الاثنين، 31 أغسطس 2020

ولتر ستيس؛ أرسطو. (اقتباسات من كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية)

 


 


 

ولتر ستيس؛ أرسطو. (اقتباسات من كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية)

ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد.

Table of Contents

إهداء 5. 9

تصدير: 7. 9

الفصل الأول: فكرة الفلسفة اليونانية بصورة عامة: أصول الفلسفة اليونانية: 13. 9

الفصل الثاني: الأيونيون: 29. 9

طاليس: 29. 9

أنكسماندريس: 32. 9

أنكسمانس: 35. 9

المفكرون الأيونيون الآخرون: 36. 9

الفصل الثالث: الفيثاغوريون: 37. 9

الفصل الرابع: الإيليون: 45. 9

ـ أكزينوفان: 45. 9

ـ بارمنيدس: 47. 9

ـ زينون: 54. 9

ـ ملاحظات نقدية على الإيلية: 60. 9

الفصل الخامس: هيراقليطس: 69. 9

الفصل السادس: أمبيدوكليس: 77. 9

الفصل السابع: الذريون: 81. 9

الفصل الثامن: أنكساغوراس: 87. 9

الفصل التاسع: السوفسطائيون: 97. 9

الفصل العاشر: سقراط: 113. 9

الفصل الحادي عشر: أنصاف السقراطيين: 135. 9

ـ الكلبيون: 137. 9

ـ القورينائيون: 139. 9

ـ الميجاريون: 141. 9

الفصل الثاني عشر: أفلاطون: 143. 9

1ـ حياته وكتاباتُه: 143. 9

2ـ نظرية المعرفة: 154. 10

3ـ الجدل ونظرية المثل: 158. 10

4ـ الفيزياء أو نظرية الوجود (مذهب العالم ـ مذهب النفس الإنسانية) 177. 10

5ـ فلسفة الأخلاق: 186. 10

6ـ آراء حول الفن: 195. 10

7ـ تقييم نقدي لفلسفة أفلاطون: 198. 10

الفصل الثالث عشر: أرسطو: 209. 10

1ـ الحياة والكتابات والطابع العام لأعماله: 209. 10

2ـ المنطق: 216. 10

3ـ الميتافيزيقا: 217. 10

4ـ الفيزيقا أو فلسفة الطبيعة: 238. 10

5ـ فلسفة الأخلاق: 256. 10

6ـ علم الجمال أو نظرية الفن: 265. 10

7ـ تقدير نقدي لفلسفة أرسطو: 269. 10

الفصل الرابع عشر: الطابع العام للفلسفة بعد أرسطو: 275. 10

الفصل الخامس عشر: الرواقيون: 279. 10

المنطق: 279. 10

الفيزياء: 280. 10

فلسفة الأخلاق: 282. 10

الفصل السادس عشر: الأبيقوريون: 287. 10

الفيزياء: 288. 10

فلسفة الأخلاق: 290. 10

الفصل السابع عشر: الشكاك: 293. 10

فيرون: 294. 10

الأكاديمية الجديدة: 295. 10

نزعة الشك المتأخرة: 297. 10

الفصل التاسع عشر: 303. 10

 

 

بين كتابات أفلاطون وكتابات أرسطو

لقد رأينا ـ في حالة أفلاطون ـ وقد امتدّ نشاطُه الأدبي لفترة نصف قرن، وقد كانت فلسفته خلالها في حالة تطور دائم، أصبح من المهم تتبّع هذا التطوّر حسب ترتيب محاوراته. والشيء نفسه ليس صحيحاً في حالة أرسطو، فكل كتاباتِه، أو تلك التي وصلت إلينا، يبدو أنها كُتِبت خلال الثلاث عشرة سنة [الأخيرة] من حياته وهو في أثينا بعد أن تجاوز الخمسين. لهذا فقد كان مذهبُه مكتملاً وناضجاً وفي كامل تطوّره، ومسألة ترتيب كتاباتِه ليست بذات أهمية.

وعلى أية حال فإن نتيجة البحث النقدي تبيّن أنه بدأ على الأرجح بالأعمال المختلفة عن المنطق، ويأتي بعد هذا العلمُ الفيزيائي، ثم الكتب الأخلاقية السياسية، وأخيراً كتاب "الميتافيزيقا" الذي تُرِك ناقصاً. (212)

[إضافة علوم جديدة]

عندما يكون هناك علم لم يكن له وجود من قبل فإن خطته تتضمّن تأسيس علوم جديدة عندما تكون هناك ضرورة، ومن ثم أصبح مؤسس علمين على الأقل، هما المنطق وعلم الحيوان. (213)

أرسطو وأفلاطون:

لقد قيل إن كلّ إنسان إما أنّ له عقلية من النمط الأرسطي أو عقليةً من النمط الأفلاطوني.

ولمّا كان هذا القول يتضمّن أنّ أرسطو وأفلاطون متعارضان، فإنه أقلّ من نصف الحقيقة. وما من فهم أصيل لأرسطو يستطيع أن يعزز الرأي القائل إن مذهبه الفلسفي معارض تماماً لمذهب أفلاطون، بل الأفضل القول إن أرسطو كان أعظم الأفلاطونيين، لأن مذهبه لا يزال مؤسساً على المثال، وهو محاولة لتأسيس مثالية متحررة من نواقص مذهب أفلاطون. إن مذهبه في الواقع هو تطوّر للأفلاطونية. (213)

الاختلافات [بين أرسطو وأفلاطون] مصطنعةٌ إلى حدٍّ كبير، والاتفاق عميق للغاية.

والاختلافات كانت الأكثر وضوحاً.. [لأنّ] أرسطو لم يترك فرصةً إلا وهاجم النظرية الأفلاطونية عن المثل، ولقد كان باستمرار [مهتماً] بتأكيد الاختلاف بينه وبين أفلاطون، لكنه لم يقل شيئاً عن الاتفاق. (214)

[يقول ستيس بأن فرنسيس بيكون انتقد أرسطو لأنه لم يكن يعبأ بالوقائع، "بل ينظر المسألة "قبلياً" من دماغه"، بينما الحقيقة أن هذا التوصيف ينطبق على السكولائيين وليس على أرسطو] (215)

"وعلى أية حال، فمن الحق أن أرسطو، حتى في مجال الحقائق، كان قبل كل القدماء متَّهماً بخطيئة إيراد استدلالات "قبلية" عندما لا تكون هناك حاجةٌ إليها. ومن ثَمّ لم يكن يمتنع عن القول بأن النجوم يجب أن تتحرك في دوائر لأن الدائرة هي الشكل الكامل.." (215)

كل فكرة يرغب [أرسطو] في التعبير عنها لها مصطلحٌ محدّد. وإذا لم يكن هناك مصطلحٌ له استعمال مشترك يعبر عن الفكرة، فإن أرسطو يصكّه، ومن ثَمّ فإنه واحدٌ من أكبر مبتدعي المصطلحات في العالم، ولقد اتخذ أو اخترع عدداً هائلاً من المصطلحات، ولا نشتطّ إذا قلنا إنه يعدّ مؤسس اللغة الفلسفية لأنه مخترع قاموسٍ من المصطلحات الفنّية. وكثيراً من المصطلحات التي لا تزال تستخدم حتى اليوم للتعبير عن أكثر أفكار الإنسان تجريداً هي من اختراع أرسطو. (216)

أرسطو والاستدلال المنطقي.

من بين فرعيّ الاستدلال الاستنباطي والاستقرائي، يعترف [أرسطو] بوضوح بالاستقراء، ومعظم ملاحظاته على الاستقراء دقيقة ونفّاذة، لكنه لم يحصل [لم يجعل] من الاستقراء علماً، وهو لم يصغ بوضوح القوانين الأساسية للتفكير الاستقرائي، فهذا لم يتمّ حتى زمنٍ حديث نسبياً. ولهذا فإن اسمه يقترن بصفةٍ خالصة بالمنطق الاستنباطي الذي كان هو مؤسّسَه. (216)

 

نقد أرسطو لأفلاطون:

إن نظرية أرسطو الميتافيزيقية تتطوّر على نحو طبيعي من جدله ضد نظرية أفلاطون في المثل لأن مذهبَه هو بكل بساطة محاولةٌ للتغلب على أشكال القصور التي وجدها عند أفلاطون. (218)

ورؤوس الموضوعات الخاصة بهذا الجدال على النحو التالي:

1ـ إن أفكار أفلاطون لا تشرح وجود الأشياء، فشرح السبب في أنّ العالم قائم هنا هو فوق كل المشكلة الرئيسية للفلسفة، وقد فشلت نظرية أفلاطون في الاضطلاع بهذا. فإذا ضربنا مثلاً وقلنا حتى وهي تعترف بأن فكرة البياض موجودة، فإننا لا نستطيع أن نبيّن كيف تنتج الموضوعات البيضاء.

2ـ لم يشرح أفلاطون علاقة المثل بالأشياء، فيقال لنا إن الأشياء هي "نسخ" من المُثل و"تشارك" فيها، ولكن كيف نفهم هذه "المشاركة"؟

يقول أرسطو إن أفلاطون باستخدامه مثل هذه العبارات لا يعبأ على نحو حقيقي بالعلاقة بل كل ما يقوله هو مجرد "تشبيهات شعرية".

3ـ حتى لو أمكن شرح وجود الأشياء بالمثل فإنه لا يمكن شرح حركتها. فلنفترض أن مثال البياض ينتج الأشياء البيضاء وأن مثال الجمال ينتج الأشياء الجميلة وهكذا.. فإنه يتبقى أنه لما كانت المثل نفسها ثابتة ولا متحركة فكذلك سيكون العالم الذي هو نسخة منها. وهكذا سيكون الكون سكونياً على نحو مطلق مثل سفينة الشاعر "كولردج" المرسومة على محيط مرسوم غير أن العالم ـ بالعكس ـ هو عالم تغير وحركة وحياة وصيرورة. إن أفلاطون لم يبذل أية محاولة لشرح صيرورة الأشياء التي لا تنقطع وحتى لو كان مثال البياض يفسر الأشياء البيضاء فإنه لا يزال هناك التساؤل عن السبب الذي يجعل هذه الأشياء تظهر وتتطور وتتآكل وتكف عن الوجود، ولكي يمكن تفسير هذا لا بدّ أن يكون هناك مبدأ ما للحركة في المُثل نفسه. غير أنه لا يوجد فهي ثابتة وبلا حياة.

..

5ـ من المفروض في المُثل أنها لاحسّية، لكنها في الحقيقة حسّية.

لقد ظنّ أفلاطون أنّ مبدأً حسّياً ما، يجب أن يخطر له لشرح عالم الحسّ. ولكن لمّا كان عاجزاً عن إيجاد مثل هذا المبدأ فإن كل ما فعله هو تناول موضوعات الحسّ وتسميتها لاحسّية. لكن في الحقيقة لا يوجد اختلاف بين الحصان ومثال الحصان، بين الإنسان ومثال الإنسان، سوى التعبير العقيم الخالي من المعنى "في حدّ ذاته" أو "بصفةٍ عامة"، يضاف إلى كل موضوع للحس يجعله شيئاً يبدو مختلفاً. والمُثل ليست سوى موضوعاتٍ للحسّ "مؤقنمة" ويشبهها أرسطو بالآلهة المشخّصة في الديانة الشعبية.

يقول أرسطو: "وكما أنّ هذه الآلهة ليست سوى أناسٍ مؤلّهين فإن المُثل ليست سوى أشياءِ الطبيعة وقد أضفي عليها الخلود".

لقد قيل إن الأشياء هي نسخ للمثل، ولكننا نجد في الواقع أن المثل ليست سوى نسخ الأشياء. (219)

الشخص الثالث:

6ـ ثم يأتي بعد هذا جدل "الشخص الثالث" وقد سماه أرسطو على هذا النحو من التصوير الذي يلجأ إليه لشرحه، إن المُثل مفترضة لكي تشرح ما هو عام مشترك لعدة أشياء. وأينما يوجد عنصر عام مشترك يجب أن يكون هناك مثال من المُثل، وهكذا هناك عنصر عام في كل الناس ولهذا هناك مثال للإنسان. ولكن هناك أيضاً عنصر عام مشترك للإنسان الفرد ولمثل الإنسان. ولهذا يجب أن يوجد مثال آخر، هو "الشخص الثالث" لكي يتم شرح هذا. وبين هذا المثال الجديد والإنسان الفرد يجب أن يوجد مثال جديد آخر لشرح ما هو مشترك بينهما وهكذا دواليك إلى ما لانهاية. (219)

[لست مع هذا النقد. المشترك بين هذا الشخص ومثال الإنسان هو مثال الإنسان نفسه، وبالتالي ليس هناك تناسل للمثل إلى ما لانهاية]

7ـ غير أنّ أهمّ اعتراضات أرسطو على نظرية المُثل وذلك الذي يلخص كل الاعتراضات الأخرى وفيه ذروة المقاصد والأغراض هو أ،ّ هذه النظرية تفترض أن المثل هي ماهيات الأشياء. ومع هذا تضع هذه الماهيات خارج الأشياء نفسها. وإن ماهية شيء ما يجب أن تكون فيه لا خارجه. غير أن أفلاطون يفصل المُثل عن الأشياء ويضع المثل بعيداً في عالم غامض خاصٍ بها.

إن المثال باعتباره كلّياً لا يمكن أن يوجد إلا في الجزئي. من الممكن القول إن الحقيقة في كل الجياد هي الجواد الكلّي، لكن الجواد الكلّي ليس شيئاً يوجد بذاته وفي استقلال عن الجياد الفردية. ومن هنا ينتهي أفلاطون إلى لغو الكلام كما لو كان يوجد ـ بجانب الجياد المفردة التي نعرفها ـ شيء مفرد آخر في موضوعٍ ما يسمى الجواد بصفةٍ عامة، أو كما لو كان يوجد بجانب الأشياء البيضاء شيء اسمه البياض.

وهذا في الواقع ذروة التناقض الذاتي في نظرية المثل، فهي تبدأ بقولها إن الكلّي هو الحقيقي والجزئي هو اللاحقيقي، لكنها تنتهي بالحط من شأن الكلي ليصل مرةً أخرى إلى الجزئي. ويشبه هذا قولَنا إن خطأ أفلاطون يكمن أولاً (حقاً) في رؤيته للجواد على أنه غير حقيقي ولكن يشرع "خطأ" في تصور الحقيقي على أنه وجود. (220)

[بدائل ارسطو]:

ومن هذا الاعتراض الأخير تنبع فلسفة أرسطو الخاصة، ومبدؤها الأساسي هو أن الكلّي هو حقاً الحقيقة المطلقة لكنه كلّي لا يوجد إلا في الجزئي. (220)

إن الكلّي ليس جوهراً وكذلك الجزئي. إن كلاً منهما لا يستطيع أن يوجد بمعزل عن الآخر. إن الجوهر يجب أن يكون مركّباً من الاثنين، إنه يجب أن يكون الكلي في الجزئي. وهذا يعني أن ذلك وحده الذي يكون جوهراً هو الشيء الجزئي، الذهب مثلاً بكل صفاته المحمولة عليه. (221)

 

العلّة الفاعلة عند أرسطو:

والعلة الفاعلة يحددها أرسطو دائماً على أنها علة الحركة. إنها الطاقة أو القوة المحركة المطلوبة لإحداث التغيّر. ويجب أن نتذكر أن أرسطو لا يعني بالحركة مجرد تغير في المكان أو نقلة في المكان بل يعني التغير من أي نوع. إن تغير ورقة من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر لهو تغير في الحركة بالمعنى الذي عنده بمثل ما إن سقوط حجر من الحجارة هو حركة. إذاً فإن العلة الفاعلة هي علّة كل تغيّر. (223)

ومن المثل المضروب أن ما يسبب البرونز لكي يكون تمثالاً أي ما ينتج هذا التغير هو النحات، لهذا فإنه العلّة الفاعلة للتمثال.

والعلة الصورية يحددها أرسطو بأنها جوهر وماهية الشيء، والآن نجد أن ماهية الشيء واردة في تعريفه، غير أن التعريف هو شرح المفهوم. ولهذا فإن العلة الصورية هي المفهوم أو هي ـ كما يسميها أفلاطون ـ مثال الشيء. وهكذا تعاود مثل أفلاطون الظهور في أرسطو كعلل صورية. والعلة الغائية هي النهاية، والغرض أو الهدف الذي تستهدفه الحركة. فعندما يتم إنتاج التمثال فإنه غاية هذا النشاط، أي ما يستهدفه النحات هو التمثال المكتمل نفسه. والعلة الغائية للشيء بصفة عامة هو الشيء ذاته، الوجود المكتمل للشيء.

إن العلم الحديث لا ينكر حقيقة العلّتين الصورية والغاية. كل ما هنالك أنه يعتبرها خارج مجاله، فليست وظيفة العلم [تحرّي] ما إذا كانت موجودتين أم لا. ومع تقدم المعرفة يحدث التمايز وتقسيم العمل، ويعتبر العلم مجالَه هو العلل الآلية ويترك العلّتين الصورية والغائية للفيلسوف لشرحهما. وهكذا نجد ـ على سبيل المثال ـ أنّ العلل الصورية ليست موضع نظر العلم لأنها ليست بالمعنى الحديث عللاً على الإطلاق.  (224)

[منهجية ما زالت صالحة]

لم تكن من عادة أرسطو أن يعرض لنظرياته كما لو كانت شيئاً جديداً تماماً تصدر لأول مرّةٍ من عقله. فهو في هجومه على أية مشكلة كانت عادتُه أن يبدأ بالتيار السائد والآراء السابقة لينقدها ويطرح ما لا قيمة له لكي يستبقي خلاصة الحقيقة ويضيف إليها اقتراحاتِه وأفكارَه الأصلية. (225)

[أرسطو يستنبط العلل من تاريخ الفلسفة]

[الأيونيون بحثوا في العلة المادية].

لكن مع تقدم الفكر وظهور فلاسفة آخرون على الساحة.. فقد تبيّن ضرورة وجود علّة ثانية لتفسير الحركة وصيرورة الأشياء. غير أنّ المادة نفسَها لا تنتِج حركتَها، فالخشب ليس علّة تحوّله إلى سرير...  ومن ثّمّ نشأت فكرة العلة الفاعلة.

إن الإيليين لم يتبيّنواه لأنهم أنكروا الحركة، ولهذا فبالنسبة لهم لا يمكن افتراض علّة للحركة. ويرى أرسطو أن بارمنيدس مع هذا فقد تأرجح حول هذه النقطة وأباح على شكلٍ غامض وجود علّة ثانية عيّنها على أنها الحار والبارد... وقد افترض الفلاسفة الآخرون على نحوٍ واضح وجود علّة فاعلة لأنهم ظنوا أن عنصراً واحداً ـ النار على سبيل المثال ـ أكثر فاعلية من العناصر الأخرى، أي إنه أكثر إنتاجاً للحركة. ومن المؤكد أن أنبيدوكليس قد قال بفكرة العلة الفاعلة لأنه عيّن القوى المحرّكة بأنها التناغم والتنافر، الحب والكراهية. كما استخدم أنكساغوراس أيضاً العقل على أنه قوةٌ محرّكة.

وربما أدرك العللَ الصورية أيضاً الفيثاغوريون، فالأعداد أشكالٌ أو صور. غير أنهم أحطوا على نحو مباشر من العلة الصورية لتصل إلى مستوى العلة المادية بإعلانهم أن العدد هو الخامة أو المادة التي تصنع منها الأشياء.

وكان أفلاطون وحده هو الذي بيّن بوضوح ضرورة العلّة الصورية، لأن العلل الصورية ـ كما رأينا ـ هي نفسها مثُل أفلاطون. غير أنّ فلسفة أفلاطون لا تتضمّن سوى علّتين من العلل الأربع، هما العلة المادية والعلة الصورية، لأن أفلاطون جعل الأشياء جميعاً من المادة والمُثُل. ولمّا كانت المُثُل ليس فيها مبدأ الحركة، فإن مذهب أفلاطون لا يحتوي على علّةٍ فاعلة. أما بالنسبة للعلل الغائية فإنّ لدى أفلاطون فكرةً غامضة هي أنّ كل شيء من أجل "الخير"، لكنه لم يستخدم هذا التصور ولم يطوّره.

ولقد أدرجَ أنكساغوراس العلل الغائية في الفلسفة، فإن مذهبه عن العقل المشكل للعالم يفترض أن يفسر التصميم والغرض اللذين يعرضهما الكون، ولكن مع تطور مذهبه نسي هذا الأمر وستخدم العقل لا لشيء سوى كجانبٍ من الآلية لتفسير الحركة، وهكذا تركه يهبط إلى شيء لا يزيد شيئاً عن العلة الفاعلة. (226)

الخطوة التالية في ميتافيزيقا أرسطو هي رد هذه المبادئ الأربعة إلى مبدأين سمّاهما الهيولي والصورة. ويحدث هذا التنقيص في عدد العلل عن طريق إظهار العلّة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية كلها تنصهر في تصوّر وحيد للصورة. (226)

أولاً: نجد أن العلة الصورية والعلة الغائية شيءٌ واحد وذلك لأن العلة الصورية هي الماهية، المفهوم، فكرة الشيء. والآن فإن العلّة الغائية أو النهائية هي ببساطة تحقق فكرة الشيء في الواقع. إن ما يهدف إليه الشيء هو التعبير المحدد لصورته، إنه يستهدف صورته. وهكذا فإن الغاية، العلة الغائية هي نفس العلة الصورية.

ثانياً: فإن العلة الفاعلة هي نفسها العلة الغائية لأن العلّة الفاعلة هي سبب الصيرورة والعلة الغائية هي نهاية الصيرورة، إنها ما يصير. وفي رأي أرسطو إن ما يسبب الصيرورة هو ذلك الذي تستهدفه في النهاية فحسب. (227)

الصورة والشكل عند أرسطو

إن ما يصبح هو الهيولي، وما يصبح عليه هو الصورة. إن الخشب هيولي إذا نُظِر إليه من ناحية علاقته بالسرير، لأنه يصبح سريراً، غير أن الخشب هو الصورة إذا نُظِر إليه في علاقته بالنبات النامي لأنه هو الذي يصبح عليه النباتُ. إن شجرة البلوط هي صورةُ جوزةِ البلوط، لكنها هي هيولي الأثاث المصنوع من البلّوط. إن الهيولي والصورة مصطلحان نسبيان وهما يظهران أيضاً أن الصورة ليست مجرد شكل، لأن ما هو صورةٌ في جانب هو هيولي في جانبٍ آخر، لكن الشكل لا يمكن أن يكون أيّ شيءٍ إلا أن يكون شكلاً. (229)

ومما لا شكّ فيه أن الشكل جزءٌ من الصورة، لأن الصورة تتضمّن في الحقيقة كل صفات الشيء، لكن الشكل هو جزءٌ غير مهم في الصورة، لأن الصورة تتضمن التنظيم وعلاقة الجزء بالجزء وخضوع كل الأجزاء للشكل. إن الصورة محصلة العلاقات الداخلية والخارجية، إنها هي الإطار المثالي ـ إذا جاز لنا مثل هذا القول ـ والذي فيه ينتظم الشيء. وتتضمّن الصورة أيضاً الوظيفة، ووظيفة الشيء هو مجرد ما يكون الشيء من أجله، وهذا مماثل لغايته أو علته الغائية. من ثّمّ فإنّ الوظيفة واردة في الصورة، فمثلاً وظيفة اليد هي قوّتها على الإمساك، وهذه الوظيفة جزء من صورتها، ولهذا إذا فقدت وظيفتها ببترها فإنها تفقد بالمثل صورتَها، وحتى اليد الميتة ـ بطبيعة الحال ـ لها صورة ما، لأن كل شيءٍ جزئي هو مركب من الهيولي والصورة؛ لكن اليد الميتة قد فقدت أهم جزء في صورتها وهي بالنسبة لليد الحية مجرد هيولي، وإن كانت بالنسبة للحم والعظم الذي تتكوّن منه لا تزال صورة. الصورة ـ بوضوح إذاً ـ ليست مجرد شكل لأن اليد المبتورة لا تفقد شكلها ـ والصورة تتضمن كل صفات الشيء، والهيولي هي ما [ليس] له صفات، لأن الصفات كلها كليات. إن قطعة الذهب صفراء، وهذا يعني ببساطة أنها تشترك في الصفرة مع قطع الذهب الأخرى والأشياء الصفراء الأخرى. والقول عن الشيء إنه يتصف بصفةٍ ما يعني وصفه ضمن فئة وما تشترك فيه الفئة هو شيء كلّي، والشيء بدون صفات لا يمكن أن يوجد كما إن الصفات لا يمكن أن توجد بدون الشيء وهذا مماثل لقولنا إن الصورة والهيولي لا يمكن أن توجدا منفصلتين.

الهيولي إذاً هلامية تماماً، إننها (البنية) التي تضم كل شيء، وهي لا تضم في ذاتها أية صفة، إنها لا صفاتٍ لها، إنها لا تعيّن بدون صفة. وما يعطي الشيء تعيّنا وطابعاً وصفةً وما يجعله هذا الشيء أو ذاك هو صورته. (230)

وبالتالي لا توجد فروق في الهيولي فالشيء لا يمكن أن يختلف عن غيره إلا بأن تكون له صفات مختلفة. ولمّا كانت الهيولي بلا صفات فليس فيها فروق وهذا يبيّن في ذاته أن الفكرة الأرسطية عن الهيولي ليست مثل فكرتنا عن الجوهر الفيزيائي. فحسب استخدامنا الحديث يختلف نوع المادة من نوع إلى آخر، فيختلف النحاس عن الحديد، لكن هذا الفرق هو فرق صفة. والصفات كلها عند أرسطو جزءٌ من الصورة ومن ثمّ فعنده إن اختلاف النحاس عن الحديد ليس مسألة اختلاف في الهيولي، بل اختلاف في الصورة. وعلى هذا يمكن للهيولي أن تصبح أيّ شيءٍ حسب الصورة المطبوعة عليها، إن الهيولي هي إمكانية كل شيء وإن كانت هي في الواقع ليست شيئاً، وهي لا تصبح شيئاً إلا بإحرازها للصورة، وهذا يؤدي مباشرةً إلى أكبر تناقض أرسطي هام بين القوة والفعل. القوة هي نفسها الهيولي والفعل هو الصورة، فالهيولي هي كل شيء بالإمكانية، فهي قد تصبح كل شيء، وهي بالفعل ليست شيئاً، إنها مجرد إمكانية أو قدرة على أن تصبح شيئاً، ولكن ما يعطي الهيولي تعيّنا على أنها هذا أو ذلك وما يجعلها شيئاً فعلياً هو الصورة وهكذا فإن واقعية الشيء هي بكل بساطة صورته. (231)..

[لكن هذا يخالف ما قاله ستيس سابقاً من أن الخشب هو صورة إذا نظر إليه في علاقته بالنبات هيولي إذا نظر إليه في علاقته بالسرير. فالهيولي في مراحله الوسيطة لا يمكن أن يكون بغير صفات..]

 

عندما نقول إن الهيولي هي إمكانية ما سيصبح، فإنه يتضمّن أنّ ما ستصبح عليه ماثلٌ من قبلُ فيها مثالياً وبالإمكان، وإن لم يكن فعلياً. لهذا فإن الغاية ماثلةٌ من قبلُ في البداية.

إن شجرة البلّوط قائمةٌ في جوزة البلّوط على نحوٍ مثاليٍّ وإلا فإن شجرة البلّوط [لن] تصدر عن جوزة البلّوط إطلاقاً. ولمّا كانت كل صيرورة هي نحو غايةٍ ولا تحدثُ إلا من أجل غاية، فإن الغاية هي المبدأ العامل والعلة الحقيقية للصيرورة. الحركة لا تنتج بقورة عرضيةٍ آليةٍ بالدفع من الخلف، بل بقوة جذب مثالية تجذب الشيء نحو غايته كما تنجذب قطعة الحديد للمغناطيس.

إن الغاية هي التي تمارس هذه القوة ولهذا فإن الغاية يجب أن تكون ماثلةً في البداية لأنها لو لم تكن ماثلةً فلن تستطيع أن تمارس أية قوة. وهي ليست ماثلةً فحسب في البداية، إنها خارجية عنها أيضاً لأن  الغاية هي علة الحركة، والعلّة من الناحية المنطقية أسبق من نتيجتها.

وهكذا نجد أن الغاية أو مبدأ الصورة هو الأول المطلق في الفكرة والواقع، وإن تكن الأخيرة في الزمن. فإذا سألنا ـ إذاً ـ ما هي تلك الحقيقة المطلقة عند أرسطو، ما هو المبدأ الأول الذي يصدر عنه الكون كله فإن الجواب هو: الغاية، مبدأ الصورة، ولمّا كانت الصورة هي الشكل، المثال، فإننا نتبيّن أن هذه الأطروحة الأساسية هي نفسها أطروحة أفلاطون، إنها أطروحة كل مثالية وهي أن الفكري الكلّي، العقل هو الموجود المطلق، أساس العالم. ولا يختلف عن أفلاطون إلا في إنكار أنّ الصورة لها وجود بمعزل عن الهيولي التي تعرض الصورةُ نفسَها فيها. (232)

لمّا كانت السيرورة في العالم هي ارتقاء مستمرّ للهيولي إلى الصور الأرقى..، فيترتّب على هذا أن الكون يعرض سلّماً مستمرّاً للوجود. وما هو أرقى في السلم حيث تسود الصورة فإن الأدنى هو ما تفوّق الهيوليُّ فيه الصورةَ، وفي أسفل السلّم ستكون هناك الهيولي الهلامية المطلقة وفي قمّته الصور اللامادية المطلقة. وعلى أية حال، فإن هذين الطرفين تجريدان، فلا أحدَ منهما يوجد لأن الهيولي والصورة لا يمكن أن تنفصلا. وما يوجد يأتي في موضع ما بين الاثنين، ومن ثَمّ يعرض الكون عملية من التدريجات المستمرة. وتحدث الحركة والتغيّر بجهدٍ للانتقال من الأدنى إلى الأرقى تحت تأثير القوة الجاذبة للغاية [للعلّة الغائية].

 

[المحرك الذي لا يتحرك]

وما يأتي في قمّة السلّم، الصورة المطلقة، يسميه أرسطو الله. وتعريفات صفة الله تترتّب على هذا الوضع بالطبع. أولاً، لما كانت الصورة هي الفعل، فإن الله وحدَه هو الواقعي على نحوٍ مطلق، فهو وحده الحقيقي، وكل الموجودات غير واقعية بشكلٍ ما. إن الأرقى في السلم هو الكثر واقعية لأنه يمتلك المزيد من الصورة. وسلم الوجود هو أيضاً سلم للواقع، وهو يتأرجح من خلال تدريجات لا متناهية من الحقيقي المطلق وهو الله إلى اللاحقيقي المطلق وهو الهيولي الهلامية.

ثانياً، لمّا كان مبدأ الصورة يحتوي على العلل الصورية والغائية والفاعلة، فإن الله هو كل هذه العلل. ولمّا كان الله هو العلة الصورية فإنه هو المثال، إنه فكر، علة ـ ولمّا كان الله هو العلّة الغائية فإنه الغاية المطلقة، إنه ذلك الذي تسعى إليه كل الموجودات، وكل موجود له دون شك غايته في ذاته ولكن لمّا كان الله هو الغاية المطلقة، فإنه يشتمل على كل الغايات الأدنى. ولمّا كانت غاية كل شيء هي الكمال المتكامل للشيء فإن الله باعتباره الغاية المطلقة هو الكمال المطلق. وأخيراً، لمّا كان الله هو العلة الفاعلة فإنه العلة المطلقة للحركة والصيرورة. إنه المحرك الأول، وعلى هذا فإن الله نفسه غير متحرك. وكون المحرّك الأول غير متحرك نتيجة ضرورية لتصور أرسطو له كغاية وكصورة، فالحركة هي انتقال الشيء نحو غايته، والغاية المطلقة لا يمكن أن تكون لها غاية وراءها ومن ثم لا يمكن أن تتحرك.

وبالمثل، الحركة هي انتقال الهيولي إلى الصورة. والصورة المطلقة لا يمكن أن تنتقل إلى صورة أرقى ومن ثم فهي غير متحركة، غير أن الحجة التي يستخدمها أرسطو نفسه كثيراً لتأسيس حركية المحرك الأول هي أنه عالم بتصوره غير متحرك فلن تظهر أية علة للحركة، إن الشيء المتحرك قد يتحرك بشيء آخر، وحركة هذا الشيء الأخير يتطلب علةً أخرى، فإذا كانت هذه العلة الجديدة هي نفسها متحركة فإننا يجب أن نبحث عنه لحركتها، وإذا استمرت هذه العملية إلى الأبد فلن يتم تفسير الحركة ولا تظهر العلة الحقيقية، لهذا فإن العلة الحقيقية والمطلقة يجب، لهذا، ألا تكون متحركة. (235)

الله لا يكون المحرك الأول إلا بصفته كغاية نهائية.

الله ليس علّةً أولى بالمعنى الخاص بنا: أي ليس علّةً آليةً أولى تكون قبل العالم وتخلقه. إنه علّةٌ غائيةٌ تعمل من الغاية، ولكنه على هذا النحو هو سابق منطقياً على كل بداية وكذلك المحرك الأول. ولما كان الكون ليست له بداية في الزمن، فإنه ليست له نهاية في الزمن.، وسيستمر إلى الأبد. وغايته الصورة المطلقة، ولكن لا يمكن التوصل إليها، لأنها لو كانت هكذا فهذا يعني أن الصورة المطلقة توجد، بينما نحن رأينا أن الصورة لا يمكن أن توجد بمعزل عن الهيولي.

[الله عند أرسطو]

إن الله فكر. ولكنه فكرٌ عن أيّ شيء؟

باعتباره صورةً مطلقة، ليس هو صورةُ الهيولي، بل صورة الصورة. وهيولاه ـ إذا جاز لنا القول ـ صورة.

والصورة باعتبارها الكل هي الفكر، وهذا يعطينا تعريف أرسطو الشهير لله على أنه "فكر الفكر". إنه لا يفكر إلا في ذاته، إنه ذاتُ وموضوعُ تفكيره. (235)

رأي لـ ستيس:

ما أخلص إليه هو أنه لم يكن قصد أرسطو أن ما يسميه الله يجب اعتباره شخصاً، فالله ليس فكراً ذاتياً. إنه ليس فكراً موجوداً في عقل، بل هو فكر موضوعي حقيقي في ذاته بمعزل عن أيّ عقل يفكر فيه مثل أفلاطون، غير أن خطأ أفلاطون هو افتراض أنه لمّا كان الفكر حقيقياً وموضوعياً فيجب أن يوجد ولقد تجنب أرسطو هذا الخطأ، والفكر المطلق هو الحقيقي بإطلاق، لكنه لا يوجد. وبمفهوم الله تختتم ميتافيزيقا أرسطو.

 

الفيزياء وفلسفة الطبيعة:

[عقول]

.. إن أيّة فلسفة حقيقية بالرغم من إقرارها بالتفرقة بين الحس والعقل، يجب مع هذا أن تجد موضوعاً لوحدتها، ويجب أن تظهر أن الحس ليس سوى شكلٍ أدنى للعقل، ولقد استوعب أرسطو هذه الفكرة تماماً ولم يوضح فحسب أن الحس هو العقل، بل قال حتى إن أوجُهَ نشاط المادة غير العضوية مثل الجاذبية هي عقل.

والمحصلة أن الطبيعة رغم أنها تعمل من خلال العقل ليست واعية بهذا، وهي تفعل هذا على نحوٍ غريزي وتلقائي، وهي أشبه بالفنان المبدع الذي يشكل موضوعاتِه الجميلةَ بالغريزة أو كما نقول بالإلهام، دون أن يطرح أمام عقله الغاية التي يجب تحقيقُها أو القواعدَ التي يجب اتّباعُها لكي تتحقق. (239)

في عملية الطبيعة أو سيرورتها، الصورة دائماً هي التي ترغم الهيولي. والهيولي هي التي تتقهقر وتعترض. وحركة العالم الكلّية هي جهد الصورة لتشكيل الهيولي، ولكن، لمّا كانت للهيولي في ذاتها قوة [مقاومة] فإن هذا الجهد لا ينجح دائماً. وهذا هو السبب الذي يجعل الصورة لا تستطيع أن توجد بدون الهيولي، لأنها لا تستطيع أن تقهر تماماً النشاط المعرقل للهيولي، ومن ثّمّ لا يمكن للهيولي أن تذوب تماماً في الصورة. وهذا يفسّر أيضاً ما يحدث عرَضاً في الطبيعة من شواذ ووحوش ومشوّهين، فهنا نجد أنّ الصورة قد فشلت في أن تذلّل الهيولي، لقد فشلت الطبيعة في تحقيق غايتها. (240)

 

[الطبيعي وغير الطبيعي]

العلم يجب أن يدرس ما هو طبيعي وعادي لا ما هو شاذ ومشوّه.. وأرسطو مغرم باستخدامه الدائم لكلمتيّ "طبيعي" و "غير طبيعي"، لكنه يستخدمهما دائماً بهذا المعنى الخاص. ما هو طبيعي هو ما يحقق غايته حيث تنجح الصورة في السيطرة على الهيولي.

[بين أرسطو وداروِن]

.. إن الصورة الأدنى تنتقل في الوقت المناسب إلى الصورة الأرقى، لكن هذا ليس إلا اكتشافاً في الأزمنة الحديثة، ومثل هذا التصور كان مستحيلاً بالنسبة لأرسطو، فعنده إن الأجناس والأنواع خالدة ليس لها بداية أو نهاية. الناس الأفراد يولدون ويموتون، لكن النوع الإنساني لا يموت أبداً وهو يظل موجوداً دائماً على الأرض، والشيء نفسه حقيقي بالنسبة للنباتات والحيوانات. (241)

[كلمة "عضوي"]

.. إن التفرقة الأولى التي تقدمها الطبيعة لنا هي بين ما هو عضوي وما هو غير عضوي. ولقد كان أرسطو هو مكتشف فكرة العضوية كما كان مخترع الكلمة. (242)

[بين اللاعضوي والعضوي]

إذا كانت الهيولي اللاعضوية هي ما له غايته خارجه [أي يخضع لقوانين الطبيعة فقط كالجاذبية]، فإن الهيولي العضوية هي ما له غايةٌ في داخله.. إنها مبدأ تطوري ذاتي داخلي، ومن ثم فإن وظيفتها ليست سوى تحقق أو تكشف هذه الغاية الداخلية. فبينما لا نجد للهيولي اللاعضوية نشاطاً سوى الحركة المكانية، فإن الهيولي العضوية نشاطها هو النمو.. من الداخل.(243)

 

النفس عند أرسطو

النفس هي تنظيم أو صورة الجسم ببساطة. وكما أنّ الصورة لا تنفصل عن الهيولي، فإن النفس لا تستطيع أن توجد بدون الجسم، إنها وظيفة الجسم. وهي بالنسبة للجسم بمثابة البصر للعين. وبهذا المعنى نفسه يرفض أرسطو مذهب الفيثاغوريين وأفلاطون القائل إن النفس تتناسخ في أجسام جديدة وخاصةً في أجسام الحيوانات، فوظيفة الشيء لا يمكن أن تصبح وظيفةَ شيء آخر. (247)

.. وهو يستبعد أيّ مذهب للخلود لأن الوظيفة تتلاشى مع الشيء.

ونستطيع أن نلاحظ.. أن نظرية أرسطو في النفس لا تشكل تقدماً كبيراً بالنسبة لنظرية أفلاطون فحسب، بل هي تشكل تقدماً كبيراً أيضاً بالنسبة للتفكير الشائع في الوقت الحالي، فالتصور العادي للنفس الذي هو عين تصوّر أفلاطون، هو أن النفس شيء. ولمّا كانت شيئاً، فإنه يمكن أن توضع في جسم وتؤخذ منه كما يمكن صب النبيذ في قنينة وسكبه منها. والرابطة بين الجسم والنفس هي رابطة آلية خلصة، فهما لا يرتبطان معاً برابطة ضرورية، بل بالقوّة [أي كاحتمال ممكن]. وهما بطبعهما لا ترابط بينهما ويصعب تبيّن السبب الذي يجعل النفس تدخل في جسم أصلاً إذا كانت في طبيعتها شيئاً منفصلاً تماماً.

.. النفس ليست شيئاً على الإطلاق، إنها وظيفة. (248)

أما العقل الفعّال فهو خالد ولا يفنى، وهو ليست له بداية وليست له نهاية، وهو يأتي للجسم من الخارج ويفارقه عند الموت. ولمّا كان الله هو العقل المطلق، فإن عقل الإنسان يصدر عن الله ويعود إليه بعد أن يكف الجسم عن أداء وظيفته.

إن كل الملكات الدنيا تتلاشى مع الموت بما في ذلك الذاكرة.

.. فإذا فنيت الذاكرة فإنه لن تكون هناك حياة شخصية.

إذا كان أرسطو يعتقد حقاً أن العقل شيء يدخل في الجسم ويخرج منه وهو شيء استثنائي لمذهبه العام في النفس، فكل ما يمكن قوله هو أنه يحدث انقطاعاً فجائياً في السلّم الفلسفي، فهو بعد أن روّج لمثل هذه النظرية المتقدمة يرتد إلى الرأي الفج الذي عند أفلاطون. ولمّا كان هذا غير محتمل فإن التفسير الأكثر ترجيحاً هو أنه يتحدث هنا بطريقة تشبيهية بالكناية وربما بهدف استرضاء المتدينين وتجنب أي اضطراب عنيف للإيمان العالم الشعبي. (248)

فإذا كان الأمر هكذا فإن عباراته القائلة إن العقل الفعّال خالد ويأتي من الله ويعود إلى الله، تعني بكل بساطة أن عقل العالم خالد وأن عقل الإنسان هو تحقق هذا العقل الخالد وهو بهذا المعنى "يأتي من الله" ويعود إليه. (249)

 

[عند أرسطو] المطلق هو العقل، الصورة اللامادية. وكل شيءٍ في العالم هو في جوهره عقل. وإذا أردنا أن نعرف الطبيعة الجوهرية حتى لهذه الأرض الباردة، فإن الجواب هو أنها عقل، وإن كان هذا الرأي لم يقله أرسطو..

إن العقل لا يستطيع أن يعبر عن ذاته في الكائنات الأدنى [من الإنسان] إلا كإحساس (حيوانات) أو كتغذية (النباتات) أو كجاذبية (الهيولي غير العضوية).

.. إن نظرية أرسطو من أكثر التصورات قيمةً في الفلسفة [ويتّضح ذلك أكثر] إذا قارنّاها بالنظريات العلمية المحدثة عن التطوّر، وثانياً بجوانب معيّنة من وحدة الوجود الهندوكية. (252)

[الغائية وفلسفة الطبيعة]

.. إذا كان يجب أن تكون لدينا فلسفة للتطور يجب أن تكون غائية.

وإذا لم تكن الطبيعة تتقدم نحو غاية، فلن يكون هناك شيءٌ أقرب أو أبعد، لا يوجد شيءٌ اسمه أرقى أو أدنى، لا يوجد تطوّر. فما هي الغاية إذاً؟

يقول أرسطو إنها تَحقّق العقل. إن الوجود الأدنى هو العقل الخالد، ولكن هذا ليس موجوداً بل يجب أن يأتي إلى الوجود. إنه يعلن نفسه بغموض على أنه جاذبية، لكن هذا أبعد ما يكون عن غايته التي هي وجود العقل كعقل في العالم، وهو يزداد قرباً في النباتات والحيوانات، وهو يصل على نحو تقريبي في الإنسان، لأن الإنسان هو العقل الموجود ولكن لا معنى في الكون للتوقف عندما يصل إلى غايته.  (255)

.. الفكرة الرئيسية في وحدة الوجود هي أن كل شيء هو الله. فبرودة الأرض إلهية لأنها تجلٍّ للرب. وهذه الفكرة طيبة وهي في الحقيقة جوهرية للفلسفة. ونحن نجد فيها أرسطو نفسه حيث إن العالم كله بالنسبة له هو تحقق العقل، والعقل هو الله. (255)

الأخلاق عند أرسطو:

إن الخير لكل موجود يجب أن يكون الأداء الشديد لوظيفتها الخاصة.

ولا يقوم خير الإنسان في لذة الحواس، فالإحساس هو الوظيفة النوعية للحيوانات لا للإنسان، أما وظيفة الإنسان النوعية فهي العقل، ومن ثَمّ فإن نشاط العقل هو الخير الأقصى، الخير [الخاص بالإنسان]. وتقوم الأخلاقيات في حياة العقل. ولكن المقصود بهذه الدقة هو التالي:

ليس الإنسان حيواناً عقلياً فحسب، فلمّا كان موجوداً أرقى فإنه يحتوي بداخله على ملَكات الموجودات الأدنى أيضاً. فهو مثل النباتات غاذٍ، ومثل الحيوانات حساس، فالانفعالات والشهوات جزء عضويّ في طبيعته. ومن ثم فإن الفضيلة نوعان: الفضائل العليا توجد في حياة العقل وحياة الفكر والفلسفة، وهذه الفضائل العقلية يسميها أرسطو الفضائل العقلية.

ثانياً، الفضائل الأخلاقية الملائمة تقوم في إخضاع الانفعالات والشهوات لسيطرة العقل. والفضائل العقلية هي الأعلى حيث تعمل الوظيفة النوعية للإنسان، ولأن الإنسان العاقل يشبه الله الذي حياتُه هي حياة الفكر الخالص. (258)

تطرفان:

هناك تطرّفان يجب تجنّبهما. التطرّف الأول هو محاولة استئصال الانفعالات، والتطرّف الأخر هو السماح لها بأن تصل إلى الفوضى. (260)


..

 [بالنسبة لأرسطو] إن ما هو وضوع وحقير لا يصلح إطلاقاً أساساً للتراجيديا. ومعظم الصحافة المحدثة قد شوّهت كلمة التراجيديا هذه. فعندما ينسحق إنسان تعس تحت عجلات قطار، تنشر الصحف [الخبر] تحت عنوان "تراجيديا مخيفة". إن مثل هذه الحادثة قد تكون مخيفة ومرعبة.. لكنها ليست تراجيدية. التراجيديا تتناول ـ دون شك المعاناة، لكن لا يوجد شيء عظيم يدعو إلى النبل في هذه المعاناة، والتراجيديا معنية بمعاناة العظمة.

وبنفس الطريقة لا يقصد أرسطو أن البطل الكوميدي هو بالضرورة إنسان وغد، بل هو على الجملة مخلوق تعس بلا أهمية، وقد تكون له جدارته ولكن هناك شيء وضيع وحقير فيه يجعلنا نضحك.

(269)

 

أرسطو وهيغل

يقول ولتر ستيس: يستحق أرسطو الجدارة في أنه قدّم الفلسفة الوحيدة في التطور التي رآها العالم، مع استثناء فلسفة التطور عند هيغل، ولم يتمكن هيغل من أن يجد نظريةً أكثر جدادة [ربما جدارةً] في التطور إلا بعد أن سار إلى حدٍّ كبير على آثار أرسطو، وربما كان هذا أكثر إسهامات أرسطو في الفكر أصالة. (270)

إن الصيرورة عند [هيراقليطس وأتباعه] لم تكن إلا تغيراً لا معنى له، ولم تكن تطوّراً، وسيرورةُ العالم كانت تياراً لا نهاية له من الأحداث العقيمة التي هي بلا هدف، ليست سوى "قصةٍ يرويها أبله وهي مليئةٌ بالصخب والعنف ولا تعني شيئاً" (شكسبير). ولم يسأل أرسطو نفسه فحسب كيف تكون الصيرورة ممكنة، لقد بيّن أن للصيرورة معنىً وأنها تعني شيئاً وأن سيرورة العالم هي تطوّر منظم عقلياً نحو غاية معقولة.

 

نقد ولتر ستيس لأرسطو:










الفهرس

إهداء 5

تصدير: 7

الفصل الأول: فكرة الفلسفة اليونانية بصورة عامة: أصول الفلسفة اليونانية: 13

الفصل الثاني: الأيونيون: 29

طاليس: 29

أنكسماندريس: 32

أنكسمانس: 35

المفكرون الأيونيون الآخرون: 36

الفصل الثالث: الفيثاغوريون: 37

الفصل الرابع: الإيليون: 45

ـ أكزينوفان: 45

ـ بارمنيدس: 47

ـ زينون: 54

ـ ملاحظات نقدية على الإيلية: 60

الفصل الخامس: هيراقليطس: 69

الفصل السادس: أمبيدوكليس: 77

الفصل السابع: الذريون: 81

الفصل الثامن: أنكساغوراس: 87

الفصل التاسع: السوفسطائيون: 97

الفصل العاشر: سقراط: 113

الفصل الحادي عشر: أنصاف السقراطيين: 135

ـ الكلبيون: 137

ـ القورينائيون: 139

ـ الميجاريون: 141

الفصل الثاني عشر: أفلاطون: 143

1ـ حياته وكتاباتُه: 143

2ـ نظرية المعرفة: 154

3ـ الجدل ونظرية المثل: 158

4ـ الفيزياء أو نظرية الوجود (مذهب العالم ـ مذهب النفس الإنسانية) 177

5ـ فلسفة الأخلاق: 186

6ـ آراء حول الفن: 195

7ـ تقييم نقدي لفلسفة أفلاطون: 198

الفصل الثالث عشر: أرسطو: 209

1ـ الحياة والكتابات والطابع العام لأعماله: 209

2ـ المنطق: 216

3ـ الميتافيزيقا: 217

4ـ الفيزيقا أو فلسفة الطبيعة: 238

5ـ فلسفة الأخلاق: 256

6ـ علم الجمال أو نظرية الفن: 265

7ـ تقدير نقدي لفلسفة أرسطو: 269

الفصل الرابع عشر: الطابع العام للفلسفة بعد أرسطو: 275

الفصل الخامس عشر: الرواقيون: 279

المنطق: 279

الفيزياء: 280

فلسفة الأخلاق: 282

الفصل السادس عشر: الأبيقوريون: 287

الفيزياء: 288

فلسفة الأخلاق: 290

الفصل السابع عشر: الشكاك: 293

فيرون: 294

الأكاديمية الجديدة: 295

نزعة الشك المتأخرة: 297

الفصل التاسع عشر: 303

 

 

 

 

 


ولتر ستيس؛ بارمنيدس وزينون. (من تاريخ الفلسفة اليونانية)

 

الرياضيات بالمغرب Math Maroc: مفارقة "أخيل والسلحفاة" والإلهام بوجود مفهوم  النهاية في الرياضيات

ولتر ستيس؛ بارمنيدس وزينون. (من تاريخ الفلسفة اليونانية)


أكزينوفان

المؤسس المشهور للمدرسة الإيلية هو أكزينوفان، وهناك شكٌ فيما إذا كان قد ذهب إلى إيليا أصلاً. [إيليا منطقة في جنوب إيطاليا].

زيادةً على ذلك فإنه يمتّ لتاريخ الدين أكثر مما يمتّ لتاريخ الفلسفة. والمبدع الحقيقي للمدرسة الإيلية هو بارمنيدس، غير أنّ بارمنيدس وجد بذوراً معيّنة في تفكير أكزينوفان وحوّلها إلى مبادئ فلسفية. لهذا فإنّ عندنا ما نقوله أولاً عن أكزينوفان. لقد وُلِد حوالي 576 ق. م. في قولوفون في أيونيا. وانقضت حياتُه الطويلة في التجوال في المدن الهيللينية كشاعرٍ ومغنٍّ وهو ينشد الأغنيات في الموائد والاحتفالات. والقول إنه استقرّ في النهاية في إيليا أمرٌ يحاط بالشك، ولكننا نعلم علم اليقين أنه وهو في سنٍّ متقدم في الثانية والتسعين كان لا يزال يتجوّل في اليونان. وجرى التعبير عن فلسفته شعراً. وعلى أيّة حال لم يكتب قصائدَ فلسفيةً بل مراثيَ وهجائياتٍ عن الموضوعات المختلفة، وأحياناً ما يعبّر عن آرائه الدينية فيها. وقد انحدرت إلينا شذراتٌ من هذه القصائد.

ويعدّ أكزينوفان هو أصل النزاع بين الفلسفة والدين، فقد هاجم الأفكار الدينية الشعبية عند اليونان بهدف التوصّل إلى تصوّرٍ أكثرَ صفاءً ونبالةً عن الرب. ويقوم الدين اليوناني الشعبي على أساس الاعتقاد في عددس من الآلهة التي يجري تصوّرها على شكلِ كائناتٍ إنسانية.

ولقد هاجم أكزينوفان هذا التصوّر عن الله باعتباره يحتوي على شكلٍ إنساني. يقول إنه من العبث افتراض أنّ الآلهة تنتقل من مكانٍ إلى مكان على نحو ما تصوّرها الأساطير اليونانية. ومن العبث افتراض أن للآلهة بدايةً، ومما يحط من شأنهم أن نعزوَ إليهم قصصاً مليئةً بالخداع والاحتيال واللصوصيةِ والزنا.

وقد هاجم أكزينوفان كلاً من هومر وهزيود لأنهما رددا هذه التصورات الشائنة عن الأرباب. ولقد تجادل أيضاً ضدَّ فكرة تعدد الآلهة. فإن ما هو إلهي لا يمكن إلا أن يكون واحداً ولا يمكن إلا أن يوجد واحدٌ هو أفضلها، لهذا فإن الله يجب تصوره على أنه واحد وهذا الإله لا يشبه الفانين، سواءٌ في الصورة الجسدية أو الفهم. يقول: "إنه كله بصرٌ وكلُّه سمع وكله فكر". إنه "هو الذي دون مشقّةٍ وبفضل تفكيره يحكم الأشياء جميعاً". ولكن سيكون من الخطأ افتراض أن أكزينوفان يفكر في هذا الربّ على أنه كائنٌ خارجيّ عن العالم يحكمه من الخارج كما يحكم القائد قواتِه. بل بالعكس لقد وحد أكزينوفان بين الله والعالم.

إن العالم هو الله. إنه كائنٌ حسّاس وإن كان بلا أعضاءٍ حسّية. يقول تأمّل في السماوات الواسعة وسوف تجد أنّ "الواحد هو الله". ولهذا يمكن وصف تفكير أكزينوفان بأنه وحدة وجود وليس تفكيراً واحدياً.

والله لا يتغيّر ولا يتحرك ولا ينقسم ولا يحرّكه شيء وهو لا يضطرب ولا ينفعل. وهكذا يبدو أكزينوفان على أنه مصلحٌ ديني أكثر منه فيلسوفاً. ومع هذا لمّا كان هو أوّل من قال القضية: "الكل هو واحد" فإنه احتلّ مكانتَه في الفلسفة وحولَ هذه الفكرة بنى بارمنيدس أسس الفلسفة الإيلية. (ولتر ستيس؛ تاريخ الفلسفة اليونانية؛ 46)

بارمنيدس (514 ق. م؛ ..)

كل الأشياء تظهر وتنقضي، ولا شيءَ دائمٌ ولا شيءَ يظلّ، فالشيء في لحظةٍ لا يكون في اللحظة التالية، ويكون قولُنا صادقاً إذا قلنا عنه إنه ليس موجوداً بمثل ما يكون قولنا صادقاً إذا قلنا عنه إنه غير موجود، وحقيقة الأشياء ليست هنا، لأنه ما من معرفةٍ يمكن أن تتولّد مما يتغيّر دائماً. (47)

الحقيقي المطلق هو الوجود، واللاوجود هو غير الحقيقي، واللاوجود ليس شيئاً على الإطلاق. وهو [أي بارمنيدس] يوحّد بين هذا اللاوجود وبين الصيرورة وبين عالم التغير والأشياء المتغيّرة، أي العالم المعروف لنا عن طريق الحواسّ.

إن عالم الحسّ غير حقيقي، وهمي، مجرّد مظهر، إنه لاوجود. والوجود وحده هو الحقيقي. وكما اعتبر طاليس الماءَ هو الحقيقة الواحدة، وكما اعتبر الفيثاغوريون العدد هو الحقيقة الواحدة، فإن الحقيقة الواحدة عند بارمنيدس، أي المبدأ الأول للأشياء هو الوجود غير المختلط باللاوجود البتّة، وهو خالٍ كلّيةً من كلّ صيرورة. (48)

[بارمنيدس بين المادية والمثالية]:

كيف يمكن أن نوفّق بين الرأيين المتصارعين عند بارمنيدس [: المادية والمثالية]؟

أعتقد أن الحقيقة هي أنّ هذين التناقضين قائمان جنباً إلى جنب عند بارمنيدس دون تصالح، وكلٌّ منهما يناقض الآخر.

وبارمنيدس نفسُه لم يتبيّن التناقض. فإذا أكّدنا جانباً سيكون بارمنيدس مادياً، وإذا أكدنا الجانب الآخر فسيجري تفسيره على أنه مثاليّ. وفي الحقيقة، في تاريخ الفلسفة اليونانية تأكد هذان الجانبان عند بارمنيدس تباعاً. لقد أصبح أب المادية والمثالية كليهما. لقد تمسّك خليفتاه المباشران أمبيدوقليس وديموقريطس بالجانب المادي في تفكيره وطوّراه. إن الفكرة الجوهرية عند بارمنيدس هي أنّ الوجود لا يمكن أن يظهر من اللاوجود، وأن الوجود لا يظهر ولا ينقضي. فإذا طبقنا هذه الفكرة على المادة فإننا نحصل عى ما نسميه في الأزمنة الحديثة مذهب عدم فناء المادة. إن المادة ليس لها بداية ولا نهاية. والظهور المتدني والانقضاء المبتدى للأشياء هما بكل بساطة تجميع وانفصال جزئيات المادة [التي] هي نفسها لا تفنى. وهذا بالضبط هو موقف ديموقريطس. ومذهبه هو استخلاص مادي للفكرة الرئيسية لبارمنيدس من أنّ الوجود لا يمكن أن يصدر عن اللاوجود أو ينقضي إلى اللاوجود.

ولم يحدث إلا مع أفلاطون أن الجانب المثالي من المذهب البارمنيدي قد تطوّر وكانت عبقرية أفلاطون هي التي التقطت بذور المثالية في بارمنيدس وطوّرتها. لقد تأثّر أفلاطون تأثراً بالغاً ببارمنيدس وكان مذهبة الرئيسي هو أن حقيقة العالم موجودة في الفكر، في المفاهيم، في ما يسميه "المثال"، ولقد وحّد بين المثال وبين الوجود عند بارمنيدس.

ولكن لا يزال أمامنا أن نتساءل عن ماهية الرأي الحقيقي عند بارمنيدس، من هو بارمنيدس الحقيقي؟ أليس أفلاطون وهو يفسّره إنما يقرأ فكره هو في بارمنيدس؟ ألسنا إذا فسرناه مثالياً إنما نقرأ فيه أفكاراً متأخرة؟ بمعنى ما من المعاني يعد هذا صادقاً تماماً.. (52)

الفلسفة..

لقد ذكرتُ .. أنّ الفلسفة هي الحركة من الفكر الحسّي إلى الفكر غير الحسي، وقلتُ إن هذه الحركة تحدث بصعوبة ومشقّة كبرى، وقلتُ إنه حتى الفلاسفة الكبار قد فشلوا أحياناً بهذا الصدد. (53)

 

حجج زينون على امتناع الحركة والتغيّر

إن كلّ حجج زينون زينون تقوم على حجةٍ واحدة على النحو الذي وضعناه ويمكن تسميتها نقيضة القسمة المتناهية، فمثلاً قصة السهم الطائر: يقول زينون إن السهم الطائر في كل لحظةٍ من طيرانه يجب أن يكون في مكانٍ واحد لأنه لا يمكن أن يكون في مكانين مختلفَين في الوقت نفسه، وهذا يتوقف على تصور الزمن على أنه ينقسم إلى ما لانهاية، ففي الآن اللامتناهي فقط أي الآن المطلق الذي ليست له ديمومة يكون السهم في حالة سكون. (57)

[هدف زينون من نقائضه]

إذا رجعتَ إلى نقيضة القسمة اللامتناهية التي تقوم عليها معظم حجاج زينون فربما تتوقع في أن أقول شيئاً من الحلول المختلفة التي عرضت. أولاً لا يجب أن ننسى حل زينون، فهو لم يعرض لهذا التناقض لذات لاتناقض بل لتأييد أطروحة بارمنيدس. وحله هو أنه لمّا كانت الكثرة والحركة تحتويان على هذه التناقضات فإن الكثرة والحركة غير حقيقيتين، إذاً فلن يكون هناك سوى وجود واحد لا كثرة فيه وخالٍ من كل حركة وصيرورة كما قال بارمنيدس. (57)

وهذه التناقضات ـ كما قال الفيلسوف الألماني كانط ـ باطنية في تصوراتنا في المكان والزمان، ولمّا كان الزمان والمكان يتضمّنان هذه التناقضات فإنه يترتّب أنها ليست أشياءَ حقيقية بل مظاهر، مجرد ظواهر. إن المكان والزمان لا يخصان الأشياء في ذاتها بل يخصان بالأحرى طريقتنا في النظر إلى الأشياء، فهما صورتا إدراكنا الحسّي، وعقلُنا هو الذي يفرض المكان والزمان على الأشياء وليست الأشياء هي التي تفرض المكان والزمان على عقولنا. زيادةً على ذلك فإنّ كانط استخلص من هذه التناقضات نتيجةً هي أنّ استيعاب اللامتناهي ليس في مكنة العقل الإنساني. (58)

الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم قد أنكر القسمة اللامتناهية للمكان والزمان وأعلن أنهما مكوّنان من وحداتٍ لا تنقسم لها عِظَم. غير أنّ الصعوبة في أنه يستحيل تصوّر وحدات لها عظم ومع هذا لا تنقسم لا يفسرها هيوم تفسيراً مقنعاً. (58)

[قراءة هيغليه في تناقضات زينون (وبارمنيدس)]:

لم يخرج هيغل على طريقته لحل هذه النقائض [عند زينون الإيلي]، فهي تبدو كمجرد حوادث في تطوّر تفكيره، إنه لا ينظر إليها كحالات معزولة للتناقض الذي يحدث في الفكر وكاستثناءات لقاعدة عامة تحتاج إلى تفسير خاص. بل بالعكس، لقد نظر إليها لا كاستثناءات بل كأمثلة على الطابع الجوهري للعقل. فكل الفكر، كل العقل عند هيغل يحتوي على تناقضات باطنية حيث يطرحها أولاً ثم يوفّق بينها في وحدةٍ أرقى، وهذا التناقض الجزئي للقسمة اللامتناهية يتم حلّه في الفكرة الأرقى (للكم). إن فكرة الكمّ تحتوى على عاملين هما (الواحد) و(الكثير)؛ والكمّ يعني بالضبط كثرةً في واحد أو واحد في كثرة.

فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى كمّ أيّ شيء وليكن كوماً من القمح، فإنها واحد. كلٌّ واحد ثم إن الكومَ كثرةٌ لأنه مكوّنٌ من أجزاءٍ عديدة، فهو كواحد متصل وهو ككثرةٍ منفصل.

إن الفكرة الحقيقية للكمّ ليست الواحد بمعزل عن الكثرة ولا الكثرة بمعزل عن الواحد، بل هي مركّب الاثنين، إنها الكثرة (في) الواحد. والنقيضة التي نبحثها تصدر من النظر إلى جانب الحقيقة في تجريد زائف عن الجانب الآخر. وإن تصور الوحدة على أنها ليست في ذاتها كثرة، أو الكثرة على أنها ليست في ذاتها وحدة، هو تجريد مزيّف.

إن فكرة الواحد تتضمّن فكرة الكثرة وفكرة الكثرة تتضمّن فكرة الواحد، وأنت لا يمكن أن تكون لديك [كثرةٌ] بدون واحد، كما أنه لا يكون هناك طرف للخيط بدون الطرف الآخر. والآن، إذا نظرنا إلى أيّ شيءٍ يقاس كمّياً مثل الخط المستقيم، فإنه يمكن تناوله أولاً كشيء واحد، وفي هذه الحالة هو وحدةٌ لا تنقسم متصلة؛ ثم يمكن أن نتناوله ككثرة، حيث إن فيه أجزاءً ومرةً أخرى يمكن اعتبار هذه الأجزاء على أنها واحد، ومن ثمّ فهي وحدة لا تنقسم، ومرةً ثانية كل جزءٍ يمكن أن يعدّ كثرةً حيث ينقسم إلى مزيد من الأجزاء، وهذه العملية المتبادلة يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية. وهذه نظرة إلى المسألة أدّت إلى التناقضات التي نبحثها، لكنها نظرةٌ خاطئة فهي تتضمن التجريد الخاطئ للنظر أولاً للكثرة على أنها شيء له حقيقته بمعزل عن الواحد، ثم النظر إلى الواحد على أنه شيء له حقيقته بمعزل عن الكثرة.

فإذا أصررت على القول إن الخط هو ببساطة واحد وليس كثرة، إذاً ستنشأ نظرية الوحدات التي لا تنقسم، وإذا أصررت على القول إنها كثرة وليست واحداً إذاً فإنها تنقسم إلى ما لانهاية. لكن الحقيقة هي أنها ليست كثرة بسيطة وليست واحداً بسيطاً؛ إنها كثرة (في) واحد، أي إنها (كمّ). ولهذا فإن جانبيّ التناقض صادقان بمعنىً ما من المعاني، لأن كل جانب عامل في الحقيقة لكن الجانبين زائفان أيضاً إذا اعتبر كلٌ منهما نفسه هو الحقيقة كلّها. (59)

نقد المدرسة الإيلية:

إذا تطلّعنا إلى الطريق الذي قطعناه منذ بداية الفلسفة اليونانية فسوف نتمكّن من أن نحدّد الاتجاه الذي تحرّكنا فيه. لقد طرح الفلاسفة اليونانيون الأوّل: الأيونيون السؤال: "ما هو المبدأ المطلَق للأشياء؟" وردّوا بأن أعلنوا أنّ المبدأ الأول للأشياء هو المادة.

والمدرسة اليونانية الثانية وهي الفيثاغويون ردّوا على لاسؤال نفسه فأعلنوا أنّ الأعداد هي المبدأ الأول، وردّت المدرسة الثالثة وهي الإيليون على السؤال فأكّدت أن المبدأ الأول للأشياء هو الوجود.

إن الكون كما نعرفه كمّي وكيفيّ. والكم والكيف هما خاصيتان لكل موضوع حسّي. وليس الكمّ والكيف ت في الواقع ـ الصفتين الوحيدتين للعالَم ولكنهما الصفتان الوحيدتان البارزتان. وموقف الأيونيين هو أن الحقيقة المطلَقة كمّيةٌ وكيفيّة معاً. أي إنها المادة، فالمادة هي ما له كمٌّ وكيف.

ولقد جرّد الفيثاغوريون الكيف من الأشياء ونزعوا عنها الجانب الكيفي ولم يبقَ لديهم سوى الكمّ باعتباره الحقيقة القصوى والكمّ هو نفسه العدد، ومن ثَمّ فإن موقف الفيثاغوريين هو أن العالم مكوّن من أعداد.

ولقد خطت الفلسفة الإيليّة خطوةً أبعد في الاتجاه نفسه وحدث تجريد عن الكمّ كما حدث تجريد عن الكيف. فبينما ينفي الفيثاغوريون الجانب الكيفي للأشياء ولا يتركونها إر مع الجانب الكمّي ينفي الإيليون الكمّ والكيفَ معاً، [فهم] بإنكارهم للكثرة قد نفَوْا الكمّ، ومن ثَمّ لم يبقَ سوى التجريد الكلّي للوجود المحض وفيه لا يوجد انقسام (كمّ) ولا صفةٌ إيجابية (كيف). ولهذا فإن الانتقال من الفلسفة الإيونية إلى الفلسفة الإيلية هو أساساً انتقال من التفكير الحسّي إلى التفكير المحض الخالص. إن الوجود الإيلي [أي الوجود الذي قال به الإيليون] هو فكر تجريدي تام، أما موقف الفيثاغوريين فهو الفكر شبه الحسّي وهم يعدّون حجر الانتقال من الأيونيين إلى الإيليين.

(61)

الفلسفة واحديّة بالضرورة..

من الضروري بالنسبة إلينا أن نفهم أنّ الفلسفة الإيليّة هي أوّل نزعةٍ واحديّة [؟].

والفلسفة الواحديّة هي فلسفة تحاول أن تفسّر الكون كلّه من مبدإٍ واحد. وعكس النزعة الواحدية نزعة الكثرة، وهي ذلك النوع من الفلسفة الذي يسعى إلى تفسير الكون من مبادئَ عديدةٍ مطلقةٍ ونهائية.

ولكننا نتحدث أكثر وبصفةٍ خاصة على أنّ مقابل النزعة الواحدية النزعةُ الاثنينية، أي القول بأنّ هناك مبدأين مطلقَين للتفسير. فإذا قلنا مثلاً إن كلّ الخير في العالم ينشأ من مصدرٍ واحد هو الخير، وإن كل الشر في العالم يصدر من مصدرٍ واحد هو الشر، وأنّ هذين المصدرين للخير والشرّ لا يمكن أن يكون الواحد [منهما] تابعاً للآخر، بل هما متآزران وكلاهما على نفس الدرجة من الاستقلال والأولية فإن هذا الموقف هو موقف النزعة الاثنينية.

والفلسفة كلها الجديرة بهذا الاسم تسعى بمعنىً ما من المعاني إلى التفسير الواحدي للكون، وعندما نجد مذهباً في الفلسفة ينهار ويفشل فإننا نكاد نوقن دائماً أنّ عجزه سيتكشّف على أنه ثنائيةٌ لا تصالحَ فيها.

ومثل هذه الفلسفة تبدأ بمذهب واحدي وتحاول أن تستخلص أو تشتق الكون كله منه، ولكن يحدث أن تواجه بشيء في العالم لا تستطيع أن تدرجه تحت ذلك المبدأ وحينئذٍ يكون لديها وجودان مطلقان لا يمكن لأيٍّ منهما أن يُشتَقّ من الآخر، وينفجر المذهب إلى ثنائية. (62)

.. لقد كان الإيليون على حقٍ بقولهم إن الكلّ واحد وإن المبدأ المطلق للوجود وهو الوجود واحد. ولكن إذا بحثنا الطريقة التي طرحوا بها واحديّتهم فسوف نتبيّن أنها تنشطر إلى ثنائيّة باعثةٍ على اليأس، فكيف فسّروا وجود العالم؟

لقد عرضوا لمبدأ الوجود على أنه الحقيقة المطلقة. فكيف إذاً يستخلصون العالم العقلي من ذلك المبدأ؟ الجواب أنهم لم يستخلصوه ولم يُبدُوا محاولةً لاستخلاصه. وبدلاً من اشتقاق العالم من مبدئهم الأول، أنكروا ببساطة حقيقة العالم كلّيةً. لقد حاولاوا أن يحلّوا المشكلة بإنكار وجود المشكلة. يقولون إن العالم هو بكل بساطة لاوجود. إنه وهم. من المؤكد أنه شيء عظيم أن تعرف ما هو العالم الحقيقي، وما هو العالم المزيّف، ولكن هذا ليس تفسيراً على الإطلاق. إن اعتبار العال موهماً ليس تفسيراً له، فإذا كان العالم حقيقةً إذاً فإن مشكلة الفلسفة هي كيف تنشأ الحقيقة. وإذا كان العالم وهماً إذاً فستكون المشكلة هي كيف ينشأ هذا الوهم؟ سمّه وهماً إذا شئتَ ولكنّه لا يفسره، إن المسألة هي مجرد أسماءٍ تطلَق، وهذا هزيمة أخرى للفلسفة الهندية حيث يعدّ العالم "مايا" أي وهماً. ومن ثَمّ ففي الفلسفة الإ]لية هناك عالمان يتواجهان ويقومان جنباً إلى جنب دون تصالح: عالم الوجود الذي هو العالم الحقيقي، وعالم الوقائع الذي هو عالمٌ وهمي. وبالرغم من أنّ الإيليين ينفون العالم الحسّي ويعتبرونه وهماً، إلا أنهم لا يستطيعون أن يخلصوا أنفسهم من هذا الوهم. وبمعنى ما من المعاني، هذا العالم هو هنا، حاضر، وهو يعود إلى حواسنا ويطالب بتفسير. سمّه وهماً لكنه لا يزال قائماً جنباً إلى جنب العالم الحقيقي ويطالب بأن يُستمَدّ منه. إن لدى الإيليين مبدأين: العالم الزائف والعال مالحقيقي وهما قائمان جنباً إلى جنب دون رابطةٍ تربط بينهما ودون أيّ إظهارٍ كيف ينشأ الواحد من الآخر. وهذه ثنائية مطلقة لا تصالح فيها.

ومن السهل أن نتبيّن كيف تحطمت الفلسفة الإيلية إلى هذه الثنائية، الأمر يرجع إلى تجرد مبدئهم الأول نفسه. يقولون إن الوجود ليس فيه صيرورة، ومبدأ الحركة كله مستبعد تماماً منه. وهم بالمثل ينكرون عليه أية كثرة، فهو ببساطة واحد لا كثرة فيه. وإذا أنت استبعدتَ صراحةً الكثرة والصيرورة من مبدئك الأول، إذاً فأنت لن تحصل إطلاقاً على الكثرة والصيرورة من خارجه، إنك لا تستطيع أن تستخلص منه أيّ شيءٍ ليس فيه. فإذا أطلقت القول إنه لا توجد كثرة في المطلق، فإنه سيستحيل تفسير كيفية مجيء الكثرة إلى هذا العالم. والأمر بالمثل بصدد مسألة الكيف.

إن الوجود المحض بلا كيفية، إنه مجرد "كينونة". إنه بلا ملامحَ على الإطلاق. إنه وجود بلا خصائص. إنه خاوٍ ومجرّد تماماً.

إذاً كيف يمكن لكيف الأشياء أن يصدر منه؟

كيف يمكن لكل ثروات وتنوّع العالم أن تصدر من هذا الخواء؟

إن الإيليين أشبه بالمشعوذين الذين يحاولون أن يجعلوك تعتقد أنهم سيحصلون على الأرانب والخيوط والورق والشرائط من قبّعةٍ فارغةٍ تماماً.

إن الإنسان ليتبيّن مقدار تجرد وخواء مثل هذا المبدأ إذا ما حوله الإنسان إلى لغة كنايةٍ وتشبيه، أي إلى لغة الدين.

إن المبدأ الإيلي يتفق مع دين نقول فيه أن "الله موجود"، ولكن فيما عدا أن الله "كائن"، فإنه ليس له كفوٌ أحد.

ولكن هذا تصوّر مجرّد للرب، ونحن تعوّدنا في الدين المسيحي أن نسمع تعبيرات لا على أن "الله موجود" فحسب، بل أيضاً أن "الله محبة" و"الله قوة" و"الله خير" و"الله حكمة". ويمكن توجيه اعتراض بشأن هذه المحمولات [أي الصفات] على أساس أنها تشبيهية وإضفاء للطابع الإنساني. وهي في الحقيقة تكشف عن اتجاه للتفكير في الأشياء اللاحسية بطريقة حسية. (67)

وهذه المحمولات التقطت فحسب من العالم المتناهي وطبقت كيفما اتفق على الله، وهي محمولات ليست سديدة للتعبير عنه.

غير أنّ هذه التعبيرات تعلمنا على الأقل أنه من الفراغ المحض لا شيءَ يظهر، وأن العالم لا يمكن أن يصدر عن شيءٍ أدنى وأقل من ذاته. وهنا في العالم نجد مقياساً معيّناً ومحبة وحكمة وامتيازاً وقوة. وهذه الأشياء لا يمكن أن تظهر من مصدر يكون فقيراً حتى إنه لا يحتوى إلا "الكينونة". يمكن للأقل أن يصدر عن الأعظم ولكن الأعظم لا يصدر عن الأقل. ونستطيع أن نقابل الإيلية لا بالمسيحية فحسب، بل حتى باللاأدرية الحديثة. فهذه اللاأدرية ترى أن المطلق مجهولٌ، ولكن ما يقصده اللاأدريون هو أن العقل الإنساني غيرُ ملائم لالتقاط عظمة الوجود المطلق. غير أن المبدأ الإيلي هو أنه ليس في قولنا "الله محبة وقوة وحكمة" نقول شيئاً قليلاً عن الله وأن أفكارنا غير ملائمة للتعبير عن امتلاء وجود الله بل بالعكس، إنهم يعبرون عن فكرة عالية للغاية عن الله الذي لا يمكن أن يقال عنه شيءٌ سوى "أنه موجود" لأنه ليس هناك المزيد لنقوله، وهذا التصور لله هو تصوّر وجود فارغ خاوٍ تماماً. (67)

[ستيس يفلسف المسيحية]

لقد قلتُ إن الواحدية هي فكرة ضرورية في الفلسفة، فالمطلق يجب أن يكون واحداً، غير أنّ الواحدية المجردة للغاية مستحيلة. فإذا كان المطلق هو ببساطة الواحد الخالي تماماً من كل سيرورة وكثرة، فإنه من مثل هذا التجريد لا يمكن أن تصدر السيرورة والكثرة. إن المطلق ليس ببساطة واحداً أو ليس ببساطة كثرة. بل يجب أن يكون كثرةً في واحد بمثل الثالوث في المسيحية. لقد انتقل الدين من تعدد الآلهة المجرد (الله كثرة) إلى واحدية مجردة (الله واحد، اليهودية والهندوكية والإسلام)، ولكنه لم يتوقف هنا فقد انتقل إلى واحدية عينية (الله كثر في واحد: المسيحية). وهناك تصوران خاطئان شائعان بشأن عقيدة الثالوث..

الخطأ الأول هو العقلانية الشعبية، والخطأ الثاني اللاهوت الشعبي.

إن العقلانية الشعبية تؤكد أن عقيدة الثالوث منافيةٌ للعقل، واللاهوت الشعبي يؤكد أنه سرٌ يتجاوز العقل. غير أنّ الحقيقة هي أنه لا يناقض العقل ولا يتجاوزه، بل بالعكس، إنه في ذاته التجلي الأكبر للعقل. وما هو سرٌّ وما هو مناقض للعقل هي افتراض أن الله، المطلق، هو ببساطة واحد بدون كثرة. وهذا التناقض ناتج في الثنائية المميتة التي نشأت في الإيلية ونشأت في كل مذهبٍ فكري آخر مثل مذهب الهندوك أو اسبينوزا والذي يبدأ بتصوّر المطلق كواحد محض يستبعد الكثرة تماماً.

(68)

 

 


الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

روافد في فلسفة كانط؛ لببنتز؛ محمود زيدان




[روافد في فلسفة كانط]
ـ كانط وليبنتز:

لا نزاع في تأثر كانط بنيوتن في نظرياته الطبيعية، وقد أشرنا من قبلُ إلى قراءة كانط لنيوتن قراءة فاحصة أيامَ كان طالباً في الجامعة، وقد كان كانط ينظر إلى مذهب نيوتن على أنه مذهبٌ متكامل وصادق، ولم يمنع ذلك من توجيه كانط كثيراً من الاعتراضات على هذا المذهب، مما سوف نذكره في حينه. ننتقل إلى علاقة كانط بليبنتز.
يمكن أن نجعل عام 1765 نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى في معرفة كانط لليبنتز؛ لم يكن يعرف كانط عن ليبنتز حتى هذه السنة غير أنه صاحب المونادولوجيا، والإلهيات، وبعض رسائله القصيرة الأخرى، بل لقد عرف كانط هذه الكتب من خلال تعاليم وولف وباومجارتن، ونحن نعلم أن كتاب ميتافيزيقا لباومجارتن كان مرجع كانط الرئيسي عن ليبنتز حين كان طالباً وحين حاضر في الجامعة بعدئذٍ؛ لم تكن هذه الكتب كل كتب ليبنتز؛ ومن ثَمّ كانت معرفة كانط بليبنتز حينئذٍ ناقصة. لكنا نعرف أن مقالات جديدة عن العقل الإنساني نشرت عام 1765، كما نشرت في نفس السنة مراسلات ليبنتز مع كلارك، ونعلم أن كانط قرأهما حال نشرهما. فاستطاع كانط أن يستكمل معرفته عن ليبنتز؛ لم عدل هذه المعرفة الجديدة من فكرة كانط الأولى عن ليبنتز بقدر ما ملأت فجوات في معرفته السابقة. يمكننا الإشارة إلى الخطوط الرئيسية لفلسفة ليبنتز كما رآها كانط حين استكملها في ما يلي:
ما له فاعليةٌ موجود. وما لا فاعليةَ له لا وجود له. وم ثّم ليست المادة في ماهيتها امتداداً وحركة، لأن الأجسام تتحرك وتسكن، ونريد مبدأً يدوم في المادة حين لا تتحرك. إن المادة في ماهيتها قوة، والقوة ميل الجسم للحركة أو الاستمرار فيها؛ الامتداد والحركة يفترضان ابتداءً وجود القوّة، لا العكس. لا نتحدث عن كمية ثابتة للحركة وإنما عن كمية ثابتة للقوة؛ لا نتحد عن قانون حفظ الحركة وإنما عن قانون حفظ القوة أو الطاقة. ما عالم الامتداد إلا مظهراً حسّياً للقوى.
الأجسام متعددة ومن ثّمّ تتعدد القوى، عدد القوى لامتناهٍ كلٌ منها جوهرٌ بسيط لا ينقسم، لاممتد، لامادّي. تسمّى هذه القوى مونادات، ليس الموناد ذرةً مادية ولا نقطةً رياضية، وإنما هو ذرّةٌ ميتافيزيقية. كيف نكتشفها؟ بالانتباه إلى النفس الإنسانية التي هي موناد من بين المونادات. وما يصدق على النفس يصدق على سائر المونادات.
الإحساس والتصوّر والاستعداد للفعل خواص للموناد، وتوجد المونادات بدرجات متفاوتة. تكاد درجة الإحساس تنعدم في النبات، وتوجد هذه الخواص في الحيوان بدرجةٍ معيّنة، في الحيوان إدراك حسّي وذاكرة، وترتفع درجات الشعور في النفس الإنسانية ونسميه حينئذٍ الفكر الواعي، وهو المعرفة الاستبطانية لأحوالنا الداخلية أو شعورنا بذواتنا.
في ما يختص بالمعرفة، ينبغي أن تقوم المعرفة على تصورات وقضايا ضرورية كلّية.
الأفكار الحسّية والقضايا التجريبية القائمة على استقراء تعوزها الضرورة والكلّية؛ لكنا نملك تصوراتٍ ومبادئَ كلّية ضرورية، إنها فطرية فينا ولا تُشتَقّ من الخبرة الحسّية. كان يكون أنكار المبادئ الفطرية موقفاً وجيهاً لو كان الفكر والشعور شيئاً واحداً، لكنهما مختلفان؛ لدينا أفكارٌ لا نشعر بها دائماً ـ تلك ما يمكننا تسميتها التصورات والمبادئ الفطرية. إنها استعدادات ووجودُها بالقوة، نبدأ نشعر بها حين تثيرها الحواس تثير الحواسُ التصوراتِ الفطريةَ لكنها لا تخلقُها ،تبرّرها وتؤكدها ولكنها لا تبرهن على يقينها، الخبرة الحسّية ضرورية إذاً لتثير النفس. بالنفس على هذا النحو مقولات كالوجود والجوهر والوحدة والهوية والعلّية والإدراك الحسي والكم. يمكن تفسير المبادئ القائمة على هذه المقولات تفسيراً منطقياً بحتاًن فمثلاً ترد العلاقة العلّية إلى علاقة بين أساس ground وما يعتمد عليه [أو الأثر] consequent. ويرد الجوهر إلى ما يكون دائماً موضوعاً [حاملاً للصفات] ولن يكون محمولاً [أي صفةً]. ويمكن بل يجب أن يكون معيار صدق هذه المبادئ الفطرية قانون عدم التناقض فهو أعلى المبادئ.
الإدراك الحسّي والعقل الخالص وظائف للموناد، أي إن كل موناد حاصل عليهما، وإنما بدرجات متفاوتة كما قلنا. هما من نوعٍ واحد ولكنهما في العقل الشاعر ـ على درجات متفاوتة من حيث الوضوح والتميّز. يتضمّن الإدراك الحسّي أفكاراً غامضة ملتبسة. وأفكار العقل الخالض واضحةٌ متميّزة. بالإدراك الحسّي لا نعرف الأِشياء في ماهيتها أي كمونادات، وإنما ندركها ظواهر مكانية وفي غموض والتباس، لكنا بالعقل نعرف حقائق الأشياء أي عالم المونادات.
نتصوّر المكان على انه تحديد لوجود الأشياء معاً أو متتابعة، ليس المكان مطلقاً إذاً وإنما هو نسبيٌّ بالقياس إلى الأشياء. تصدر أفكار المكان عن العقل ذاته فهي من أفكار العقل الخالص لكنها تشير إلى عالم ممتدّ.
يمكننا بفضل تصوراتنا ومبادئنا الفطرية أن نبرهن على وجود الله وأن نتحدث عن صفاته وأن نبرهن على خلود النفس الإنسانية، دون التجاء سابقٍ إلى الإيمان. 

(محمود فهمي زيدان؛ كنط وفلسفته النقدية؛ 31)