موسيقية أُحكم بناؤها حتى لينسى أنه أمام «كلمات» من اللغة جاءت لتحمل إليه مضمونًا ذا «معنًى». ولقد يُساء استخدام هذا الجانب المنغوم في تركيب العبارة العربية إساءةً تجعل الكاتب يرصُّ نغماتٍ تُطرِب السمع وتخلو من المعنى. لكننا نتحدَّث هنا عن البلاغة العربية على أيدي أربابها الذين يعرفون كيف يُرسِلون جواهر المعاني على أجنحة النغم. وما أكثر ما يختلط الأمر بين الحالتَين عند العاجزين فتجري أقلامهم بلفظٍ منغوم ثم لا معنى! وقد يحدُث الخلط عند آخرين على صورةٍ أخرى حين يخدعُهم وهمٌ بأنه إذا أراد الكاتب «معنًى» فلن يحمل له ذلك المعنى إلا لفظٌ منفر قبيح. بيد أن الفرق بين الحالتَين؛ حالة اللفظ المنغوم المثقل بالمعنى، وحالة اللفظ المنغوم الأجوف، هو كالفرق بين إنسانٍ قوي فتي، وإنسانٍ هزيل كسيح؛ فهما متساويان في ظاهر الأعضاء، وأما «الحياة» الكامنة في تلك الأعضاء فشتَّان ما بين صحة ومرض.

تلك ملاحظةٌ عابرة حتى لا نخلط في الظاهرة الواحدة بين قوة وضعف. ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث عنه، وهو أن المزاج الفني عند العربي يميل به إلى التجريد، وعلَّة ذلك أن الفكرة أو الصورة المجردة أبقى على الدهر من المفردات الجزئية العينية. والتجريد بدوره إذا ما بلغ حده الأقصى، أو ما يدنو به من حده الأقصى، كان في صورةٍ رياضيةٍ أو ما يشبهها. وإن هذا الكاتب ليزعُم بأن بلاغة العبارة العربية كثيرًا جدًّا ما تقتضي ضربًا من النظم الموسيقي، — سواءً أكان ذلك النظم المنغوم ظاهرًا أم مستترًا — وأذكر في هذا السياق يومًا بعيدًا بعيدًا كنتُ فيه مع صديقٍ نقرأ صفحةً من كتاب للدكتور طه حسين، «وقد نسيتُ ما هو»، فلفَت سمعَنا نغمٌ في العبارات المتتابعة كالموج الهادئ، فأعدنا القراءة وكأنما نطقَت شفاهنا في لحظةٍ واحدة فرحة، لنقول إنها أسطر سُبِكَت كل كلماتها في التفعيلات من عروض الشعر العربي. ولم يكن الكاتب — بالطبع — قد قصد عامدًا أن يُجري كلماته في تلك التفعيلات، ولكن القلم البليغ يسيل بسبائك اللفظ كما تسيل الأوتار بأنغامها.

وقد ترجَّح عند الأديب العربي أو الفنان العربي، تلك النزعة «الهندسية» حتى لتُجاوز حدودها فيطغى القالب على حشوه، كما هي الحال (في رأي هذا الكاتب) في أدب «المقامات» وكما هي الحال أيضًا في كتاب «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري. على أن «المقامات» والفصول والغايات فيها قوةٌ زادت عن حدِّها حتى أصبحَت كعضلات المصارعين أو حَمَلة الأثقال في عالم الرياضة البدنية. لكن تضخُّم النزعة الهندسية في الكتابة الأدبية قد يجيء على صورة المريض بالورَم أو بالبدانة المترهِّلة، كما قد حدث عند أصحاب النثر المسجوع في فترات الركاكة والضعف.

ونزوع العربي نحو التجريد في فكرة وأدبه وفنه، قد أدى به إلى ميلٍ شديد نحو تكثيف المعنى الكبير في أقصر عبارةٍ ممكنة. ومن هذا التكثيف نشأَت عنده الأقوال الحِكْمية التي يسهُل حفظُها ويكثُر دورانُها على الألسنة في أحاديث الناس العابرة. والشعر العربي مليءٌ بالأبيات التي تحمل الحِكْمة منظومةً، فتزدادُ سهولة حفظها وكثرة دورانها فضلًا عن جمال لفظها. وقد يُضاف هنا — إذا أردنا تعليل هذه الظاهرة — أقول قد يُضاف إلى نزعة التجريد الهندسي كثرة التجوال في حياة العربي قبل أن يستقرَّ في مدن، كأنما أراد أن يضع خبرته في أقراصٍ صغيرة ليسهُل حملها في ترحاله المتصل. ولقد قرأت لابن جني في كتابه «الخصائص» تعليقًا يلفِت النظر يقول فيه إن آيات القرآن الكريم إذا وجَّهَت الخطاب إلى العرب أوجزَت العبارة في لفظٍ قليل، وأما إذا وجَّهَت الخطاب إلى بني إسرائيل، فهي تُطيل. وإذا صحَّ هذا التعليق، كان مؤيدًا لما ذكرناه عن المزاج العربي في صياغته لفكره وأدبه وفنه.

اللغة هي نفوس أصحابها وقلوبهم، وعقولهم جميعًا، هي مرآة حياتهم في ظاهرها وفي باطنها معًا. إنه لولا اللغة لاندرج الإنسان مع الحيوان الأعجم في عالم البُكْم. وإذا لم تكن للإنسان لغته فماذا يكشف عن حقيقته حيًّا ناطقًا عاقلًا عالمًا شاعرًا؟ إنها هي حياة الفرد موصولًا بسائر الأفراد في يومه، وهي حياته موصولًا بأسلافه في تاريخٍ واحد، وهي حياته موصولًا بأبنائه وأبناء أبنائه إلى ما شاء الله للأمة أن يمتد بها تاريخ. إلا أن الكون ليُصبح كله كتلةً حين الصمت لولا كلمتان؛ كلمة الله جل وعلا، وكلمة الإنسان. إن الكلمة إذ تَشرُف وتَسمو تصنع القديس والعالم والشاعر والفيلسوف، وهي إذ تسفُل بفُحشها تصنع الفُجَّار. لقد بدأَت الإنسانية بآدم عليه السلام، وبدأ آدم بأسماء الكائنات علَّمه إيَّاها ربُّه ليملك بها زمام مسمياتها؛ فالعلم بالاسم هو في الأساس علم بطبيعة مسمَّاه. وإذا عرف الإنسان طبيعة شيء فقد عَرفَ كيف يتحكَّم فيه ويُسخِّره؛ ومن هنا كانت للغة البشرية قُوَّتُها وسُلطانُها.

والحديث عن اللغة وصلتها بأصحابها روحًا وعقلًا وقلبًا ووجودًا وعدمًا، حديثٌ يطول، فماذا — إذن — يمكن أن يُخرج الناطق بالعربية عن عروبته؟ إن اللغة العربية — كأية لغةٍ أخرى ولا سيما اللغات التي صَحِبَتها حضارات — ليست عند من يَحْيَونها علمًا وفكرًا وأدبًا، مجرد أصواتٍ تلغو بها الألسنة والشفاه نسمعها كما نسمع خَشْخشة الحصى أو كما نسمع زَقْزقة العصافير، بل هي أنفسٌ وقلوب وعقول تحوَّلَت باللغة من باطن إلى ظاهر، فإذا قرأتَ علمًا فأنت إنما تُطالع «عقلًا» توقَّد في دماغ صاحبه، وقد سلك نفسه في لغة لتراه. وإذا قرأتَ شعرًا، فإنما هذا الذي تقرؤه هو «قلب» الشاعر وقد وضع نبضاته في كلمات لتسمعها. وماذا تكون «العروبة» إذا لم تكن ضروبًا من فكرٍ ومن وجدانٍ تجلَّت بعد خفائها في صدور أصحابها، تجلَّت في رموزٍ لغوية خُلِقَت لتَحمِلها ولتَعرِضها على الأبصار والأسماع؟ وفي اللغة العربية — عند تحليلها — صفاتٌ تفرَّعَت عن جذعٍ واحد، وهي ما تُوحي به الصحراء لساكنيها، ليس فقط في اشتقاق أُسرةٍ كبيرة من المفردات تشتق كلها من أصلٍ ثلاثي واحد. تمامًا كما تتكوَّن في المجتمع الصحراوي عشائرُ وقبائلُ تلتقي كلها عند جَدٍّ واحد، بل إن الأثَر الصحراوي في اللغة العربية لَيَظهَر كذلك فيما قد أسلفنا ذِكْره من نزوعٍ نحو هندسةٍ في بناء الجملة، عندما يرتفع الكلام إلى ذروة الفن الأدبي يشِفُّ لنا آخر الأمر عن إيقاعٍ يتضمن شيئًا يُشبِه الأشكال الهندسية، أو المعادلات الرياضية، شأن العربي في نزوعه نحو «التجريد» استلهامًا للامتناهي الصحراوي الذي يُحيط به ما امتد به البصر إلى أبعد الآفاق. أفيجوزُ بعد هذا لكاتبٍ أو شاعرٍ أن يتنصَّل من أصولٍ صحراوية هي ماثلةٌ في كل ما قد أجرى به القلم؟

إن كاتب هذه الكلمات ليشعُر بما يشعُر به كل مصريٍّ واعٍ بمصريته، وعيه في الوقت نفسه بعروبته؛ فهو لا يريد لمصريته أن تُمحى بعروبته، كما لا يريد لعروبته أن تتنافى مع مصريته. على أنه في هذا الذي يريده لا يرضى لنفسه أن تُؤخذ الأحكام قسرًا واعتباطًا ويلتزم أمام عقله بأن يبحث عن الأُسس القوية التي يستند إليها حين يزعم أن عروبة المصري ليست شيئًا طارئًا جاء إليه مع الفتح العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، اللهم إلا اسم العروبة، وأما الجوهر فهو هو الجوهر الذي بُنِيَت عليه ثقافات الرقعة الجغرافية التي هي الوطن العربي الكبير حيث تمتد الصحراء — بكل ما فيها من أقاليم اخضَرَّت بزرعها — فأوحت طبيعة ذلك الامتداد الصحراوي بما أوحت به من رؤيةٍ عامة، هي التي أنتجت لغاتِ المنطقة كلها بأصولٍ مشتركة أو متشابهة، كما أنتجَت نمطًا عامًّا مشتركًا أو متشابهًا في البنية الاجتماعية وفي الفكر وفي الأدب وفي الفن جميعًا. وإن هذا الكاتب لَيَودُّ — قبل أن يستطرد به الحديث — أن يُذكِّر القارئ بحقيقةٍ عن نفسه ذكرها في حديثه السابق، وهي أنه لبث عَقدَين من الزمن — أو قل ما يقرب من ثلاثة عقود — متأثرًا بما كان قد قرأه شابًّا لأعلام الفكر في مصر، بأن المصري إذا أراد عودةً إلى أصوله الثقافية وجب عليه أن يرتدَّ إلى العصر الفرعوني — وليس إلى الأصل العربي، وكأن الفكرتَين متناقضتان — لكنه أعني هذا الكاتب يحمد الله حمدًا كثيرًا أن أشرقَت عليه الحقيقة فيما بعدُ ناصعة الوضوح، وهي ألَّا تناقُض من حيث الأساس، بين الوقفة الثقافية التي وقفها المصري القديم، والوقفة التي وقفَها بعد ذلك في أي عصر من عصور تاريخه، مع تحفُّظٍ ضروريٍّ وهو أن ثبات الإطار الواحد المعيَّن، لا ينفي أن ينخرط في هذا الإطار الثابت مضموناتٌ حضارية مختلفة.

إنه لا جدال في أن لكل فردٍ من الناس هُويته التي يجب أن يتحقَّق لها شرطان ليظل ذلك الفرد هو ما هو على مدى سنوات عمره، مهما تغيَّرت أحداث حياته وتطوُّراتها، وإذا لم يكن الأمر كذلك — كما هي الحال مع بعض الأمراض النفسية — وجب أن يُعرَض الأمر على طبيبٍ مختص. وما يُقال عن الفرد الواحد من الناس، يُقال مثلُه على الأمم والشعوب؛ فالأمة المعيَّنة — أو الشعب المعيَّن — لم يكن ليُصبح ذا تاريخٍ إلا إذا ظل الشعب على ثباتٍ في هويته — أو ظلت الأمة المعيَّنة على ذلك الثبات — برغم تكاثُر الأحداث وتقلُّبات العصور. وأما الشرطان اللذان يجب أن يتوافرا للهوية لكي تثبُت على وحدانيتها فهما: أولًا أن تتألَّف من كثرة عناصرها وحدةٌ تجعل منها كيانًا عضويًّا موحدًا في كل لحظةٍ أو في كل فترة من تاريخها، بمعنى أن يكون لها هدفٌ موحَّد تتجه إليه بمختلف أعضائها ومختلف مناشطها؛ فالهدف الواحد من شأنه أن يستقطب كثرة الأفراد وكثرة العناصر وكثرة المواهب وكثرة الأعمال بحيث يجعل تلك الكثرة العددية نسيجًا متصلًا. وأما الشرط الثاني فهو استمرارية تلك الوحدة اللحظية على طول الزمن. وما أكثر ما كتَبه الفلاسفة في هذَين الشرطَين؛ شرط الوحدة اللحظية وشرط الاستمرارية والصمود، عندما تناولوا مشكلة الهوية! ولعلها من أعقد المشكلات التي تستعصي على التعريف والتحديد. وإني لأستغفر الله إن كنتُ أُجاوز الحدود المشروعة حين أُشير هنا إلى الآيتَين الكريمتَين الخاصتَين بالذات الإلهية وهما قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ففيهما تتوافَر الصفتان اللازمتان لوحدانية الذات؛ فالأحدية تعني اتساق الصفات الإلهية المُتمثِّل بعضها في أسماء الله الحسنى. ولقد كان مما تناوله المفكرون الإسلاميون منذ القرن الثاني الهجري فصاعدًا، التوفيق بين كثرة الصفات الإلهية ووحدانية الذات. وأقلُّ ما يُقال في هذا السبيل هو أن يكون بين مجموعة الصفات — على اختلافها — تآلفٌ يُوحِّدها في ذاتٍ واحدة. على أن يُضاف إلى ذلك التوحُّد «صمود» يجعله توحُّدًا من الأزل إلى الأبد، وذلك كله إنما يتحقق بالنسبة إلى الذات الإلهية على صورةٍ مطلقة لا استثناء فيها، لكنه كذلك مطلوب له أن يتحقَّق على صورةٍ نسبية ومحدودة في الذات الإنسانية، فردًا كان أم كان شعبًا أو جماعة يُراد لها أن تكون مُوحَّدة الكيان.

وهكذا ننظر إلى الشعب المصري في إطاره التاريخي، فنراه من أكثر شعوب الأرض تحقيقًا للشرطَين اللذين يكفُلان للهوية قيامها؛ فقد كان موحَّد الروح في كل فترةٍ من فترات تاريخه، ثم كان على صمود في وَحدَته تلك عَبْر العصور المتعاقبة. ونقول ذلك استنادًا إلى آثاره التي تدل على تعاون؛ فأعماله الخالدة من الصنف الذي لا تُنجِزه يدٌ واحدة. ومع ذلك ففي أمثال هذه التعميمات الواسعة يكفينا رجحانُ الصوابِ إذا امتنَع اليقين، وأرجحُ الظن أنه عندما جاء الإسلام إلى مصر فأسلَمَت، وجاءت العربية فتعرَّب لسانها، لم يكن انتقالها من القديم إلى الجديد صدمةً نفسية ثقافية، بقَدْر ما كان انتقالًا سهلًا ميسرًا؛ إذ جاءت العقيدة الدينية إلى شعبٍ متدينٍ تدينًا مُبَرأً من الوثنية منذ آلاف السنين، وكانت اللغة الوافدة من الأُسرة اللغوية نفسها التي تسود هذه المنطقة الجغرافية جميعًا، مع اختلافاتٍ نوعية بين لغة منها ولغة؛ فاللغة المصرية القديمة (ولا أعني الكتابة — الهيروغليفية) قائمةٌ على الأُسس التي تقوم عليها اللغات المجاورة (كما قرأتُ في نتائج الأبحاث العلمية التي اضطَلَع بها نفرٌ من علماء «المصريات الفرعونية»). إذن فمن الناحية الدينية كان المصري منذ قديمٍ مؤمنًا باليوم الآخر وما فيه من حساب، وكانت الأسس الأخلاقية التي يحيا حياته على هُداها والتي يُحاسَب يوم القيامة على ميزانها، هي الأُسس التي تتعلَّق بها المثُل العليا. وأما من الناحية اللغوية، التي لها أبلغ الأثر في صياغة العقل والوجدان معًا فالتشابه بين القديم والحديث أشدُّ من أن يُغَض عنه النظر، فإذا قلنا إن «عروبة» المصري إنما أخذَت اسمها هذا منذ كانت فيها «عربية» فلا بد أن نُضيف إلى هذا القول استدراكًا يؤكد أن «مضمون» العروبة الثقافي كان مصريًّا منذ عَرفَ التاريخ مصر؛ فحضارتها كانت في المقام الأول حضارةَ دينٍ وأخلاق وفن، تدور جميعًا حول فكرة الحياة الآخرة.

على أن ثبات الهوية لحاملها — فردًا كان أم شعبًا — وهو الثبات الذي نزعُمه للمصري، قبل الفتح العربي وبعده، في امتدادٍ واحد متصل، أقول إن ثبات الهوية هذا لا ينفي أن يكون ثباتًا في ركائز البناء. وأما ما يُقام على هذه الركائز من مضمونٍ حضاري، فلا بد له أن يتغير مع تغيُّر الحضارات، وإلا فلو جمد المضمون مع الركائز على صورةٍ واحدة فلن يكون بمنجاةٍ من فَناء كالفناء الذي مُحيت به فصائل الديناصور. وقد كان لهذا الحيوان القديم من الضخامة ما يُنافِس به ضخامة الهرم الأكبر زال بسبب تلك الضخامة نفسها، التي لم تعرف كيف تصطنع خفَّة الحركة عندما جاء عصرٌ جديد يقتضي الحركة الخفيفة السريعة، فذَبُل المسكين في مَربضه وذَوَى وأصبح في ذمة التاريخ، تاريخ الحيوان.

٣

أراد الله لهذه الرقعة المباركة من الأرض، التي أصبحَت في عصرنا الراهن يُشار إليها باسم «الشرق الأوسط»، أن تكون مَهبِط الوحي الديني لكلِّ ما عَرفَه الإنسانُ من دياناتٍ ينزل وحيُها من السماء على نبي أو رسول، ولا بد أن يكون لذلك معناه ومغزاه. وربما كان ذلك كذلك لأنه لَبِثَ حينًا من الدهر معمورًا وحده بحضاراتٍ أو ما يشبه البدايات الأولى لقيام الحضارات، أو ربما كان ذلك لأنه — كما أسلفنا القول في أحاديثنا السابقة — رقعةٌ من الأرض نشأَت فيها وديانٌ خصبة اخضَرَّت بزرعها وعُمرَت بأهلها في وسطٍ صحراوي فسيح الأرجاء، يوحي لسكانه بفكرة اللامتناهي الثابت الدائم، مما هيَّأ هؤلاء لتقبُّل الوحي الديني من إلهٍ واحد أحد صمد لا تحدُّه حدود. وأيًّا ما كان التعليل، فهذه حقيقةٌ تاريخية نقبلُها ونقيم عليها النتائج، وهي أن أبناء هذه الأرض المباركة «تديَّنوا» بدينٍ منذ فجر التاريخ، لم يكن عن وحيٍ إلى نبي أو رسول حينًا، وكان وحيًا إلى نبي أو رسول حينًا آخر، لكنه كان في كلتا الحالتَين يُقيم بُنْيانه على أُسسٍ من «الأخلاق» لينضبط بها سلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا، تمهيدًا لمحاسبته يومَ الحسابِ في الحياة الآخرة.

فلئن كان عصر الناس هذا قد جعل «العلم» أساسًا للبناء الحضاري، ثم تأتي بعده سائرُ فروعِ الحياة الثقافية من دينٍ وأدب وفن، وكأنما أتت تلك الفروع كالتوابع لتخدم العلم وتنتسب إليه، فإن الحضارات السابقة، وفي مقدِّمتها ما ظهر منها في إقليمنا — إقليم الشرق الأوسط — قد جعلَت «الدين» (وإذا قلنا «الدين» فقد قلنا «قواعد الأخلاق») أساسًا للبناء الحضاري، ويأتي «العلم» بعد ذلك ليُؤدِّي دوره في ذلك البناء، فلما جاء الإسلام، آخر الديانات التي نزلَت على نبي ورسول، جعل العلم جزءًا من الدين، ولم يعُد في الأمر بينهما تابعًا ومتبوعًا؛ فجزءٌ من دين الإسلام لا يتجزأ، أن يكون المؤمن ذا علمٍ بما حوله من ظواهر الكون، ما أسعفَتْه في ذلك قُدراته. ومثل هذا العلم الذي يستهدف عبادة الله سبحانه وتعالى بمعرفة خلقه معرفةً تُمكِّن صاحبها من الإلمام — بقَدْر المستطاع — بمعجزات هذا الخلق. وانظر إلى آيات القرآن الكريم عن «القراءة» كيف تَتابَع فيها نوعان من «القراءة» التي أصبحَت فرضًا مفروضًا على المسلم وَفْق قدرته في ذلك؛ فأُولى القراءتَين قراءة «المخلوق» كما خلقَه خالقه سبحانه وتعالى، وليبدأ الإنسان بدراسة نفسه مخلوقًا من مخلوقات الله، ليرى معجزة الخلق متمثلًا في الإنسان يُخلَق من علق، فيصبح هو ذلك الإنسان العالم العامل العابد، الكاتب الفنان الصانع الزارع، منشئ الحضارات التي تعمُر كوكب الأرض. وأما ثانية القراءتَين فهي أيضًا عن الإنسان، لكنها هذه المرة متجهة إلى موروث فيما كتب الأولون، يُضاف إليه ما أنتجه أبناء الحاضر، ليتلقى أبناء الغد عن ماضيهم كله ما يتلقَّونه ليُضيفوا بدورهم ما يُضيفونه من «علم» بالوجود؛ تقول الآيات الكريمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (هذه هي أولى القراءتَين) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (وهذه هي القراءة الثانية)، وكلتا القراءتَين عمليةٌ عقلية علمية؛ فعلمٌ بخلق الله للإنسان أولًا، وعلمٌ بما خطَّه قلم الإنسان ثانيًا. لكنهما إلى جانب كونهما «علمًا» يقتضي من صاحبه إعمال العقل فهما في الوقت نفسه «دين» يُوجِب على المتدين به واجبًا مفروضًا. ونكتفي بهذا المثل مما يمكن استخراجه من الكتاب الكريم، أدلة نتبيَّن منها طبيعة «الرؤية» الإسلامية لحياة الإنسان، مما يوضح لنا جانبًا من أهم الجوانب التي يتألَّف منه حقيقة «العروبة» وجوهرها.

لقد كان «العربي» (وأعني ساكن هذه الرقعة الفسيحة من الأرض الصحراوية الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، بما يتناثر فيها من أرض خضراء بزرعها، قد تكبَر حتى تكون وديانًا لأنهار جاءتها من خارج حدودها، وقد تصغُر حتى تكون واحةً صغيرة) أقول إن أهل هذا الامتداد الجغرافي الواحد، قد أظهروا خلال تاريخهم الثقافي الطويل، قدرةً لا تُقاس إليهم فيها شعوبٌ أخرى كثيرة، على دمج الدين والعلم في موقفٍ واحد وظَهر ذلك بصفةٍ خاصة في ظل الإسلام؛ لأنه دين نصَّ نصوصًا مباشرة على وجوب إعمال المسلم لعقله، في تدبُّر خلق الله من حوله. وقد يجدُر بنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نُشير إلى حقيقةٍ ثقافية شهدها التاريخ، وكانت لها آثارُها في مجرى الأحداث، وهي ذلك التبايُن الحاد في وجهة النظر العامة بين اليونان القديمة وجارتها فارس (وهي اليوم «إيران») مما أدَّى إلى حروبٍ بينهما، ومدار ذلك التبايُن هو غلبةُ التفكير العقلي ووضوح أحكامه في اليونان، وغلبةُ الرؤية الصوفية المغلَّفة بضباب الغموض على الفُرس. وأرجح الظن أنه عندما خرج الإسكندر الأكبر بجيشه من اليونان، مستهدفًا أن يجمع العالمَ المعروفَ له تحت لواءٍ ثقافيٍّ واحد، كان المقصود بذلك أساسًا هو أن يُطوِّع جارته فارس للرؤية «العقلية». وربما كان التقسيم الجزافي الغامض، الذي يُقسَّم به العالم إلى «شرق» و«غرب» بحيث يتضمَّن هذا التقسيم أن تكون كلمة «شرق» هنا دالةً على ثقافةٍ تغلب عليها العاطفة الذاتية، وأن تكون كلمة «غرب» دالة على ثقافةٍ من نوعٍ آخر إذ تغلبُ عليها دقَّة التفكير العقلي وموضوعيته ووضوحه، أقول إنه ربما كان هذا التقسيم راجعًا في الأصل إلى ما كان بين يونان وفارس من تبايُنٍ ثقافي أدَّى إلى ما أدَّى إليه من خلافٍ بلَغ حد القتال، ثم جاء «الغرب» الحديث والمعاصر ليظلَّ على ذلك الرأي في تصنيف الشعوب وثقافتها، مع تفرقته بين ما هو «أقصى» في بلدان الشرق وما هو «أوسط» و«أدنى»، متجاهلًا الموقفَ العربي وطبيعتَه التي جاءت لتدمج الطرفَين في صيغةٍ واحدة، ولكن لماذا نعجَب من أهل «الغرب» في تمسُّكهم بهذا التقسيم الثقافي، إذا كان العرب أنفسهم يتبنَّون هذا التقسيم ويتحمَّسون له، وعلى أساسه يقبلون فكرة ويرفُضون أخرى، وبذلك تضيع منهم حقائق الأمور، بما فيها حقيقة أنفسهم؟

وحقيقة العربي في موقفه، كما يشهد بذلك تاريخه، هو أنه شرق وغرب معًا، فلا هو إلى عاطفةٍ صرف، ولا هو إلى عقلٍ صرف. ولنا أن نتعقَّب ما أنتجه أعلامنا الأقدمون لنتبيَّن في وضوحٍ أن النظرة الفعلية، وما يتبعها من «علم» في شتى الميادين كانت هي الغالبة، لكنها كانت «مُبطَّنةً» بالوجدان (إذا صحَ هذا التعبير) ففضلًا عن نبوغ أفرادٍ منهم في مجال العلم وحده، ونبوغ أفرادٍ آخرين في مجال التصوُّف وحده، فإن اندماج الجانبَين في ناتجٍ واحد أمرٌ مألوفٌ بينهم، فإذا كانت اليونان القديمة قد تميَّزت بالتفكير العقلي الصرف متمثلًا في علومهم وفلسفتهم، فقد تَرجَم العرب عن اليونان معظم تلك العلوم والفلسفة، مما يدُل على قدرة العربي على تمثُّل المحصول العقلي وهو في أعلى ذروته. ولا أظن أن شيئًا يُذكَر من تلك العلوم والفلسفة قد ترجمَتْه الهند أو الصين رغم ما كانتا عليه من حضارة، مما يدُل على قابلية العربي للنظر العقلي المُجرَّد. وفي الوقت نفسه قام العرب الأولون بنقل التصوُّف عن أعلامه من فرس وهنود، مما يُبيِّن أن العربي في طبيعته استعدادٌ لمثل هذه الوقفة. على أن ما يهمُّنا هنا في المقام الأول، ليس هو أن تقوى الطبيعة العربية على تقبُّل هذا الجانب العقلي وحده متمثلًا في أفراد، وعلى تقبُّل ذلك الجانب الصوفي وحده متمثلًا في أفرادٍ آخرين، بل الذي يهمنا في سياق حديثنا هذا هو أن نرى الجانبَين معًا مجتمعَين في كل عربي، بدرجاتٍ تتفاوت مقاديرها، وتلك هي إحدى السمات الهامة، التي تتميز بها «العروبة» من حيث هي «موقفٌ» ثقافي فريد، لا هو «شرق» ولا هو «غرب» ولكنها عروبة العربي.

هكذا جاءت للعربي، أو إن شئتَ فقل جاءت للشرق أوسطي، قاعدتُه الأولى التي ارتكَز عليها لينطلق في أجوائه الثقافية من أرضه وسمائه؛ فأرضه منبسطٌ صحراوي لا تحدُّه حدود البصر، اللهم إلا وديانًا شقَّتْها أنهارٌ نبعت من مصادر خارج الحدود، وأما سماؤه فصافية معظم الزمن، فجال فيها النظر ليرى عالمًا آخر لا تُحيط بحدوده عين. مع هذه اللامتناهيات تحت قَدمَيه وفوق رأسه، نزلَت دياناتٌ وحيًا من الله سبحانه وتعالى على أنبياء ورسل تعاقَبوا دهرًا بعد دهر مدى قرونٍ طِوال، تُنادي الإنسان أن آمن بإلهٍ واحدٍ أحدٍ خلَق السموات والأرض وما بينهما، فتكَوَّنَت عند ساكن هذه الرقعة المباركة من الأرض، خبرة وعقيدة؛ خبرةٌ مما يرى، وعقيدةٌ مما أُوحي إلى الأنبياء والرسل، ومؤداهما معًا هو أن يضع بين يدَيه تلك «المبادئ» الكبرى، التي هي خبرةٌ نفسية وديانةٌ روحية في آنٍ معًا، ومن تلك المبادئ المطلَقة له أن يشتَقَّ ما استطاع أن يستنبطه لنفسه من نتائج وقوانين، تكون هي قواعدَ سلوكية من جانبها الأخلاقي، كما تكون هي علومَه العقلية التي يستضيء بها طريقه إلى معرفة ظواهر الكون معرفةً صحيحة.

وبرع العربي في هذا الموقف الاستنباطي، الذي ينتزع النتائج من مبادئها، لكنه على مر الزمن، حفظ شيئًا ونسي شيئًا، وكان الذي حفظه جيدًا هو أن يُجيد قراءة ما خطَّه قلم، ليستخرج من كلماته وعباراته ما يتولَّد عنها مما كان كائنًا في جوفها، وأما الذي نسيه — على الأعم الأغلب — فهو قراءة «الأشياء» قراءةً مباشرة. و«الأشياء»، أو الظواهر، هي خلقُ الله عز وجل، أَمَره الدين أن يقرأها ليستخرج سرَّها المكنون ما وَسِعَه ذلك. ومن الجانب الأول الذي حَفِظه العربي وبرع فيه تكوَّنَت معارفه وعلومه في معظم الحالات، إلا جانبًا صغيرًا قُرئَت فيه «الأشياء» فكان أن ظهر للعرب علماء الفلك، والكيمياء، والضوء، والطب. وأما الجزء الأكبر من علوم الطبيعة فقد تولَّاها الغرب وحده بعد نهضته من عصوره الوسطى، وأخذ العربي ينقلُها عنه إلى يومنا هذا. وإننا إذ نذكُر هذا، فإنما نذكُره لنتذكَّر به أن هدفنا ليس هو الإشادة العمياء بالعربي وموقفه، بل هو مجرد الوصف لما هو واقع، لنؤيد صحيحه، ونُصحِّح أوجه النقص فيه.

وما دمنا قد ذكرنا «الواقع» وحقيقته، فها هنا سؤال يطرح نفسه عن نصيب هذا الواقع والاهتمام به من موقف العربي. وإنه لسؤالٌ له خطورتُه ويتطلَّب الروِيَّة في الجواب، وذلك لأن نُضْج العقل، الذي نُطلِق عليه عادةً في حياتنا العملية اسم «سِن الرشد» وهي السن التي إذا بلغها شاب، أصبحَت له حقوق في المجتمع الذي يعيش فيه، وأصبحَت عليه واجبات، فتُرفع عنه الوصاية، ويكون حر الإرادة في تصريف شئونه، ويكتسب حق الانتخاب، ومن جهةٍ أخرى يَحقُّ عليه التجنيد والدفاع عن وطنه وهكذا. كل هذه الحقوق والواجبات تنشأ عند سن «الرشد» على افتراضٍ مضمر، هو أن الإنسان عند تلك السن يكون قد خرج من مرحلة المراهَقة الحالمة، ودخل مرحلة النضج العقلي، الذي يتميز أول ما يتميز، بانضباط العلاقة بين الإنسان والواقع، فيرى الحقائق الواقعة كما هي واقعة، لا يتوهم فيها ما ليس فيها، ولا يغضُّ النظر عن جانبٍ من جوانبها، ليستطيع بعد ذلك أن يقبلَها عن علم بها، أو أن يُعدِّلها على أساس علمه بها.

لكن أفراد الناس، وكذلك الشعوب، يتفاوتون في القدرة على إدراك الواقع على حقيقته؛ وبالتالي فهم يتفاوتون في القدرة على تغييره إذا وجب عليه أن يتغير. وفي هذا السياق يأتي سؤالنا: ما نصيب «الواقع» ودقة إدراكه من «الرؤية» العربية التي منها تتألَّف «العروبة» ومعناها؟

قد يتساءل القارئ همسًا لنفسه: وهل شَهِدَت الدنيا إنسانًا، بل هل شَهِدَت كائنًا حيًّا على إطلاق من نبات أو حيوان، فضلًا عن الإنسان، قد تجاهل «الواقع» الذي يحتويه، فمن هذا الواقع يأكل الكائن الحي طعامه، ويشرب ماءه، ويُعِد مأواه الذي يعتصم به، وسائر شئون حياته صغيرها وكبيرها؟ فمن أين يجيء السؤال — إذن — عن علاقة العربي بواقعه الذي يعيش فيه؟ وهنا يكون المتسائل قد فاته إدراك فارقٍ هام بين فوارق عديدة تميز الإنسان دون سائر الأحياء، وهو فارق «الخيال» الذي قد يعلو في مرتبته فيصبح وسيلة إبداعٍ للعالم والأديب والفنان؛ إذ هو عندئذٍ خيال يضم الأجزاء المتفرقة لتُصبح بناءً واحدًا؛ نظريةً علمية، أو قصيدة من الشعر، أو معزوفةً موسيقية، وهكذا، ولكنه كذلك قد يهبط في مرتبته ليُصبح أخلاطًا من تهاويم لا تبني شيئًا؛ وبالتالي تكون أوهامًا وهلوسة لا تعني شيئًا، إلا أن تُضل صاحبها عن سواء سبيله؛ لأنها تصرفه عن واقع الأشياء فلا يراها كما هي واقعة. وإن الأفراد ليتفاوتون، كما تتفاوت الشعوب بوجهٍ عام، في النشأة والتربية والاستعداد الفطري، تفاوتًا يؤدِّي بهم إلى تفاوتٍ في القدرة على التعامل مع وقائع الأشياء على حقائقها، حتى لقد رأى عالم النفس «وليم جيمس» أن أفراد الناس يمكن قسمتهم قسمَين من حيث الرؤية العامة لدنياهم، والتصرف في حياتهم العملية على أساس هذه الرؤية، ويُطلِق على أحد القسمَين عبارة «أصحاب الأدمغة الصلبة»، كما يُطلِق على القسم الآخر عبارة «أصحاب الأدمغة اللينة»، وهو يُدرِج تحت القسم الأول رجال العلوم الرياضية والطبيعية، ورجال الأعمال على اختلافهم، وقادة الجيوش وهكذا، وكلهم يلتزم حدود الواقع أمام أبصارهم وتحت أيديهم، حتى وهم يحاولون تغييره ليصبح واقعًا آخر؛ إذ كيف تُغيِّر شيئًا إذا كنتَ ساهيًا عن حقيقته الراهنة؟ وأما تحت القسم الثاني فهو يُدرِج المتصوفة، والشعراء، ورجال الأدب والفن بصفةٍ عامة، لأنهم بحكم مزاجهم المجبول في فطرتهم، يهربون من خُشونة الواقع وقَسوته وغِلظته، ويقيمون بما يبدعونه واقعًا جديدًا، ينتزعونه من خيالهم انتزاعًا ليعيشوا فيه.

فليس الأمر — إذن — من قبيل اللغو أن نسأل عن العربي ما موقفه من «الواقع»؟ وليس من شك في أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تهدينا إلى التصوُّر الصحيح لما أسميناه ﺑ «العروبة». على أن الرأي الصحيح في هذا — فيما يبدو لهذا الكاتب — ليس قريب المنال، مما يتطلب منَّا شيئًا من الروية والتدبُّر؛ فالعربي — من جهة — «شاعر» في المقام الأول، ولكنه — من جهةٍ أخرى — مُضطرٌّ بحكم بيئته الصحراوية المتجانسة تجانُسًا شديدًا، أن يُدقِّق النظر ليقع بصره على ما يُميِّز جزءًا من جزء، وإلا فالأرجح أن يضل الطريق إذا ما انتقل من مكانٍ إلى مكان. إنه يلحظ معالم الأرض، كما يلحظ مواقع النجوم، ويُركِّز انتباهه فيما يتميز به الحيوان، والطير، واتجاه الريح، وغير ذلك من مُكوِّنات بيئته. ولكَ في هذا الصدد أن تُراجع ذاكرتَك فيما تحفظه من شعر الأقدمين، لترى كم تَرِد في سياقه لقطاتٌ حسيةٌ دقيقة التصوير لما يراه العربي وما يسمعه.

ومع هذا كله فالحقيقة الكبرى في طبيعة العربي هو أنه — كما قلنا — «شاعر» في المقام الأول. لقد عرض الجاحظ في الصفحات الأولى من المجلد الأول من موسوعته عن «الحيوان»، مقارنةً سريعة بين أربعة شعوبٍ من ذوي الثقافات، ليُحدِّد الصفة الغالبة على كلٍّ منها، وهي ثقافات الهند، وفارس، واليونان، والعرب. وجاءت هذه المقارنة بمناسبةِ تعليقه الجيد على ما كان قائمًا عندئذٍ في «دار الحكمة» بمدينة بغداد، من ترجمة عن اليونانية علومًا وفلسفةً إلى اللغة العربية. وهنا قال ما معناه إنه إذا كان اليونان قد تميَّزوا ﺑ «الكتاب» (أي بالمؤلفات في العلم) فالعرب قد تميَّزوا بالشعر، ولهذا فقد يسهُل على العربي أن ينقل عن اليوناني فلسفتَه وعلمَه، وأما اليوناني، أو غير اليوناني، فمحال عليه أن يُترجِم الشعر العربي إلى لغته، وبذلك يستطيع العربي أن يضمَّ إلى حصيلته فكر الآخرين، وأما هؤلاء الأخرون فلن يُتاح لهم قَطُّ أن يعرفوا من هو العربي؛ لأن جوهر العربي شعره، والشعر مكتوبٌ عليه ألا يُجاوز حدود وطنه.

وإذا كان ذلك كذلك، إذن فقد انفتح أمامنا طريق الإجابة عن السؤال الذي طرحناه لنعلم شيئًا عن العلاقة بين العربي و«الواقع»، فما علينا سوى أن نسأل: ماذا تؤدِّي إليه طبيعة الشعر في هذا الصدد؟ إن الشعر ليفقد جوهره إذا غابت عنه قوة الخيال، والخيال المقصود هنا هو ذلك النوع الذي يعلو بصاحبه إلى درجة يستطيع عندها أن يؤلف بين خبراتٍ استقاها الشاعر متفرقاتٍ من حياته العملية؛ إذ هو يُرسِل البصر في جنبات الكون ليرى، ويُنصِت بأُذنَيه ليسمع، ومن حصيد المرئي والمسموع، وما كان قد أُضيف إليه من حالاتٍ وتحولاتٍ في وجدان الشاعر، يبني في خيال الشاعر بيتًا جديدًا هو بيت الشاعر، أو أبياته التي تؤلِّف قصيدة الشاعر. وفي إقامة الشاعر لعالمه الخاص، من لبناتٍ مستمدة من الحياة كما وقعَت وكما تقع، يستحل مجاوزةَ القوانين الطبيعية التي تحكُم الأشياء في عالم الواقع، ليضع لها هو ما يسنُّه لها من قوانين، وبذلك يجيء العالم الشعري الذي أقامه الشاعر، عالمًا جديدًا كل الجدَّة، لا شأن للواقع به، اللهم إلا موازاةً بين العالَمَين، يبحث عنها الناقد ليستخرجها من الخفاء إلى العلن. إن الصخر في دنيا الواقع لا ينطق، لكن الشاعر يستحلَّ أن يُنطِقه بما أراد له وكيفما أراد، والشجر لا يعزف موسيقَى على أوتار، لكن الشاعر يحلُّ له أن يجعل الشجرة عازفةً للنغم على أوتارها. إن البرق والرعد يحدُثان بقوانين تعرفها العلوم، وليس لهما «نفس» تغضَب وتثور، ولكن الشاعر من حقه إذا أراد، أن يتصورهما ثورةً غاضبة، وأن يتصور المطر بكاءً أو طلقاتٍ من الرصاص في حومة القتال، كما شاء. وهكذا، فالفاصل الحادُّ الحاسم بين «العلم» و«الشعر» هو أن العلم لا يرى من الواقع إلا ظواهره البادية للحواس، ليستخرج قوانينه التي تحكُم سلوكه؛ فالصخر صخرٌ، والشجر شجر، والرعد والبرق والمطر رعد وبرق ومطر، ولكل شيءٍ مسالكُ مفروضة عليه، ومهمة العلم استخراج القوانين التي تُنظِّم تلك المسالك. وأما الشعر (والفن بكل أنواعه) فليس ذلك شأنه، وإنما شأنه أن يخلع المشاعر الإنسانية على كل شيءٍ في الطبيعة وكأنها قد أصبحت أناسًا مع الناس.

ونحن نقول عن العربي إنه في المقام الأول شاعر، أو له رؤية الشاعر، فإذا كانت تلك هي حقيقة أمره، إذن فعلاقته بالواقع هي أن يحصُد منه لقطاتٍ حسية يشاهدها متفرقة، فيحفظها في وعيه ليَستهديَها خلال حياته العملية، ومن هذه اللقطات الحسية ذاتها يبني الشاعر العربي ما يبنيه من بيوت الخيال، ومعنى ذلك هو أن علاقة العربي بالواقع هي تلك اللقطاتُ الحسية المتناثرة، ينتفع بها في حياته العملية. وأما «الرؤية»، العامة للحياة، أو «وجهة النظر» التي يتوجَّه بها إلى الوجود الكوني، أو «الموقف» الذي يقفه إزاء ما يُحيط به فهي أقرب إلى طبيعة الشعر، فيراه وكأنه يحيا بين جدرانِ ما يشعر هو به، حتى يجوز أن تصطخب الدنيا الخارجية بما تصطخب به من أحداث، ومن أفكار، وهو هناك في موقفه، يستدفئ النظرة الشاعرة، حتى وإن قرأ وعَرفَ ما قد صَخِبتْ به الدنيا من تقلُّبات.

لقد ذكرنا فيما أسلفناه، أن هذه الأحاديث لم تُكتَب للإشادة بالعروبة في موقفها أيًّا كان ذلك الموقف وما يقتضيه، ولكنها كُتبَت وصفًا موضوعيًّا لما يظنُّه كاتبها أنه وصفٌ أمين. ومع ذلك فهو اجتهاد فرديٌّ قد يخطئ وقد يصيب، فإذا صدق ما أوردناه عن طبيعة الشاعر في العروبة وموقفها، كان حتمًا على العربي أن يُغيِّر من موقفه بعض الشيء، بالإضافة لا بالحذف، فلنُبقِ على «الشاعر» الكامن في قلوبنا، حتى لا نُفوِّت على أنفسنا سمةً من أبرز سماتنا ومن أجملها، على أن نضيف في تنشئة أجيالنا الجديدة نظرة «العلم» كلما اقتضى الموقفُ التزامَ الواقعِ في حدوده وقوانينه الصارمة. وانظر إن شئتَ إلى الحياة العربية في تاريخها الحديث، لترى كم دهمَتها المفاجآت، التي لم تكن في الحقيقة مفاجئة، بل لبِثَت كل واحدةٍ منها تغزل خيوطها وتنسج مؤامراتها أعوامًا طِوالًا، ونحن عنها غافلون، أو كالغافلين؛ لأننا ربما عَرفْنا شيئًا عما يُدبَّر لنا في سواد الليل، لكننا نسهو ونُغضي لانشغالنا بما بناه لنا الخيال في رءوسنا. حتى إذا ما أصبح علينا صباح فجأَتنا المفاجأة التي لم تكن قد وُلِدَت منذ لحظة، بل ظلَّت هناك تبيض وتفرخ في صدور مُدبِّريها أو في جحورهم، لتُباغتنا وكأنها بنتُ لحظتها.

وكما رأينا في وقفة العربي «الشاعر» دفئًا جميلًا تشوبه غفوةٌ يسهو بها عن مواجهة الواقع برؤيةٍ علمية كلما اقتضى الأمر ذلك، حمايةً لنفسه، وتقريرًا لذاته في دنيا التنافُس والعدوان التي كُتب علينا ولنا أن تكون دنيانا، فكذلك نلحظ مثل هذه الشائبة في سمةٍ أخرى من سمات «العروبة»، فليس ثَمَّةَ من شكٍّ فيما يُعرَف به العربي من بناءٍ اجتماعي — قبيلة، أو أسرة، أو أمة تضم القبائل والأسرة — يكفُل للفرد أن يجد مكانًا في جماعته، وهو مكانٌ يعطيه حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وإننا لنفقد الشيء الكثير إذا فقدنا مثل هذا الانتماء الأسري الحميم، لكننا كذلك نفقد كثيرًا جدًّا من طاقتنا الحيوية إذا بُولِغ في طغيان النظام الأُسري أو القَبلي أو الوطني والقومي على الفرد، بحيث تُقيَّد حريته بأكثر من القيود التي تفرضها ضرورة الاجتماع، وتُحدَّد قُدراتُه المبدعة إذا كان من أصحاب المواهب، أكثر مما تُحتِّمه ضرورة الحياة الاجتماعية من حدود.

وهكذا ترى أن «العروبة» موقفٌ مُركَّب من عناصر اشتُقَّت بعض أصولها مما تُوحيه الصحراء إلى ساكنيها، من رؤيةٍ عامة تتعلَّق باللامتناهي أكثر مما تشغلها العابرات الزائلات، وبالثابت أكثر مما تتعلق بالمتغير، وبالمجرَّد أكثر مما يلهيها المتعين. ومن هذا الموقف تهيَّأَت شعوب المنطقة بقلوبها لتقبل الديانات المنزلة وحيًا إلى الأنبياء والرسل (وجميعها نزل في هذه المنطقة)؛ ومن ثم أصبَحَت عقيدة التوحيد مدارًا للوقفة العربية، حتى فعلَت فعلها في تشكيل النمط الثقافي العربي — الذي هو أساس «العروبة» وجوهرها — فالأدب (والشعر منه بصفةٍ خاصة) يُكثِّف الحكمة المستخلَصة من الحياة الجارية، والفن ينزع نحو التجريد الذي يرتفعُ حتى يبلُغ أن يكون أشكالًا هندسية وما يتركَّب منها، والبناء الاجتماعي يتبلور في النظام الأُسري أو القَبلي الذي يجعل مثله الأعلى تكاملًا وتعاونًا ووحدة بناء. ولئن كان الواقع العربي الحديث قد انحرف عن تلك الرؤية العربية المتميزة، فقد جاء انحرافه هذا في اتجاهَين؛ أحدهما نكسة أفرزتها الأوضاع السياسية الحديثة، محليًّا وعالميًّا، وإذن فهو انحراف لا بد لنا من تقويمه. وأما ثانيهما فانحراف نحو الأفضل والأكمل، وذلك في المواضع التي اضطُررْنا فيها إلى تعديلِ ما هو تقليديٌّ في ثقافتِنا من شأنه أن يُعرقل النمو، فأحلَلْنا مكانه عناصرَ قوة مما أنتجَتْه حضارة هذا العصر وثقافته، وإذن فمثل هذا الانحراف جدير بالمؤازرة والتأييد.