السبت، 7 أبريل 2018

من كيركيجور حتى نيتشه؛ هشام سامي عبده.





مـِن كيركجور حتّـى ... نيـتشـه!
هشام سامي عبدُه

لو امتك سقراط كل هذه الميكروفونات والشاشات..!

*وجوديّون: ما معنى الوجود الإنساني؟ ما هدفُ الحياة؟ وكيف نحياها؟ (عن كتاب "تأمّلات لساعات اللّــيل")*

  • يجب على الإنسان أن يتخلّى عن الفكرة الأحاديّة الجانب أنه هو (أو هي) موجود لوحده في العالم وعلى الآخرين أن يشكلوا له ديكورا وخلفيّة لهُ ولحياته الهامّة جدا جدا(!)، فهي فكرة خاطئة للغاية. يوجد في العالم أشخاص مثله تماما، يحاولون أن يجدوا مكانهم تحت هذه الشمس
  • عارض نيتشه وحارب كل حياته، ظاهرة الخضوع كالقطيع، التفكير النمطي والمتهادِن، إلغاء الذات العمياء أمام عادات مجتمعيّة أو أمامَ أصحاب السلطة والقوّة! وشجب نيتشه كل حياته -كما شجبه من قبله شوبنهاور- الإعتداد القومي بكل أشكاله! فلهذا من الإجرام الفكري حقا أن يقتنع أحد أن الحزب الألماني النازي اعتمد فعلا على أفكار نيتشه


انتهيت لتوّي من قراءِة كتابين: الأوّل فلسفي عميق، والثاني روائي "خيالي". (رواية جاسوسية حديثة، تتحدّث عن الربيع العربي وعن عمليّات المخابرات البريطانيّة الإجراميّة في منطقة الشرق الأوسط، في مستعمرة مضيق جبل طارق. A Delicate Truth).
الرواية مثيرة للغاية فالكاتب الإنجليزي جون لِي كاري يعرف عن ظهر قلب، كيف يكتبُ هذا اللون من القصص منذ 50 عاما. قرأتها أخيرا خلال عطلتي العائليّة السنوية، بداية على مقعد ضيّق أمام شبّاك طائرة نفّاثة حديثة صغير، ووسط هرَج مزعج وهرولة المسافرين الإسرائيليين داخل معبـَر الطائرة الضيّق، الأمر الذي يشكّل على ما أظنّ، أحجية غامضة لعلماء الاجتماع، ومن ثمّ أمام شواطئ البحر الأدرياتيكي الزرقاء الصافية والهادئة. ستستعرض مقالتي الكتابَ الأوّل فقط: "تأملاّت لساعات اللـيل" للكاتب: حاييم شابيرا  (عالم رياضيات متقاعد. جامعة تل-أبيب).





الفيلسوف الدانماركي كيركجور



*سورين كيركجور (كيرجارد): الفيلسوف الدانماركي المؤمن (كوبنهاجن: 1813- 1855)*


"شيء عفنٌ في مملكة الدانمارك!" جُملة أطلقها هامليت في مسرحيّة الكاتب الشهير شكسبير بنفس الإسم.
ولكن حياة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجور كانت نقيّه تماما، عاشها  كلها وهو يبحث في علم الفلسفة، حتى نهايته الحزينة للغاية (وهو في بداية الأربعينيات  من عمره)، عندما انهار تماما على رصيف في شارع ببلدته بعد أن سئم الحياة، ومات في المستشفى دون أن يصيبه مرضٌ وفق ما وصفه الأطبّاء. إنّ أغلبيّة الكتب التي تستعرض فلسفة كيركجور الوجوديّة existentialism (وهو يـُعتبر بحقّ مؤسّس الفلسفة الوجوديّة، التي كان من أتباعها لاحقا وحديثا جان بول سارتر وبرتراند راسيل وغيرهما)  تأتي بالفقرة التالية من يوميّات كيركجور:
"
ما يتوجّب عليّ أن أتفحّصه وأجده هو ماذا عليّ أن أفعل في الحياة. يجبُ أن أجد ما يريده الله منّي، أن أجد حقيقتي الذاتيّة، أن أجد فكرة أو هدفا أكون مستعدا أن أحيا وأموت لأجلهما. لا لستُ مهتما باكتشاف حقيقة موضوعيّة أو طريقة فلسفيّة منظّمة. إنني أبحث فقط عن حقيقيتي الذاتيّة التي تكسبُ حياتي معنى عميقا. فما الفائدة التي سأجنيها لو وجدتُ الحقيقة تقفُ أمامي عارية، باردة ولا مبالية نحوي إن كنتُ قد شخصّتها أم لا؟ فبدون أن أجد معنى لأعمالي سأشبه ذلك الشخص الذي استأجر دارا وفرش فيها أثاثا، ولكنه لم يجد بعد تلك الواحدة التي ستشاركه أفراح الحياة وأحزانها!".
الفلسفة  الوجوديّة تيّار فلسفي حديث يضعُ الإنسان المجرّب في مركز أبحاثه. تبحث هذه الفلسفة في الإنسان المرتبك الذي يحاول أن يعيش أمام الموت. أي أنّ الإنسان هو في مركز العالَم الذي يظهر للوهلة الأولى كعالَم بارد، مشبع باليأس، وفارغ! فلنقرأ جمل كيركجور التالية لنتحقّق من ماهيّة الفلسفة الوجوديّة:
"
عندما تخترقُ أصابعك تربة ما تستطيع أن تحدّد وفق الرائحة المنبعثة من أصابعك، ماهية هذه التربة (رمليّة، وحليّة، كلسيّة، أو أخرى هـ.ع.). وها أصابعي تخترقُ الوجود البشري ولكنها تبقى معدومة الرائحة. أيـنَ أنا؟ مـَن أنا؟ كيف وصلتُ إلى ها هنا؟ ما هو هذا الشيء العالَم. ما هي ماهيّة العالَم وما معناهُ؟ من أغراني لكي أصل هنا وتركني؟ وإن حُكمَ عليّ أن أكونُ جزءاً من هذا العرض الحياتي الكبير أبلغوني لطفا أينَ هو المخرج؟ إنني أرغب بأن أعطيَـه بعض الملاحظات، وكما أطلبُ أن أضيف أسطرا جديدة للمشهد الذي سأقوم بتمثيله في حياتي. لا يوجد مـُخرج! لمن أستطيع أن أتقدّم بشكوى؟ لمــَن؟!".
انها أسئلة عميقة مشابهة تساءلها أيضا كل من إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة في كتاباتهما، كما أنّ إحدى قمم التأمـلات الوجودية، ظهرت في كتابات الفيلسوف العربي العظيم جبران خليل جبران في بداية القرن العشرين. ملخّص فلسفة كيركجور الوجوديّة كانت في المحصّلة، أن كل شخص يستطيع أن يعيش في حياته مرحلة (او طور) حياتية واحدة من ثلاثة مراحل ممكنة فقط:

1. المرحلة الجماليّة، الفنيّة
المرحلة الأولى في التحقيق الذاتي هي المرحلة الجماليّة، ولكن على القارئ\ة أن يحذر هنا من الخلط بين خصائص هذه المرحلة وبين حبّ الجمال أو حبّ الفنّ. يعتبر كيركجور هذه المرحلة أدنى مراحل الإنسان، فما يهمّ الإنسان فيها هو أن يحقّق احتياجاته الماديّة وشهواته مهما تكن. إنّ المبدأ الوحيد الذي يرشد الإنسان في المرحلة "الجمالية" هو تحقيق المتعة الذاتية، والركض وراء المتعة وتجنّب الألـَم بكل ثمن. يعتبر كيركجور هذه المرحلة الحياتيّة المتدنيّة بين الثلاث مراحل التي حدّدها وعرّفها. و ينقسم الجماليّون إلى قسمين: القسم الذي اختار بذاته وبنفسه أسلوب الحياة هذا ولا يرغب بتغييره، وأولئك الذين يعيشون هذه المرحلة دون أن يعوا ويعرفوا أنهم يستطيعون أن يختاروا مرحلة أخرى في حياتهم، ظانـّين أن هذا هو أسلوب الحياة الوحيد المتاح أمامهم! وهذا الصنف الأخير من الإنسان الذي يعيش فقط في المرحلة الجماليّة يصفه كيركجور "بالساكن في هذا العـالَم".
من مقولاته:
"
وفي مقدّمة مسيرة الأمور المضحكة للغاية يسير الأشخاص المشغولون جدا ورجال الأعمال!"
"
إنّ الذي يوجّه أرباب الأعمال هو "مبدأ المتعة". إنهم يجنون المتعة من صفقة موفّقة وناجحة، ويفرحون إن نجحوا بأن يزيدوا أموالهم من مئة مليون كرون إلى مائة وواحد ومليون!".
(
هل اطلـّع شيوخ النفط السعوديين والقطريين على جملة واحدة ممّا كتبه كيركجور؟)

2. المرحلة الأخلاقيّة:
المرحلة الثانية والأعلى هي مرحلة الحياة الأخلاقيّة. (يبدو لي أنّ الأفراد في مجتمعنا يعيشون هذه المرحلة بشكل مقتضب هذه الأيام أو معدوم نسبة لتصاعد العنف الكلامي والجسدي الشديد جدا وعلى مختلف الأصعدة!). اعتقد كيركجور أن كل الناس يعرفون الأخلاقي من غير الأخلاقي، المـُتاح والممنوع، ولكن في أغلب الحالات من المريح لهم إنكار هذه المعرفة! لأن اعتناق أسلوب الحياة الأخلاقي يحتّم علينا تغييرا جذريا وشديدا في حياتنا. ولكي يحدُث هذا التغيير الجذري يجب أن نصنع ثورة في أسلوب تفكيرنا وأن لا نتجاهل المعرفة الأخلاقيّة التي في داخلنا. يجب على الإنسان أن يتخلّى عن الفكرة الأحاديّة الجانب أنه هو (أو هي) موجود لوحده في العالم وعلى الآخرين أن يشكلوا له ديكورا وخلفيّة لهُ ولحياته الهامّة جدا جدا(!)، فهي فكرة خاطئة للغاية. (يبدو لي أن إسرائيل كدولة تفكّر منذ قيامها بهذا النمط تماما!). يوجد في العالم أشخاص مثله تماما، يحاولون أن يجدوا مكانهم تحت هذه الشمس. إنّ من يحاول أن يقفز من المرحلة الجماليّة إلى المرحلة الأخلاقيّة عليه أن يتخلّى عن الأنانيّة المرضيّة، النرجسيّة وحب المتعة المطلق!

3. المرحلة الثالثة والأخيرة، الدينيّة:
هذه هي المرحلة الأعلى وفق كيركجور. لكي يصل الإنسان إلى المرحلة الدينيّة عليه أن يقفز قفزة إيمان. لا يمكن مجرّد العبور إلى هذه المرحلة. ومن الأسهل أن  تقفز إليها وأنت في المرحلة الأخلاقيّة. الإيمان ليس بالإله بالذات، بل الإيمان بأنّ لحياة الإنسان ولوجوده على هذه الأرض يوجد معنى عميق. القفزة الإيمانيّة هي أن نتقـبَل أمرا ما لا يمكن أن تراه أو أن حتى أن تثبته. مثلا لكي نحدّد أنّ: "إثنين وإثنين تساوي أربعة" لسنا بحاجة إلى قفزة الإيمان أو إلى حتى إلى إيمان. فالأمور واضحة عقليا، ولكن لكي نقول "إنّني أومن أنّ لحياتي ولوجودي معنى عميقا" نحن نحتاج أن نقفز قفزة إيمان، إذ أنّ هذه المقولة العميقة لا يمكننا إثباتها بتاتا أو حتى لمسها والتحقّق منها.



الفيلسوف الألماني نيتشه

*فريديريك نيتشة:- الوجودي العــَلماني وفيلسوف الليل (روكين – ألمانيا 1844 - 1900)*


ومن معنى الوجود والحياة الدينيّة العليا عند كيركجور، نقفزُ معا إلى فلسفة الوجود العـَلمانية تماما والماديّة، عند نيتشه الذي عاش في فترة معاصرة نسبيا لكيركجور (ولكنه لم يقرأ أيا من كتاباته). من مقولاته:
"
يتمسّك الإنسان بمعانٍ فارغة في حياته، خوفا من أن يعيشَ حياة فارغة من أيّ معنى!"
"
هل الإنسان هو أكبر خطأ ارتكبه الإله، أم  أنّ الإله هو أكبر خطأ ارتكبه الإنسان؟"
تعرّف نيتشه في سنوات العشرين من حياته على كتابات الفيلسوف الألماني شوبنهاور، عندما وجد في مدينة لايبتسغ داخل مكتبة للكتب المستعملة، كتاب شوبنهاور "العالـَمُ  كإرادة وتصوّر". وكتب نيتشه في يومياته لاحقا أنه لم يستطع أن ينام لليال عدّة بعد أن قرأ هذا الإبداع العظيم لشوبنهاور! وعلى الرغم من أنّ نيتشه سيتحفّظ في ما بعد من تعاليم معلمه شوبنهاور ويدير لها ظهره، لكن فكرة أن العالـَم وفقا لشوبنهاور عالـَم معدوم القوّة العـٌليا تتحكّم به الإرادة العمياء، ستظلّ مع نيتشه في كل حياته القصيرة.
عارض نيتشه وحارب كل حياته، ظاهرة الخضوع كالقطيع، التفكير النمطي والمتهادِن، إلغاء الذات العمياء أمام عادات مجتمعيّة أو أمامَ أصحاب السلطة والقوّة! وشجب نيتشه كل حياته -كما شجبه من قبله شوبنهاور- الإعتداد القومي بكل أشكاله! فلهذا من الإجرام الفكري حقا أن يقتنع أحد أن الحزب الألماني النازي اعتمد فعلا على أفكار نيتشه الفلسفيّة في أيدولوجيا النازية العنصريّة! إنّ هؤلاء النازيين لم يفقهوا شيئا من كتابات نيتشه الفلسفيّة العميقة، مع أنّهم اعلنوا أنّهم اعتنقوها! (تماما كما لم يفقه هيتلر شيئا من مئات الكتب التي قرأها كلها، لا بل وضع ملاحظاته العديدة والمشدّدة عليها، كما أثبت ذلك المؤرخ الأمريكي الشهير تـيموثي رييباك في كتابه الشيّق: "مكتبة هيتلر الخاصة!" Hitler's Private Library، والتي وجدَ مئات الكتب فيها الجنود السوفييت الأبطال عندما اقتحموا الملجأ الذي انتحر فيه هيتلر في برلين).
في العام 1889 وصل نيتشه إلى قمة حياته الإبداعيّة. في الثلاث سنين التي مضت وصل إلى قمّة بحثه الفلسفي عندما نشر كتبا عديدة منها وأشهرها: "هكذا قال زارادِشت!" ويقال انّ جبران خليل جبران تأثر أيضا من أسلوب كتاب نيتشه الأدبي أعلاه عندما أصدر باكورة أعماله: "النبي". وفي ذات يوم عندما كان يتجوّل نيتشه في شوارع تورنتو (إيطاليا)، وعلى الرغم أنه كان يرفض كليا في فلسفته مبدأ الشفقة ومبادئ أخرى من الأخلاقيات المتداولة (بعكس مبدأ مساعدة الغير) رأى مشهدا هزّ كل أركان حياته! لقد شاهد سائق عربة خيل يجلدُ بسوطـِه الحصانَ بقسوة شديدة دون رأفة! فامتلأ قلب نيتشه شفقة بالحصان واهتزّت نفسُه كلها، وركض بقوّة وعانق الحصان بقوّة فتوقّف سائق العربة مذهولا، وأخذ نيتشه يلامس جسد الحصان المجلود بنعومة، وصار يجهش بالبكاء وانهار تحته. بعد هذا الحادث لزم نيتشه بقيّة حياته الفراش، وأصبح مشلولا يهذي بكلمات غير مفهومة حتى وفاته! فهل يا تـُرى اطّلع شاعرنا الكبير محمود درويش على قصّة حياة نيتشه عندما كتبَ ديوانه الشهير "لماذا تركتَ الحصان وحيدا؟". لم يترك نيتشه الحصان وحيدا تحت سوط الجلاّد! ودرويش انتظر وتمنّى عودة أصحاب الحصان الوحيد إليه لكي لا يبقى وحيدا.


*الإنسان وما بعده أو ما فوقه (Ubermensch)*


أخذت فلسفة نيتشه الوجوديّة عندما اكتملت تسعى وتتنبأ بصعود ما بعد الإنسان أو ما فوقه. (مرحلة أعلى من الإنسان العاديّ). لا ليس المقصود سوبرمان أو بات-مان أو بكل أبطال الأفلام الأميركية السخيفة! القصد هو أنّ على الإنسان، كل واحد منا (وليس فقط من شعب معيّن!) وعلى الرغم من الفروقات بين شخص وآخر، أن يطوّر نفسه ليتخطى حدوده إلى ما بعد الإنسان. وكتب نيتشه: توجد هوّة كبيرة بين الإنسان العادي وبين ما بعده، لكي يتخطّاها عليه أن يقفز لكي لا يقع في الهاوية!" (تذكرون قفزة الإيمان عند كيركجور).
ولكي يصل الشخص إلى هذه المرحلة العليا من تحقيق ذاته القصوى عليه أن يتغلّب على ثلاثة عوائق بشريّة أسماها نيتشه بأمراض إنسانيّة ونقاط ضعف تمنع الإنسان من الصعود والإرتقاء إلى مرحلة ما بعد الإنسان.




1. 
داء النفاق والرياء: أول وأصعب داء موجود عند الإنسان والإنسانيّة وفق نيتشه هو النفاق. إنّ قوانين الأخلاق المتوارثة هي في الواقع طريقة الضعفاء الذين توحّدوا معا لكي يفرضوا على المجتمع أخلاقيـّاتهم. المواعظ الأخلاقية كما أشار الكاتب البريطاني هـ. ويلز، هي في واقع الأمر شعور قوي بالحسد تحت زي تنكريّ: أشخاص صغار يحسدون من استطاع التحليق. لا توجد هناك ظواهر أخلاقيّة، بل تفسيرات وتعليلات أخلاقيّة لظواهر إجتماعيّة.
2. 
داء عدم المبالاة: الداء الثاني هو داء عدم المبالاة. عدم المبالاة لقضايا شعبك، أو لمجتمعك والتصرّف أنا لوحدي فقط في هذه الدنيا! إنّ عدم المبالاة تؤدي بالإنسان مباشرة إلى السخرية من أي عمل جيّد، وإلى إضعاف طاقة وروح الحياة، وإلى التوق إلى اللا شيء، والى العدميّة. ووفق الكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي: "يجب علينا عشق الحياة قبل أن نفهم معناها. يجب أن نـُحبّ الحياة قبل المنطـِق، عندها فقط نستطيع ربما أن نفهم ماهيّتها!"
3. 
داء الرهبة والخوف: الداء الإنساني الثالث والأخير. شخّص نيتشه أن الإنسان هو بطبيعته كائن حي خائف حتى النخاع. الخوف هو الذي يدفعه في أفعاله غالبية الوقت وليس مصالحه أو حتى رغباته. الإنسان يخاف من كل شيء قد يؤذيه بشكل معيّن: إنّه كائنٌ حي مشلول ومطارَد.
الخوف من الفشل أو الخسارة. الخوف من قول كلمة حق أمام صديق أو قريب لئلا يزعل. الخوف من فقدان مكان العمل أو عدم تقدّمك فيه إن عارضت المدير، والخوف ممّا سيظنّه الناس عنك لو قمت بعمل ما، وهذا أسخف خوف موجود برأيي. وفي هذا المضمار يوجد كتاب رائع لفيزيائي أمريكي، ريتشارد فينمان: "مـَا يهمّك ما يظنّه الناس عنك؟".
نستطيع أن نقول في ملخّص فلسفة نيتشه انّ كل إنسان، يستطيع أن يتغلّب إن أراد بقواه الذاتيّة (أو بمساعدة أقربائه وأصدقائه ورفاقه) على داء واحد أو أكثر من الأمراض الإنسانية الثلاثة (ولم يسمّها نيتشه أمراضا نفسيّة، بل أسماها أمراضا إنسانية موجودة في كل إنسان). سيتحرّر من قيوده، ويقترب ويحلّق ليقفز أكثر وبسرعة إلى مرحلة ما بعد الإنسان التي هي المرحلة الأخيرة. واعتبر نيتشه ان كل من هرقليطيس، أفلاطون، بيتهوفين، دويستويفسكي، شوبنهاور، شيكسبير، ليوناردو دافينشي، وقلائل أخرين قد حقّقوا في حياتهم الوصول إلى مرحلة ما فوق الإنسان! وفي ختام هذه الجولة أذكر أن كل من كيركجور، نيتشه، وفيتنجشطاين كان ينعزل عن الناس مدة أسابيع طويلة ويقضي وقته وحيدا منعزلا يتجوّل في رحلات جبلية ليعود ليلا إلى قرية يبات فيها، حتى يصل إلى هذه التأملات. وأنا أتساءل هنا لو كان نيتشه يعيش الآن بيننا كيف له أن ينعزل مع كل هذه التلفونات الخليّوية "الذكيّة" والفيسبوك والمييلات، والتويتر التي ترن وترجّ وتصنّ باستمرار في كل مكان وزمان: في المدينة والقرية أو الجبل والسهل؟ كيف؟


*خاتمة*


لا أجدُ في نهاية عجالتي التي طالت كثيرا إلا أن أسوق هنا جملة تقلبُ تماما كل ما جاء في كتابات توراتيّة قديمة في سفر الجامعة:
"
يوجد جديد تحت الشمس \ كل شيء فيه تغيير \ الكل هو حريّة \ إنّهُ جديدٌ ممكن \ الآن!"
(
من كتاب "تأمُـلاّت أمسْتردامـِيّة. ظاهـِرتيّة الوعي والإدراك" للكاتب يهودا عيتاي). فلو نظرنا جيدا من حولنا نرى أن كل شيء تغيّر كأفراد وكمجتمع وكشعب، فهل لنا أن نمسكُ بزمام هذا التغيير لنروّضه ونوجّهه لمصلحتنا؟ أم سنهاب ونخاف منه، ولا نبالي ومن ثمّ نبكي على أطلال مضت؟ ما هو هدفكَ، قارئ هذه السطور في الحياة؟ وما هي أهدافنا نحن كجماهير ومجتمع وشعب على هذه الأرض الطيّبة "التي نستحق نحن عليها الحياة"؟


(حيفا)
السبت 24/8/2013

ملاحظة: قراءة مختلفة لنيتشه يقوم بها الكاتب. (م.ح)


الأربعاء، 4 أبريل 2018

غداً يومٌ آخر؛ محطات من ذاكرة صديق.




من الآخر (من الذاكرة)

كان في إجازة.
في الرابع من حزيران عام 1982 بدأ القصف الإسرائيلي على أرنون وبقية المواقع العسكرية للقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية في الجنوب وبيروت.
قطع إجازته وعاد إلى مركزه العسكري الذي كان مسؤولاً عنه. هو موقع مدفعية يضم حوالي عشرين عسكرياً ومدفعاً من عيار 130 ملم، إضافة إلى مدفع آخر من عيار 76 ملم.
كان هذا المركز قد أنشئ قبل حوالي نصف سنة من تاريخه. موقع معزول في مرتفع مطل في منطقة إقليم الخروب، يسمى القريعة، وهو ربما الموقع الوحيد الذي لم يتعرض لقصف الطيران الإسرائيلي قبل ذلك بفضل التمويه الكبير الذي كان معتمداً، بسبب الحرص على عدم ترك أي أثر يمكن أن يصورة الطيران، من علبة السجائر إلى الأسلحة التي كانت مموهة بأشجار القندول، والخيم المنصوبة تحت أشجار الصنوبر المعمرة.
أول ما قام به هو تحضير الإحداثيات لأهداف محتملة. المدى الأقصى الذي يمكن أن تصله قذائف المدفع 130 كانت منطقة مرجعيون.
في النهار كان التدبير المعتمد هو انتشار العسكريين بعيداً عن الموقع تحسباً لاكتشاف المربض وقصفه من الطيران. وفي الليل كانت الحراسة تحسباً لإنزال ما..
على أجهزة اللاسلكي كان يتم رصد الكثير من المكالمات العبرية.
مرّ اليوم الأول واليوم الثاني. في ليل اليوم الثاني حضر إلى الموقع النقيب ع. ط. المسؤول عن قطعات المدفعية، وهو ضابط سابق في الجيش اللبناني.
تم إخباره بأن المدرعات الإسرائيلية في تلك الأثناء كانت على طريق عام مرجعيون، وهي طريق كان قد تم التحضير لها مسبقاً كهدف محتمل. وافق النقيب على ضرب تلك الطريق. وقبل أن تبتعد سيارته عن المكان، بدأ تنفيذ الأمر بإطلاق حوالي عشر قذائف من رصيد كان لا يتجاوز الخمس عشرة منها، ثم تم تمويه المدفع من جديد بشكل جيد.
في صباح اليوم التالي، تم تنفيذ الاجراءات المتبعة: الانتشار بعيداً عن المربض، مع توزيع بعض الذخائر الاحتياطية الإضافية. تم الانتشار في منطقة وسيطة بين المربض وموقع عسكري آخر يبعد بضعة كيلومترات من المكان.
الاندفاعة الإسرائيلية كانت سريعة ضمن خطة ما. كانت بعض الجيوب المقاوِمة تُترك ويتم تجاوزها والاندفاع نحو الأمام. بدأت أصوات طلقات تسمع في مكان يبعد حوالي الكيلومتر الواحد عن مكان انتشار المقاتلين. الخطوة التالية كانت في الانتقال إلى المركز العسكري التالي، وهي خطوة كانت ملحوظة مسبقاً بسبب وجود الموقع الأول في منطقةٍ حرجية معزولة دون وجود التموين الذي كان يتم إحضاره إلى المكان بشكل يومي. والسلاح الذي كان موجوداً في الموقع الأول يقتصر على مدفعين والأسلحة الفردية.
لكن الموقع البديل كان خالياً تماماً.
تم التوجه شمالاً عبر بساتين الزيتون، حيث كانت هناك مجموعة من بعض القوى الصديقة منتشرةً في المكان. شعر مسؤول المجموعة بخور في قواه، وتذكر أنه لم يذق الطعام منذ يومين. كان لدى المجموعة الصديقة في المكان بعض اللحوم المعلبة، فتح إحدى معلبات اللحم البقري وتناول بهضها قضماً لعدم وجود الخبز، مما سمح له باستعاد قدرته على السير، ثم قرر التوجه سيراً نحو المواقع المركزية في بيروت، مستعيناً بخارطة طبوغرافية وبوصلة لتحديد الاتجاه المناسب.
حوالي الخامسة عصراً، وصل الجميع إلى منطقة فيها موقع عسكري يضم بضعة مدافع من عيار 130 ملم، (ربما ثلاثة أو أربعة مدافع)، الموقع كان خالياً. وتحاشيه لم يكن ممكناً. يجب معرفة المنطقة ومعرفة الطرف صاحب الموقع العسكري. كان هناك احتمال أن يكون الموقع لإحدى قوى الخصوم. الحذر كان مطلوباً، والتعب والإنهاك لا يسمحان بالالتفاف والابتعاد عن الموقع لمتابعة المسير.
طلب من المجموعة المرافقة (وهي كانت قد انقسمت إلى مجموعتين في بداية الرحلة) الانتشار بشكل قتالي حول الموقع، ثم دخل هو إلى إحدى الخيم المنصوبة في المكان. كان يبحث عن نشرة سياسية أو أي أثر يدل على الهوية السياسية لأصحابه.. لكنه لم يجد شيئاً.
كانت هناك علبة من راحة الحلقوم تناول بعضاً منها على جوع.
الموقع كان قبالة قرية تبعد حوالي أقل من الكيلومتر الواحد، دخوله إلى المكان كان مراقباً، فحضرت سيارتان عسكريتان.
اقترب من السيارة الأولى وتفحص في مستقليها وشاهد شعارات أحد الأحزاب اليسارية على ملابسهم العسكرية، فأشار إلى المجموعة المتمركزة بالحضور. صعدت المجموع في السيارات وانطلق الجميع نحو القرية. طلب من المجموعة تأمين سلاحهم بعد أن كان مهيّأً للاستخدام. وبالرغم من حصول ذلك، فقد بدا الخوف على أفراد المجموعة الصديقة وتكرار الطلب بتأمين الأسلحة ..
عند الوصول إلى المركز الحزبي للقوة المذكورة، تبيّن أنها تعج بالقوات المنسحبة وكان ذلك المركز محطة في الطريق إلى بيروت.
كانت تلك القوة الصديقة تخبر الجميع بأن الإسرائيليين على مداخل البلدة، وبأن على الجميع تسليم سلاحهم وارتداء الثياب المدنية قبل متابعة طريقهم نحو بيروت من معبر جسر القاضي..
كان أمراً مفاجئاً إلى حد كبير، رغم أن أحوال من وصلوا إلى المكان لم تكن تسمح بالكثير من الأحاسيس، التي يمكن أن يفكروا فيها لاحقاً، أما في تلك اللحظة فكان الإرهاق والبحث عن التقاط النفس هو السيد.
مع الإشارة إلى أن مسؤول المجموعة "المهاجرة" كان قد اقترح على القوات الصديقة بعد وصول السيارتين العسكريتين إلى المكان بالبقاء معهم في الموقع، كون المجموعة "المهاجرة" متخصصة في هذا النوع من المدفعية، فكان الجواب أن لا حاجة إلى ذلك، وبأن الإسرائيليين يطوقون المكان.
تم تسليم الأسلحة في المركز المذكور بناءً على محضر تسلم وتسليم، باعتبار أن المسألة مؤقتة، أو هو ربما بسبب اعتياد هذه التدابير العسكرية. تسلم وتسليم السلاح بالأرقام وبالتفاصيل.
تمت المغادرة من جديد، ولم يكن هناك أسرائيليون على الطريق رغم طول المسير. هل هي خدعةٌ إذاً؟ لماذا تريد تلك القوة الصديقة الحصول على سلاح المقاتلين المنسحبين الفردي إذا لم يكن هناك قوات إسرائيلية على المداخل؟
ولماذا بقي هذا الموقع المكشوف بمدافعه المكشوفة أيضاً دون استهداف الطيران رغم استهداف كل المواقع المشابهة في أماكن أخرى؟ أسئلة بدأت تخطر في البال.
كانت أرتال المنسحبين على الطريق إلى جسر القاضي تشبه القطار الطويل الذي لا تبدو نهايته.
وفي منطقة جسر القاضي، في الحادية عشرة ليلاً تقريباً، كان أحدهم يسأل: هل يوجد أحدٌ من الفصيل الفلاني؟
كانت والدة أحد رفاق مسؤول المجموعة قد استقلت سيارة أحد أقاربه وجاءت للبحث عنه.
كانت جائزةً غير متوقعة. استقل صاحبنا ورفيقه السيارة وكانت وجهة سيرهم البقاع بدلاً من بيروت.
في البقاع كانت هناك أماكن تجمع تستقبل المنسحبين، يعودون أولاً إلى منازلهم للعودة إليها بعد استعادة النفس والقليل من الراحة والتحضير للمرحلة المقبلة.
وصل صاحبنا إلى منزله في الثانية بعد منتصف الليل. كان الجميع نياماً أو شبه نيام..
غداً سيكون يوماً آخر. ومرحلة أخرى. ومعطياتٍ أخرى. وإنساناً آخر. ومراجعاتٍ لا تنتهي.
خرجت قافلة النار من بيروت. وضع الأشقاء يدهم بشكل كامل على ما تبقى من البلاد، غاب هامش الخيارات عن الكثير من القوى التي كانت تتمتع به في مناطق كانت تسمح بمثل ذلك الهامش. كان عليها إما الذوبان بشكل كامل في بحر الأخوّة أو الذوبان، الذوبان فقط.

(من محطات من ذاكرة صديق)



للنقاش: هل نحن نرى ما راه، أم أننا نتخيّله؟ (م.ح)






سؤال مقتضَب طرحته على صفحة الفيسبوك للنقاش، وجاءت التعليقات والردود فأغنت المنشور بأكثرَ مما توقعت، ووجدت أنها تستحق النشر للتعميم وإبقائه مطروحاً للآراء الإضافية.
تساءلت في المنشور:  
هل نحن نرى ما نرى، أم أننا نتخيّلُه؟

التعليقات

محمد الحجيري: هل نحن حين نرى رجلاً على التلفزيون، نرى رجلاً حقاً؟
وهل نحن حين نرى رجلاً في الواقع، نكون نراه حقاً؟

Sabah Addanniyeh: على التلفاز صورة. وفي الواقع نراه حقاً.


محمد الحجيري: لا أظن أننا نراه حقاً.


Hani Hotait: هناك رؤية اكانت حقيقية ام خيالية

Hussein Abboud: نرى صورته في الحواس

د. محمود المسلماني: هل تريد ان تعود بنا أستاذ محمد إلى نقاشات المذاهب الفلسفية في هذا الصدد ؟
تعلم لا شك أن المسألة لم تعد مطروحة هذه الأيام مع اقتراب المناهج الفلسفية من العلم .

محمد الحجيري: لم أقصد يا دكتور التشكيك في الوجود الموضوعي للأشياء كما فعل ديكارت. لم أقصد اعتبار ما نراه وهماً. ما أقصده أن في كل ما نراه هناك إسقاط من فعل المخيلة. وهو موضوع تحدث عنه هوسرل.
لك تحياتي واحترامي.

د. محمود المسلماني: كنت اقصد أستاذ محمد ما كانت تزعمه بعض المذاهب الفلسفية الكلاسيكية من القول بوجود الشيء في ذاته والشيء كما يظهر لنا . وهي مسائل كثر الخوض فيها على غير طائل ولم تعد مطروحة هذه الأيام في المباحث العلمية المعاصرة .

محمد الحجيري: نعم. هي الإشكالية التي أوجدها كانط، ثم حاول هوسرل تجاوزها. أو هو يرى بأنه قد تجاوزها فعلاً.
السؤال: هل ما زالت هذه الإشكالية مطروحة بعدما توصلت العلوم إلى توصيف المادة بكل مكوناته؟ هل ما زال هناك "شيء في ذاته" يستغلق على الفهم؟
لا تمكن الإجابة بسهولة عن هذا السؤال، لكن يمكن إبداء بعض الملاحظات:
أظن أن الفلسفة تبدأ حيث ينتهي العلم.
ثانياً، "الشيء في ذاته" عند كانط لم يكن مقتصراً على معرفة المادة، فقد كان يعتبر بأن كل موضوعات الميتافيزيقا هي كذلك.
ثالثا، كانط كان يعتبر بأن الإدراك الحسي يحتضن مكوّنين: موضوعات العالم التي تحفز العقل، ومكوّنات العقل الفطرية: قالبيّ المكان والزمان وبقية الأفاهيم العقل (الفاهمة).
هل تلغي المعرفة العلمية وجود الشيء في ذاته المغلق في عملية الإدراك الحسي؟ في الحقيقة لا أملك الجواب. وإن كنت أظن بأن المعرفة العلمية ليست بديلاً عن الإدراك الحسي. مع أني أتساءل: هل ما بين إحساسي باللون الأحمر ومعرفتي بأنه اهتزازات مغناطيسية تبلغ عشرات ملايين المرات في الثانية، هل هناك بين الإثنين ما يسمى "الشيء في ذاته؟

محمد الحجيري: أرغب في معرفة رأي الدكتور
Jamal Naim

Hussein Abboud: اعتذر على المداخلة قبل الدكتور جمال و لكن بالنسبة للسؤال "هل ما زالت هذه الاشكالية مطروحة بعدما توصلت العلوم الى توصيف المادة بكل مكوناتها؟" اعتقد ان التصريح بان العلوم توصلت الى توصيف المادة بكل مكوناتها هو تصريح غير دقيق و مبالغ فيه الى حد ما حيث ان العلوم توصلت فقط الى توصيف ما استطاعت ادراكه او ادراك اثاره ان عبر الحواس او عبر ما ابدعته من حساسات مخبرية و ان هذه العلوم مبنية على الكثير من الاصطلاحات و المسلمات التي لم تتح الفرصة لاختبار دقتها وصدقها، خذ على سبيل المثال الاشكالية المتعلقة بكتل الجزيئات ، بتعبير بسيط لماذا لا نعترف بكتلة لبعض الجزيئات و نثبتها للبعض الاخر ، ما الذي يعطي الكتلة لاي جزيء؟ قد يبدو السؤال بسيطاً و سهلاً الا انه ليس كذلك و لم يُتوصل الى طرف الخيط في الاجابة الا مؤخراً ولا زال البحث في ذلك لا يزال في اوائله وهو ما اطلق عليه (بوزون هيغس le boson de higgs) او الجزيء الرباني كما اسموه الذي من شأنه ان يعطي لكل شيء كتلته و بالتالي وزنه.
بعد هذا يتضح لنا انه لطالما ظننا ان العلم نقل لنا الشيء على حقيقته ولكن ذلك لم يكن دقيقاً ، العلم مكننا من ادراك الاشياء بحواسه المخبرية ربما و بقابليات عقولنا في استيعاب ما نراه ولم تصلنا الصورة كما هي في حقيقتها

Jamal Naim: نحن لا نتخيّله، لكن، للأسف، لا نراه، أو بالأحرى لا نراه كما هو. وهذا ما يُعرف بوهم المطابقة. فالحقيقة التي كانت تعني مطابقة القول للواقع، لم تعد كذلك، بل صارت أقرب الى الإنتاج، صارت أقرب الى ما ينتجه العقل بتوسّط هذا "الواقع" الذي نؤكد وجوده، لكنّنا لسنا متأكدين من ماهيّته. والعلم ليس أفضل حالًا من الفلسفة، بل لعلّه تجاوز الفلسفة في ذلك. والأستاذ محمد الحجيري نشر شيئًا بهذا المعنى منذ يومين. صارت الحقيقة نوعًا من التأويلات والمجازات والاستعارات، وبالتالي فقدنا اليقين. وصار اليقين عائدًا الى الاعتقاد. صار شيئًا يخص المعتقد. وبهذا المعنى، فإنّ العصر كلّه هو كنطيٌّ بمعنى من المعاني.
وإنّ أوّل من طرح هذه المشكلة بشكل واضح في العصور الحديثة هو ديكارت الذي كان يؤمن بالموجودات ولم يكن يشك بوجودها، لكنّه كان يرى أنّ موجودات العالم لا تفيد اليقين. لذا، سمّى شكّه شكًّا منهجيًّا، أي مؤقّتًا ريثما يصل الى اليقين. وقد طرح السؤال التالي: كيف يمكن لما هو ذاتي أن يقوِّم ما هو موضوعيّ؟ وهذه المشكلة تعبِّر عن مضمون المنشور أعلاه أفضل تعبير. ومن المعروف أنّ ديكارت استعان بالله لتأكيد وجود الأشياء ورفعها من خانة الوجود المشكوك فيه ولو شكًّا مؤقّتًا، الى خانة الايمان بوجودها والتيقّن من هذا الوجود. استعان ديكارت بضمانة الله، بضمانة ميتافيزيقيّة ليطلع من الأنا، ليخرج من الأناوحديّة، ليكسر طوق الأنانة.
وجاء من بعده كنط الذي كانت مرجعيّته العقل حتى في الدين والأخلاق، وبالتّأكيد في المعرفة. فلم يقبل بهذه الضمانة الالهيّة وراح يدرس بنية الذات العارفة. وقسّم ملكاتها الى: ملكة الحساسية وملكة الفاهمة وملكة المخيّلة وملكة العاقلة. ولكل ملكة من هذه الملكات حدود تقف عندها ووظيفة تؤديها. فالمكان والزّمان حدسان قبليّان في ملكة الحساسيّة والأفاهيم الفاهميّة المحضة أو المقولات هي قوالب ذهنيّة نشطة تقوْلب الموضوعات، أي تقولب المواد التي تأتينا عن طريق الحواس، فلا نعود نرى الأشياء كما هي فيّاها، كما هي في ذاتها؛ لأنّ هناك شيئًا يُضاف اليها من عمل الفاهمة.
ومن ثمّ جاء هوسرل أيضًا ليبني على ديكارت، لكن برفض المضمون الميتافيزيقي برمّته. وراح يدرس بنية الوعي القصديّة معلّقًا وجود الأشياء الخارجيّة وواضعًا إيّاها بين قوسين. وقد ميّز، بحسب موسى وهبه، بين الفينمان وهو الماهيّة الأيدوسيّة كما هي في الوعي، وهي المعيشات القصديّة، وهي المثُل الأفلاطونية وقد صارت في الوعي ومن إنتاجه، وبين الظاهرات التي لها علاقة بالخارج. فهناك الطاولة كظاهرة وهناك الظاهرة كمعيش قصدي في الوعي. المهم أنّ هوسرل حفر في بنية الوعي القصدية ليصل الى الأنا المحض المطلق، ليستطيع تأسيس الموضوعيّة عليها. مطلب اليقين هذا، ومطلب أن تكون الفلسفة كعلم صارمٍ له أسس يقينية مطلقة، لم يعودا موجودين لا في الفلسفة ولا في العلم. فنحن نرى ما نراه، لكن بناء على بنية وعينا القصديّة. وكلنا نراه بالطريقة ذاتها فنعتقد بوهم المطابقة. هذه، باختصار شديد، إجابة عن طرح المسألة أعلاه.

محمد الحجيري: أتفق معك يا صديق حسين في أنه ما زال هناك نقاط غامضة أمام العلم، وربما ستبقى. والمعرفة العلمية هي معرفة مؤقتة من حيث المبدأ حتى لو لم يتم تجاوزها إلا بعد قرون أو حتى لو لم يتم ذلك على الإطلاق.
السؤال هو: هل مكتشفات العلم تصب في الحفرة التي نبّه إليها كانط؟ هل كلما نما العلم تضاءل "الشيء في ذاته"؟ أم أنهما من طبيعتين مختلفتين؟

Jamal Naim: لا أعتقد أنّ العلم منهمّ بالمشكلة الكنطيّة. فعو يعالج مشكلاته الخاصة به. لكنّه لم يعد يؤمن بأنّ الحقيقة العلميّة هي مطابقة القول للواقع. فأيّ حقيقة علميّة هي حقيقة بناءً على وجهة نظر معيّنة وباستعمال أدوات معيّنة وأفاهيم نخترعها لهذه الغاية. فاذا تغيّر كلّ ذلك تتغيّر الحقيقة العلميّة. المهم أنّ العلم قد يصل الى مرحلة يقول فيها إنّ كلّ ما لدينا من حقائق علميّة هي مجرّد أوهام. بهذا المعنى، إنّ عصرنا كنطيّ وإن كان لا يعالج المشكلة الكنطيّة.

محمد الحجيري: هل العلم أو العلوم هي التي تقول بأنه "لم يعد يؤمن بأنّ الحقيقة العلميّة هي مطابقة القول للواقع" أم أنها الأبستيمولوجيا؟ أي الفلسفة.

Jamal Naim: محمد الحجيري حتى العلماء عندما يتفكرون في تجاربهم يقولون بذلك

Jamal Naim: لا هذا ولا ذاك. فعند كنط ليس هو المغلق على الادراك الحسي؛ لأنّ الادراك الحسي يقوم بدوره، والفاهمة تفعل فعلها في المادة المتأتيّة من الحواس. ولا هو المغلق على العلم؛ لأنّ العلم لم يعد مقتنعًا بأنّه يطاول الواقع كما هو. يعني من الأساس ليس من همّه معرفة الشّيء في ذاته. كلّ ما يقوله العلم هو إنّ معرفتنا بالكون هي نسبيّة وهي تتغيّر باستمرار نسبة الى تغير وجهات النّظر العلميّة التي

محمد الحجيري: القول بأن "الإدراك يقوم بدوره"، لكنه يستحيل عليه معرفة الشيء في ذاته، ألا يعني هذا أن الشيء في ذاته مغلق على الإدراك الحسي؟
وما ينطبق على الإدراك ربما ينطبق أيضاً على العلم. هذا على الأقل ما يرتبط بوجهة النظر الكانطية.
ربما يكون العلم بنظرته النسبية إلى العلم قد أنكر "الشيء في ذاته" من الأساس، ليس بمعنى القدرة على اكتناهه وفك أسراره كما حاول هوسرل أن يفعل، لكن بمعى إنكار وجوده من الأصل، وبأن هناك فعل "إنتاج للحقيقة" كما تفضلت بقوله في تعليقك الأول.

محمد الحجيري: في الحقيقة إن مشاركة الأصدقاء في النقاش شكلت في حد ذاتها قيمة كبيرة تخطت ما طمح إليه المنشور الأصلي. أشكر الجميع (من ساهم ومن سيساهم لاحقاً) على ذلك. وأظن بأن هذه التعليقات تستحق أن تنشر كاملة، لذلك سأجمعها وأنشرها كاملةً على مدونتي.

Jamal Naim: هذا ما نؤكد عليه دائمًا، وهو أنّ أصعب الموضوعات الفلسفيّة تسترعي الانتباه وتشدّ القارىء الى القراءة والتعليق، وذلك عندما تُطرح بشكلٍ حسن. فليس هناك من أبراجٍ عاجيّة في الفلسفة، بل هناك مشكلات عينيّة دائمًا. والمشكلة التي طرحتها تطال الاعتقاد الديني والحياة المعيشة اليوميّة وتطال كل شيء في حال توسّعت فيها. ونحن نشكرك يا أستاذ محمد على إثارتك لهذه الثيْمات.