الخميس، 5 يناير 2017

بين المانوية والإسلام: تشابه وعداوة؛ محمد الحجيري.





بين المانوية والإسلام: تشابه وعداوة.
لقد ذكرت في أكثرَ من منشورٍ سابق عن الكثير من أوجه الشبه بين المانوية والإسلام، بخاصة في موضوع العبادات ..
لكن لربما كان أهم وجه للشبه، وربما للخصومة بين المانوية والإسلام هو قول ماني بأنه "الفارقليط" أو النبيّ الذي بشر به يسوع.
ولقد رجّحت بأن هذه البشارة بنبيّ يأتي بعد المسيح قد وردت فعلاً في بعض الأناجيل على الأقل.
 
في إنجيل يوحنا، وهو أحد الأناجيل الأربعة المشرعة من الكنيسة، تَرِدُ هذه البشارة في أربعة مواقع، تحت اسم "المعزّي"، وهي الكلمة التي يبدو أنها قد وردت بأكثرَ من صيغةٍ حسب نسخ الترجمات القديمة أو الحديثة.
المعزّي أو الفارقليط أو روح الحق أو "المنحمنا" بالسريانية أو "البرقليطس" بالرومية كما يذكر ابن إسحق.
والآيات الإنجيلية التي عثرتُ عليها هي التالية:
"
إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد" (14، 166)
 "
بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلتُه لكم" (14، 26)
 "
ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء" (15، 26)
 "
لكني الحقّ أقول لكم أنه خيرٌ لكم أن أنطلِق،لأنه إن لم أنطلِق لا يأتيكم المعزّي، لكن إن ذهبتُ أرسلُه إليكم" (16، 7)
وجميعها تتحدث عن الأمر بمفردة "المعزّي"
 
ليس قصدي أن أثبت أن الإنجيل يعترف أو يبشر بنبيّ يأتي بعد المسيح أم لا.. لكن أردت فقط أن أقول أن هذا الأمر قدر وردت الإشارة إليه في أحد الأناجيل الأربعة المشرَّعة من الكنيسة، وأرجّح أن تكون قد وردت في أناجيل أخرى غير الأناجيل الأربعة، وإن كنت لا أجزم بذلك، لكن كل فئة حاولت أن تؤوّل هذه الإشارة بما يتوافق مع ما تراه، أو بما يعزّز وجهة نظرها.
 
المهم في الأمر على ما أظن، أن هذه الإشارة التي استند إليها ماني بقوله بأنه هو الفارقليط الذي بشّر به المسيح، بينما استند إليها المسلمون ليقولوا بأن الإنجيل قد أشار إلى النبي محمّد. (وقد أشارت إلى ذلك الآية السادسة من سورة الصف: "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴿الصف؛٦﴾" )، هذه الإشارة بالذات كانت السبب الأهم للنزاع بين الديانتين.
إنه التشابه الإشكالية بين المانوية والإسلام: فإذا كان ماني هو النبي الذي بشّر بمجيئه المسيح، فهذا يعني أن محمّداً ليس كذلك. وهذا على ما أرجّح أن يكون سبب محاربة المسلمين للمانوية، تحديداً في العصر العباسي، رغم التساهل مع الكثير من الفِرق. ورغم التقارب الكبير بين المانوية والإسلام، بل بسبب هذا التشابه.
 
السؤال هو: كيف استطاع المسلمون التعايش مع هذا "الخطر" حتى العصر العباسي؟
سليم مطر:
يذكر سليم مطر في بحث له عن المانوية، بأن اضطهادهم قد بدأ في الربع الأخير من القرن الثامن الميلادي (775م)، بينما كانت لهم مكانتهم في العصر الأموي، وقيامهم بدور كبير في تعريب الدواوين من الفارسية إلى العربية.
يقول سليم مطر "يبدو أن الفتح العربي لم يضعف المانوية , بل على العكس منحها بعض الزخم , بسبب كثرة اتباع المانوية في العراق بعد هجرة الأعداد الكبيرة منهم من الشاميين والمصريين إلى العراق بعد حكم الاعدام الذي كان قد أصدره الرومان بحقهم . ثم إن الإسلام في أول الأمر لم يكن موقفه واضحاً من المانوية , وقد اعتبرها في البدء من أديان أهل الكتاب . في العصر الأموي تمتع أتباع المانوية ببعض الحرية , خصوصاً في زمن الخليفة (الوليد الثاني -743-744)".
ثم يضيف القول بأن ما "ساعد على نشاط المانوية في العصر الأموي استخدام الكثير من اتباعها كتّاباً في الدواوين في العراق بدل المجوس الفرس , وذلك بعد قرار تعريب الدواوين في ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي , بعد أن كانت باللغة الفارسية . ويبدو أن الاستعانة بأتباع المانوية في الدواوين وسع المجال أمامهم وركز أهميتهم . (نموذج ساطع لسوء فهم المؤرخين العرب , عندما يستغرب مؤرخ » قومي ! « مثل عبد العزيز الدوري هذا التحول نحو المانوية في الدواوين الأموية , لأنه لا يدرك أن الزرادشتيين فرس ولا يتقنون غير الفارسية , أما اتباع المانوية فأنهم عراقيون فكانوا يتقنون العربية القريبة من السريانية , لغتهم الأصلية . ولهذا تم استخدامهم في عملية تعريب الدواوين) (راجع – الدوري - الجذور التاريخية للشعوبية - ص22)".
بينما "يُعتبَر الخليفة العباسي (المهدي) (775-785) , أول من أعلن الحرب ضد المانوية وجميع التيارات الفكرية المعارضة باسم مكافحة الزندقة , حتى سمي (قصاب الزنادقة) . وقد أنشأ من أجل ذلك (ديوان الزنادقة) بقيادة (عريف الزنادقة) . وكان اتباع المانوية يجبرون على المثول أمام القاضي , ثم يبصق المتهم على صورة (ماني) ويذبح طائراً , ذلك لأن المانوية تحرم ذبح الحيوان . وفي حالة رفضه التوبة فإنه يحكم بالموت. وقد اوصى المهدي ولده الهادي طالباً منه الاستمرار في محاربة المانوية , قائلاً : » إني رأيت جدك العباس في المنام قلدني سيفين وأمرني بقتل أصحاب الاثنين « . وفي أواخر العهد العباسي توسعت تهمة (الزندقة) حتى وصلت على يد الإمام الغزالي الى كل محاولة اجتهادية تخالف المذاهب السلفية وتنحرف عنها في التفسير".

ويذكر المؤرخون المسلمون أسماءً لا تحصى من المثقفين الذين اتهموا بالزندقة (المانوية) في هذه الفترة. وقد شملت هذه التهمة كتاباً وشعراء مثل : صالح ابن عبد القدوس , بشار بن برد , أبو النواس , أبو العتاهية , حماد الرواية , عبد الله بن المقفع..
محمد الحجيري
5/1/2016


الثلاثاء، 3 يناير 2017

حنا أرندت، الإنسان في مواجهة تفاهة الشر؛ ابراهيم مجيدلية.



حنا أرندت
الإنسان في مواجهة تفاهة الشر([1])
ابراهيم مجيدلية
(مؤمنون بلا حدود؛ ديسمبر 2016) 


في سنة 2007، وعلى امتداد يومين: (11و12) ماي، وبرحاب جامعة لوزان Lausanne، انعقدت ندوة دولية[2] اجتمع فيها مفكرون ينتمون إلى تخصصات  متنوعة بغية دراسة فكر فيلسوفة السياسة حنا أرندت. وقد عالجت الأوراق المقدمة مواضيع متعددة كالسلطة والحكم والحرب والسياسة والفكر والعلم والتقنية. واتجه أغلبها، بغض النظر عن مرجعياتها وغاياتها، إلى التأكيد على راهنية فكر حنا أرندت في فهم إشكالات الواقع المعاصر، وحلّ شفرات أزماته العميقة، واستلهام عناصر مقاومة لمواجهة هذا الوضع المخنوق بالأزمة. وربما كان دافع العودة إلى حنا أرندت واستدعاء فلسفتها السياسية، هو أنّ اللحظة التي يعيشها العالم المعاصر هنا - الآن، لا تختلف عن اللحظة التي عاشتها حنا أرندت، إنّها التجربة الإنسانية نفسها بكلّ تعقيداتها وتفاصيلها. ولهذا كان المناسب استلهام المفاهيم الفلسفية والسياسية والرؤى التحليلية والنقدية، التي صاغتها حنا أرندت من أجل الاستفادة منها والعمل على تطوير بعض جوانبها.
وإذا أردنا أن نرسم صورة عامة لأعمال هذه الندوة، أمكن القول إنّها قاربت ثلاث قضايا كبرى متداخلة فيما بينها. تخص الأولى العلاقة بين السلطة والحرب، وتخص الثانية منظومة القيم وحقوق الإنسان عملاً بمبدأ حنا أرندت "حق التمتع بالحقوق"، فيما تخص الأخيرة العلاقة بين الفكر والشر السياسي. وخلف هذه القضايا يتوارى سؤال مركزي يضفي عليها الوحدة والانسجام، ويتعلق بالبحث في دلالة الإنسان في ظلّ الأزمة، وسبل المحافظة على هويته.
الأزمة كإطار للتفكير:
تظهر فلسفة حنا أرندت تعبيراً عن تجربة شخصية وتاريخية كبرى، فهي تجربة مفكرة من أصول يهودية وطالبة للفلسفة في ألمانيا سنة 1930، عانت من معاداة السامية ثم من النازية، وأجبرت على الهجرة التي قادتها إلى فرنسا ما بين 1933 إلى 1940، ثم بعد ذلك إلى أمريكا ما بين 1943 إلى 1975 سنة وفاتها[3]. وحسب جوليا كريستيفا[4] تتخذ حياة حنا أرندت شكل سرد مسكون بهواجس القلق الفكري والوجودي المرتبط بسؤال الذات والهويّة والحضور  في العالم، فهي كائن إنساني تعرّض لمحاولة التجريد من إنسانيته، وسلب هويته، وطمس معالم خصوصيته بسبب كونها مغايرة جنسياً: (امرأة) وعرقياً (ساميّة) ودينياً (يهوديّة) للإيديولوجيا التي فرضها النظام النازي.
وشكلت هذه الأزمة/التجربة الشخصية والتاريخية بالنسبة إلى حنا أرندت الإطار النظري العام لفلسفتها ـ فهي موضوع تجربة معيشة وموضوع تفكير في الآن نفسه- كما ساهمت في تحديد معالم منهج تفلسفها الذي يتحدد في صورة فينومنولوجيا أنثروبولوجية وسياسية[5] ويتخذ طبيعة نقدية، وتُعنى هذه  الفينومنولوجيا بالإنسان في تعدده وتنوعه كموضوع لها وليس الإنسان بمعناه "الكلي" ذلك الكائن الذي يسكن الأرض.
من السمات البارزة لفلسفة أرندت أنّها فكر أزمة وتفكير في الأزمة[6]. فهي تنظر إلى الأزمة كواقع إقليمي وكضعف تاريخي في المؤسسات السياسية والثقافة والنظام التعليمي، وتنعتها بالهيمنة الشاملة. فالأزمة هي العلامة الأساسية لشرطنا الإنساني بحيث إنّها تقع في قلب أنشطتنا وعلاقاتنا مع أنفسنا والأخرين والعالم، وبالتالي فهي ما يؤسس وجودنا في العالم وحياتنا المشتركة.
يتميز الفكر الفلسفي لحنا أرندت بكونه فكراً محايثاً للواقع الإنساني وقائماً فيه وملتصقاً به ومرتبطاً بتجاربه المعيشة، فهو لا ينطلق من العدم ولا يقوم على التخمين. فقد تفلسفت وفكرت فيما عاشته وعايشته من أزمات كاندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتصاعد موجات معادية للسامية، وبدء الاستعمار، وانتشار معتقلات الإبادة الجماعية. فكلّ هذه الوقائع والأحداث جعلت حنا أرندت تنعطف من التفكير في الحب، الذي كان موضوع رسالتها لنيل الدكتوراه، إلى التفكير في الشر. فهذا الأخير صار قضية مركزية شغلت كلّ فكرها إلى حدود أنّها توقعت أنّه سيصبح السؤال المركزي في الحياة الأوروبية ما بعد الحرب. وإذا مثّـل مفهوم الشر الخيط الناظم الذي يمتد عبر دروب فكر حنا أرندت والأساس البارز لبنية فلسفتها، فإنّه كذلك يمثل حقيقة أزمنة الحداثة التي يتعذر رفضها[7]. كتبت في إحدى رسائلها إلى الفيلسوف كارل ياسبرز موضحة أنّ الشر أصبح أكثر جذرية ممّا كان عليه، وأنّ الفلسفة تتحمل جزءاً من المسؤولية بخصوص هذه القضية[8]. ومن منظور تأويلي يمكن رصد مسؤولية الفلسفة بخصوص انتشار الشر من خلال أطروحتين: تشير الأولى إلى وجود خطابات فلسفية غذت الذهنية الكُليانية أو التوتاليتارية la mentalité totalitaire، ويمكن أن نشير هنا إلى نموذج الفيلسوف كارل شميت Carl Schmitt الذي ساند النظام النازي بعد وصوله إلى سدة الحكم في عام 1933، وتشير الأطروحة الثانية إلى صمت الفلسفة في وجه من يريد محو الفكر أو إلى صمت الفيلسوف وتخليه عن دوره في مساءلة السائد ونقده، بل تعدى ذلك إلى التواطؤ معه في لحظة تاريخية، كما هو حال الفيلسوف مارتن هايدجر. ومن مظاهر مسؤولية الفلسفة بالنسبة إلى حنا أرندت أنّ الفلسفة الغربية لم تقدم مفهوماً واضحاً للسياسة، ولم تعالج الإنسان في فرديته وتفرده واستقلاليته، وإنّما بالنظر إليه في انصهاره في الجماعة وذوبانه في الآخرين، وساهمت مثل هذه الذهنية في خلق بنية معرفية وسياسية مهدت للنازية والستالينية ولكلّ الأنظمة الشمولية.
مفهوم الإنسان
يحتل سؤال: ما الإنسان؟ موقعاً مركزياً في فكر حنا أرندت. فتفكيرها فيه لا ينفصل عمّا كان يميز عصرها الذي كان يئنّ تحت وطأة مصادر الشر الثلاثة: التوتاليتارية، والاستعمار، ومعادة السامية. فتحت تأثير مفعولها اللاإنساني وقع تحول عميق في وضع الإنسان. فهذا الأخير أصبح مجرد عضو في مجموعة تتجاوزه وتتعالى عليه، وتمارس عليه هيمنتها، ولا يملك القدرة على التخلص منها. ففي عالم تتحكم فيه التقنية، وتسوده السلطوية السياسية، وتهيمن فيه أنظمة شمولية، أصبح الإنسان كائناً مستلباً، ووجوداً عارياً من الإرادة، وفاقداً للحرية، ولا يتمتع بأيّة حقوق، ويرزح تحت وطأة استلاب حديث غير مسبوق. إنّنا أمام "الإنسان المائع"، أي ذلك الكائن الهلامي الفاقد لكلّ الخصائص، والذي أصبح من المتعذر ربطه بالنوع البشري، فهو اسم بدون مضمون. ربما نلمس هنا تقاسيم نظرة مأساوية للوضع البشري، وهي النظرة ذاتها التي توجد عند الجيل الأول من فلاسفة النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت الذين كانوا يتقاسمون مع حنا أرندت الحقبة الزمنية نفسها والوضع نفسه عرقياً وسياسياً. وفي ظلّ هذه الظروف التي تعاند كلّ ما هو إنساني، فإنّ انشغال حنا أرندت بسؤال الإنسان والتفكير في وضعه كان بهدف الدفاع عنه، والدفاع عن حريته، لأنّها القيمة التي تقبل التصرف فيها.
وبالنظر إلى القيمة التي يحتلها الإنسان في فكر حنا أرندت فقد خصّصت له كتابها (شرط الإنسان الحديث)، الذي يمكن اعتباره بياناً فلسفيّاً في نقد الحداثة وتعرية أزماتها. وإن كانت اهتمت في هذا الكتاب، في أغلبه، بمظاهر متنوعة للفاعلية الإنسانية، فإنّها كذلك تساءلت فيه عن الوسائل التي بواسطتها يمكن للمجتمع أن يحمي بها نفسه ضد فتنة الكليانية والدكتاتورية والاستبداد. وقصدها هو إرادة تحقيق الشروط الواقعية لإمكانية الوجود الإنساني من خلال "إعادة النظر في الشرط الإنساني من وجهة النظر المستفادة من تجاربنا الأكثر جدّة، ومن بعضها الأكثر قدماً"[9].
ويمكن نشير هنا انطلاقاً من ملاحظة أوردها بول ريكور في مقدمة ترجمة كتاب حنا أرندت "شرط الإنسان الحديث" تفيد أنّ الخيط الناظم بين هذا الكتاب وكتابها العمدة حول "أصول التوتاليتارية" هو التماس طريقة جذرية لمقاومة الجرائم التي تنتج عن النظام التوتاليتاري[10]. ومن موقع فيلسوفة السياسة فإنّ حنا أرندت تعتبر أنّ نقطة ارتكاز مقاومة النظام التوتاليتاري تقع في تأسيس أنثروبولوجيا سياسية جديدة، في إطارها يتحدد الإنسان كحيوان سياسي، يعيش في مجتمع سياسي منظم بالقوانين والمؤسسات. فإنسان الشرط الإنساني ليس كائناً منعزلاً ولا وحيداً، إنّه يُوجد بمعية الآخرين ويشاركهم الوجود في العالم. كأنّ مفهوم الإنسان يتحقق بشرط العيش المشترك.
وحتى يتسنى لحنا أرندت أن تؤسس أنثروبولوجيا سياسية جديدة، فإنها ستعود إلى إحياء الكثير من المفاهيم السياسية من التراث الفلسفي لأرسطو وماكيافيلي ومونتسكيو، إلى جانب استحضار التجربة التاريخية الرومانية التي عرفت إبّان تدهورها وسقوطها أزمة تتشابه في كثير من معالمها مع الأزمة التي عاشتها المجتمعات الأوروبية الحديثة. وهدفت من هذه الأنثروبولوجيا السياسية إلى رفض كلّ اغتراب واستلاب يمسّ الإنسان، ومعارضة الأنظمة الاستبدادية والتوتاليتارتية. وإنّ السمة البارزة المميزة لهذه الأنظمة، التي وجهت إليها حنا أرندت سهام النقد، هي الرعب الشامل. وبلغة واضحة تعتبر أنّ الرعب الشامل متأصل في الأنظمة الشمولية، ودخل بدخولها للعالم الإنساني. فهو يمثل أحد الأوجه القبيحة لأزمة الحداثة السياسية، وقد أدى إلى نتائج مدمرة، وأحدث قطيعة مع كلّ التقاليد التي تنظم حرفياً "كلّ مقولاتنا السياسية ومعاييرنا للحكم الأخلاقي"[11]. ويبدو أنّ الأنثروبولوجيا السياسية لحنا أرندت تعبّر نوعاً ما عن نوستالجيا تعكس حنيناً إلى الماضي.
في هذه الأنثروبولوجيا السياسية الجديدة ستعنى حنا أرندت بإعادة النظر في مفهوم الإنسان من خلال استحضارها لبُعد كان مهملاً بين الفلاسفة، يتجلى هذا البعد في الشرط السياسي. من وجهة نظرها، فالإنسان لا يملك طبيعة إنسانية قبلية، ولا يمكن تعريفه بماهية سابقة. وربما يعكس هذا المفهوم جانباً من جوانب تأثرها بأنطولوجيا مارتن هيدجر، وهي بذلك تكون أقرب إلى الفلسفات الوجودية منها إلى الفلسفات الماهوية التي تحدد الإنسان من خلال ماهية قبلية وثابتة وكونية. وحتى لا تقع في تصور ميتافيزيقي للإنسان ستركز على مظاهر فاعليته (الشغل، الفعل، الحرفة)، أو حياته النشيطة، فهو كائن فاعل، والسياسة من بين المجالات التي يظهر فيها هذه الفاعلية وذاك النشاط. وتبعاً لمفهوم الشرط الإنساني، وتحت تأثير الفكر السياسي لأرسطو، فإنّ حنا أرندت تعرّف الإنسان كحيوان سياسي zôon politikon، يعيش في مجتمع سياسي، وإن لم يكن كذلك اعتبر أسمى من البشر (إلهاً) أو عُدّ كائناً سافلاً (حيواناً). فالسياسة هي المجال الأبرز الذي يحقق فيه وجوده، ويختبر فيه حريته. فالفعل السياسي هو ما يعبّر عن حرية الإنسان، وكأنّ السياسة هي مسكن الوجود الإنساني، أو المجال الذي يتيح للإنسان الخروج من فتنة "نسيان الوجود" التي هي أحد تجليات أزمة الحداثة. ويجب الإشارة إلى أنّ تعريف حنا أرندت للإنسان بالحيوان السياسي، ربما هو أقرب إلى هوبز وماكيافيلي منه إلى أرسطو. فإنسان هوبز كائن قاتل وعنيف، ومنجذب للقوة والحرب (حرب الكلّ ضدّ الكلّ)، فهو كائن يسعى إلى صيانة وجوده البيولوجي، ويتصرف وفق رغباته. وإنسان ماكيافيلي يتخذ صورة الأمير الذي يجب عليه أن يتصرف كالحيوان، وأن يقلد الأسد والثعلب معاً.
إنّ تعريف الإنسان بالحيوان السياسي يعني كذلك أنّ السياسة قيمة مطلقة، وأنّ الإنسان موجود من أجل السياسة، وأنّه ينظم وجوده بالقوانين بكيفية عادلة ما أمكن. كما أنّ السياسة، عند حنا أرندت، تعني الحرية، وتتعارض مع كلّ أشكال الهيمنة والعنف التي تعبّر عن الشر الذي سيحتل الفضاء العمومي ويُفرغه من إنسانيته. إنّ الشر يشكّل مظهراً للأزمة التي مسّت النظام السياسي دولاً وأفراداً.
التوليتارتية أو الشر السياسي
ففي كتابها العمدة "أصول التوتاليتارية" الصادر سنة 1951عملت حنا أرندت على فهم أسباب تحول ألمانيا إلى نظام للهيمنة المطلقة. فالتوليتارتية، كتجسيد للشر المحض، حدث غير مسبوق في التاريخ السياسي تأتي بذورها من الحداثة ومن عجزها عن تدبير مشكل العيش المشترك. فالشر قبل كل شيء فعل عنيف وسلوك عدواني يتم في المجال السياسي ويسعى إلى تدمير الغير وإخضاعه والتحكم فيه. تتمظهر صوره القصوى بالنسبة إلى حنا أرندت في معادية السامية والتوليتارتية والاستعمار. فقد عرضت في كتابها معالجة نوعية وخاصة للتوتاليتارية ساهمت في كشف نقط الاشتراك ما بين النازية والستالينية وكل الأنظمة الشمولية التي تجسد تجربة الخراب، فعلى تعبير حنا أرندت فإنّ هذه التجربة تبرز أنّ الجحيم ليس هو الآخرين، وإنّما هو غياب الروابط مع الآخرين ومع الذات[12].
يُفهم من التوليتارتية ذلك النظام السياسي الذي يجعل الأفراد خاضعين لسلطوية هيئات سياسية واجتماعية، وبمعنى آخر، فإنّه يتأسس على وجود نظام وحيد تنصهر فيه كلّ السلط؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، لتكوين سلطة قاهرة تمارس سيطرة شاملة على الأشخاص وأنشطتهم، وتتدخل في كل تفاصيل حياتهم، وبلغة جوليا كريستيفا، تحولهم إلى "جثث حيّة"[13]، ويصيرون غرباء عن ذواتهم ويفقدون الإيمان بأنفسهم.
وتمثل التوتاليتارتية الوجه القبيح والأبرز للشر المطلق في القرن العشرين، ومنعطفاً خطيراً في التاريخ الإنساني. ولهذا جعلت منها أرندت عنواناً بارزاً للتعبير عن الأزمة الشاملة للحضارة الغربية، وعلامة دالة على ثغرة عميقة وخرقاً في التاريخ بشكل عام brèche dans l’histoire en général وفي التاريخ السياسي بشكل خاص. فقد أسست لقطيعة جذرية مع كل الأنظمة السياسية التي وُجدت من قبل كالأنظمة المستبدة والديكتاتورية. وإنّ تحليل حنا أرندت للتوتاليتارتية قادها إلى اكتشاف التجسيد المتطرف وغير المعلن للمقولة الكانطية "الشر الجذري" الذي يطرح تحدياً أمام الفكر، بمعنى أننا لا نملك ما يحيل إلى فهم هذه الظاهرة التي هي بمثابة الواقع المرهق الذي يمتنع عن استجوابه واستنطاقه ويكسر كل المعايير المعروفة عندنا[14]، إنّه بتعبير حنا أرندت "الجحيم في الأرض".
قاربت حنا أرندت سؤال/مشكل الشر من منظور سياسي بعيداً عن كلّ التفسيرات اللاهوتية والقيمية، فهو بالنسبة إليها لا يرتبط بأيّ ميل ميتافيزيقي، ولا يستند إلى أيّ مبادئ مطلقة تحيل إلى ما هو مقدّس أو ديني، إنّما هو إنساني ولا يمكن أن يفهم إلا في علاقته بما هو إنساني، وعبر اقترافه فإنّ الناس يخرجون من إنسانيتهم. فهو كما وصفته ثقب أسود، هاوية جليدية، والمكان الأعمق في جهنم بلغة الشاعر الإيطالي دانتي، فهذا الثقب الأسود يلتهم كلّ شيء، ولا يترك سوى رعب المطلق اللاإنساني[15]. فالشر هو ما يجعل الكائن البشري يعيش تمزقاً بين إنسانيته وبين اللاإنساني، إنّه غياب تطابق الإنسان مع ذاته. ومن مفاعيل هذا التمزق واللاتطابق صعوبة الإمساك بمعنى الشر وفهم دلالته، فهو ما لا يقبل الفهم أو ما يتعارض معه. فالشر حضور ممتنع، وكلما ازداد حضوراً وتعددت صوره، ازداد امتناعاً عن الفهم.
حالة أيخمان
في سنة 1961 ستعيش حنا أرندت حدثاً مزعجاً ومثيراً، عندما أرسلت لتغطية محاكمة الموظف النازي كارل أدولف أيخمان Karl Adolf Eichmann. وانطلاقاً من هذا الحدث ستبدع مفهوماً جديداً "تفاهة الشر" بديلاً للمفهوم الكانطي "الشر الجذري" الذي كانت تستعمله من قبل. فتضعنا حنا أرندت أمام مفهومين حاولت من خلالهما التعرف على طبيعة الشر، ممّا يدعو إلى التساؤل: هل توجد قطيعة أم استمرارية بين هذين المفهومين؟ وكيف يكون الشر تافهاً وهي في الوقت نفسه تتحدث عن الشر الجذري؟[16]في فصل "من الشر الجذري إلى تفاهة الشر" ضمن كتاب "حنا أرندت والمسألة اليهودية" سيعمل ريتشارد برينشتاين على تتبع مسار تشكل دلالة الشر ليؤكد أنّ الشر الجذري وتفاهة الشر ليسا إلا لحظتين لسيرورة واحدة يمكن تسميتها بديالكتيك الشر[17]. وأثناء هذه السيرورة يصل الشر إلى مرحلته المطلقة التي تتساوق مع المرحلة النهائية للتوليتارتية فيصير شراً محضاً. فهو محض لأنّه لا تتم إحالته إلى دوافع إنسانية، وبدون هذه التوليتارتية لم يكن بالإمكان أبداً التعرف على الطبيعة الجوهرية للشر.
يمكن أن نفهم من "حالة أيخمان" معنيين متداخلين؛ فمن جهة يمكن النظر إليها كمشكلة أو كشيء شبيه بالأحجية، فكيف أمكن لإنسان لم يكن متعصباً ولا معادياً للسامية أن ينخرط في عملية "الحل النهائي"، بمعنى إبادة الملايين من الأشخاص؟ وكيف لإنسان لم يكن منحرفاً، ولم تكن لديه نزوعات للقتل، وكان عاجزاً عن اغتيال رئيسه في العمل ليحل مكانه، أن يقترف جرائم شنيعة؟ وكيف يمكن أن نفهم إنساناً لا يستشعر الشر الذي ارتكبه؟ ومن جهة ثانية تمثل هذه الحالة مثالاً متميزاً، فأيخمان هو النموذج الأكثر دلالة على تفاهة الشر. ولا ينبغي لهذا المفهوم أن يضللنا، فهو لا يقصد أن يجد لأيخمان ظروف التخفيف أو التقليل من الشر الذي ارتكبه. بل على العكس من ذلك يجسد، في التاريخ، نوعاً جديداً من الجريمة أو شراً جديداً: إنّه متطرف ولكن لا يمكن ربطه بأيّ دافع ولا بأية إرادة لفعل الشر من أجل الشر، ولا بأيّ تعصب[18]. إنّ الشر المرتكب من طرف أيخمان ليس جذرياً، لأنّه ليست له جذور في داخله ولا يتضمن أيّ إرادة لفعل الشر من أجل الرغبة في الشر[19]. فالشر دائماً متطرف وليس جذرياً أبداً، في حين أنّ الخير دائماً عميق وجذري.
وتحمل عبارة "تفاهة الشر" جانباً آخر، ليس الشر ولكن التفاهة. فالوصف الأساسي لأيخمان، حسب أرندت، هو سطحي بكل المقاييس. ولهذا لا يمكن تفسير ميله للشر إلا ككليشيهات أو لقطات كلها حقيقية ممّا يدل على غياب الفكر لديه. وربما تظهر عبارة "غياب الفكر" في الوهلة الأولى كأحجية: فأيخمان ككل الأشخاص يعي وجوده، فكما أكدت حنا أرندت أنّه لم يكن غبياً ولا بليداً، فقد كان يملك القدرة على التمييز بين العدل والظلم، وبين الخير والشر[20] بيد أنّه لم يكن قادراً على التفكير. فخلال أطوار المحاكمة كما لاحظت أرندت أنّ أيخمان كان يتكلم بلغة نمطية وسطحية ذات طابع رسمي وإداري[21]، فقد كان يتكلم كموظف بيروقراطي ينفذ أوامر سادته دون أن يملك الجرأة على التفكير. تمثل عبارة "غياب الفكر" من جهة عمق تحليل حنا أرندت للشر، ومن جهة ثانية لحظة لفهم طبيعة النازية وباقي الأنظمة التوليتارتية. فهي تضعنا أمام الكيفية التي يمارس من خلالها ناس عاديون الإبادة والتطرف والعنف كأوجه للشر. ويمكن أن نشير هنا إلى أنّ مفهوم "تفاهة الشر" يحمل دلالة سياسية يمتد مفعولها إلى حدود نقد الحركة الصهيونية التي تعتبرها حنا أرندت مسؤولة عن المعاناة التي عاشها يهود أوروبا. إنّ شخصية أيخمان هي التعبير الأكثر وضوحاً عن تفاهة الشر الذي جلبته الأنظمة التوتاليتارتية للعالم الإنساني، والذي تحوّل إلى عالم لا إنساني أو مضاد-إنساني.
ومن أجل رسم صورة عامة، جاز لنا القول إنّ الشر بالنسبة إلى حنا أرندت هو فعل إنساني، ولا يخرج عن العالم الإنساني. فهو يصدر عن الإنسان، ويقع على الإنسان. فليس فيه شيء من الشيطان، وليس له أيّ مظهر ميتافيزيقي، ولا يرتبط بأيٍّ من المبادئ الخالدة للعقل الإلهي. فالشرّ كله إنساني. وإنّ الشر بكلّ تمظهراته، الجذري والتافه والمطلق، المعنوي والمادي، يتمثل بالنسبة إلى حنا أرندت، واقعياً وتاريخياً وسياسياً، في "الخطيئة الأصلية للصهيونية".

[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون عدد 9
[2]- نشرت أعمال هذه الندوة في كتاب تحت عنوان:
Lire Hannah Arendt aujourd'hui: pouvoir, guerre, pensée, jugement politiqueL’Harmattan, 2008.
[3]- Françoise Colin, L’Homme est-il devenu superflu? Edition Odile Jacob, Paris, 1999, p: 09.
[4]- Julia Kristeva, le génie féminin, la vie, la folie, les mots, Hannah Arendt, T1, Paris, Gallimard, 1999, p: 27.
[5]- Ibid. p19
[6]- Céline Ehrwein Nihan,Hannah Arendt: une pensée de la crise: la politique aux prises avec la morale et la religion, éditions Labor et Fides, Genève, 2011, p 18.
[7]- Dario de Facendis, Hannah Ardent et le mal, dans Hannah Ardent, la totalitarisme et le monde contemporain, Les Presses de l’université LAVAL, 2003, p.53.
[8]- Céline Ehrwein Nihan, p. 16.
[9]- Arendt Hanna., La Condition de l'homme moderne, traduction de Georges Fardier, Calmann-Lévy, Paris, p.27.
[10]- Ricoeur. P., Préface à La condition de l'homme moderne, Pocket Agora, Paris, 1994, p.9.
[11]- Enegrén. A., « Compréhension et politique » in Esprit, juin 1980, p.68.
[12]- Christian Delmas, Hannah Arendt une pensée trinitaire, une nouvelle approche de son ouvre, Harmattan, 2006, p: 10.
[13]- Kristeva Julia, le génie féminin, tome 2, p.229.
[14]- Hannah Arendt, Les origines du totalitarisme. Vol. III, Le système totalitaire Paris, Seuil, 1972, p. 201.
[15]- Dario de Facendis, p. 54.
[16]- Ibid.p.52.
[17]- Ibid.p.52.
[18]- Catherine Valleé, Histoire et Justice, peut-on juger l’histoire ? Éditions de l’Emmanuel, le collège supériuer, 2002 p: 123.
[19]- Ibid. p: 129.
[20] - Ibid. p: 133.
[21]- H. Arendt, Eichmann à Jérusalem. Rapport sur la banalité du mal, (1963), traduit de l’américain par A. Guérin revue par M.-I. B. de Launay, Paris, Gallimard, 1966, p.p. 85-86.
البحث

الديموقراطية عند ماكس فيبر؛ ترجمة ياسين السويحة.




الديمقراطية عند ماكس فيبر

جريدة الجمهورية؛ 22 يوليو 2014



هل بإمكاننا تجنّب سيطرة البيروقراطيّة والتكنوقراطيّة في المجتمعات المُركّبة؟ هل من طريقة لكبح جنوح هذا، تواجدت في جوهر انشغالات عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (١٨٦٤-١٩٢٠). سوّد كاتب الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة عشرات الصفحات مفكّراً في هذه المسائل، وغيرها من المعضلات التي تشكّل نواة الديمقراطيّة.
أسوةً بشومبيتير 1، اعتبر ماكس فيبر أن هوامش المشاركة المباشرة في الحياة السياسيّة ضيّقة. انصبّت أعماله نحو تثبيت مفهوم الديمقراطيّة بكونها وسيلة لاختيار أصحاب القرار، ولوضع أثقال مضادّة للتخفيف من تجاوزات أصحاب القرار هؤلاء. في كتاباته، ساجل ماكس فيبر بشكل متكرر حول عوامل الحرّية الفردية في حقبة عاشت تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسيّة هدّدت جوهر الثقافة السياسيّة الليبراليّة.
بإمكاننا القول إن عصب عمل فيبر كمن في البحث عن التوازن ما بين القوّة والحق،ّ السلطة والقانون، حُكم الخبراء والسيادة الشعبيّة. وقد عنت اشتغالات فيبر بهذه الشؤون مراجعة تأسيسية للأسس الليبراليّة، وبرزت كأكثر التحديات النظريّة تماسكاً وإقناعاً للماركسيّة، ولا سيما في الفضاء الأنغلوساكسوني. لذلك، تمتّع فكر ماكس فيبر بنفوذ كبير في نتاج من لحقه من المفكرين والأكاديميين، الذين تكوّنت أعمالهم على صدى أطروحات عالم الاجتماع الألماني الأشهر.
العقلنة والتحرر من السحر
لا يعني التضادّ المتكرّر بين ماكس فيبر وكارل ماركس افتراقاً كاملاً بين المفكّرَين، ففيبر يقبل، إلى حدًّ بعيد، أطروحات ماركس حول طبيعة الرأسماليّة، رغم أنه يرفض الأفكار السياسيّة الماركسيّة بالمطلق. إن كانت الرأسماليّة، في بعض أوجهها، نظاماً اجتماعياً-اقتصادياً إشكالياً، ولا سيما فيما يخص التوازن بين الحرّية والمساواة، فلا براهين عقلانيّة على أن استبدال الرأسماليّة بالاشتراكيّة سيحلّ هذه الإشكاليات.
يتفق فيبر على أهمية الصراع الطبقي الضاري في حقب عديدة من التاريخ، ويوافق على أهمية العلاقة بين الرأسمال والعمل المأجور في تفسير خصائص الرأسماليّة الصناعيّة، لكنه يخالف اختزال تفسير الصراع بتحليلات المسألة الطبقيّة، فهو يعتبر أن الطبقات ليست إلا بُعداً واحداً من أبعاد توزيع الموارد والصراع على السلطة. الأحزاب السياسيّة والدول-الأمم هي بدورها «جماعات وضعيّة» –حسب تعبيره– ولا تقلّ أهمية عن الطبقات، وحرارة التضامن الجمعي والتعاضد الإثني وجاذبيّة السلطة والقوميّة هي أيضاً عوامل مهمة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، حسب رأي فيبر. الصراع الطبقي عامل مهم، لكنه ليس وحده محرّك التاريخ.
عدا هذا، يرى فيبر في الرأسماليّة الصناعية ظاهرة غربيّة الأصول والقيم بامتياز، وفي هذا يخالف تحليل ماركس للمفهوم، ويرى أيضاً أن «العقلانيّة» هي الخاصّيّة الغربيّة الأبرز للرأسماليّة، وهي خاصّيّة أعقد من أن تُفسّر بالاقتصاد وحده.
العقلانيّة، حسب فيبر، هي مدّ المنطق التقني ليشمل مساحات أوسع من فضاء الحياة. التخصّص والعلم والتكنولوجيا عوامل يجب أن تنمو لتلعب أدواراً أكثر أساسيّة في الحياة الحديثة، وهذا يؤدي لما أسماه «نزع السحر». لم يعد هناك رؤى إجماعيّة للعالم نتيجةً للضعف الذي حلّ بالأسس التقليدية للمجتمعات. حسب فيبر، لم يعد هناك، خارج خيارات الفرد، تفسير أخير ومطلق لـ«أيّ إله خصم علينا أن نعبد». على كلّ فرد أن يختار القيم التي يدافع عنها، وهذا هو «مآل الحقبة التاريخية التي تغذّت من شجرة المعرفة».
في عالمٍ ذي قيم متضادة، حيث لا يجوز اعتبار قيمة بعينها صالحة موضوعياً بمعزل عن غيرها، لم تعد الأفكار حول حياة سياسيّة مبنيّة على قيمة أخلاقيّة واحدة ممكنة. عند هذه النقطة، ليس بالإمكان المرافعة عن السياسة الليبراليّة إلا على أساس الإجرائيات، وهذا يعني التأكيد على أهمية الآليات التي تسهّل المنافسة بين القيم. أي، بمعنى آخر، حرّية الاختيار في عالم مُعقلن. من هنا تنطلق أهمية الديمقراطيّة كمكوّن حيوي للإصلاحات المؤسساتية اللازمة للحفاظ على الثقافة السياسيّة الليبراليّة.
اعتبر فيبر أن العقلنة تستوجب امتداد البيروقراطيّة بشكل حتمي، وفي حين عنى ماركس وإنجلز الإدارة العامة بكتاباتهم عن البيروقراطيّة، استخدم فيبر معنىً أوسع للمصطلح، شمل الدولة والشركات والصناعة والنقابات والأحزاب والجامعات. اتفق فيبر مع ماركس في القول بأن البيروقراطيّة ليست ديمقراطيّة، إذ إن البيروقراطيين غير مسؤولين أمام السكان المتأثرين بقراراتهم، لكن فيبر أكّد على عموميّة مشكلة الهيمنة البيروقراطيّة، إذ لا سبيل لتجاوز إلا بتحديد امتداد البيروقراطيّة، حيث أن تجاوز الدولة، ببساطة، مستحيل.
دور البيروقراطيّة
ينشأ اعتبار التنظيم البيروقراطي كمكوّن طفيلي في المجتمع من أطروحات ماركس نفسه، بالإضافة لمساهمات ماركسيين آخرين، ولا سيما لينين. ينفي فيبر إمكانية الاستغناء عن الإدارات المركزيّة، خاصة وأنه يؤكد على استحالة تطبيق الديمقراطية المباشرة كنظام للحكم والإدارة.
لم يعتبر فيبر أن الديمقراطية المباشرة مستحيلة التطبيق لعلل في ذاتها، بل طرح أنها مستحيلة الاستخدام في تنظيمات واسعة ومركّبة مثل الدول الحديثة. تقتضي الديمقراطية المباشرة مساواة تامة بين جميع المشاركين، ومجتمعاً متجانساً إلى حدّ بعيد. لذلك، كان من الممكن تخيّل الديمقراطية المباشرة في أرستقراطيات الدول-المدن في إيطاليا العصور الوسطى، أو في بعض بلديات الولايات المتحدة، أو ضمن جماعات مهنيّة نخبويّة مثل أساتذة الجامعات. أما في المجتمعات المعاصرة، بما تحمله من تنوّع وتعقيد، فالصعوبات أمام إمكانية تطبيق ديمقراطية مباشرة أكبر من أن يمكن التغلّب عليها.
اعتبر فيبر أن تركيب المجتمعات المعاصرة وتعقيدها هو ما يلغي إمكانيّة أي طرحٍ بديل للدولة، ورأى أن ماركس وإنجلز ولينين خلطوا بين الطبيعة الطبقيّة للدولة (كأداة في يد البرجوازيّة) وبين السؤال حول ضرورة الإدارة البيروقراطية المركزيّة لإحراز تنظيم سياسي واجتماعي. هنا، يؤكد فيبر أنه لا يمكن للمواطن الحديث أن يُنشئ بُنىً إداريّة غير بيروقراطيّة.
كلما ازداد تعقيد وتمايز الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة، زادت الحاجة للإدارة البيروقراطيّة، ولهذا الواقع علاقة بمشكلات النظم الاقتصادية الحديثة ومجتمعات الاستهلاك. تحتاج الشركات وسطاً سياسياً وقانونياً متوقّع السلوك، ودون ذلك لا تستطيع هذه الشركات إدارة شؤونها الذاتية وعلاقاتها مع المستهلِكين. الفعاليّة والاستقرار التنظيمي، وهما عاملان مستحيلا الإنجاز على المدى الطويل دون بيروقراطيّة، ضرورتان أساسيتان لنمو التجارة والصناعة.
ساهمت الكتل السكانية في تسريع العملية البيروقراطيّة، والتي بدأت كاستجابة للاحتياجات الرأسماليّة، إذ إنّ تضاعف أعداد المواطنين من زاد الطلب على الدولة، كمّاً ونوعاً. هؤلاء الذين حصلوا لتوّهم على حقّ الاقتراع يحملون مطالب أكبر للدولة، ولا سيما في مجالات الصحّة والتعليم، ما يزيد الطلب على إدارات متخصصة. صحيح أن تجنّب حُكم الموظفين هو أمر ممكن، لكن نفوذهم، المبنيّ على استحواذهم على المعلومات وقدرتهم على الوصول إلى الأسرار الحكوميّة، يمنحهم سلطة مهيمنة بشكل كبير، ما قد يتسبب بتبعيّة السياسيين في مراحل كثيرة.
شكّلت معضلة السيطرة على التسلّط البيروقراطي مسألة مركزيّة بالنسبة لفيبر، إذ عبّر عن قناعته بأن العجز عن السيطرة على هذا التسلّط سيوقع النظام العام فريسة الموظفين، وتحت نفوذ المصالح الخاصة (مثلاً، الرأسماليين المنظَّمين والإقطاعيين الكبار). رأى أيضاً أن التسلّط البيروقراطي يمكن أن يُفرز قيادات عاجزة عن التصرّف بفعاليّة وحكمة في أوضاع الطوارئ الوطنيّة، فالبيروقراطيون، على عكس السياسيين عموماً، عاجزون عن اتخاذ مواقف حاسمة وثابتة، ويفتقدون للتأهيل اللازم لأخذ العوامل السياسية والاقتصادية والتقنية بعين الاعتبار لحظة اتخاذ القرار.
جعلت الأفكار المذكورة أعلاه من ماكس فيبر نقدياً للغاية أمام الفكر الاشتراكي، إذ اعتبر أن إلغاء الرأسماليّة الخاصة يؤدي لهيمنة البيروقراطيّة على القرار الأعلى في الشركات المستملَكة والمؤمَّمة، ورأى أنّ إلغاء السوق يعني خسارة ثقل مضاد لهيمنة الدولة. الاشتراكيّة، حسب فيبر، لن تُنهي هيمنة رأس المال، بل ستتحوّل إلى نمط أصمّ من البيروقراطيّة، يُنهي كلّ التعبيرات عن المصالح المتضاربة باسم تعاضد وهمي، تحكم الدولة البيروقراطيّة فيه وحدها. أمام هذه الاحتمالات، دافع فيبر عن التنمية المرتبطة بحكومة برلمانية ونظام أحزاب، واعتبر أن هذا النموذج هو أفضل الممكن لتجنّب استلاب الموظفين لسلطة الدولة.
البرلمان والديمقراطية
لم يرَ فيبر تأثيراً للنفوذ المتزايد للكتل السكانية في السياسة على مبدأ حُكم الأقلية، متفقاً في هذا المبدأ مع شومبيتير. الفعل السياسي، كمُعطىً، محكوم بمبدأ العدد القليل، أي إن الفعاليّة السياسية والمقدرة على المناورة بمرونة متناسبتان عكساً مع عدد أفراد المجموعة الحاكمة. بهذا المعنى، يؤثر دخول الكتل السكانية إلى السياسة على آليات اختيار أعضاء مجموعة الحُكم، وليس على حجم هذه المجموعة.
تُبنى المرافعة الفيبريّة عن الديمقراطيّة وفق رؤيتها أن دور الكتل السكانية في السياسة يأخذ، بفضل الديمقراطيّة، أشكالاً منظّمة. لا مفرّ من تعميم حقّ الاقتراع، لكن هذا لا يعني أن تتبوأ كتل السكان دور الصدارة في القرار السياسي. اتخذ فيبر، عموماً، آراء قليلة الثقة بالناخبين، واعتبر أنه لا فرص فعليّة للناخبين في المشاركة في الحياة المؤسّساتية. في نصّه الشهير «السياسة كموهبة» (وهو نصّ واجب القراءة على كلّ طالب علوم سياسيّة) أشار فيبر إلى الطابع الانفعالي للناخبين، الذي يجعلهم قليلي الأهليّة لفهم الشؤون العامة والحُكم فيها.
رغم ذلك، لم يعتبر فيبر أن تعميم حقّ الاقتراع هو الموضوع الأكثر إلحاحاً للمجتمعات في زمنه، بل أشار إلى نموّ بيروقراطيّة جهاز الدولة وتضاعف مستوى الأوليغارشيّة ضمن المنظمات السياسيّة. لذلك، رأى أن وضع البيروقراطيّة تحت السيطرة هو أحد أهم المسائل التي تواجه السياسة في المجتمعات الحديثة، واعتبر أن البرلمان القوي وحده هو الأسلوب الناجح لحلّ هذه المعضلة. دون ذلك، تواجه الديمقراطيّة مصير التحوّل إلى حُكم الموظفين، كما كان الحال في ألمانيا تلك الحقبة، حسب رأيه.
ترك خروج بيسمارك من مستشاريّة الرايخ عام ١٨٩٠ الحُكم بيد الموظفين، فقد ألغى «المستشار الحديدي» كل منافسيه وخلفائه المحتملين، تاركاً فراغاً مطلقاً في قيادة الدولة. عدا ذلك، كان الوضع الدستوري للبرلمان ضعيفاً للغاية، فالدستور الألماني لم يمنح البرلمان سلطة تشكيل الحكومات على غرار الملكيات الديمقراطيّة الأوروبيّة، بل كلّفه بمهامّ لا تتعدى مسؤوليات الميزانيّة، وكان على كلّ مسؤولٍ حزبي مهمّ يتم تكليفه بحقيبة وزارية أن يترك مقعده في البرلمان، ما أدى إلى إفراغ البرلمان من الخطوط الحزبية الهامة. يضاف على ما سبق التوجّه، السائد آنذاك، بتعيين موظفين على رأس وزارات، ما أدى لوجود حكومات وظيفيّة للغاية، وعديمة المسؤوليات السياسية.
كيف كان بالإمكان الحفاظ على الفرديّة والحريّات في وجه المنحى التسلّطي للبيروقراطيّة؟ بالنسبة لفيبر، الحلّ الوحيد لمنع الهيمنة البيروقراطية هو تنمية الحياة البرلمانيّة. البرلمان القوي ليس ضرورةً فقط من أجل جمع القيادات السياسيّة، بل هو المكان الأنسب كي يكوّن القادة السياسيون أنفسهم، وكي ينموا ضمن السجال السياسي.
وضع فيبر نقاطاً عديدة لبرهنة أهمية وحيويّة وجود البرلمان. في المقام الأول، اعتبر أن البرلمان يكفل درجة من النفوذ والوصول إلى الحكومة، كونه المنبر المؤسسي للحوار حول السياسات العامة، وهذا ما يمنح فرصة للأفكار المتعارضة للتعبير عن نفسها، وهو أمر شديد الأهمية في زمن تعدّدية القيم. بالإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية البرلمان أيضاً في كونه حيّز تجربة، قوامه النقاش البرلماني ومهارات الخطابة المطلوبة للإقناع لدى مرشحي المناصب القيادية، ليطرحوا مواقفهم ورؤاهم، ويحشدوا رأياً عاماً لصالحهم وليقدموا برامجهم السياسية.
يوفّر البرلمان، أيضاً، فرصة للتفاوض ما بين المواقف المتضادّة، حيث يطرح الممثلون السياسيون البدائل على الأفراد والمجموعات ذوي المصالح المتنافرة، ما يمكّن من الوصول لحلول وسطى بين هذه المواقف والمصالح المتعارضة. لذلك، بإمكان البرلمانيين أن يقدّموا أطروحات ومواقف تتلاقى مع رؤى المواطنين المتغيّرة، وتتناسب مع الاستراتيجيات الموضوعة من أجل تحقيق انتصارات انتخابيّة ووطنيّة. بالمحصلّة، يرى فيبر أن البرلمان هو آلية جوهرية للحفاظ على التنافس القيمي.
أوليغارشيّة الأحزاب والقيادة
رغم إيمانه الكبير بالبرلمان، اهتم فيبر أيضاً بنموّ الأوليغارشيّة داخل الأحزاب السياسيّة. فقد أدّى نموّ عدد الناخبين، الناتج عن تعميم حقّ الاقتراع، إلى استفحال معارك استقطاب الأصوات. لذلك، بدأت الأحزاب السياسيّة باتخاذ بُنى تنظيمية أكثر تعقيداً لتحسين قدرتها على الاستقطاب، ونموّ البيروقراطيّة الحزبيّة هذا أدّى لتبنّي إجراءات صارمة وصلبة، ترمي للوصول لأوضاع تماسك كبيرة على مستوى الأعضاء الحزبيين والبرلمانيين، ما يقلّل من فرص إقامة نقاشات وحوارات حقيقية وحرّة ضمن الحزب.
نمو الأحزاب السياسيّة الجماهيريّة (الشيوعيين، الاشتراكيين الديمقراطيين، الديمقراطيين المسيحيين) أثّر سلباً على المنطق الليبرالي الكلاسيكي في اعتبار البرلمان مكاناً للتفكير والنقاش العقلانيَين. صحيح أن البرلمان هو، من حيث المبدأ، الجسم الشرعي الوحيد القادر على سنّ القوانين وسكّ السياسات الوطنيّة، لكنّ الواقع يرينا أن السياسات الحزبويّة هي المهيمنة على الحياة السياسيّة.
تحتاج القوى السياسيّة لتحريك موارد وتجنيد أتباع وكسب أفراد لصالحها من أجل تحقيق أكبر قدر من النفوذ السياسي، وهذا المستوى من التنظيم يؤدّي لوجود أنماط من التبعيّة للجهاز الحزبي، أي للسياسي المحترف. هذا الواقع، برأي فيبر، يتعارض مع الطبيعة البرلمانية الصحيحة، فالأحزاب السياسيّة تنحو باتجاه نبذ الانحيازات التقليديّة، وتفرض نفسها كمراكز ولاء، رافعةً منسوب الضغط باتجاه المرافعة لصالح السياسات الحزبيّة، حتى على المسؤولين المنتخبين. محصّلة هذه الآلية السلبية، كما يُشير فيبر، هي تحوّل الممثّلين المنتخبين إلى ثلّة من الكسالى، يصوّتون لصالح خيارات الحزب بانضباط، مهملين ديناميكيات الحوار البرلماني الصحّي والصحيح بالكامل.
ختاماً، نشير إلى أن مسألة القيادة أخذت، بدورها، حيزاً كبيراً من الفكر السياسي لفيبر، لكن أفكاره حول الموضوع لم تكن دوماً واضحة. في بداية تفكيره بالموضوع، اعتبر فيبر أن القائد السياسي يجب أن يخرج من البرلمان حصراً، إذ اعتبر أن النظام البرلماني وحده القادر على إنتاج القادة السياسيين المؤهّلين، والذين سيتحوّلون لاحقاً لمسؤولين ضمن إدارة الدولة. لاحقاً، في كتاباته حول الشكل المستقبلي للدولة الألمانية (١٩١٨) دافع فيبر عن فكرة أن يكون الرئيس الألماني منتخباً من الشعب بشكل مباشر، حيث رأى أن «أي رئيس للرايخ منتخب من البرلمان، وفق حسابات وتوافقات وتحالفات حزبية معيّنة، سيكون رئيساً في حكم الميّت سياسياً حالما تتغيّر هذه الحسابات والتوافقات والتحالفات».
الاقتباس المذكور أعلاه يصوّر بوضوح الفرق بين القائد القوي، المنتخب بمشاركة عموم الشعب من جهة، ومن جهة أخرى البرلمان كساحة تلتقي فيها تعبيرات المصالح الجماعية. في معرض دفاعه عن فكرة الرئيس المنتخب شعبياً، اعتبر فيبر أن هذا النظام الرئاسي، وليس البرلماني، هو الديمقراطيّة الحقيقيّة. هكذا، يبدو أن فيبر وصل لقناعة مفادها أن الديمقراطيّة هي إعادة تكوين القيادة الكاريزميّة بشكل غير تسلّطي. القائد الشرعي هو الرئيس المنتخب –أو المعزول– بحرّية من قبل محكوميه، ولا وجود للكاريزما القيادية دون أن تُشرعن ديمقراطياً عبر الانتخابات.
بعض الملاحظات الختامية
تمكّن فيبر في كتاباته من تكثيف بعض المعضلات التي ما زالت سارية المفعول حتى يومنا هذا. لا شكّ بأننا نعيش في مجتمعات تزداد تعدديّتها مع مرور الوقت، ولا شك أيضاً أن الديمقراطية تحوي جوانب إجرائية كثيرة لضمان التنافس الحرّ بين القيم، وهذا ما دعاه للتفكير المديد والقلِق في موضوع توسّع أشكال الحُكم البيروقراطيّة. ليس هذا موضوعاً بسيطاً في المجتمعات المركّبة، حيث ينتظر المواطنون الكثير من الحكّام. يستوجب، في هذا المجال، فهم البيروقراطيّة وفق أوسع تعريفات المفهوم.
الآن، وبما أننا في خضم النقاش حول دور الدولة مقابل نفوذ المنظمات التكنوقراطيّة فوق الدوليّة 2، علينا ألا ننسى تحذيرات فيبر في هذا المجال، أكان بخصوص نفي حتميّتها كأطر تنظيم، أو بما يخص الحاجة للسيطرة عليها والحفاظ على اعتدالها، ولا سيما أننا شهود على انعدام مسؤوليتها السياسيّة. ما هي حدود التكنوقراط؟ وما هي حدود السياسة؟ إنها تساؤلات ما زالت راهنة في وقتنا الحاضر، بل ثمة فرعٍ متكامل في العلوم السياسيّة يُعنى بدراسة العلاقة، المُعقّدة دوماً، بين البيروقراطيين والمسؤولين المنتخَبين.
يصحّ القول إن فيبر وضع ثقة زائدة في دور البرلمان في الحياة السياسيّة، ويصحّ أيضاً أن إنذاراته حول تنامي الأحزاب الجماهيريّة حملت بعض المبالغة. في الواقع، شهد فيبر احتضار السياسة الليبراليّة النخبويّة وولادة الأيديولوجيات الكبرى. حمل التجديد السياسي هذا نتائج كارثيّة لبلده ألمانيا، وهذا ما يجعلنا نعتبر أن انعطافه الفكري نحو دور القائد الكاريزمي المنتخب شعبياً ربما كان تطوّراً فكرياً، ناتجاً عن خيبات معايشته لممارسات سياسية بعيدة كلّ البُعد عن فكرته المثاليّة: الممارسة السياسيّة المعتدلة والتعدديّة ضمن المؤسسة البرلمانيّة.

(عن مجلة جوت داون الثقافية الإسبانية)

الأخلاق في السياسة
من خلال محاضرة ماكس فيبر "مهنة رجل السياسة والتزامه"
كمال بنعلي
(مؤمنون بلا حدود؛ 2014)


الملخّص:
إنّ ما ننشغل بالتفكير فيه في هذه الدّراسة، هو إشكاليّة عامّة وعريقة ما انفكّت تؤرّق التفكير السياسي، وهي طبيعة العلاقة المفترضة بين الأخلاق والسياسة. لذلك نعاود التفكير فلسفيّاً في هذه المسألة بالاستناد إلى محاضرة فيبر الموسومة بـ"مهنة رجل السياسة والتزامه"، لا سيّما أنّ هذه المحاضرة ما تزال تحتفظ براهنيّتها إلى اليوم، وذلك من جهتين على الأقلّ:
أوّلاً: إنّ السّياق الثوري الذي حفّ بإلقاء هذه المحاضرة شبيه إلى حدّ بعيد بالوضع الذي نعيشه اليوم، إذ بعد أخذ الأنظمة الشموليّة في التهاوي تباعاً، يفرض السؤال التالي نفسه: ما هو شكل النظام السياسي الذي يستجيب لتطلـّعات إنسان ما بعد الثورة؟ لقد قدّم فيبر حلاًّ متمثلاً في دولة مهيكلة ومنظّـمة بيروقراطيّاً، كما أبدى إعجابه بالكاريزم كرمز لرجل السياسة المفترض. لكن لا يهمّنا الحلّ الذي قدّمه بقدر ما يهمّنا اليوم كيف فكّـر في آنيّته، وكيف اضطلع بمسؤوليّته بصفته مفكّـراً سياسيّاً.
ثانياً: لقد اتّـسم الوضع الثوري في عصر فيبر بـ"حرب بين القيم" التي تعني تعدّد التجاذبات والمماحكات القيميّة، وهو ما نشهد طغيانه اليوم. هل يجب أن يكون العمل السياسي مشروطاً بقيم دينيّة أم ديمقراطيّة أم كونيّة أم براغماتيّة؟ وبالتالي إنّ التردّد بين قيم متباينة - الذي حكم تفكير فيبر في السياسة- هو نفسه ما نلحظ حضوره الحارق اليوم.
في استجماعنا للنقطتين السابقتين، تظهر لنا المشكلة التي نعتزم البحث في تفاصيلها، وهي كيفيّة توحيد الشأن العامّ السياسي حول مشروع مجتمعي مشترك بعدما مزّقته الصراعات السياسيّة، ثم وبالقدر نفسه كيف نؤسّس لقيم متجانسة تكون المرتكز الأخلاقي للفعل السياسي؟ بذلك نفهم رهان تحديد فيبر للسياسة، كمهنة من ناحية، وكالتزام من ناحية أخرى، وهو تحديد يُؤلّـف بين القدرة على الفعل وبين الحكمة العمليّة التي ينبع منها ذلك الفعل.
هكذا نستأنف النظر في التساؤل الذي طرحه فيبر أثناء محاضرته، والذي ما زال إلى اليوم يحتفظ بكامل وجاهته: "كيف يطرح المشكل المتعلّـق بالعلاقات الحقيقية بين الإيتيقا والسياسة؟". تتفرّع عن السؤال المركزي عدّة إحراجات منها: أيّ علاقة ممكنة بين الممارسة السياسية والإيتيقا؟ وكيف للسائس أن يعيّن فعله في وضع تتجاذبه فيه عدّة عناصر متباينة، منها الاقتناع والمسؤوليّة والمجازفة والمبادرة واتّخاذ القرار الذي قد لا يخلو من ممارسة العنف؟ وإذا كان السائس ملتزماً بالقيم الأخلاقيّة، ألا يمثّل ذلك عائقاً أمام نجاعة فعله؟ أليس من الحنكة السياسيّة أن يستقلّ السّائس عن كلّ ضروب المعايير الأخلاقيّة؟ أم أنّ الفعل السياسي يجب أن يلتزم بإيتيقا معيّنة كي لا يسقط في الطغيان؟ ألا تمثل الإيتيقا جملة من الضوابط الملزمة والمؤطّرة للفعل السياسي؟ ألا يكفي السائس احتكاره ممارسة العنف كي نترك له أيضاً احتكار القيم الأخلاقيّة وتوظيفها للمزيد من تبرير العنف؟
نحاول في بحثنا أن نفصّل هذه المشكلات، وأن نتعرّف على موقف فيبر منها، ثمّ سننفتح على إجابات أكثر جذريّة من تلك التي قدّمها في محاضرته، وذلك استئناساً ببعض مفكّري الشأن السياسي والأخلاقي في أواخر القرن العشرين.
يحمل العنصر الأوّل الذي يمثّل قطب هذه الدّراسة عنوان "في إيتيقا السياسة"، تناولنا فيه عرض فيبر لقاعدتين أساسيّتين للفعل السياسي، هما: "إيتيقا الاقتناع" و"إيتيقا المسؤوليّة". لقد عدنا إلى المعاجم الفلسفيّة كي نظفر بتعريف دقيق للاقتناع. ثمّ لمّا كان أصلها الديني يعود إلى "إيتيقا الإنجيل المطلقة"، كما بيّن ذلك فيبير، وجدنا تأصيلها الفلسفي في "أخلاق الواجب الكانطية"، لذلك كانت العودة إلى "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" ضروريّة. ثمّ انتهينا بعد ذلك إلى التضارب الصارخ بين الاقتناع في نسختيه المسيحيّة والكانطيّة مع الفعل السياسي، وذلك بسبب واقعيّة الثاني ونسبيّته، وإطلاقيّة الأوّل ومثاليّته. هذا الأمر دعانا إلى اختبار "إيتيقا المسؤوليّة في علاقتها بالفعل السياسي" بالاستناد إلى فيبير: حيث قمنا بمقارنة الاقتناع والمسؤوليّة، ثمّ انتهينا إلى أنّ الفعل السياسي لا بدّ أن يشترط المسؤوليّة على النتائج المترتّبة عليه، سلبيّة كانت أم إيجابيّة. إلا أنّ المسؤوليّة كما قدّمها فيبر تبدو ذات مدى محدود كما برّرنا ذلك. لهذا الغرض، انفتحت هذه الدّراسة على مدى وجودي أعمق لمفهوم المسؤوليّة مع جان بول سارتر إذ إنّ الإنسان بإطلاق ـ وليس السياسي فحسب ـ محكوم عليه أن يختار الفعل الذي يريد ضمن وضعيّة وجوديّة مخصوصة شرط أن يكون مسؤولاً عمّا يفعل.
أمّا العنصر الثاني، فنقديّ بالأساس لموقف فيبر من الإشكالية موضوع البحث. وقد ركّزنا نقدنا على ما يُسمّى "بالقراريّة الفيبريّة" التي تعني الحياد الكلّي للسياسة عن كلّ المعايير الأكسيولوجيّة،وبالتالي من حقّ السياسي أن يمارس العنف متى كان ناجعاً دون الاحتكام لعقل عملي يكون بمثابة الضابط الأخلاقي. إنّ هذه "القراريّة" أفرزت تبعات كارثيّة على مستوى الممارسة السياسيّة (حروباً عالميّة / أنظمة شموليّة) كما أنتجت تنظيراً سياسيّاً وفلسفيّاً للاستبداد، وقد استندنا في هذا المستوى على نقد كلّ من هابرماس وآلان رونو لمنطق القراريّة. ثمّ بعد ذلك خلصنا، في خاتمة هذا البحث، إلى فتح آفاق نحو الحلّ الفلسفي البديل عن فشل السياسي، فكان حلاّ ذا طبيعة إيتيقيّة من خلال تناول نظريّة الفعل التواصلي لهابرماس.

الأحد، 1 يناير 2017

بين المشافهة والكتابة؛ محمد الحجيري.



 بين المشافهة والكتابة


من المعروف بأن كل قول، أكان شفاهياً أم كتابةً، يحاول أن ينقل حالة نفسيّةً: فكرية أو انفعالية، من وعي المرسِل إلى وعي المتلقّي.
 وهذا القول لا يمكن أن يكون شفافًاً بإطلاق. فلا يتساوى فهم المتلقي مع ما كنا نودّ قوله: بعض الأمور لا تصل، بينما بعض ما يصل إلى المتلقي لم يكن أصلاً في نيّة القائل.
 في حالة الكتابة، يبقى هذا اللَبس بين الكاتب وبين القارئ قائماً: أمور أردنا قولها لم تصل، بينما وصلت أمور لم يكن في نيّتنا قولها أصلاً.
 وكل قارئ جديد سيعيد إنتاج التباسه الخاص من خلال علاقته المباشرة مع النصّ.. وبخاصةٍ إذا كان هذا النص غنياً بقابليته للتأويل. وكل فهم هو بالتالي نوع من التأويل.
 أما في الحالة الشفاهيّة، فالمسألة في غاية الخطورة: ما نريد قوله لا يتطابق مع ما نقوله، ثم، إن ما قلناه لا يتطابق مع فهم الآخر له؛ وفي فهم القول حذف لِمعانٍ كانت مقصودة في الكلام، وإضافة فهم لم يكن الكلام يقصد قوله.
ثم يتكرّر الأمر ثانية حين ينتقل الكلام من المستمع الأول إلى المستمع الثاني.
 غياب التطابق بين ما يريد قوله وبين ما سيقوله فعلاً. ثم عدم التطابق بين ما قيل وبين ما تم فهمه من المستمع الثاني، وهكذا...
فكيف إذا كان القول قد انتقل عبر عشرات الأفهام .. بل المئات.. وخلال فترات زمانيّة عريقة في القِدم؟؟
كيف كانت ستصل إلينا أقوال المسيح مثلاً أو أرسطو أو النبي محمد أو ملحمة غلغامش؟؟
 ... كم نحن مدينون إلى سومر!!


محمد الحجيري.
1/1/2015