الأربعاء، 3 يناير 2018

كانط؛ المكان والزمان؛ ترجمة موسى وهبه.



المكان والزمان
إيمانويل كانط

إن الزمان والمكان مصدران معرفيّان، يمكن أن نستمّد منهما قبليّاً معارف تأليفيّة متنوّعة كتلك التي تعطِي عنها الرياضة المحضة مثلاً ساطعاً بالنسبة إلى معرفة المكان وعلاقاته. ذلك أنهما معاً يُعَدّان صورتين محضتين لكلّ حدسٍ حسيّ، وأنهما يجعلان بذلك القضايا التأليفية القبلية ممكنة. لكنّ هذين المصدرين المعرفيّين يعيّنان بذلك حدودهما (كمجرّد شروطٍ للحساسيّة)، ذلك أنهما لا يتعلقان بالمواضيع إلا من حيث يُنظر إليها بوصفها ظاهراتٍ وليس من حيث تُعَدّ أشياء فيّاها [في ذاتها]. والظاهرات تشكل وحدها حقل صدقيتهما، فإذا ما خرجنا منه، فلن نجد لهما أيَّ استعمالٍ موضوعيّ.
وفيما عدا ذلك تُبقي واقعيّة المكان والزمان الثقة كاملةً بالمعرفة التجرُبيّة، لأننا دائماً على يقين بذلك سواءٌ كانت تَيْنِك الصورتان ملازمتين بالضرورة للأشياء فيّاها، أم لمجرّد حدسنا بالأشياء. وعلى العكس، فإن أولئك الذين يزعمون واقعيّةً مطلقةً للمكان وللزمان، سواءٌ حسبوهما من المقوّمات أم من الملازمات، سيناقضون مبادئ التجربة نفسِها. لأنهم إن اتخذوا الرأي الأول (كما يفعل حزب الفيزيائيين الرياضيين بعامّة) وجب عليهم أن يسلّموا بلَيْسَين [بعدمَيْن] (المكان والزمان) [لا يكونان أو لا يمكن أن يكونا إلا إذا انطويا]* على كلّ ما هو متحقّق، ـ (من دون أن يكون ذلك الشيء متحققاً) ـ بوصفهما سرمديّيْن ولامتناهييْن وقائميْن بالذات. 
وإن تبنَّوْا الرأي الثاني (الذي هو رأي بعض الفيزيائيين الميتافيزيقيين) [يقصد هيوم]، وإذا كان الزمان والمكان عندهم علاقات للظاهرات مستمَدّة من التجربة،  إنما بالطبع متصوّرة بشكلٍ مبهم في ذلك التجريد عن التجربة (علاقات تجاور أو تعاقب) فيجب عليهم أن يُنكروا على التعاليم الرياضية القبليّة المتعلّقة بالأشياء المتحقّقة (في المكان مثلاً) صدقيّتها، أو على الأقل يقينها الضروري، لأن مثل ذلك اليقين لا يمكن أن يكون بعدِيّاً، ولأن أفاهيم المكان والزمان والقبليّة لن تكون، تبعاً لذلك الرأي، سوى اختلاقاتٍ للمخيّلة يجب أن نبحث عن مصدرها الحقيقي في التجربة التي ، من علاقاتها المجرّدة، شكّلت المخيلة شيئاً ما يتضمّن ما فيها من كلّي حقاً، إنما ما لا يمكنه أن يقوم خارج الحدود التي تحدّه بها الطبيعة.
وصحيحٌ أن الرأي الأول يترك حقل الظاهرات مفتوحاً للمزاعم الرياضيّة، إلا أن الشروط عينها بالمقابل تعيقهم بصورةٍ خاصّة عندما تريد الفاهمة أن تغادر ذلك الحقل.
وصحيحٌ أنّ الآخرين يمتازون في هذه النقطة بأن تصوّرات المكان والزمان لا تعيق طريقهم عندما يريدون أن يحاكموا المواضيع لا بوصفها ظاهرات، بل فقط في علاقتها مع الفاهمة، إلا أنه لا يمكنهم لا أن يؤسِّسوا إمكان المعارف الرياضيّة القبليّة (حيث ينقصهم حدسٌ قبليّ حقيقي وذو صدقيّة موضوعيّة) ولا أن يقيموا توافقاً ضرورياً بين قضايا التجربة وتلك المزاعم. أما نظريّتُنا حول القِوام الحقيقي لتيْنِك الصورتين الأصليّتين للحساسيّة، فإنها تتغلّب على الصعوبتين معاً.
لا يمكن للأستطيقا المُجاوِزة أن تتضمّن إلا عنصرين اثنين، أعني المكان والزمان. ذاك ما يتحصّل بوضوح من أن جميع الأفاهيم الأخرى المنتمية إلى الحساسية، تشترط شيئاً أمبيرياً، بما في ذلك أفهوم الحركة الذي يجمع العنصرين. لأن هذا الأخير يشترط إدراك شيءٍ يتحرّك. وليس في المكان، منظوراً إليه فيّاه، من متحرّك؛ يجب إذاً أن يكون المتحرّك شيئاً يُصادَف في المكان فقط من خلال التجربة، وأن يكون بالتالي معطىً أمبيرياً. وليس بوسع الأستطيقا المجاوِزة من ثَمَّ أن تَعُدَّ من بين معطياتِها القبليّة، أفهوم التغيّر، لأن الزمان ليس هو نفسه الذي يتغيّر بل شيئٌ ما في الزمان. المطلوب إذاً إدراك موجودٍ ما مع توالي تعيّناته، والمطلوب بالتالي التجربة.

(كانط؛ نقد العقل المحض؛ ترجمة موسى وهبه؛ دار التنوير؛ بيروت؛ ص 82، 83)



(*) لقد وردت العبارة في نصها الأصلي على الشكل التالي:
"فإن أولئك الذين يزعمون واقعيّة مطلقة للمكان وللزمان، سواءٌ حسبوهما من المقوّمات أم من الملازمات، سيناقضون مبادئ التجربة نفسِها. لأنهم إن اتخذوا الرأي الأول (كما يفعل حزب الفيزيائيين الرياضيين بعامّة) وجب عليهم أن يسلّموا بلَيْسَين (المكان والزمان) لا يكونان إلا لينطويا (من دون أن يكون ذلك شيئاً متحققاً) على كلّ ما هو متحقّق، بوصفهما سرمديّيْن ولا متاهييْن وقائميْن بالذات."

قد يكون المقصود بـ "لا يكونان إلا لينطويا": لا يكونان إلا من أجل أن ينطويا. أو لا يكونان إلا إذا انطويا. وفي غياب نصٍ آخر للمقارنة نضع النص كما ورد في كتاب وهبه هنا ليقرر القارئ ما يراه الأنسب في السياق.

إضافة:

يقول موسى وهبه في مقالته عن الفلسفة النّقديّة في الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ما يلي:" نقد المعرفة النّظريّة، أو نقد العقل من حيث هو ملكة معرفيّة [...] يعني النّظر الى بنية العقل نفسه من حيث توزعه الى قدرات (ملكات) معرفيّة، [...] والقدرات هي: قدرة التلَقّي أو الحدس الحسّي، وتُسمّى الحساسية، والقدرة التّلقائيّة التي تفكر ما هو معطًى وتسمّى الفاهمة. والقدرة المنتجة للتّصوّرات أو المخيّلة. والقدرة على التعقّل أي البحث عن النّهايات المعرفيّة والنّزوع الى السّستمة، وتسمّى الملكة العاقلة أو العقل باختصار".
وتحت عنوان (نقد الحساسية)، يقول:" لدينا نوعان من الانطباعات الحسّيّة: انطباعات تشير الى وجود موضوعات خارجًا عنّا، أي متعلّقة بوضعها في المكان. وانطباعات تُشير الى ترتيب تصوّراتنا الزّمني عن هذه الموضوعات التي تتعلّق بموقعها في الزّمان، في إحساسنا الداخلي بها، فاذا جرّدنا هذه الانطباعات من كل مضمون لا يبقى لدينا سوى مجرّد تلقّيها. أي صورة الحدس المكاني أو الحس الخارجي، وصورة الحدس الزّماني أو الحسّ الباطن. ويظهر التحليل أنّ حدس المكان هو مجرّد حدس متجانس ذي أبعاد ثلاثة، ولا متناهٍ. وأنّ حدس الزّمان هو مجرّد حدس بالتّعاقب المستمر وحدس متجانس ولا متناهٍ. هذان الحدسان هما إذن الصورتان اللتان تسبقان فينا جميع الانطباعات الخارجيّة والباطنيّة وتجعلانها بالتالي ممكنة."
في الحساسية نجد أو بالاحرى نفترض وجود صورتين قبليتين أو حدسين قبليين ، هما حدسا المكان والزمان. وهما حدسان محضان، ومن دون هذا الفرض لا يمكن
لأحكام الرياضة ( أي الهندسة والحساب ) أن تكون ممكنة .
وهذان الحدسان المحضان هما شرطا تلقي الانطباعات الحسية وهما اللذان يسمحان بتشكل الموضوع كظاهرة، أي أن الموضوع لا يمكنه أن يظهر من دون صورتي الحساسية القبليتين.


 (إضافة للدكتور جمال نعيم)


الاثنين، 1 يناير 2018

كانط والميتافيزيقا المثلومة؛ محمود حيدر.





الميتافيزيقا المثلومة
محمود حيدر
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية

لو كان لنا أن نتوجه الى كانط بسؤال افتراضي لاصطفينا التالي: ما الذي سيحدث حين يمكث الفيلسوف وسط مثلث متباين من العقول ـ [نظري وعملي وتاريخي لكل أحدٍ منها منهجهُ ومنطقهُ وآلياتهُ] .. ويكون عليه في الآن عينه أن يؤدي لكل منها نصيبه المخصوص من الاعتناء والتدبير؟..
قد يكون رده ـ على غالب الظن ـ أن عودوا الى تحرِّي ما حلَّ بالميتافيزيقا من وهنٍ وعطالة بسبب من مكوثها دهراً في علياء التجريد. فإذا وقفتم على أحوالها سيُفتح لكم السبيل الى فهم ما قصدتُه. وأما الحكاية الموصوفة فلسوف تهتدون إليها في مفتتح كتابي الذي صدَّرته عام 1763 بعنوان «بحث في وضوح مبادئ اللاَّهوت الطبيعي والأخلاق». ذكرت يومها أن الميتافيزيقا ـ هي بلا أدنى شك ـ تمثل أكثر الحدوس الإنسانية قوة لكنها لم تُكتب بعد»..
ها هنا على وجه الضبط سوف يستهل "ناقد العقل الخالص" رحلته في لجة التفلسف... أراد أن يستظهر الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدة من اليونان الى مبتدأ الحداثة. شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنما امتلك عقلاً حراً، بعدما ظن انه تحرَّر تماماً من رياضيات ديكارت. راح يرنو الى الإمساك بناصية الميتافيزيقا ليدفعها نحو منقلب آخر. لكن حين انصرف الى مبتغاه لم يكن يتخيل ان «الكوجيتو الديكارتي» رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها أبداً. ربما غاب عنه يومئذٍ ان تخلِّيه عن منهج ديكارت الرياضي لن ينجيه من سطوة "الأنا أفكر" ولو اصطنع لنفسه منهجاً آخر. كانت قاعدته الاولى عدم البدء بالتعريفات كما يفعل علماء المنطق الرياضي، بل البحث عما يمكن إدراكه في كل موضوع عن طريق البرهان المباشر. كأن يقومُ المبرهَنْ عليه من تلك الإدراكات بالتعبير مباشرة عن نفسه بحكمٍ ما. أما قاعدته الثانية فقد نهضت على إحصاء كل الأحكام بشكل منفصل، والتيقُّن ألا يكون أيّ منها متضمَّناً في الآخر. وأخيراً وضع الأحكام الباقية كأوليات أساسية ينبغي بناء كل المعرفة اللاحقة عليها».
سَيبينُ لنا جراء ما سَلَفَ أن النقد الكانطي للميتافيزيقا، لم يكن سوى إنشاء متجدِّد للشك الديكارتي بوسائل وتقنيات أخرى. فالمشروع النقدي الذي افتتحه كانط هو في مسراه الفعلي امتدادٌ جوهريٌّ لمبدأ الـ «أنا أفكر» المؤكِّدة لوجودها بالشك. وهو المشروع الذي أسس لسيادة العقل، وَحَصَر الهم المعرفي الإنساني كله بما لا يجاوز عالم الحس.
انهمام كانط بالعقلانية الصارمة سيقوده راضياً شطرَ الكوجيتو الديكارتي حتى ليكاد يذوي فيه. الأمر الذي سيجرُّ على منظومته الفلسفية أظِلَّة قاتمة لم تنجُ الحضارة الحديثة من آثارها وتداعياتها حتى يومنا هذا.
لننظر قليلاً ماذا نجد..
من معاثر «مبدأ الأنا أفكر» انه أفضى إلى انبعاث الإلحاد في فضاء الفلسفة الحديثة. فقد جرت الألوهية مع "الكوجيتو" وفق معادلة مختلة الأركان قوامها: الله الموجود هو مجرد نتيجة لـ «الأنا موجود». ومن معاثره أيضاً أن الإنسان ـ بوصفه مخلوقاً ـ يكوّن معرفته الخاصة ويجعلها تؤسّس ذاتها من دون مسبقات. الـ«أنا موجود» (ergosum) التي تلي «الأنا أفكّر» (cogito) هي تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة بمعزل عن الله، وبسبب من كونه عاجزاً عن فعل هذا، فإنه يمنع تجلّي نفسه وتجلّي الله في اللحظة عينها. زد على هذا أن الكوجيتو الديكارتي، بالأساس، يشكل انعطافة معرفية نحو الأنا، في حين يؤدي إلى أنانة سياسية ليبرالية ذات نظام سياسي واقتصادي أناني وجشع.
وهكذا فإن منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره، سوف تستدرج الى تناقض بيِّن في أركانها. وللبيان نتساءل: كيف يمكن أن يستخدم كانط العقل كوسيلة ليبرهن أن هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعلية بالأشياء كما هي واقعاً؟ وكيف يمكن أن يعلن أن المرء لا يستطيع تحصيل المعرفة بالشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمر في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أن كل حجج كانط ـ كما يبين الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756 ـ 1841) ـ لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو حقيقة. وهذا لا ينطبق على كانط فحسب، بل على جميع الحالات الشبيهة. فإذا كنا لا نعرف إلا ظواهر الأمور، فكيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنا لا نعرف إلا الظاهر فقط، فهل ثمة معنى، في التحليل النهائي، لقولنا إننا نعرف شيئا ما؟ واما سبب هذه التناقضات ـ وفقاً لبادر ـ فتكمن في حقيقة أن الفلسفة النقدية استثنت معرفة اللَّه والدين النظري من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل.
لم يأخذ كانط عن ديكارت وحسب. ففي عام 1756 سينصرف إلى أعمال الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم وينأخذ بها حتى الانسحار. جاءه كلام هيوم كانعطافٍ حاسم: «إن أي فيلسوف لا يقدر على تفسير «قدرة الأسباب وقوتها السرية»، وإن القوة القصوى وفاعلية الطبيعة مجهولة تماماً بالنسبة إلينا، وإن البحث عنها في كل الصفات المعروفة للمادة مجرد هباء.. وبالتالي فإن القدرة التي تسبب النتائج الطبيعية واضحة لحواسنا، ولا بد ان تكون هذه القدرة في الله. وان الله ليس فقط هو الذي خلق المادة أولاً، ووهبها حركتها الأساسية، وإنما بذل القدرة الكلية ليدعم وجودها ويمنحها كل تلك الحركات الموهوبة لها.. ثم يتساءل: «إذا لم يكن عندنا فكرة كافية عن «القدرة» و»الفاعلية» و»السببية» يمكن تطبيقها على المادة، فأين يمكننا أن نحصل على فكرة تنطبق على الله؟..
بسبب هيوم وشكوكيته سيهتز إيمان كانط بشرعية المعرفة الميتافيزيقية. من بعد ذلك سيميلُ نحو منفسح آخر من التفكير الفلسفي. كان له أن يعرب عن ذلك بكلمات دالَّة في مؤلفه «مقدمات نقدية»: «لقد أيقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوغمائي». ثم انبرى الى الحكم على الميتافيزيقا ـ كمعرفة إيجابية ـ بالموت.
* * * * *
اضطر كانط لمواجهة اليأس من التعرّف على "سرّ الشيء في ذاته"، إلى ان يبتني أسس المعرفة الميتافيزيقية بوساطة العلم. استبدل التعريفات المجردة بالملاحظة التجريبية، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه وكأنه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقر في محراب الفيزياء. وليس كلامه عن أن «المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدمه نيوتن في العلوم الطبيعية»، سوى شهادة بيِّنة على نزعته الفيزيائية.
في اليوم نفسه الذي كتب فيه هذه الكلمات البسيطة، تجاوز كانط خط النهاية الذي تكمن خلفه الأرض القاحلة التي يستحيل فيها استكناه السرّ الذي منه ظهرت الأشياء إلى عالم الوجود. ففي هذه الأرض سيجري تعيين علم معياري جديد كقاضٍ أعلى على الفلسفة. وحين صارت الميتافيزيقا عنده على هذه السجية، سوف يتبيَّن ـ لمجايلي كانط وللكثرة التي جاءت من بعده ـ أنها لم تعد قادرة لا على البرهان الفيزيائي ولا على البرهان الرياضي في آن. ولذا، لمَّا قال كانط إن كل ما هو موجود، هو في مكان ما وزمان ما (irgendwannirgendwo und)، لم يكن يتوقع أن موقفه هذا سيؤدي الى التخلي عن الميتافيزيقا ـ بوصفها تعرفاً على ذات الموجود وسره ـ وانه سيخلي الساح للفيزياء بوصفها وقائع يدركها الفكر، أو بما هي موضوعات تنوء تحت سطوة الحواس الخمس..
توسل كانط مرجعيتي هيوم ونيوتن لتسويغ «رغبته» في تحويل الميتافيزيقا الى علم يقدر على متاخمة المشكلات الحقيقية للعالم الحديث. ولقد أدرك منذ اللحظة التي سيتحول فيها مشروعه الى عمل رسالي، أن للميتافيزيقا مقاماً غريباً بين العلوم، وأنها علم لا ينتهي رواجه ابداً بوصف كونها حاجة طبيعية للبشر. مثل هذه الفهم جاء ليدحض ما قرره الفلاسفة الوضعيون لجهة إقصاء الفلسفة من مهمة تدبير العالم. لقد رأى ان إلغاء الميتافيزيقا تماماً سيكون مستحيلاً، وان أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسميه بالعقيدة العلمية الجديدة. وهي العقيدة التي سيضعها كانط تحت عنوان «الإمكان الميتافيزيقي» في العالم الطبيعي، وتقوم على التمييز المنهجي بين عالمين غير متكافئين: عالم الألوهية وعالم الطبيعة.
لكن التمييز الكانطي بين هذين العالمين وإن جاء خلاّقاً على المستوى الأبستمولوجي، إلا أن أثره التأويلي سيجاوز الحدود والمقاصد المرسومة. فالتمييز الأبستمولوجي سيغدو في ما بعد تفريقاً بين الكائن المتعالي فوق الزمان والمكان، وبين الدين بما هو كائن تاريخي ثاوٍ في الزمان والمكان. مع هذا التفريق سينفجر التأويل وتتعدد القراءات ليُرى إلى كانط تارة كفيلسوفٍ تَقَويٍّ توارى إيمانه بين السطور والألفاظ، أو كملحدٍ لا يرى إلى الله إلا كمتخيَّل بشري...
لقد قيل بصدد هذا المُشكل أن هدف كانط من نقده لأدلة وجود الله لم يكن من أجل ترسيخ الإنكار النظري التام لوجود الله، بل لتمهيد الطريق لإثباتٍ أكثر أصالة لوجود الله. ومن خلال قصر كانط لمعنى «المعرفة» على الفهم العلمي للأشياء الظاهرية وقوانينها، وبإنكاره لإمكانية امتلاكنا المعرفة النظرية بوجود الله، كان يُنكر إمكانية معرفة الله بالطريقة نفسها التي نُدرك من خلالها أي شيءٍ مادي. وبما أن الله ليس جزءاً من العالم المادي بأي شكل من الأشكال، فلا يُمكن على نحوٍ أدق إثبات كونه موضوعاً للمعرفة النظرية. وإذا أردنا إثباته، فلن يكون ذلك من خلال بيئة المعرفة العلمية بل عبر نوع من الإثبات الذي يتجاوز المعرفة العلمية ويمكن إطلاق صفة الإيمان المنطقي عليه بسبب الافتقار لمصطلح أفضل.
* * * * *
بالتأكيد لن يُحمل على كانط أنه كان عدوّاً للإيمان، لكن عَيْبَه الموصوف أنه أسس لـ "مانيفستو فلسفي" يقطع صلات الوصل المعرفية بين الله والعالم وبالتالي بين الدين والعقل. هذا هو الإجراء "الكوبرنيكي" الذي شقّ الميتافيزيقا إلى نصفين متنافرين (ديني ـ دنيوي) وما سينتهي إليه من غلبة الدنيوي على أزمنة مديدة من أنوار الحداثة.
مع هذا، فقد بدا كانط كما لو أنه فتح الكوة التي ستتدفق منها موجات هائلة تعادي التنظير الميتافيزيقي ولا تقيم له وزناً في عالم الإمكان الفيزيائي.
أصحاب الميتافيزيقا المثلومة من الذين استطابوا الدرس الكانطي أعادوا إنتاج القطيعة بين الكائن الذي لا يُدرك والموجود الواقع تحت راحة اليد. لذا حرص هؤلاء على وقف مهمة الميتافيزيقا حيناً عند حدود الحاجة الابستمولوجية، وحيناً آخر من أجل استخدامه في عملية التوظيف الإيديولوجي. وعليه فقط دأبوا على إحاطتها بسوار لا ينبغي فكّه إلا عند الاقتضاء. فلا تصبح الميتافيزيقا ممكنة إلا متى كان هناك مجال شرعي للمبحث الميتافيزيقي. في حين تكون العلوم التجريبية هي الحاكم. بل هي وحدها القادرة، على إنبائنا ببنية الواقع الأساسية.
لقد كان أنصار «العِلموية»، في صنفيها، - سواء ذاك المستقطب من صفوف العلماء، أو ذاك المتأتِّي من صفوف المفكرين ـ يُظهرون دوغمائية ضيقة الأفق هي في منتهى التحليل نقيض الفلسفة الأصيلة. فهم أعمياء عن رؤية أن العلم يقتضي الميتافيزيقا (أو يفترضها مسبقاً)، وأن دور الفلسفة معياري  normatif، بمقدار ما هو وصفي ـ وان كل الأشياء، ومن ضمنها العلوم، تقع تحت عينها الناقدة. غير ان ما تستطيع العلوم التجريبية إطلاعنا عليه، في أحسن الاحوال، هو الوضع بكيفيته الراهنة، لا بـ "كيف يجب ان يكون"، أو "ما يمكن أن يكون". الميتافيزيقا هي من يتعاطى مع الممكنات. فقط عندما نضبط مدى الممكن، نستطيع أن نرجو تحديد الفعلي تجريبياً. لذا ستكون العلوم التجريبية في مثل هذه الحالة عالة على الميتافيزيقا ولا يكون للتجريبية أن تسطو على دور (الميتافيزيقا) اللائق بها وحدها.
* * * * *
سوف يسري الالتباس والغموض بعمق في نظامية كانط جرّاء هذا الفصل الوظائفي بين ما هو أنطولوجي عصيٌّ على الإدراك وما هو فينومينولوجي قابل للفهم. والذين نظروا الى هذا الالتباس وجدوا ان الفصل المومىَ اليه تعدى حدود الوظائفية لتتحول الهندسة المعرفية الكانطية بسببه الى نقائض. وهذه النقائض هي عند كانط نفسه غير قابلة للحل لأنها تنطوي على علاقة غير واضحة بين النومينا (الشيء في ذاته) والفينومينا (الظاهرة) وهي في التحليل الأخير غير منطقية...
تلقاء ذلك سعى كانط الى ابتكار جواب حاسم على مشكلة الفلسفة بسؤاله الأثير عن إمكان صيرورة الميتافيزيقا علماً. فبعد إدراك صحة ما يمكن البرهان عليه يرفض العلم كل ما سواه باعتباره تفكيراً عديم الجدوى. فالعلم في تقدم مستمر واحترام دائم، على خلاف الميتافيزيقا وعلم الأخلاق والدين. فهذه المجالات المعرفية لا تؤسِّس حقها في التقدير والاحترام على أدلة نتائجها، بل على أهمية الموضوعات التي تتطرق إليها. لذلك رأى كانط أن هذا الموقف كان شيئاً من الماضي. فقد جاء الزمان الذي لم يعد الإنسان فيه يشعر بالاهتمام بأي فرع معرفي لأجل سموّ غايته، بل فقط لأجل سلامة براهينه. ويستنتج كانط مما مرَّ ان «عصرنا هو عصر النقد بكل ما للكلمة من معنى، ويجب أن يسلمّ كل شيء له. لكن الدين بقوة قداسته والقانون بقوة سلطانه يحاولان التملص منه، إلا أنهما بفعلتهما هذه يثيران الشكوك، ولا يقدران على إعلان الاحترام الصادق الذي يكنه العقل فقط لأولئك الذين كانوا قادرين على الصمود أمام اختباره الحر والمفتوح.
* * * * *
المشهدية المثلومة للميتافيزيقا الكانطية، سوف تحدو بهايدغر بعد زمن الى مراجعة الميتافيزيقا من أصلها الى فصلها. كذلك سيدعو بنتيجة ذلك، الى استنقاذها من غفلتها المديدة، ومن نسيانها الجائر لحقيقة الكينونة. فقد كان لمنظومة كانط الأثر المبين في تشكيل الحضارة العلمانية في الغرب. وذلك عائد الى الزرع الذي أجرته في بنية التفكير الفلسفي لجهة محدودية العقل في فهم وإدراك البعد الإيماني في المنظومة الدينية.
كذلك ستوفر الكانطية التسويغ الفلسفي للفردانية(individualisme)  التي تعني إنكار أي مبدأٍ أعلى فوق الفرد (individualite). مثل هذا الإنكار سيكون السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب، من جهة كونها، كونه المحرّك للتطوّر الحصريّ للإمكانيّات السفلى للإنسانيّة.
مقتضى الإمكان الميتافيزيقي الكانطي في صيرورة الميتافيزيقا علماً متاخماً للعلوم الإنسانية وسيَّالاً في ثناياها، هو النزوع العقلاني الذي طغى على الثقافة الغربية منذ أفلاطون إلى يومنا هذا. ولقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه الى انشائها على نصاب جديد عبر تحويلها الى موقف ينزلها من علياء التجريد الى الانهمام بالعالم. لكن بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العملية الإدراكية للموجود بذاته والموجود بغيره ، راح يفصل بين العالمين ليبتدئ زمناً مستحدثاً تحولت معه الميتافيزيقا الى فيزياء أرضية محضة.

كانط ومحدودية العقل؛ د. جميل قاسم.


كانط ومحدودية العقل

د. جميل قاسم




يتركز سؤال الدين عند كانط حول علاقة الدين بالأخلاق، أو الأخلاقية moralitat ـ وهو سؤال أفرزه الواقع الديني في أوروبا (الحروب الدينية والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، والإصلاح الديني في ألمانيا (مارتن لوثر) والحروب الصليبية. وقد أثار المسألة الدينية في كتبه كلها لكنه، تناول هذه المسألة، حصراً في كتابيه «نقد العقل العملي» وانصب اهتمامه فيه حول مسألة «الله»، وتناول في كتابه «الدين في حدود العقل المجرد» المسألة الدينية (الدين).
وثمة حادثة يرويها كانط في مقدمة كتابه «نقد العقل العملي» عن سؤال بادره به خادمه، بعد صدور كتابه «نقد العقل المحض Kritik der reinen fernuft عن الله في كتابه فأجابه كانط بصورة اختزالية «لا وجود لله». وبوغت كانط بالدموع تنهمر على خدي خادمه فاستوقفه الأمر، وصار يتساءل عن الخلاص والرجاء؟ ورأى، بعدها، أن الفلسفة وحدها غير قادرة على النظر في مسألة الرجاء والخلاص.
والأمر ذاته، نجده عند جان جاك روسو في كتابه «دين الفطرة» ، فمفهوم الدين ليس طبيعياً (مادياً) كما تصور دافيد هيوم وفلاسفة الأنوار وإنما هو حدسي وفطري. [؟]
وعلى الرغم من فصل السياسة والثيولوجيا عن الدين في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» نجد سبينورا ينطلق في كتابه «الأخلاق» من اللاهوت (الله) على أنه معيار ومقوم للدين والدنيا.
وإذا كان كانط يرى في مفهومه العقل المحض reinen fernuft كل ما يكون في الفكر مسبقاً، لا يأتي من الاختبار الأمبريقي فإنه يرى أن العقل العملي praktische vernuft هو العقل الذي تنبثق منه مصادرات الله والحرية والخلود بوصفها مصادرات أخلاقية.
يعرض كانط في كتابه «الدين في حدود العقل» الصلة بين الأخلاق والدين، فيرى أن الأخلاقية، أو القانون الأخلاقي حتى لو كان يفترض وجود كائن أسمى «الله» لكن فكرة هذا الكائن تصدر من الأخلاق وليست هي الأصل في صدور الأخلاق. يقول: إذا كان ثمة شيء يحق للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السابقين فهو إيمانه العميق بالحرية، بأنه كائن حر، لا يدين بقدرته على التفكير بنفسه، ومن ثمة على إعطاء قيمة خلقية لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أية جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا
هل الإنسان خيّرٌ بالفطرة والطبيعة، أو إنه شرير وخطاء بالطبع والأصل (الخطيئة الأصلية)؟
لا يقبل كانط بكلتا المصادرتين ويرى أن الطبيعة الإنسانية تنطوي على الأمرين معاً كإمكانية (الخير والشر) ويرى أن الإنسان في جنسه Gattung لا هو بالخيّر ولا هو بالشرّير، أو بالأحرى قد يكون أحد الاحتمالين، لا لأنه يقترف أفعالاً مناقضة (للقانون) وإنما لأن أفعاله تنطوي على مسلّمات قبيحة maximum bose.  وبخلاف جان جاك روسو وسينيكا اللذين يفترضان أن الإنسان هو بالطبيعة خيّر يرى كانط أن الطبيعة لا تتحمل وزر الإنسان (حين يكون شريراً) ولا هي لها الفضل فيه (حين يكون خيراً) بل إن الإنسان هو المسؤول عن الخير والشر، من حيث اختياره ومشيئته، وحرية المشيئة تخضع للنية، على أنها أساس ذاتي للقبول بالمسلّمات. وهذا الموقف يقربنا عند كانط من الموقف الإسلامي «إنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى» ـ حديث نبوي شريف ـ
وفيما يتعلق بالاستعداد الأصلي للخير عند الإنسان يقوم عند كانط على ثلاثة مستويات:
الاستعداد بالنسبة إلى حيوانية الإنسان (الإنسان حيوان).
بالنسبة إلى إنسانيته (الإنسان حيوان عاقل).
بالنسبة إلى شخصيته، من حيث هو كائن عاقل، وكائن مسؤول، يتحمل المسؤولية بناء على اختياره ومشيئته.
يقوم الاستعداد (الإمكانية) للحيوانية على حب الذات، والغريزة، (الفردية والإجتماعية) وهي تقوم في ابتعادها عن العقل على الرذيلة (الطمع والفسق والفظاظة).
ويُحمل الاستعداد (الإمكانية) الإنسانية على العقل، ومنه تتأتى القيمة، قيمة التحقق، وهي رغبة عقلية تقوم على (حب الذت، والتعالي والمحبة والتسامح) في مقابل الحسد والجحود والضغينة.
أما الإمكانية الثالثة فتقوم على الشخصية التي تقوم على احترام القانون الخلقي (الواجب) بوصفه دافعاً كافياً للمشيئة، وهو استعداد يقوم على الحرية، ولا يكتسب اكتساباً، وإنما تتضافر فيه قيم العقلانية والإنسانية بالإضافة إلى الشخصية (ويعد هذا الموقف عند كانط من إرهاصات الشخصانية عند الكانطية – المحدثة).
يعني كانط بالاستعداد الأجزاء المقومة له (الإمكانية) وأن يكون الإنسان خيراً أو شريراً هو ما يفعله بالذات، ويكون ناجماً عن مشيئته الحرة، وتصرفاته، واختياراته ودوافعه ونيته (النيات) ومقاصده في الفعل الأخلاقي.
من أجل أن يصبح الإنسان خيراً في خُلقه، عليه أن يصارع علّة الشر التي توجد في ذاته، بوساطة الفضيلة، والفضيلة – بالمعنى الرواقي (نسبة إلى المدرسة الرواقية) تعني كفاح الإنسان مع ميوله أمام واجبه، بأن لا يقبل بأي موجب لشر مناقض للواجب الأخلاقي القائم على الخير.
إن موضوع العناية الإلهية، لإرادة الكائن الأسمى (الله) في العالم هو الإنسانية  Menshheit، في كمالها الخلقي التّام، والإنسان عند كانط ليس مجرد شيء مخلوق، بل هو ابن الله، المخلوق من صلبه، والذي خلقه على صورته ومثاله بكلمة «كن» التي عبرها تكون كل الأشياء الأخرى والإنسان انعكاس لبهاء الله وعظمته
بناء على ذلك يرى كانط أن الكائن الأسمى (الله) أعطى الإنسان مكانة أعلى من الملائكة (إن العالم بنقائصه أفضل من ملائكة بلا إرادة – الشاعر هالر – وقد خص الرب الجنس البشري بمحبته (كذا كان الرب يحب العالم – الإنجيل) لكن الإنسان، المعلّم الذي تحدوه نيّة ربانية بشري تماماً، وهو – بما أنه إنسان – المثل الأعلى للخير والحق والجمال (والدين)، بمنأى عن كل نزعة تشبيهية إنسية anthropomorphisme أو تأليهية – إنسية Anthropo-theisme.
الإنسان – حسب كانط – هو «أمير العالم» لكن مملكته تقوم على الحرية، لا العبودية، وتجعل من النعيم الأرضي غاية الإنسان الأخيرة، بوصفه مناطاً وأساً وأساساً للأخلاقية Moralitat.
والدين الخلقي، عند كانط – هو الذي يقوم على الأخلاقيّة والنيّة والمقاصد الخلقيّة الخيّرة، لا على الإيمان بالمعجزات، لاستغنائه عنها، ويرى كانط أنه في الشؤون العادية لا يمكن للمرء أن يعول على المعجزات، إلا إذا كانت من النوع الخيّر، أو تنطوي على حكمة أو معنى أو مغزى، أو أن يستعملها الطبيب كقول مجازي «المريض يحتاج إلى معجزة لشفائه»! 
علام يتأسس ملكوت الله على الأرض؟
إن الكفاح الذي ينبغي على كل إنسان، ذي نية حسنة على الصعيد الخلقي، أن يخوضه تحت إمرة مبدأ الخير وضد مبدأ الشر، هو أن يكون الإنسان حراً بأن يخلص من العبودية تحت قانون الخطيئة، من أجل العدالة.
وسيطرة مبدأ الخير تقوم على إنشاء مجتمع يضم الجنس البشري، بتمامه، في نطاقه، وتأسيس العقل والواجب على الفضيلة. ومن العقل المشرّع، فضلاً عن القوانين التي يأمر بها لكل فرد، على حدة، يمتد لواء الفضيلة، بوصفه علامة الخير.
وتسمى الرابطة ما بين البشر، تحت قوانين الفضيلة، طبعاً لما تأمر به هذه الفكرة مجتمعاً أخلاقياً، ومن حيث عمومية القوانين، مجتمعاً مدنياً أخلاقياً، ومملكة الفضيلة (مملكة الخير) تستقي فكرتها من العقل الإنساني، وتقوم على الواجب (الواجبات) مقابل الحقوق المدنية .
إذا كانت الأخلاق مؤسسة على مفهوم الإنسان، ومفهوم الأنوار (أن يصنع الإنسان مصيره بنفسه (مقالة ما الأنوار؟ لكانط) وأن هذه الأخلاق لا تحتاج فيما يتعلق بذاتها إلى الدين، فما الذي دفع كانط إلى تقديم نظرية فلسفية في الدين؟
إن الإنسان بحاجة إلى غاية كبرى تكون هي مناط الواجب والأخلاق والعقل، ولكن بشرط أن تكون غاية حرة نهائية، أوسع نطاقاً من الواجب الأخلاقي والوازع العقلي.
إن حاجة الفكر إلى الدين لا تكمن في أي نوع من العبودية، بل في القدرة والحرية، حرية المصير، حرية اقتراح غاية نهائية لوجودهم على الأرض تكون بمنزلة غاية الغايات، تليق بعقولهم، وبقدرتهم على إعطاء قيمة أو معنى في صناعة قدرهم، وتدبير أمورهم وشؤونهم، لا تأتي إلى الأخلاق «من خارج» بل تنبع من الأخلاق فلا يعود الإنسان متخلقاً لأنه متدين، وإنما متدين لأنه متخلق، ولذا تكون العلاقة مع الله (الكائن الأعظم) بالمفهوم الأنواري علاقة حرية لا علاقة عبودية (إلا بمعنى الاحترام والإجلال لكائن يساعد عقولنا على تمثل غاية نهائية (خلاصية) لوجودنا على الأرض.
لماذا يحتاج البشر إلى هذا النوع من الإجلال للكائن الأكبر (الله)؟
لأن الإجلال مرادف للقداسة، والعقل الإنساني (استعمالي الطابع) يحول المفارق إلى مطابق، والتعالي إلى تدانٍ، والمقدس إلى مدنس، ولذا يثار السؤال الكانطي هنا: كيف نجمع بين حاجة البشر إلى تقديس شيء ما، وبين شعورهم الأصلي بالحرية الأخلاقية؟
يرى كانط، جواباً أن القداسة لا تخالف الحرية، بل تقوم عليها، وهي حاجة خلقية في طبيعة البشر الحرة.
ومن أجل ذلك لا تعود الفلسفة نقداً (أو نقضاً) – بالضاد – للدين بل تأصيلاً لإمكانياته الأخلاقية، ولذا لا ينفع الدين أن تحميه الدولة، من أجل حرية التفكير، كما أن دفاع أهل اللاهوت عن الدين لا مسوغ له، ضد فلاسفة الأخلاق (المجردة).
فاللاهوتي الذي يستعمل الكتاب المقدس ضد العلم ومنجزات العقل يكون كمن يسعى إلى إذلال العلوم وإعفاء نفسه من التعب في طلبها، تحت شعارات كأسلمة العلوم “أو “مسحنة” الحقيقة، لأن أسلمة العلوم لا تكون قبلية  aprioique، وإنما بعدية، aposteriorque  أي تكون بتبني الأديان منجزات العلم كالمنطق، والنظريات الكونية والرياضية، والكيميائية والفيزيائية، لأن الدين الذي يناوئ العقل – ومنطق التطور – لا يتمكن من الصمود أمامه.
فسر القدماء الدين والأسطورة بعجز الإنسان عن تفسير الحوادث والعاديات (كالعواصف والزلازل والبراكين) فلجأ إلى تألية هذه الظواهر والصوارف، أو إضفاء البُعد الإلهي عليها.
ورأى بعضهم Euhemerus في حوالي 300 ق.م أن الدين والأسطورة «تمثيل» لأحداث تاريخية حقيقية، وأن الدين يقوم على نزعات تشبيهية anthropomorphisme (أي تشخيص الآلهية وأنسنتها).
وقد رأى دايفيد هيوم، في العصر الحديث، في كتابه «الدين الطبيعي» أن جذور الدين والأسطورة تكمن في المخاوف والحاجات البشرية المحولة على الدين.
وقد حول عصر الأنوار الدين إلى «أخلاقية» Moralité أو مناقبية ذات بعد ديني، تتقدم فيها المعرفة على الإيمان، والعقل على النقل، وقد دعم هذا التوجه الفصل الذي أجراه سبينورا للعقل عن الدين، بحيث صار بوسع المعرفة الفلسفية أن تستخرج في صيغتها الرسالات والعقائد الإيمانية، وهو المذهب الذي أكده مالبرانش أحد فلاسفة عصر الأنوار الذي كان يرى أنه سيأتي يوم يكون فيه العقل البشري قد تمثل بعمق مضمون الإيمان، بحيث يستمر العقل ويحل محل الإيمان.
لقد عارض عصر الأنوار الدين الخلاصي بالدين الطبيعي. فالدين – بالمعنى الميتافيزيقي – يتجاوز الطبيعة، ويتناقض معها، وهو ما يبدو مفروضاً على العقل «من خارج» أي ما يقوم على صلة خارجية متعالية بالمطلق، وحين يتحول الدين إلى شريعة يصبح ديانة «وضعية» تقوم على منطق السلطة والإقرار والإذعان والعبادة والعبودية، وليس على الاختيار والحرية.
أما الدين الطبيعي (الدين الفلسفي التأملي) فهو يقدم الحقيقة على الشريعة، ويقرن القدسي بالدهري، والدين بالدنيا، والعلم بالعالم، والإيمان بالأخلاقية Moralité في علاقة الوجود بالشهود، والغيب بالحضور. وبهذا يرادف الدين – بالمعنى الفلسفي – آداب المعاملة (أو المناقبية الأخلاقية Ethique).
وقد فسر سبينورا الدين بهذه الأخلاقية التي تقوم على العقل.
كما فسر ماكس فيبر بهذه الأخلاقية الدين كما لو كان «دين معاملة» تقوم على العقد والوعد والعهد والإئتمان والمسؤولية، والعمل إلخ...
وقد تبنى هيغل الموقف الأنواري من الدين، باعتبار الدين شكلاً من أشكال «الوعي الشقي»، وبما أن التناهي الوجودي لا يطابق اللامتناهي الميتافيزيقي في الوضعية الدرامية لعلاقة الإنسان بالله، والوجود بالشهود، والناسوت باللاهوت، فلا بد من الوقوع في إسار الوعي الشقي.
والوعي الشقي هو المرادف لمفهوم الاستلاب alienation وهو حالة التعارض والفصام الوجداني. وهي حالة مصيرية (وجودية ووجدانية) تميز الأديان الوضعية عن الأديان أو الفلسفات الدينية الطبيعية.
وحالة «الوعي الشقي» تنعكس في ظواهرية الأديان في المصير القدري للأديان والأفراد والجماعات. فالمصير الدرامي لليهودية يقوم على فكرة «الشعب المختار»، مقابل الأغيار (الغوييم، الغرباء، الأجانب).
أما الوعي الشقي في المسيحية فيكمن في انفصاله الفاعلية الروحية عن الحياة الدهرية (الزهد، التنسك، البتولية)، على الرغم من اعتبار المسيحية «دين المحبة والتسامح»، فهل ثمة محبة ممكنة من دون حب ورغبة؟
على الرغم من هذا المفهوم العقلاني للدين (المفهوم العقلي المجرد logocratique) نجد أن الكانطية – الجديدة (شارل رينوفييه 1815-1903) وماين دوبيران (1766-1844) قبله قد طورت مفهوم «الشخص» personne  عند كانط ليصبح الإنسان، بوصفه ذاتاً، جمعية للعقل والروح والجسد، بل يحتل الروح الشخصية وصدارتها وجوهرها وأسّها، بوصفه مقوم الشخصية الحية: هل ثمة عقل وجسد بلا روح؟
يرى ماين دوبيران أن الأنية (الذات) هي نشاطية تقوم على «علاقة» الحس بالمحسوس، ويميز هنا بين الإحساس العقلي المجرد (الزماني – المكاني) والإحساس النفساني المحض الذي يفترض الشعور بالأنا والأنية، ويقوم على الإرادة، والمبادرة والحس الباطن  sens intime، الذي يميز إحساس الذات بذاتها ليس فقط كموضوع، وإنما في أفكاره وتصوراته، على أنه كائن جوهري.
ويميز دوبيران الأنا من النفس (الروح) فيرى أنه لا يوجد ثمة حدس عياني  intuition، أو تجربة في إمكانها معرفة النفس، بوصفها جوهراً مستقلاً، فهي من أمر الله.
والله، وحده، هو الذي يعرف النفس، أما الإنسان فلا يستطيع أبداً أن يدرك النفس (الروح) إلا مرتبطةً ببدن، ولا يعرف الإنسان كيف تفعل النفس ولا كيف تتلقى الانطباعات، ولكيما أعرف ما نفسي، وروحي فيجب أن أكون في مكان الله نفسه وهذا الموقف يتطابق مع الموقف الإسلامي القرآني «ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” (سورة الإسراء.85).
يميز دوبيران ثلاثة أنواع من الحياة: الحياة الحيوانية، والحياة الإنسانية، وحياة الروح. الحياة بالنسبة إلى الإنسان تبدأ من حيث الشعور بالأنا، أو الحياة الخاصة للقوى الباطنة الفعالة، الحرة.
أما حياة الحيوان، فهي غريزية، غير إرادية، وغير حرة، وتقوم على الانفعالات العمياء.
إن الإنسان (الحيوان الناطق والعاقل) يشارك الحيوان في الحيوانية، ولكنه بالقدر الذي يتحرر من الشهوات البهيمية العمياء، يتعالى بالروح إلى الإنسانية وما فوق – الإنسانية (الألوهية) أو المطلق أو الله.
وينعى شارل رينوفييه في مذهبه «الشخصانية» على كانط أنه يضع مكان الجواهر القديمة كائنات في ذاتها noumens، بينما الحقيقة هي حقيقة ظواهرية pheno – mene [ ومن هنا يعد رينوفييه مؤسس المذهب الظواهري phenomenisme] ليست ظواهر في ذاتها (متعالية ومفارقة) كما تصورها كانط، بل ظواهر ذاتية، تقوم على الوعي، كشخصية تضم أدوات الوعي وأشكاله (الزمان والمكان، والكيفية والكمية، والسببية والغائية) تقوم على العلاقة والتضايف، إذا لا يوجد مكان في ذاته، ولا زمان في ذاته ولا فكر مجرد (محض) في ذاته أو الجوهر في ذاته.
ويأخذ رينوفييه على كانط أنه أنكر الشخصية الذاتية والفردية، في تصوره النومنالي المتعالي، فيما يرى أن الوعي يفترض الذات والذاتية والشخصية ككلية للروح والعقل والجسد.
والعصر الحديث، أعاد الاعتبار للحدس intuition مع هنري برغسون، بوصفه مقوماً للذات الكلية (كتابه «التطور الخالق») كما أصبحت الشخصانية فلسفة وجودية – روحانية تقرن الروح بالعقل بالجسد.
وحتى مفهوم الدين قد أصبح في علم ظواهرية الأديان مرادفاً للدينوية [للدَّيْنَنة] religieusité التي تقرن الدين بالدنيا بالمناقبية الأخلاقية، بمنأى عن كل نزعة دالاتية شمولية (تجمع الدين بالدولة بالدنيا) أو أصولية تمامية integriste أو سلفية حَرْفية، وهو ذا الفرق بين الظواهرية الدينية، دين الظاهر، والحرف، إذ يرى مرشيا إلياد، عالِم الأديان المقارنة، الروماني الأصل أن الدينوية religieusité أشمل من الدين، إذ يقرن الدين بالدنيا، والمعنى، والأخلاق والمناقب السلوكية، باعتبار الدين تعبيراً قدسية وقداسة الوجود.
ولا ننسى أخيراً أن الروحانية في الفن أصبحت اسماً لنزعة دينية (دينوية) قال فيها الفنان هنري ماتيس: يكون الفن المقدس، دينياً أو لا يكون...
في حملته على «العقل في الفلسقة» يرى نيتشه أن الفلاسفة – سقراط وأفلاطون وكانط – كانوا يحولون الفلسفة إلى «مومياء» لافتقارهم إلى الحس التاريخي، والصيرورة، لأنهم كانوا «عبدة أصنام» يقدمون «الحقيقة» على «الظاهرة» بناء على المعادلة السقراطية عقل = فضيلة = سعادة... 
يقول نيشته: «لقد ألغينا العالم الحقيقي أي عالم سيظل هناك؟ العالم الظاهري؟.. كلا! فمع (إلغاء) العالم الحقيقي ألغينا أيضاً عالم الظواهر»...!
المراجع والمصادر
إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل، نقله إلى العربية، فتحي المسّكيني، منشورات جداول، بيروت 2012.
أندريه لالاند، معجم مصطلحات الفلسفة التقنية، منشورات عويدات، ترجمة: خليل أحمد خليل، بيروت 2012.
فريدريك نيتشه، غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت 2015.
تعقيب على مداخلة د. جميل قاسم:
تناقضية كانط الأخلاقية
في حديثكم عن محدودية العقل والمسألة الأخلاقية عند كانط ربما غاب عنكم دكتور جميل قاسم ما كان بيِّنا وصريحاً في ما صرح به القول الفلسفي الإسلامي في هذا الصدد. ويمكننا أن نستنتج من مخازن الفكر الأخلاقي الإسلامي ما يجيب على أسئلة راهنة تطرحها القضية الأخلاقية في أزمنتنا المعاصرة.
بتقديري أن الفلسفة الإسلامية تطرّقت إلى الحديث عن مفهومي الكمال والسعادة في مختلف مباحثها، اذ أشار إليهما الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه (الإشارات) وكذلك تطرّق إليها فلاسفة آخرون. مثل ابن مسكويه في كتابه الشهير "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" والمحور الذي ارتكزت عليه آراؤهم في هذا الصدّد أنّهما أمران متلازمان ولا يمكن الفصل بينهما، فكلّ كمالٍ يعدّ بهجةً وسعادةً؛ إلا أنّ إيمانوئيل كانط فرّق بينهما كما ذكرنا ورأى أنّه ليس من السهل بمكانٍ عدُّ التكليف مندرجاً ضمن مقولة الجمال (جمال الله عزّ وجلّ)، ومن ثم يجب علينا الفصل بين الأخلاق والسعادة. هذا هو رأي كانط، في حين أنّ جميع الفلاسفة في مشارق الأرض ومغاربها يعدّون الأخلاق ملازمةً للسعادة، فالفارابي على سبيل المثال ذكر بحوثاً مسهبةً حول السعادة ودوّن مؤلّفاتٍ عدّة بخصوصها ومنها كتاب (تحصيل السعادة)، والنتيجة التي أكّد عليها هي ملازمتها للكمال لدرجة أنّها لا تنفكّ عنه. وحتّى علماء الأخلاق من أمثال صاحب كتاب (جامع السعادات) و (معراج السعادة) تبنّوا هذا الرأي الشامل وعدّوا السعادة ركناً أساسياً من أركان الأخلاق؛ لكنّ كانط جعل الأخلاق ذات صلةٍ بالكمال فحسب ونأى بها عن السعادة، والطريف أنّه ناقض نفسه فيما بعد واعترض على رأيه قائلاً: «لو أنّنا فصلنا بين الأخلاق والسعادة سوف نواجه صعوبةً على الصعيد الأخلاقي، إذ إنّ من يريد تطبيق الأخلاق سوف يجد نفسه مضطرّاً للاستجابة إلى أوامر ضميره الأخلاقي في عين ابتعاده عن السعادة، ومن الصعب عليه أن يقول بأنّي أعرف مشقّة هذه الحقيقة لكنّها هي السبيل الوحيد لبلوغ الملكوت، لذا يجب عليّ اختيار سبيل الكمال لا السعادة».
أعتقد أن هناك إشكالاً صريحاً يُطرح على نظرية كانط التي تبنّى فيها فكرة تجريد الكمال عن السعادة، وهو أنّه أشار إلى الملكوت وجعله الهدف في مسيرة الكمال؛ فهل أنّ من يبلغ الملكوت الأعلى يكون سعيداً أو شقياً؟! يا ترى هل أنّ الكمال الذي يأخذ بيد الإنسان نحو الملكوت، سيقوده نحو السعادة أو الشقاء؟! من المؤكّد أنّ كانط لا محيص له هنا من القول بكون الكمال لا يمكن أن يقود الإنسان نحو الشقاء، بل لا بدّ من أن يسوقه إلى السعادة.
إذن، نستنتج من هذا الاستدلال أنّ السعادة التي فصل كانط بينها وبين الكمال هي تلك السعادة الحسّية وليست الملكوتية، أي إنّه عدّ الكمال في منأى عن سعادة الملذّات الدنيوية المادّية، وفي غير هذه الحالة ليس من الحكمة بمكانٍ زعم أنّ الكمال أمراً لا يمتّ بصلةٍ إلى السعادة، ومن هذا المنطلق نجد أساطين علم الفلسفة من أمثال الحكيم ابن سينا ذهبوا إلى القول بعدم إمكانية تجريد الكمال عن السعادة.
أود أن أشير أيضاً إلى أنّ كانط بنفسه لم يتمكّن من طرح استدلالٍ مقنعٍ للفصل بين الأمرين، لذا إن أردنا تبرير رأيه فلا مناص لنا من القول بأنّه أراد السعادة الدنيوية المادّية وليست الملكوتية، حيث أكد الحكماء الإلهيون والعلماء المسلمون على وجود سعادتين، إحداهما مادّيةٌ والأخرى روحانيةٌ.
المسألة الأخطر برأيي أن كانط، وبصرف النظر عن إيمانه وعدم إيمانه والجدل التأويلي الطويل بين قرّائه حول هذا الموضوع، قد فصل بين الأخلاق أو مصدرها الإلهي.
وهو ما شكل واحداً من أبرز العيوب التي عصفت بنظامه الفلسفي.

(عن الفيسبوك)