السبت، 3 ديسمبر 2016

التفاعل بين التراثين العربيّين المسيحي والإسلامي؛ حوار مع عيد صلاح



حوار مع عيد صلاح: التفاعل بين التراثين العربيّين المسيحيّ والإسلاميّ




يوسف هريمة: قبل البدء في حوارنا لا بأس من أنْ تتقدّموا بورقة تعريفيّة بشخصكم الكريم لكلّ روّاد مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، والمتابعين لهذا الفضاء المعرفيّ. وبصفتكم راعي الكنيسة الإنجيليّة الثالثة بالمنيا، هل هذه الكنيسة امتداد طبيعيّ للكنيسة البروتستانتيّة كما عرفتها أوروبا مع مارثن لوثر وجون كالفن؟ أم هناك تمايزات بفعل الخصوصية العربيّة؟

ـ القسّ عيد صلاح راعي الكنيسة الإنجيليّة الثالثة بالمنيا، حاصل على بكالوريوس العلوم اللاهوتيّة في كليّة اللاهوت الإنجيليّة بالقاهرة 1994م، ليسانس الحقوق جامعة القاهرة، فرع بني سويف 2001م، دبلوم الدراسات المسكونيّة معهد بوسي - جامعة جنيف، سويسرا 2002م، حصل على دراسات المدرسة الصيفيّة الدولية في الدين والحياة العامة، يوليو 2012م جامعة بوسطن، بجامعة جاديجا مادي جيوكارتا- إندونيسيا. يدرس الآن ماجستير القانون، كليّة الحقوق، جامعة بني سويف، مصر.
ـ أشغل الآن رئيس مجلس الشؤون القضائيّة والدستوريّة والقانونيّة - سنودس النيل الإنجيليّ الكنيسة الإنجيليّة المشيخية بمصر، وعضو المجلس الإنجيلي العام بمصر، الرئاسة العليا للطائفة الإنجيليّة بمصر، وعضو لجنة التحرير والنشر بدار الفكر الإنجيليّ، مجلس الإعلام والنشر، سنودس النيل الإنجيليّ. ومدير تحرير مجلة "النسور" التي تصدر عن الهيئة القبطيّة الإنجيليّة بمصر.
متزوج، ولي ابنتان: الكبرى (سلمى) الصف الأول الابتدائي، والصغرى (لميس) حضانة كبرى.
أخدم الآن كراعي (قسيس) للكنيسة الإنجيليّة الثالثة بالمنيا، وهي كنيسة تابعة لمجمع المنيا الإنجيلي التابع لسنودس (كلمة يونانيّة معناها "معاً على الطريق") النيل الإنجيليّ، وهو الرئاسة العليا للكنيسة الإنجيليّة بمصر، ويضمّ أكثر من 500 كنيسة إنجيليّة تتبنى قضايا الإصلاح الدينيّ والتنوير الفكريّ، وهي وليدة حركة الإصلاح الدينيّ الذي ظهر في تاريخ الكنيسة منذ القرن السادس عشر الميلاديّ ليعود بالكنيسة إلى فكر الإنجيل والاعتماد على الكتاب المقدّس، ويحرّرها من التقاليد التي دخلت عليها في العصور السابقة. تتبنى الكنيسة الإنجيليّة بمصر الحرية في التفكير والارتباط بالكتاب المقدّس، والممارسة الديمقراطيّة في اختيار القيادات ومجلس الإدارة في الكنائس المحلية مع كافة الاختيارات في المجامع والسنودس. وهي مع الكنائس الأخرى تمثل تنوعاً متميزاً في الفكر والحضور المسيحيّ المشرقيّ في قلب العالم العربيّ. وقد ساهمت الكنيسة الإنجيليّة في نهضة الشرق عن طريق التعليم بإنشاء المدارس التي ساهمت في تقدّم العمليّة التعليميّة في الشرق. كما ساهمت في تعريب العبادة وتطور التفكير اللاهوتيّ في الشرق. تبنّت الكنيسة قضايا الشرق وخصوصيته والانفتاح على فكر الغرب، وأصبحت جسراً للتواصل بين الغرب والشرق.
الكتابات والدراسات
1-  من العبوديّة للقصر: أستير بين التاريخيّة والمعاصرة، القاهرة: دار الثقافة، 2009م.
2-  أعدّ كتاب رسامة المرأة قساً بين النص والواقع، القاهرة: دار الثقافة، 2014م.
3-  في سبيل نظرية عربيّة مسيحيّة بطرس السدمنتي نموذجاً، القاهرة: دار الفكر الإنجيليّ، 2014م.
4-  كهنوت جميع المؤمنين قراءة مصريّة سوسيولاهوتيّة، سلسلة الأغصان (11)، القاهرة: دار الفكر الإنجيليّ 2006م.
5-   العقل المفكّر والقلب المشتعل، مقال في كتاب "الدنيا والدين" لأحمد عبد المعطي حجازي، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة، الهيئة العامة للكتاب، 2002م، (صفحات 107-113).
6-   حقَّق وقدَّم لمخطوط: "مسائل وأجوبة عقليَّة وإلهيَّة"، سيناء عربيّ 434 ((f.171r- 181v (القرن التاسع الميلاديّ) لمؤلف ملكيّ غير معروف، معدّ للنشر.
7-   حقَّقَ وقدَّمَ لمخطوط: "رسالة أسطاث الراهب اللاهوتيَّة" Allepo Sbath 1130 "قضايا الكريستولوجيّا العربيّة في القرن العاشر الميلاديّ" (العراق)، معد للنشر.
8-      Eid Salah “Masa’il wa-ajwiba ‘aqliyya wa-ilahiyya” (661-663) and “Ustath al-Rahib,” (907-910) in Christian-Muslim Relations: A Bibliographical History, Volume 1 (600-900) (Leiden and Boston: Brill, 2009).
يوسف هريمة: أنتم تشتغلون على موضوع التراث العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ. بالنسبة إليكم ما حدود التأثير والتأثر بين هذين التراثين؟
القسّ عيد صلاح: لقد تأثَّرَ التراث العربيّ المسيحيّ بالفكر الإسلاميّ والحضارة العربيّة، ولقد أثَّرَ أيضاً في الفكر الإسلاميّ، وهذا واضح في الفكر الإسلاميّ الوسيط في الردّ على النصّارى. ويمكننا القول إنَّ اللاهوت العربيّ المسيحيّ وُلِدَ بين حضارتيْن: حضارة الفلسفة اليونانيَّة والفكر المسيحيّ المصاغ باللغة اليونانيَّة، وحضارة الفقه الإسلاميّ في القرينة الجديدة المكتوب باللغة العربيّة. وفي الحالة المصريّة نجد أنَّ الفكر المسيحيّ صيغ وحُفِظَ في ثلاث حقب، مَثَّلَت ثلاث لغات: اليونانيّة والقبطيّة والعربيّة، في ظروف وقرائن مختلفة. والتراث العربيّ المسيحيّ بصورة عامة لم يكن ترجمة عن اللغات السابقة له، وإنْ كانت هناك بعض الترجمات العربيّة للتراث السابق، ولكننا نستطيع القول إنَّه استطاع هضم الفكر والتراث السابق له، وتفاعل مع القضايا المعاصرة، فجاء إبداعاً خالصاً متميزاً في ضوء المعطيات الفكريّة المثارة منذ الفتح العربيّ حتّى الآن.
وقد تأثَّر الكُتَّاب العَرَب المسيحيّون بالحضارة العربيّة والفكر الإسلاميّ تأثراً كبيراً، ظهر هذا في كتاباتهم وصياغاتهم للفكر المسيحيّ، ولا نستطيع أن ننكر هذا التأثير. يقول الأب سمير خليل في هذا الصدد في دراسة له عن: "تأثير الإسلام على الأدب الدينيّ المسيحي، (تمَّ الاطلاع عليه في 20 أبريل 2010م، متاح على http://www.coptcatholic.net/section.php?hash) "لقد أثّر أسلوب القرآن في كثير من المفكّرين المسيحيّين، وحاول بعضُ الأُدباء أنْ يقدّموا الكُتبَ المقدّسة بصيغة أدبيّة تناسبها، وأكثر من اعتنى بهذا اللون من الأدب نصارى العَرَب من المشارقة، الذين ترجموا الأناجيل سجعاً منذ القرن التاسع. واشتدت هذه النزعة بعد انتشار البديع في الأدب العربيّ"، ويمكن القول حسب وصف الأب سمير خليل اليسوعيّ في دراسة له حول الدفاع المسيحي المبكّر: "لقد تشبّع المؤلف العربيّ المسيحيّ بالحضارة القرآنيَّة. فهو لا يعيش في مجتمع مسيحيّ، ولا يستخدم ما يطلق عليه البعض مفردات وأساليب اللغة العربيّة المسيحيّة. هو يشترك مع المسلمين، في الحضارة العربيّة نفسها، التي تحمل في طياتها العديد من التعبيرات والكلمات القرآنيَّة، ونموذجاً محدداً، وبعضاً من الفكر الإسلاميّ".
عودٌ على بدءٍ، لم يكن التحول إلى اللغة العربيّة في مصر سهلاً، استغرق هذا التحول ثلاثة قرون، من القرن السابع إلى العاشر، خلال هذه الفترة التاريخيّة كان الفكر العربيّ المسيحيّ في مصر يتبلور ويُصاغ، ولكن بعدما تحوّلت وتبدّلت الأمور، هذا التحول نلمسه في الآتي: من أغلبيّة مسيحيّة وأقليّة مسلمة في القرن السابع، إلى أغلبيّة مسلمة وأقليّة مسيحيّة في القرن العاشر، ومن سيادة اللغة القبطيّة في القرن السابع إلى سيادة اللغة العربيّة في القرن العاشر، لغة التفكير والتعامل اليوميّ. ومن هنا لزم التحوّل إلى اللغة العربيّة، فلم يعد ينفع الاكتفاء باللغة المحليّة فقط، بل تبنّى الكَّتاب العَرَب المسيحيّون اللغة الأوسع انتشاراً في ذلك الوقت، وظهرت في مصر كتابات الأنبا ساويرس بن المقفَّع أسقف الأشمونين، لتَشرح الفكر المسيحيّ في لغة عربيّة حتى يستطيع المسيحيّ المصريّ، بجانب المسلم، فَهَم اللاهوت المسيحيّ باللغة العربيّة.
يوسف هريمة: سبق أن أشرتم إلى أنّ اللاهوت العربيّ المسيحيّ وُلد بين حضارتين: الفلسفة اليونانية والفكر المسيحيّ المصاغ بلغتها، ثم حضارة الفقه الإسلاميّ. ما المقصود بكلمة اللاهوت في الفكر المسيحيّ؟ وهل تعتبرون مثلاً علم الكلام والفلسفة الإسلاميّة امتداداً لهذا النمط في التفكير؟
القسّ عيد صلاح: كلمة لاهوت هي ترجمة للكلمة الإنجليزية Theology التي تأتي في مقطعين Theos من أصل يوناني، وتعني الله، وكلمةlogy وتعني علم، أي أنّ كلمة لاهوت أو عِلْمُ اللاَّهُوت علم يبحث في وجود الله وذاته وصفاته، ويقوم عند المسيحيين مقام علم الكلام عند المسلمين، ويُسمَّى أيضاً عِلمَ الربوبيّة والإِلهيات، ويقدّم منظومة فكرية متكاملة للعلاقة التي تجمع الله بالإنسان.

يوسف هريمة: يعتبر العديد من الباحثين أنّ المكوّن القبطي والأمازيغي في بلدان شمال إفريقيا مكوّن أصيل، وأنّ العربيّة دخيلة على المنطقة. بنظركم ما أهم العوامل التي ساهمت في تحوّل التفكير المسيحيّ من أبعاده اليونانية وغيرها، إلى التفكير من داخل بنية العقل العربيّ؟ هل التحوّل تمّ فقط من خلال اقتناع أطراف بضرورة التفكير من خلال الثقافة المهيمنة؟ أم قوة السياسة والسلطة هي التي تحكّمت في هذا الأمر، كما يشير العديد من المستشرقين؟
القسّ عيد صلاح: القرينة العربية الإسلامية الجديدة فرضت سطوتها الفكريّة والثقافيّة على المجتمعات الجديدة، وبالتالي تغيرت طريقة التفكير لدى المسيحيّين مع هذا الواقع الجديد، مثلاً في مصر أوّل من كتب باللغة العربيّة هو الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين- ملوي، المنيا، مصر، في القرن العاشر الميلاديّ، أي أنّ التحوّل أخذ ثلاثة قرون، سبقتها عوامل سياسية مثل قرار تعريب الدواوين، وتبعها احتياج ضروريّ للتواصل والتأقلم مع القرينة الجديدة.

يوسف هريمة: أشرتم إلى تيارات فكرية أثّرت في نشأة التراث العربيّ المسيحيّ في مصر، أهمها تيار الانعزال ويمثله صموئيل رئيس دير القلمون، وتيار ساويرس بن المقفع. ما أهم ملامح كلّ تيّار من هذه التيارات؟
القسّ عيد صلاح: بين الاندماج والانعزال كان الصراع الفكري في مصر في القرون الثلاثة الأولى من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلاديّ. وقد ظَهَرَ داخل الكنيسة المصريّة تياران: أحدهما يدعو إلى الانعزال، والثاني يدعو إلى الانفتاح على لغة وثقافة الآخر، وضرورة الكتابة باللغة العربيّة. ونحن هنا نرصد لهذين التياريْن الهامّيْن اللذيْن شكَّلا فكر الكنيسة المصريّة من القرن السابع حتى الآن سلباً وإيجاباً.
التيار الأول: مقالة صموئيل رئيس دير القلمون وفكر الانعزال
هذا الاتجاه يتبنى رفض اللغة العربيّة ومقاومتها، ظهر هذا في "مقالة صموئيل رئيس دير القلمون"، والقديس صموئيل عاش في الفترة من (597- 695م)، وفي مقالته "وهي نصّ رؤيوي مترجم من اللغة القبطيَّة إلى اللغة العربيّة. أمّا تاريخ كتابة هذا النصّ فلا نعلمه، ولكن يقترح الدارسون أنَّه وُضِعَ في القرن الثامن أو التاسع الميلاديّ. وفي هذا النصّ، يتكلّم "القديس صموئيل" عن أحداث المستقبل، منها ما ذكره مارك سوانسون، الاندماج الثقافيّ والتميز الدينيّ في نصوص لاهوتيّة من التراث العَرَبيّ المسيحيّ القديم (القاهرة: كليّة اللاهوت الإنجيليّة، 1995م، محاضرة غير منشورة، ص 1):
"[والنصّارى] يعملون أيضاً عملاً آخر، إنْ أخبرتُكم به فإنَّ قلوبكم تتّوجع كثيراً: وهو أنَّهم يتركون اللغة الحسنة، القبطيّة، التي نَطَقَ بها روح القدس مراراً كثيرة من أفواه آبائنا الروحانيّين، ويعلّمون أولادهم مِن صِغَرهم أنْ يتكلموا بلغة الأعراب ويفتخروا بها. وحتّى الكهنة والرهبان يجسرون، هم أيضاً، أنْ يتكلموا بالعربيّ ويفتخروا به، وذلك داخل الهيكل! الويل ثم الويل!" يا أولادي الأحبّاء، ماذا أقول في تلك الأزمنة، يكون القرّاء في البيعة لا يفهمون ما يقرؤونه ولا ما يقولونه، لأنّهم نسوا لغتهم؟ وهؤلاء بحق المساكين المستوجب البكاء عليهم، لأنَّهم نسوا لغتهم وتكلموا بلغة الهجرة". ولكن الويل ثم الويل لكلّ نصرانيّ يعلم ولَدَهُ لغة الهجرة من صغره وينسيه لغة أبهاته [آبائه].
"وتبطل كتب كثيرة من الكنيسة، لأنَّه لا يبقى فيهم مَن يهتّم بكتبٍ، لأنَّ قلوبهم تميل إلى الكتب العربيّة ..."[وقال شيخ لأنبا صموئيل: ] "افهم الذي أقوله لك: إنَّ في الزمان الذي يستجرئ النصّارى أنْ يتكلموا داخل المذبح بلغة الهجرة، الويل للنصارى في ذلك الزمان! ويل متضاعف سبعة أضعاف!".
ويعلّق سوانسون في المصدر المشار له سابقاً على هذا النص بالقول: "والواقع أنَّه ليس هناك أيّة صعوبة في إدراك سبب هذا الاعتراض العنيف على قبول اللغة العربيّة في الكنيسة. كان كاتب النصّ يرى في اللغة القبطيّة لغة مسيحيّة مقدّسة: لغة الكتاب المقدّس والقدّاس الإلٰهيّ والآباء القديسين الأطهار، أمّا اللغة العربيّة فإنّها ـ في رأي الكاتب- لغة دخيلة غير مسيحيّة. غير أنّه على المدى البعيد أصبح مثل هذا الاعتراض بلا جدوى، حيث إنَّ الشعب القبطيّ قَبِلَ اللغة العربيّة، والملاحظة أنَّه بينما فُقِدَ النصّ الأصليّ لمقالة صموئيل رئيس دير القلمون، حُفِظَ النصّ في ترجمة عربيَّة".
وربما كان تعليق طه حسين في ملفه الشهير: مستقبل الثقافة في مصر ﺟ 2 (القاهرة: دار المعارف، 1938)، 485- 486 خير دليل على هذا الاتجاه حين يقول: "فلست أدري كيف أصف هذا الألمَ الذي يثيره في نفسي الاستماعُ إلى صلواتهم، يتلونها في لغةٍ عربيّةٍ محطّمة، أقلُّ ما توصَفُ به أنّها لا تلائمُ كرامة الدّين مهما يكن، ولا تلائمُ ما ينبغي للمصريِّين جميعاً من الثقافة الُّلغَويّة". وبالإجماع هذا التيار وهو تيار الأنبا صموئيل لم يصمد طويلاً أمام التغيرات التي تمّت على أرض الواقع.
التيّار الثاني: ساويرس بن المقفَّع القرن العاشر وفكر الاندماج
مَن هو ساويرس بن المقفع؟
هو أبو البشر بن المقفَّع الكاتب المصريّ، وسُمِّيَ بعد ترهّبه وسيامته أسقفاً بالأنبا ساويرس بن المقفَّع، يعتبر ساويرس واحداً من أهم مفكريّ الكنيسة عبر تاريخها في مصر، فهو من علماء وفقهاء اللاهوت المسيحيّ العربيّ في مصر، عاش في القرن العاشر الميلاديّ، له كتابات متعددة ومتنوعة. وهو يُعتبر أول كاتب مصريّ عربيّ مسيحيّ يكتب ويصيغ فكراً لاهوتيّاً عربيّاً، كما يُعتبر أيضاً نقطة تحوّل كبيرة في التفكير المسيحيّ بالنسبة للكنيسة المصريَّة في القرن العاشر الميلاديّ حتى الآن. وقد رَصَدَ ساويرس بن المقفَّع في القرن العاشر الميلاديّ على حسب رأي سوانسون في المصدر المشار إليه سابقاً أزمة تربويّة في الكنيسة القبطيّة كانت نتيجة فقدان معرفة اللغة القبطيّة من فئات كثيرة من الشعب القبطيّ. أو كما يقول العلامة جورج جراف: "ولكن من الجهة الأخرى نرى الأسقف ساويرس بن المقفَّع في القرن العاشر يشكو شكوى مريرة لا يمكن تجاهلها، أنَّه ليس هناك مَنْ يفهم اللغة القبطيّة، ولذلك فقد غَدَت الصلاة والقراءات غير مفهومة، ونتج عن ذلك جهل الأمور الدينيّة." ولنسمع الآن ساويرس وهو يعبّر عن هذه الأزمة، حيث يذكر في كتابه "الإيضاح" المُسمَّى "الدر الثمين في إيضاح الدين" (القاهرة: أبناء البابا كيرلس السادس، د. ت، ص 10، 11) ما يلي:
"أولاً، فأقول إنَّ السبب في كتمان بيان هذا السرّ [أي سر الثالوث ووحدانيّة الله]
في هذا الزمان عن المؤمنين اختلاطهم مع الأجانب،
ولضياع لغتهم القبطيّة الأصلية التي منها كانوا يعرفون مذهبهم.
وصاروا لا يسمعون ذكر الثالوث بينهم إلا قليلاً،
ولا لابن الله ذكر بينهم إلا على سبيل المجاز،
بل أكثر ما يسمعون [هو] أنَّ الله فرد صمد،
 وبقية هذا الكلام الذي يقوله الغير،
فتعوَّد به المؤمنون، وترّبوا عليه،
حتى صار يصعب عليهم ذكر ابن الله،
ولا يعرفون له تأويلاً، ولا معنى،
وأكثرهم إذا سمع ابن الله، وابن مريم العذراء،
يظن أنَّ بدأه من مريم العذراء كان،
كما يظن بنا الغير أنَّنا نقول ذلك،
ولا يعلمون أنَّه كان أزلياً مع الله.
مولود منه قبل مريم،
وقبل الدهور،
لأنَّ الله لم يكن قط بغيره،
لأنَّه ابنه وكلمته الأزلي معه،
لم يزل ولا يزال."
وفي مقدمة الباب العاشر من الكتاب نفسه يقول:
"ذَكَرتَ، يا حبيب، أنَّ القبطَ في هذا الزمان قد كثرت فيهم الأقاويل المختلفة في الإيمان الأرثوذكسيّ، وأنّ الواحد منهم يَرى ما لا يُرى بغير رأي الآخر ويكفّره، وإنَّك متعجب من ذلك ومحتار. ولا تتعجب من ذلك، فإنَّ السبب فيه جهلهم بلغتهم، فإنَّ اللغة العربيّة غلبت عليهم، فلم يبقَ أحد منهم يعرف ما يُقرأ عليه في الكنيسة باللغة القبطيّة، فصاروا يسمعون ولا يفهمون. فبهذا السبب ضاع منهم علم المذهب المسيحيّ الذي ساد أولاً على جميع قبائل النصّرانيّة."
من خلال الأقوال السابقة للأنبا ساويرس بن المقفَّع يتبيّن لنا الاختلاف البيِّن بين التياريْن: الذي تبنته مقالة صموئيل رئيس دير القلمون، والتيار الذي تبنّاه الأنبا ساويرس بن المقفَّع، أسقف الأشمونين، في كتاباته، "بعد وصفه للأزمة في الكنيسة القبطيّة، لم يصرخ ساويرس قائلاً: الويل! ثم الويل!، بل واجهها بطريقة إيجابيّة، شارحاً للعقائد والممارسات المسيحيّة باللغة العربيّة." وهذا ما يؤكّده، ي. هل، في كتابه "الحضارة العربيّة" ترجمة إبراهيم أحمد العدوي (القاهرة: دار الهلال، كتاب الهلال، العدد 342، يونية 1979م، ص 91) عن اتصال الشعوب المحليّة بالعَرَب الذي "هزَّ كيانهم، وأيقظ فيهم ثقافة جديدة".
ولعل هذا الاتجاه، وهو تيار الاندماج الذي تبنّاه ساويورس ومن سار على نهجه فيما بعد، سار مع التعريب دون أنْ يضحّي بالهويّة والخصوصية الدينيَّة، ومن خلاله ظهرت كتابات عربيَّة لاهوتيَّة أصيلة نرصد هنا لأسباب ظهورها. وقد ظهرت الكتابات العربيّة المسيحيّة لسببين رئيسين هما: سبب رعوي داخلي ويهتم بالحفاظ على الرعية الذين يتعاملون مع القرينة الجديدة، أمام التعريب الجارف والأسلمة السريعة، كان لا بدّ من ظهور بعض الكتابات التي تشرح الإيمان المسيحيّ أولاً للرعيّة، وتفاعلاً مع القرينة الجديدة والتساؤلات اللاهوتيّة حول القضايا المسيحيّة الكبرى، ظهرت الكتابات العَرَبيّة المسيحيّة اللاهوتيّة والعقائديّة. ومن خلال مقدِّمات المؤلفات العَرَبيّة يتبيَّن لنا البعد الرعويّ في الكتابات المسيحيّة، ففي مقدّمة "كتاب مصباح العقل" (القاهرة: د. ن. سلسلة التراث العَرَبيّ المسيحيّ (1)، 1978م، ص 5.) للأنبا ساويرس بن المقفَّع يقول في سبب تأليفه:
"ذَكَرت ما عليه المخالفون لملتنا،
من الاستشناع لمذهبنا،
والنفار مِن أقاويلنا،
وإنَّك لم تجد لأحد المتقدّمين كتاباً،
فيه وصف مذاهب النصّارى،
على الشرح والتلخيص،
يزيل شكوكهم،
ويفسّر ما استشكل عليهم.
وكثير ما لقيته من أصحابنا كثير الإطناب،
فيما يقول ويعتقد.
وسألتني أنْ أصف لك جمل أقاويلنا،
وأبيّن عندك معاني ديننا،
إذ كان ذلك أولى الأمور بنا،
وأجلّ ما يجب أنْ نبيّنه ونفسّره،
ليتذكَّر به الجاهل،
ويستبّصر به العالم."
وعلى الجانب الآخر سبب دفاعي خارجي نتيجة للأسئلة التي ترد حول الإيمان المسيحيّ في مواجهة الفكر الإسلاميّ، وقد ظهر اللاهوت الجدليّ وهو الذي تميز بالرد على الأسئلة الواردة إلى المسيحيّيْن من المسلمين واليهود، وبالأكثر من المسلمين، وهي أسئلة حول القضايا المسيحيّة الكبرى مثل: التجسّد، والثالوث، والوحدانيّة، والقضايا الخاصة بالكتاب المقدَّس مثل النسخ والتحريف. صِيغَت هذه الأفكار والأسئلة بما يُسَمَّى في تاريخ الأدب العَرَبيّ الإسلاميّ "بالردّ على النصّارى"، هذه الأسئلة خَلَقَت حراكاً وإبداعاً لاهوتيّاً حول القضايا المسيحيَّة الكبرى، جاء في صياغات عبَّرت عن المفاهيم اللاهوتيّة بأسلوب عربيّ، وفي الوقت نفسه خلقت تواصلاً بين أصحاب الرسالتيْن، فأصبح كلّ طرفٍ يقرأ الطرفَ الآخر، ويمكن أن ينتقده بأسلوب مهذّب، ويطرح عليه أسئلة متعددة، وفي الوقت نفسه تأتي الإجابات من الطرفين، ولقد لعبت الظروف السياسيّة عاملاً كبيراً في زيادة أو قلة هذه المجادلات.
يوسف هريمة: حينما نتحدّث عن فكرة التثاقف أو حركة التأثير والتأثر في الفكر العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ، فلا بدّ من إضاءة هذا الموضوع بأمثلة معينة. هل فكرة خلق القرآن التي عرفها التاريخ الإسلاميّ امتداد لهذا الخط في التأثير؟ كيف توضّحون ذلك؟
القسّ عيد صلاح: في السياق العام نجد أنّ الفكر الدينيّ تأثَّر بالثقافات المعاصرة له والسابقة عليه، فكل من الفكر والتراث الدينيّ هو ابن عصره وثقافته، وهو ما يُسَمَّى بلاهوت السياق، وفي الإطار الدينيّ نجد التأثير الفكريّ المتبادل، والقضايا المثارة من الاحتكاك بثقافة وفكر الآخر. يقول ي. هل في كتابه "الحضارة العربيّة"، (ص 113): "ثم ظهرت الآراء الدينيّة التي نشطت احتكاك المسلمين بالنصّارى ولاسيما في دمشق في القرن الأول الهجري. وترجع إلى هذه الآراء نشأة فرقة المرجئة، التي قالت إنَّ الكلام في مسائل الدين لا يخرج صاحبه إلى الكفر ما دام مقيماً على الاعتقاد بالله ورسوله. وظهرت في البصرة فرقة المعتزلة التي تناولت مسائل تتعلق بذات الله وصفاته، وحاورت في مذهب الجبر، وذهبت إلى أنَّ للإنسان إرادة حرة. وكانت مسألة خلق القرآن موضع جدل زمن العبّاسيّين وزاد الاهتمام بهذه المشكلة زمن الخليفة المأمون، الذي أيّد سنة 827م مبدأ القول إنّ القرآن مخلوق لا قديم. وعندما انتقل الأشعري المتوفى سنة 324 هـ من الاعتزال إلى مذهب أهل السنّة، وجد الجدلُ سبيلَه إلى العلوم الإسلاميّة، وأصبحت الدراسات الدينيّة، منذئذ، تقوم على أساس من الفلسفة المدرسيّة (الإسكولائية)."
وفي المقابل تأثر الفكر المسيحيّ في الشرق بالفكر الإسلاميّ في بعض القضايا، على سبيل المثال، إكرام الأيقونات، ويبدو أنَّ اعتراضات اليهود والمسلمين حملت الكثير من مسيحيي الشرق العربيّ على التشكيك في شرعية إكرام الأيقونات، وبالتالي الحوار حولها وحول الرفض والتأييد.
محنة خلق القرآن، والصدى المسيحيّ نموذجاً.
ومن خلال هذا الكلام نجد أنَّ عملية الاحتكاك بالفكر المسيحيّ أنشأت قضايا إسلاميَّة كبيرة، على رأسها ما سُمِّي في تاريخ الفكر بمحنة خلق القرآن. وهذه الفكرة جاءت من خلال الحوار اللاهوتيّ المسيحيّ الإسلاميّ في العصر الوسيط بناء على استخدام الأسلوب العقليّ في التفكير من خلال المعتزلة.
وكانت المقارنة بين المسيح كلمة الله والقرآن كلمة الله، وبما أنَّ القرآن أزليٌّ، فيصبح المسيحُ أزلياً، ومن هنا جاء الفكر الإسلاميّ الذي نادى بخلق القرآن، لكي يؤكِّده في الجانب الآخر أنَّ المسيح مخلوق، وليس أزليّاً، وهذا ما يؤكده قنواتي في كتابه (المسيحية والحضارة العَرَبيّة. القاهرة: دار الثقافة، 1992م، ص 127)، بالقول: "ثم نشأت مسألة ثانية كان على الظروف بعد ذلك أن تزيد خطراً، وهي مسألة القرآن غير المخلوق التي تعود بأصلها، فيما يبدو، وكما أثبته بكر Becker إلى مسألة الكلمة، ونحن نعلم أنَّ القرآن يقول في عيسى: إنَّه "كلمة الله وروحه". وما كان ليشق على مسيحي تأويل هذه التسميات. ومن هنا نشأ الاعتراض الذي وجّهه أهل الجدل من المسيحيّين إلى المسلمين: مَن هو المسيح؟ - إنَّه كلمة الله- فهل هذه الكلمة مخلوقة أم غير مخلوقة؟ إن كانت غير مخلوقة كان المسيح هو الله، وإن كانت مخلوقة لم يكن الله، قبل تولدها، ذا كلمة وروح. وبكلام آخر: كان المسيحيّون يستخدمون البرهان بالكلمة المخلوقة أو غير المخلوقة ليرغموا المسلمين على الاعتراف بلاهوت المسيح. فاضطر المسلمون إلى الإجابة. وربما كان هذا الأصل في مناقشة القضية: هل القرآن مخلوق أو غير مخلوق.
يوسف هريمة: في سياق التأثير الإسلاميّ على الفكر المسيحيّ، كتب مجموعة من الباحثين عن هذا الموضوع كالأب سمير خليل اليسوعي. ما أهم ملامح التأثير الإسلاميّ على المسيحيّة؟
القسّ عيد صلاح: حقيقة القول هي أنَّ الإسلام أثَّر في الحياة الفكريّة للمسيحيين العَرَب، فقد "أثَّرَ ظهور الإسلام في طبيعة التراث المسيحيّ العربيّ مثلما أدخل تغييرات في حياة المسيحيّين العَرَب"، وفي القرون الثلاثة الأولى من القرن السابع حتى العاشر الميلادي انتشر الإسلام بسرعة، وأصبح المسيحيّون في بيئة وقرينة جديدة، فكان التأكيد على القضايا المسيحيّة الإيمانيّة الكبرى في خلفية فكر الإسلام، ومن هنا أثَّر الإسلام في الفكر المسيحيّ في الطريقة والأسلوب. وكان على المسيحيّيْن العَرَب في مصر التأقلم مع الوضع الجديد والتفاعل معه، هذا التفاعل سمَّاه الأب سمير خليل اليسوعيّ "الفتح الإسلاميّ والظاهرة الانثقافيّة"، ومن هنا ظهرت مصطلحات لاهوتيّة عربيّة، وهذا معناه "أن الحضارة العربيّة اغتنت واتسعت بضمّها سائر الحضارات.
وعلى سبيل المثال هناك الكلمات الآتية:
"إبليس، بيعة، جهنّم، حواريون، طوبى، فردوس، إنجيل، قدس، مسيح، نصارى، يحيى، شيطان، صلوات، صوم، قسّيسون، ملّة، طور...إلخ، والألفاظ الحضاريّة مثل: خمر، كأس، كوب، درهم، دينار، تابوت، سراج...إلخ، والألفاظ المرتبطة بالكتابة مثل: رف، سجل، سطر، سفر، قرآن، قرطاس".
كما أخذ المسلمون عن اللغة القبطيّة كثيراً من المفردات اللغويّة، وهو ما عبَّر عنه السيوطيّ (المتوفّى 1505) بوجه خاص في "المُزهِر"، الذي دَرَسَ فيه الغريب في القرآن الكريم. ثم نشير أيضاً إلى الكلمات والمصطلحات اللاهوتيّة (الفقهيّة) مثل: التجسّد، التوحيد، الثالوث، الاتحاد، الطبيعتان، الروح القدس، الصليب، القيامة، الصعود، الدينونة، الخلاص....إلخ. هذه الألفاظ وغيرها في التراث العربيّ المسيحيّ والإسلاميّ معاً جاءت نتيجة للتداخل والتشابك الحضاريّ والظاهرة الانثقافيّة.
وقد استعمل الكتَّاب المسيحيّون في كتاباتهم اللغة الأدبيَّة العربيّة، لغة الكتَّاب المسلمين، ولغة الشعر من قبل، ولغة القرآن. فقد أصبحت هذه اللغة لغة حضارة عظيمة بعد الفتوحات الإسلاميّة. كما أجاد الكتّاب المسيحيّون الكتابة بها مقارنة مع المسلمين. وبالرغم من شك البعض في ذلك، بسبب ظهور بعض المفردات المحلية والخاصة عند بعض الكتّاب المسيحيّين في بعض الفترات، والتي كانت قد وجدت عند بعض الكتاب المسلمين في الفترة نفسها. الاختلاف الوحيد القائم بين الكتَّاب المسيحيّيْن والكتَّاب المسلمين، هو أنَّ أولئك لم يترددوا في استعمال بعض المفردات والمصطلحات المسيحيّة البحتة الموجودة في اللغات اليونانيّة والسريانيّة والقبطيّة في الأدب العربيّ.
كما صار المسيحيّون أكثر ارتباطاً بالنصّ الدينيّ "النصّوصيّة"، لأنّ الثقافة العربيّة مبنية على حضارة النصّ الدينيّ، من المجادلات الدينيّة المسيحيّة- المسيحيّة المتأثرة بالثقافة والفلسفة اليونانيّة في القرنين الرابع والخامس، إلى التركِّيز على النصّ الدينيّ سواء كان مسيحيّاً أو إسلاميّاً. فنجد مثلاً أنَّ ساويرس بن المقفَّع "في كتابه المعروف بكتاب "الدُّر الثمين في إيضاح الاعتقاد في الدين" الذي ينقسم إلى 15 باباً، يذكر ساويرس 1161 (ألفاً ومائة وواحداً وستين) نصّاً كتابيّاً، هذا بصرف النظر عن التلميحات إلى نصوص كتابيّة، منها 307 مرجع إلى العهد القديم، 854 إلى العهد الجديد.
يوسف هريمة: كيف تقوّمون مرحلة الردّ على النصارى، خاصّة مع مدرسة ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ومن تبنّى خطهم في التعامل مع أهل الكتاب، كالوهّابية المعاصرة؟ هل ما نشهده الآن من تهجير لمسيحيي العراق وسوريا، وربما لبنان، يدخل في هذا الخط الفكريّ؟
القسّ عيد صلاح: الردّ على النصارى كان مجمل القضايا التي تناولها الكتَّاب المسلمون في ردهم على المسيحيّين (النصارى)، كما كانوا يطلقون عليهم، ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن سار على نهجهما ضمن مدرسة فكرية هجومية إقصائية لا تعترف بالآخر ولا تحترم تفكيرهم أو خصوصيتهم الإيمانية. ولعل ما نحن فيه الآن هو تأثير سلبي لهذه المدرسة على العالم العربيّ.

يوسف هريمة: اهتممتم كثيراً بفكرة التراث العربيّ المسيحيّ من منظور بحثي محض. هل يمكن أن نقول إنّ دراسة التراث من خلال هذا الجانب يمكن أن تكون نقطة تلاقٍ لحوار ثقافي وديني بين مكونات أصيلة في المنطقة؟ أم هي نقطة بداية لصراع وصدام بشّر به هنتنجتون وأكّدته الوقائع المعاصرة؟
القسّ عيد صلاح: لا شكّ أنّ السياقات الثقافيّة والحضاريّة والتاريخيّة تلعب دوراً كبيراً في تطوّر أيّ فكر دينيّ أو إيديولوجيّ. لذلك، فوجود الإسلام قد أثّر كثيراً في الفكر العربيّ المسيحيّ قديماً وحديثاً. وكلّ فكر منقطع عن سياقه الزمنيّ ولا يأخذ في الاعتبار المحيط الذي ينشأ فيه هو فكر عقيم.
ومن هنا نلحظ، كما لاحظ الأب سمير خليل اليسوعيّ، دَور المسيحيّين الثَّقافيّ في العالم العَرَبيّ (2) (بيروت: دار المشرق (5)، 2004، ص 50) "أنَّ المسيحيّين قاموا بدور الجسر بين الديانتيْن والعقليّتَيْن والثقافَتيْن، إنَّهم مسيحيّون بلا شكّ، ولكنّهم أيضاً على صعيد الثقافة مسلمون." وكما يقول مُشير باسيل عون في مؤلفه: مقالات لاهوتيّة في سبيل الحوار (بيروت: المكتبة البولسية، 1999م، 38.): "أمَّا اليوم، فالفكر اللاهوتيّ في الشرق العربيّ يعوزه الاحتكاك بفكر عربي أصيل مكتمل مفسِّر للوجود العربيّ برمّته...حتى يتهيأ له أنْ يسكب نواته الإيمانيّة في قالب هذا الفكر فيبلّغها خطاباً هو تيًّار شرقيّ عربيّ، مجاوب عن تساؤلات هذا الفكر وقضاياه ومحَنِه ومعاناته واختباراته، أي عما يعني كل مواطن شرقيّ عربيّ في العصر الحاضر".
وبالتالي، حسب رؤية سمير خليل اليسوعي تكون فاعليّة و"قوة المسيحيّين في العالم العربيّ، هي أنَّهم كانوا، بوجه عامّ، أناساً منفتحين على ثقافات غير ثقافاتهم الخاصّة. إذ إنّ التأصّل والانفتاح هما الميزتان اللتان قام عليهما تاريخهم. وإذا نقص أحد العنصّريْن غاب التفاعل مع البيئة المحيطة، وبالتالي غاب التجدد لصالحهم ولصالح تلك البيئة".
يوسف هريمة: ما هي دعوتكم للباحثين العرب مسيحيين ومسلمين؟
القسّ عيد صلاح:  دعوتي للباحثين العرب المسيحيّين والمسلمين في الشرق هي الآتي: آن الأوان أنْ ننفتح على بعضنا بعضاً، وكفى ما فات من تجاهل، أو تعالٍ، أو عنصرية، أو لامبالاة، وليقرأ كلٌّ منا تراث الآخر بفهم ووعي، ليستمرّ التواصل الفعَّال، والعطاء الحضاريّ المتميز، فالعزلة والتباعد ليست لصالح منطقتنا العربيّة الآن ومستقبلاً، وتجارب الأمم وخبرات الشعوب تشهدان على ذلك. ولكنَّ الاندماج الثقافيّ مع التميّز الدينيّ يضمنان وحدة الأمّة في تنوع ثري وخلاق، ولنقبل مبدأ التعدديّة والتنوع، القضية الأزليّة والسنّة الكونيّة، التي تدعو إلى احترام وقبول الآخر؛ فالإنسان عدو لما يجهل، فلنتعارف.
وهناك خطورة في عدم المعرفة يقول الله (سبحانه وتعالى) في العهد القديم: ﴿لِذَلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ﴾ (إشعياء 5: 13)، وفي موضع آخر يقول تأكيداً لذلك: ﴿قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ﴾ (هوشع 4: 6)، ومن كلمات المسيح الخالدة في العهد الجديد: ﴿تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللَّهِ﴾ (متى 22: 29)، وأيضاً دعوته ﴿فَتِّشُوا الْكُتُبَ﴾ (يوحنا 5: 39). ويقول الله (عزَّ وجلّ) في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات 49: 13). فلنلبِّ الدعوة، ولنستجب للنداء، ولنتعارف حمايةً لنا ولأمتنا من الضياع والضلال.
يوسف هريمة: شكراً القس عيد صلاح راعي الكنيسة الإنجيلية بالمنيا على هذا الحوار.
القسّ عيد صلاح: شكراً للباحث الكريم الأستاذ يوسف هريمة على هذا الحوار، وقد بنيت إجاباتي على ورقة بحثية تحت عنوان: التفاعل الإسلاميّ/ المسيحيّ في مصر حتى القرن العاشر الميلاديّ، كنت قد قدّمتها للمؤتمر الدوليّ السابع لمركز المخطوطات 25- 27 مايو 2010م في مكتبة الإسكندريّة، حول التواصل التراثيّ: أصول ومقدّمات التراث العَرَبيّ الإسلاميّ.


الجمعة، 2 ديسمبر 2016

النقل والنَقَلة.. (مجلة المقتبس)


النقل والنقلة.



ليس العلم وقفاً على أمة معينة ولا على أهل دين خاص ولغة خاصة بل العلم مشاع بين سكان الأرض يقتبسه الراغبون فيه ممن عرفوا غناءه لهم وفائدته لقيام جامعتهم وإعلاء كلمتهم كما أن الحضارة تنتقل من يد إلى يد وتأخذها الأمة المتحضرة عن جارتها أو ترثها عن أختها الذاهبة. ولذلك لم تستغن أمة في النقل عن غيرها ما يعوزها من علوم البشر على اختلاف أنواعها نقلاً ينتفع به أهل جيلها وقبيلها ويؤثر الأثر المطلوب في العقول. فقد نقل الفرس علومهم عن جيرانهم الهنود ونقل الرومان عن اليونان ونقل اليونان عن المصريين ونقل العرب عن اليونان والفرس ونقل الإفرنج عن العرب واليونان والرومان وغيرهم من أمم الخليقة. وقد مست الحاجة في هذا النقل إلى ترجمة أهم كتب أولئك الأقوام في الصناعات والديانات وعلوم الحكمة والطب والرياضيات والشرائع والتاريخ والأدب.
هذا الكثير من العلوم التي نراها لعهدنا وكتبها التي لا تحصى في كل ضرب من ضروب المعرفة النافعة لسعادة الخلق هي ولا جرم من عمل القرون المتطاولة هي زبدة تجارب صفوة بني آدم وأغض ثمرات عقولهم منذ ألوف من السنين تكونت فيها أمم كثيرة ثم بادت وقامت مدنيات تذكر ثم سقطت منها ما نقل إلينا ومنها ما لم ينقل. فكما أن اللغات والشعوب ترجع إلى أصول قليلة تفرع عنها هذا العدد الدثر من الأجيال المعروفة في قارات الكرة الأرضية الخمس فكذلك كانت العلوم قليلة وما برحت تنمو بنمو الأيام والأزمان. وحال النقل من حيث القلة والكثرة حال العلوم والأمم حذو القذة بالقذة.
ولما تم للعرب النصر وتبسطوا في مناحي الملك والسلطان وانتشرت لغتهم في معظم الأصقاع التي افتتحوها انصرفت عنايتهم إلى تنظيم بلادهم بنظام الأمم التي سلفتهم إذ أيقنوا أن ليس كالعلم كفيلاً ببقاء أمة وضامناً لها سعادتها والعلم لا يتم إلا بالنقل عن أمة أخرى. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بتعلم لغة اليهود كما تعلم بعض الصحابة لغة الحبشة لما هاجروا إليها في بدء الدعوة الإسلامية. دع عنك من دخلوا في الإسلام من الفرس ومن تعلم من العرب لغة فارس. وهذا كان مبدأ النقل والتعريب وإن لم يؤثر عن هذا الدور كتاب ولا رسالة لأن الأمة كانت أمية ولم تكن دونت بعد أهم علم عندها إلا وهو علم الدين فأحر بها أن لا تنقل عن غيرها علوماً هي بالنسبة إليها ثانوية.
وأول كتاب نقل إلى العربية كتاب أهرن بن أعين وجده عمر بن عبد العزيز في خزائ الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به فلما تم له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم وكان المنصور أول من عني من العباسيين بنقل شيءٍ من علوم الأوائل ثم مشى على أثره جعفر البرمكي وجماعة من صنائع الدولة إلا أن غرام المأمون بذلك كان من وراء الغاية.
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي أن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طراً إليها فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثبت الهمم من غفلتها وهبت الفطن من ميتتها وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان مع براعته في الفقه كلفاً في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم.
قال ولما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هرون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه منها ما حضرهم فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأن أهل العلم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده.
نعم بلغت عناية المأمون بالعلم والنقل التي لا فوقها وقد ادعى بعضهم أن عدد المترجمين والناقلين والمصححين الذين حشرهم إليه من أطراف مملكته كانوا ثلاثمائة رجل من مختلف الأديان والمذاهب أمرهم أن لا يجعلوا للتعصب عليهم سبيلاً وإن ينبذوا الجدالات الدينية ظهرياً لتكون اجتماعاتهم علمية صرفة. وقيل أنهم كانوا يجتمعون مرة في الأسبوع فتعرض المترجمات على أناس من أهل العلم والبصر بالعربية فيقرون سليمها وينبذون سقيمها. وعلى عهده كثر الاعتماد على النحت والاشتقاق والوضع لترجمة المصطلحات الطبية وغيرها من العلوم المادية وكان المأمون ينفق على المترجمين أكثر مما يصرفه غيره على ملاذه في بضع عشرات من السنين.
وبعد فإن الناس من لا يعدون من المؤلفين غير من يأتون بشيءٍ من عندهم ولو غثاً تافهاً أو ينقلون كلاماً لغيرهم وينسقونه ويضيفون إليه ما يشاءون على أن من عنوا بإجادة النقل والترجمة من لغات الأعاجم إلى لغتهم هم في الأكثر ليسوا في فضلهم وأفضالهم دون أولئك المؤلفين بل أن من ينقل علماً لا عهد لأمته به أفضل من أكثر أرباب التواليف والمصنفات.
ولذلك تقاضانا عرفان الجميل لبيض أيادي أولئك التراجمة في الإسلام أن نذكر أسماء من عثرنا عليهم منهم وندل على الجهابذة المهرة فيهم. ولابد من الإشارة إلى أن معظم التراجمة قديماً وحديثاً كانوا من غير أهل الإسلام لحكمة ربما كان فيها معنى من معاني ما قبل من أن العلم لو نزل من السماء لتلقاه قوم من أهل فارس. ولعل تقسيم الأعمال قضى على المسلمين أن ينقطع علماؤهم إلى تدوين العلوم الدينية واللسانية وتركوا غيرها من الأشغال العلمية لمن يحسنها أو يخلق وقد لقنها من صغره من أهل ذمتهم أو غير أرباب نحلتهم.
نقل اصطفان القديم الكيمياء لخالد بن يزيد الأموي في القرن الأول كما تعلمها هذا من مريانوس الراهب الرومي فكان هذا أول كتاب نقل. ونقل ماسر جويه السرياني كتاب أهرن بن أعين بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وكان البطريق في أيام المنصور وأمره بنقل أشياء من الكتب القديمة وابنه أبو زكريا يحيى ابن البطريق وكان في جملة الحسن بن سهل. وكان حنين بن اسحق أول من نقل شيئاً من علوم الروم إلى السرياني ثم إلى العربي وكان هذا الرجل يحسن السريانية والعربية والرومية والفارسية بل يعرف غريبها ومستعملها وهو الذي اختار له المتوكل لما أتمنه على الترجمة كتاباً نحارير وكانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا كاصطفين بن بسيل وموسى بن خالد الترجمان وقيضا الرهاوي وسيرجس الراسي. وما أنا بمبالغ لو قلت أن حنيناً نقل ربع ما ترجم إلى العربية من علوم الأوائل أيام التمدن الإسلامي وكان ربعه الجيد الذي لا غبار عليه وذلك لأنه كان زيادة على إحكامه لتلك اللغات الأربع عالماً بالعلوم التي ينقلها من طبها وفلسفتها. ولحنين ولدان داود واسحق صنف لهما كتباً طبية في المبادئ والتعليم ونقل لهما كتباً كثيرة من كتب جالينوس واشتهر اسحق وتميز في صناعة الطب وله تصانيف كثيرة إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية وكان اسحق يحسن اللغات التي يحسنها أبوه وقلد هارون الرشيد يوحنا بن ماسويه ترجمة الكتب القديمة مما وجد بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم ووضعه أميناً على الترجمة. وكان جرجس ابن جبرائيل أول من ابتدأ في نقل الكتب الطبية إلى العربية عندما استدعاه المنصور. وحبيش الأعسم بن أخت حنين بن اسحق وتلميذه ناقل مجود يلحق بحنين واسحق. وعيسى بن يحيى بن إبراهيم كان أيضاً تلميذاً لحنين بن اسحق وكان فاضلاً أثنى عليه حنين ورضي نقله وقلده فيه. وقسطا بن لوقا البعلبكي كان ناقلاً خبيراً باللغات فاضلاً في العلوم الحكمية وغيرها. وما نقله أيوب المعروف بالأبرش في آخر عمره يضاهي نقل حنين. وسلام الأبرش من النقلة القدماء في أيام البرامكة ويوجد بنقله السماع الطبيعي. وأبو النصر بداري بن أيوب وابن رابطة وتيوفبلي وشملي وعيسى بن نوح وقويري وداريع الراهب وهيابثيون وصليبا وثابت بن قمع وأيوب وسمعان فسرازيج بطليموس لمحمد بن برمك. وأبو عمرو يوحنا بن يوسف الكاتب. وترجم آل نوبخت إلى الفارسية وترجموا منها ولابن نوبخت الفضل بن نوبخت نقل حنين في النجوم ومنهم موسى ويوسف ابنا خالد. ومن النقلة من الفارسي إلى العربي علي بن زياد التميمي ويكنى أبا الحسن وسهل بن هارون والبلاذري أحمد بن يحيى وجبلة بن سالم كاتب هشام واسحق بن يزيد ومحمد بن بهرام بن ميطار الأصفهاني والفتح بن علي البنداري وعبد الله بن علي وأبو حاتم البلخي ومحمد بن الجهم وهشام بن القاسم وموسى بن عيسى الكردي وزادوية ابن شاهويه الأصفهاني وبهرام بن مرداشان وعمر بن الفرخان. وابن الفرخان هذا هو أحد حذاق التراجمة في الإسلام وهم كما قال أبو معشر في كتاب المذاكرات حنين بن اسحق ويعقوب بن اسحق الكندي وثابت بن قرة الحراني وعمر بن الفرخان الطبري.
ونقل من السريانية الحديثي الكاتب والحسن بن البهلول الأواني الطبرهاني وأبو البشر متى والتفليسي ومرلاحي نقل بين يدي علي بن إبراهيم الدهكي وداريشوع كان يفسر لاسحق بن سليمان بن علي الهاشمي وكذلك إبراهيم بن بكسن وعلي بن إبراهيم بن بكسن وأيوب بن قاسم الرقي ومن نقله كتاب الايساغوجي. ونقل من الهندية أو السنسكريتية إلى العربية منكة الهندي وأبو الريحان البيروني وابن دهن ومن الكلدانية أو النبطية ابن وحشية ونقل سعيد الفيومي عن العبرانية. وكان أبو علي عيسى بن زرعة اليعقوبي المنطقي أحد النقلة المجودين وله تصانيف مذكورة. ونقل من السرياني إلى العربي ونقل عيسى الرقي من أطباء سيف الدولة ابن حمدان من السريانية أيضاً ونقل منها أيضاً ماسرجيس الطبيب وعيسى بن ماسرجيس كان يلحق بأبيه وكذلك شهدي الكرخي وابن شهدي وكانا متوسطين وفاق الابن أباه في آخره عمره ومن المعروفين بالترجمة ابن جلجل وأبو عبد الله الصقلي.
ونقل الحجاج بن مطر للمأمون كتباً منها كتاب إقليدس والمجسطي ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قرة الحراني ونقل للمأمون أيضاً عدة كتب حبيب بن بهريز مطران الموصل وممن نقل عن السريانية كثيراً أبو الخير الحسن بن سوار المعروف وابن الخمار وأبو الفرج الملطي ويحيى بن عدي اليعقوبي. ونقل عن الفارسية عبد الله بن علي الفارسي وعبد بن المقفع نقل عن البهلولية أي الفارسية واليونانية كثيراً من كتب الحكمة وممن أجاد النقل من السريانية وغيرها الحسن بن ثابت بن قرة الصابئ ومن تلاميذه عيسى بن أسيد وكان يقدمه ويفضله. ونقل من اليونانية نظيف القس الرومي.
وكان عبد المسيح بن عبد الله الناعمي الحمصي المعروف بابن ناعمة متوسط النقل وهو إلى الجودة أميل وفي درجته زروبابن مانحوه (ماجوه) الناعمي الحمصي. وكان هلال بن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وكذلك كان فثيون الترجمان يلحن ولا علم له بالعربية وكان أبو نصر بن ناري بن أيوب قليل النقل لا يعتد بما نقل ويفوقه بسيل المطران وكان إلى الجودة أميل. ومن المتوسطين في نقلهم أسطاث وحيرون بن رابطة وإبراهيم بن الصلت وثابت الناقل ويوسف الناقل تلميذ عيسى بن صهربخت وأيوب الرهاوي وأبو يوسف الكاتب ويحيى بن البطريق وتدرس السنقل وأبو سعيد عثمان الدمشقي ومصور بن باناس وعبد يشوع بن بهريز وإبراهيم بن بكس. هؤلاء التراجمة الذين عرفناهم في الإسلام وأكثرهم كانوا يرزقون من نقلهم ويعملون مدفوعين بتنشيط الملوك والأمراء والحريصين على خدمة العلم إلا يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها فإنه كان ينقل لنفسه ولم يرتزق بما كتب. وليس فضل من نشطوا التراجمة دون فضل من ذكرنا من المترجمين كما أن الأفراد الذين نشطوا النقل ورزقوا أناساً عليه يذكرون بالرحمة كما يذكر عمر بن عبد العزيز وخالد الأموي والمنصور والرشيد والمأمون والمتوكل.
فقد كان جعفر البرمكي وجماعة من أهل بيته يعنون بأمر النقل والتعريب. وكان منكة الهندي في جملة اسحق بن سليمان بن علي الهاشمي وكان ينقل من اللغة الهندية إلى اللغة الفارسية وكان شير شوع بن قطرب من أهل جندي سابوريبر النقلة ويهاديهم ويتقرب إلى تحصيل الكتب منهم بما يمكنه من المال. ومنهم محمد بن موسى المنجم وهو أحد بني موسى بن شاكر الحساب المشهورين والرياضيين المذكورين وكان محمد هذا أبر الناس بحنين بن اسحق نقل له هذا كثيراً من الكتب الطبية. قال أبو سليمان المنطقي السجستاني أن بني شاكر وهم محمد وأحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن اسحق وحبيش بن الحسن وثابت بن قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار.
ومنهم علي بن يحيى المعروف بأن المنجم أحد كتاب المأمون وكان نديماً له وعنده فضل ومال إلى الطب فنقلوا له منه كتباً كثيرة ومنهم تادرس الأسقف كان أسقفاً في الكرخ وكان حريصاً على طلب الكتب متقرباً إلى قلوب نقلتها فحصل منها شيئاً كثيراً وصنف له قوم من الأطباء كتباً لها قدر وجعلوها باسمه. ومنهم محمد بن موسى بن عبد الملك نقلت له كتب طبية وكان من جملة العلماء الفضلاء يلخص الكتب ويعتبر جيد الكلام فيها من رديئه. ومنهم عيسى بن يونس الكاتب الحاسب من جملة الفضلاء بالعراق وكان كثير العناية بتحصيل الكتب القديمة والعلوم اليونانية.
ومنهم علي المعروف بالفيوم اشتهر باسم المدينة التي كان عاملها وكان النقلة يحصلون من جانبه ويمتازون من فضله. ومنهم أحمد بن محمد المعروف بابن المدبر الكاتب وكان يصل إلى النقلة من ماله وأفضاله شيءٌ كثير. ومنهم إبراهيم بن محمد ابن موسى الكاتب وكان حريصاً على نقل كتب اليونان ومشتملاً على أهل العلم والفضل وعلى النقلة خاصة. ومنهم عبد الله بن اسحق وكان أيضاً حريصاً على نقل الكتب وتحصيلها. ومنهم محمد بن عبد الملك الزيات وكان يقارب عطاؤه للنقلة والنساخ في كل شهر ألفي دينار ونقل باسمه كتب عدة وكان أيضاً ممن نقلت له الكتب اليونانية وترجمت باسم جماعة من أكابر الأطباء مثل يوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع وداود بن سرابيون وسلمويه بن بنان واليسع وإسرائيل بن زكريا بن الطيفوري وحبيش بن الحسن.
هذا ما وقفت عليه من حال المتوفرين على النقل والمرغبين فيه قديماً وقد فقدت ملكته من الأمة مدة تربو على خمسة قرون حتى إذا كان أواسط القرن الثالث عشر للهجرة عادت إلى الترجمة بعض حياتها السالفة بفضل النابغين من مدارس الإفرنج في البلاد العربية أو بالمتخرجين على أساتذة بعض المدارس الوطنية ممن تشبعوا بآداب الأمم الراقية وقلدوهم في ممارسة الأعمال العلمية فنقلوا وما برحوا ينقلون أثابهم الله بعض ما تمس إليه الحاجة من علوم الأمم الغربية على قلة نصيرهم وفقدان البواعث والدواعي مدفوعين إلى ذلك بعاملين ألا وهما إحياء لغة عذبة وخدمة العلم الصحيح ولا أمة إذا فقدت لغتها ولا مدنية إذا لم يأخذ الخلف عن السلف والمتأخر عن المتقدم والجاهل عن العالم.

من أول من ترجم كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو إلى العربية؟ محمد الحجيري.



من أول من ترجم كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو إلى العربية؟
ومن هو الراهب أسطاث؟؟

من المعروف بأن الترجمة إلى اللغة العربية قد بدأت خلال العهد الأموي. وتخبرنا المراجع التاريخيّة بأن أول ترجمة كانت لكتاب في الخيمياء، قام بها راهب روميّ اسمه ماريانوس بطلب من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية.
إلا أن حركة الترجمة ازدهرت مع العصر العباسي، بدءاً من أبي جعفر المنصور لتصل إلى مرحلتها الذهبيّة في عهد المأمون (813 ـ 833م) وبتشجيع منه، أي بعد حوالي ثمانين سنة من بداية الدولة العباسيّة (750م)
مرحلة الترجمة التي سبقت عهد المأمون تسمّى بالمرحلة الأولى للترجمة.
من خلال تتبّعي لحركة الترجمة لاحظت أن الكتب التي تمّت ترجمتها قبل عهد المأمون تتضمّن أهم كتب الرياضيات والفلك التي كانت معروفة أيامها: "رسالة السند هند" عن السنسكريتية، وكتاب "الأصول" لإقليدس، وكتاب "المجسطي" لبطليموس.
في الفلسفة، من الملاحظ أن الكثير من كتب أفلاطون وأرسطو قد تمّت ترجمتها: محاورة "ثيماوس" لأفلاطون وكتاب "الحيوان" و "السماء والعالم" لأرسطو ..
إضافةً إلى ترجمة كتاب "أثولوجيا" أو علم الربوبيّة لأفلوطين، والذي نُسِبَ خطأً لأرسطو .. مما أحدث إرباكاً في فهم العرب لأرسطو بسبب هذا الكتاب.
لماذا تُرجم كتاب أثولوجيا إلى العربية؟
على الأرجح لأن هذا الكتاب يسمح بالمصالحة بين الفلسفة (الميتافيزيقا) وبين الإسلام، وبالتحديد في ما يتعلّق بخلق العالم.
السؤال: لماذا لم يُتَرجَم كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو، طالما أن العرب كانوا مهتمين بأرسطو بشكلٍ كبير؟
على الأرجح لأنه لا يمكن التوفيق بين ميتافيزيقا أرسطو والإسلام (بل لا يمكن التوفيق بين أرسطو وكل الديانات التي تقول بخلق الكون.. إلا إذا تأوّلنا كلمة "الخلق" على أنها انتقال المادة (الموجودة أصلاً) من شكلٍ إلى آخر، وهذا التأويل ممكن، لكن لا أظن أنه كان مطروحاً أو مقبولاً لدى غالبية الفقهاء، الذين كان على الفلاسفة مواجهتهم).
إذاً، كان الأمر محفوفاً بالمخاطر.
الحل كان بترجمة كتاب في الفلسفة يقول بنظريّة "الفيض" التي يمكن التوفيق بينها وبين فكرة الخلق من العدم التي تقول بها الأديان السائدة.
ثم نُسِبَ الكتابُ لأرسطو .. ربما لإعطائه (الكتاب) قيمةً إضافيّة.. أليس هو "المعلّم الأول" بالنسبة إلى العرب؟
يتوقّع المتابع للموضوع ألا يُترجَم كتابُ "ما بعد الطبيعة" لأرسطو إلى العربية قبل مجيء المأمون لأن لتلك الترجمة محاذير لنقلها نظريات تتعارض مع الاعتقاد بالخلق..
أما مع المأمون، فننتظر أن يكون أمر ترجمة الكتاب قد أصبح متاحاً بسبب الدفع الذي أعطاه لترجمة كتب الفلسفة..
ويبدو أن الأمر كذلك. فابن سينا يقول بأنه قرأ كتاب ما بعد الطبيعة أربعين مرّة ولم يتمكّن من فهمه.. ثم قرأ شروحات الفارابي عليه (كتاب ما بعد الطبيعة).. ففهمه.
هذا يعني أن الكتاب كان معروفاً أيام الفارابي (874 ـ 950م)..
وتذكر المراجع على أن متى بن يونس (أستاذ الفارابي، توفّي عام 939م) من الذين ترجموا أو أعادوا ترجمة وتصحيح ترجمة هذا الكتاب.
لكن الفارابي وأستاذَه جاءا بعد أكثر من قرن من المأمون.
السؤال هو: متى تمّت أول ترجمة لكتاب "ما بعد الطبيعة"؟ ومن هو مترجمه؟
أهمية السؤال تكمن في أن السماح بترجمة كتاب ما بعد الطبيعة يعكس مناخاً من الحريات في مجال معرفة الأفكار التي تتعارض مع المعتقدات الدينيّة.
يبدو أن الجواب ليس في متناولنا بسهولة.
كل المترجمين المعروفين، لم تذكر المراجع أنهم ترجموا هذا الكتاب.
حاولتُ البحثَ عن ذلك على غوغل، لكن البحث لم يؤدّ إلا إلى نتيجة وحيدة تفيد بما يلي:
"أسطاث رائد المترجمين لا بل أهمهم، لقب استحقه وبكل جدارة، فإليه يعود الفضل ولأول مرة في فتح الطريق لترجمة "ما بعد الطبيعة" لأرسطاطاليس إلى العربية، فآثار ترجمته شكلت كنوزاً ثمينة بالنسبة للكثيرين من الفلاسفة والعلماء، حتى أن ثمار ترجمته اجتازت حدود عصره، وقد شهدت الإنتاجات الفلسفيّة من بعده رواجاً لم تشهده من قبل بفضل هذه الترجمة.
ومع هذا الإسهام المنقطع النظير في تراث الفلسفة العربية لم يأتِ أحدٌ على ذكره، وحتى الكتب التاريخية تجاهلته بدورها ولم تشر إليه إلا بشكل غامض ووجيز وغير كافٍ.
وفي هذه الدراسة التي تصدر لأول مرة في العربية ترجمة تامة ومحقّقة لكامل مقالات ما بعد الطبيعة لأرسطوطاليس وفيها محاولة لتقييم عمل "أسطاث" مع التركيز وبشكلٍ أساسيّ على ترجمته لـ "ما بعد الطبيعة"."
.. وهي فقرة تعرّف بكتاب للدكتور محمد جم كوري اسمه: (الراهب اسطاث/ نقل كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو إلى العربية)، صادر عن دار البراق في مائة وثلاث عشرة صفحة، دون ذكر التاريخ.
ملاحظة وسؤال:
الملاحظة: إن مترجم كتاب ما بعدالطبيعة هو راهب ...
أما السؤال فهو: من هو هذا الراهب؟ ومتى تمّت هذه الترجمة؟ وهل هي الترجمة الأولى؟
سؤال يستحق البحث والتحرّي. هذا ما أعتقده على الأقل..

(محمد الحجيري 2014/12/10)

ثابت بن قرّة ودوره في التمدن الإسلامي.



ثابت بن قرة ودوره في التمدن الإسلامي

  دعوة الحق
65 العدد
    [ثابت بن قرّة من كبار العلماء في الحضارة العربية، توفّيَ عام 901 للميلاد، لم ينل من الشهرة ما ناله غيرُه من أمثال ابن سينا أو الخوارزمي وغيرهما، رغم أن المراجع تحدثنا عن تفوق ثابت في شتى مجالات المعرفة والعلوم: فهو أول من قال بالمدارات الإهليلجية للكواكب، وبأن سرعات الكواكب متغيرة، فهي بطيئة حين تكون في الأوج وسريعة حين تكون في الحضيض (أي حين تكون في أقرب نقطة من محور دورانها)، وهو أمر لم يعرفه الغرب إلا مع كبلر عالم الفلك الألماني بعد ثابت بسبعة قرون. واللافت هنا أنه حتى كوبرنيكوس الذي أحدث ثورته العلمية في القرن الخامس عشر لم يتوصل إلى ذلك، بل كان يرى بأن مدارات الكواكب دائرية، وبأن سرعاتها ثابتة (وهو أمر مرتبط بمسافاتها الثابتة عن المركز).
    أما في الطب فكان يُروى عنه ما يشبه المعجزات وبأنه كان يحيي الموتى..
    وفي الترجمة، يكفي القول بأن حنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين كانا يستعينا به في أمور الترجمة المستعصية، وحنين يعتبر أهم المترجمين في تاريخ الحضارة العربية، وكان ثابت يقوم بمراجعة الكثير من الترجمات التي قام بها حنين أو إسحق..
    وله أيضاً في الرياضيات ما له في الفلك.. فهو من أهم المترجمين ومن أهم العلماء ومن أهم الأطباء في الحضارة العربية. وجدت أن هذا البحث يلقي بعض الضوء على إنجازات ثابت، موثقاً بالمراجع.. وربما كان بحاجة إلى بعض المراجعة والتدقيق]

    اسمه كما جاء في فهرست ابن النديم(1) أبو الحسن الصابي ثابت بن قرة بن مروان(2) بن ثابت بن كرايا(3) ابن إبراهيم بن كرايا بن مارينوس بن سالامويوس(4) الحراني الصابي. كان مولده بحران سنة إحدى وعشرين ومائتين للهجرة، وتوفي يوم الخميس السادس والعشرين من صفر سنة ثمان وثمانين ومائتين(5).
    كان ثابت ضيرفيا بحران، كما يروي ابن النديم والقفطي وابن خلكان وغيرهم، غير أن بعض اجتهاداته الدينية جرت عليه استنكار أهل مذهبه من الصابئة الحرانيين، ومنعه من الدخول إلى الهيكل. فتاب مدة ثم عاد إلى مقالته، فمنعوه من الدخول إلى المجمع. واضطر بذلك إلى مغادرة حران، قاصدا كفر توثا : وهي قرية كبيرة بالجزيرة الفرائية، بالقرب من دارا. وأقام ثابت في كفرت توثا مدة إلى أن لقي فيها محمد بن موسى بن شاكر قافلا من بلاد الروم، فأعجب محمد بفضله، واستصحبه إلى بغداد، وأنزله في داره، ووصله بالخليفة المعتضد، وأدخله في جملة منجميه، فاتخذ بغداد دار قراره(6) وقد بلغ ثابت مع المعتضد أجل المراتب وأعلى المنازل حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلا، ويضاحكه ويقبل عليه دون وزرائه وخاصته، فرفع بذلك من أنسبائه، فثبتت أحوالهم، وعلت مراتبهم(7)، وتركوا في الأعم الأغلب على دينهم.
    بين الحرانيين والصابئة
    والصابئون الذين يهمنا أمرهم هنا والذين ينتمي إليهم ثابت، هم الحرانيون لا الصابئون المندائيون، والمندائيون فرقة موحدة عرفانية نشأت في فلسطين قبل الدين المسيحي. وهم من أتباع يوحنا المعمدان كما يقول المستشرق الألماني "خولسن" في كتابه عن الصائبة.
    وقد أطلق عليهم العرب اسم المغتسلة، لأنهم يسكنون على ضفاف الأنهر لتسهيل التعميد في الماء الجاري كما هي سنتهم. ولا تزال بقاياهم ماثلة حتى اليوم في مقاطعة خوزستان من إيران، وفي البصرة وكوت وسوق الشيوخ من العراق.
    وعندي أن الصائبين الذين ذكرهم القرآن الكريم هم هؤلاء لا الحرانيون المشركون، وذلك في سورة المائدة الآية 72، وفي سورة الحج الآية 26 حيث جاء : "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
    وكان المستشرق خولسن أول من فرق بين المندائيين والحرانيين، بعد أن جرى التقليد على الخلط بينهما خطأ مستندات في مقالته إلى فهرست ابن النديم.
    أما الحرانيون فإنهم من السريان والكلدان القدماء والأقوام القديمة التي سكنت ما بين النهرين، وكانوا يعبدون الكواكب ويخصصون يوما معينا لكل كوكب ويتبعون مراسم خاصة لتقديم الضحايا إلى آلهتهم..
    وكان الحرانيون جماعة مثقفة ورثت تراث اليونان والرومان وأقوام ما بينت النهرين، وتأثرت خاصة بالأفلاطونية الحديثة، مما جعلهم صلة الوصل بين تمدن اليونان والسريان وشعوب الخلافة الإسلامية، فنقلوا إلى العربية علوم الأوائل، وأسهموا بقسط لا يستهان به في رفع بناء الحضارة الإسلامية (من أراد التوسع في دين الحرانين وعلاقاتهم بالصابئة المندائيين، فليرجع إلى كتاب خولسن عن الصابئين، وأبحاث الدكتور "ماتسوخ" بالفارسية في مجلة فرهنك "إيرانزميس" المجلد الثامن 1339 هجرية، وبحثنا حول هذا الموضوع في مجلة كلية الآداب، بجامعة طهران شتاء 1962).
    ثابت ومؤلفاته واكتشافاته 
    كان ثابت كثير الذكاء، واسع المعرفة، يتقن السريانية واليونانية والعربية، متوفرا على علوم الأوائل، لم يترك علما إلا درسه وقرأ عنه وحقق فيه، فكانت له ترجمات وتآليف، وأحيانا اكتشافات في شتى فنون المعرفة من دين وفلسفة وحساب وموسيقى وهندسة وفلك وطب، مما يذهل الفكر ويدعو إلى العجب. والناظر إلى مصنفاته وتآليفه التي أثبتها القفطي، نقلا عن أوراق بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابي(8)، يقف مبهوتا أمام كثرتها وتفرعها في شتى العلوم. فهي بمثابة دائرة معارف علمية.
    في الترجمة والتلخيص والشروح والتنقيح
    يقول القفطي(9) في ثابت :
    "وأما ما نقله من لغة إلى لغة فكثير" والواقع أن ثابت بن قرة كان بمثابة رئيس مدرسة للترجمة والإشراف على مترجمات سواه فقد نقل إلى العربية كتبا لابلونيوس، منها "رسالة في المخروطات" و"رسالة في الدوائر المتماسة". و"رسالة في قطع الخطوط" كما ترجم كتبا أخرى لاقليدوس وأرخميدس وأوطوقيوس وتيوذوسيوس وغيرهم. والجدير بالذكر أن بعض هذه الكتب وصلت إلينا بترجمتها العربية فقط، لأن الأصل اليوناني طمسته يد الزمن أو غاب عن ذاكرة الأيام. ومن هذا القبيل مقالة أقليدوس الضائعة عن كيفية (إنشاء المضلع السباعي) التي وصلت إلينا عن طريق ترجمة ثابت لها وهي في رأي مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتن قد تكون أقدم مقالة منظمة في هذا الموضوع(10).
    أما من جهة الإشراف والتصحيح فقد ذكر أن ثابتا نظر في كتاب "الأصول" لأقليدوس الذي كان قد ترجمه حنين ابن اسحق، فتناوله بالتصحيح والتنقيح والتوضيح(11)، كما أنه صحح كتاب أرسطو في علم النبات وراجعه، وكان إسحاق ابن حنين نقله إلى العربية محتويا على مقالتين(12). وقد كان لهذا الكتاب تأثير مهم في العلوم العربية واللاتينية في القرون الوسطى، ومنه نسخة مخطوطة في مكتبه "بني جامع" بإسطمبول. ومما يذكر أن بعض الباحثين لسنين خلت عقدوا حوله الحديث والمباحث. ثم إن ثابتا أصلح كذلك ترجمة إسحاق بن حنين لكتاب المجطي إلى العربية إصلاحا قضى فيه حق من سأله ذلك واختصره اختصارا نافعا(13).
    في الدين والفلسفة
    لثابت تآليف دينية متعددة بالسريانية والعربية تتعلق بمذهب بني قومه من الصابئين الحرانيين من سنن ورسوم وفروض وصلوات واعتقادات، وما يصلح من الحيوان للضحايا وما لا يصلح، وكيفية تكفين الموتى ودفنهم، إلى ما هنالك من طقوس وأصول(14).
    ويبدو أن ثابتا كان شديد الشغف بالأمور الفلسفية، لأن الوزير جمال الدين القفطي يكتب مقررا : "وكان الغالب عليه الفلسفة"(15) وقد ذكر له القفطي كتبا ألفها في أمور فلسفية مثل مقالة "النظر في أمر النفس" وكتابه "في الطريق إلى اكتساب الفضيلة"(16) غير أن القفطي وغيره لم يفصلوا
    نظره الفلسفي، ولا وصلنا عنه شيء في الفلسفة، ويجب ألا ننسى هنا ما ذكرناه آنفا من أن ثابتا اضطر إلى ترك بلده حران بسبب اجتهاداته الفلسفية في مذهب بني قومه.
    في الحساب والموسيقى
    أضاف المصنفون القدامى لقب "الحاسب" على اسم ثابت بن قرة(17) ويفهم من ذلك أنه كان قويا في علم الحساب. ويذكر المستشرق الإيطالي الدوميلي في كتابه بالفرنسية عن العلم عند العرب، أن ثابتا بحث في الأشكال الشلجمية وأجاد في تحرياته18) ويذكر له ابن النديم كتاب رسالته في الأعداد(19).
    أما في الموسيقى فإن القفطي ينسب إليه مؤلفات متعددة منها كتاب في أبواب علم الموسيقى سأله فيه أبو الحسن علي ابن يحيى المنجم، ومقاله في الموسيقى، وكتابه في الموسيقى ويشتمل على نحو خمسمائة ورقة وكثير غيرها(20) ولا غرو فإن للموسيقى اتصالا وثيقا بالحساب، مما لا يخفى على أهل النظر.
    في الهندسة 
    يجب ذكر اسم ثابت في مقدمة العلماء الذين ساهموا في تقدم الهندسة بقسط وافر، فيسروا ازدهار العلوم، ودافعوا الحضارة الإسلامية في معارج التقدم والرقي.
    ويذكر له ابن النديم والقفطي، مؤلفات متعددة في هذا الموضوع منها :
    - كتاب رسالته في استخراج المسائل الهندسية(21).
    - كتابه في قطع المخروط المكافئ.
    - مقالته في الهندسة ألفها لإسماعيل بن بلبل.
    - كتابه في أن الخطين المستقيمين إذ خرجا على أقل من زاويتين قائمتين إلتقيا في جهة خروجهما.
    - كتابه في المربع وقطره.
    - كتابه في مساحة الأشكال المسطحة وسائر البسط والأشكال المجسمة.
    - مقالة في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية(22).
    - كتابه في آلات الساعات التي تسمى رخامات(23)، وقد نشر المستشرق كارل كربوس سنة 1936 هذا الكتاب مع ترجمة له(24).
    - كتابه في اعتدال الأجسام والقوى المحركة ونظرية الميزان.
    - كتابه في إقامة خطوط الظل في الساعات الشمسية الذي ترجمه فيدمن وفرنك إلى الألمانية ونشراه سنة 1922(25).
    - مدخل إلى كتاب أقليدوس (كتاب الأصول) وقد نعته ابن جلجل بأنه "عجيب"(26).
    في الفلك 
    لصابئة حران في علم النجوم تآليف واكتشافات مهمة وحسبهم فخرا أن البتاني محمد بن جابر هو منهم، وفي ذلك يقول بروكلمن(27) كان لأهل حران ميل شديد للرياضيات والنجوم،م لأن لذلك ارتباطا وثيقات بمذهبهم.
    ويقرر جرجي زيدان أن أساتذة العالم في علم النجوم هم الكلدان، وهم الذين وضعوا أسسه ورفعوا أعمدته، ساعدهم على ذلك صفاء سمائهم وجفاف هوائهم واستواء آفاقهم فرصدوا الكواكب وعينوا أماكنها ورسموا الأبراج ومنازل القمر والشمس، وحسبوا الخسوف والكسوف بآلات فلكية
     منذ بضعة وأربعين قرنا، وعنهم أخذ اليونان والهنود والمصريون وغيرهم من أهل التمدن القديم..(28) ولكن يقال بالإجمال أن العرب مديونون بعلم النجوم للكلدان وهم يسمونهم الصابئة- والصابئة إن لم يكونوا الكلدان أنفسهم فهم خلفاؤهم أو تلامذتهم (مختصر الدول 266) وكان الصابئة كثيرين في بلاد العرب ولهم مثل منزلة النصارى أو اليهود فأخذ العرب عنهم علم النجوم باصطلاحاته، وأسمائه وإن كان معظم أسماء السيارات لا يرد إلى أصله الكلداني فربما كان له أسماء عارضة ضاعت أخبارها. على أن بعضها لا يزال أصله الكلداني ظاهرا فيه، كالمريخ، مثلا فإنها تقابل "مرداخ" الكلدانية لفظا ومعنى.. أما الأبراج ومنازل القمر فلا تزال كما كانت عند الكلدان لفظا ومعنى. وإليك أسماء الأبراج عند كليهما : الثور (ثورا)، الجوزاء أو التوأمين (تامي)، السرطان "سرطان"، السنبلة (شبلتا)، العقرب (عقربا)، والجدي (كديا)..(29)
    فليس بدعا إذا أن يكون لثابت بن قرة كغيره من صابئة حران آثار باقية في علم النجوم. ومن كتبه:
    - كتابه فيما يظهر في القمر من آثار الكسوف وعلاماته.
    - كتاب في علة كسوف الشمس والقمر، عمل أكثره ومات، وهو من كتبه الموصوفة.
    - كتابه في إبطاء الحركة في فلك البروج وسرعتها وتوسطها، بحسب الموضوع الذي يكون فيه من الفلك الخارج المركز(30).
    - كتابه فيما أغفله ثاوءن في حساب كسوف الشمس والقمر.
    - عدة كتب له في الأرصاد، عربي وسرياني(31).
    - كتاب رسالته في سنة الشمس.
    - كتاب حساب الأهلة(32).
    غير أنت دور ثابت المهم في علم الفلك يقوم على ترويجه نظرية نوسان الاعتدالين التي تخالف النظرية السابقة في مبادرة الاعتدالين..
    ونظرية النوسان هذه تقول بأن ثمة تذبذبات "دورانيا" يحصل في الحركة التقهقرية لنقطة الاعتدال (نقطة الاعتدال الربيعي والخريفي هما نقطتا تقاطع فلك الأبراج وخط الاستواء السماوي، تعبر الشمس أولى النقطتين في بدء الربيع والثانية في بدء الخريف فيعتدل إذ ذاك الليل والنهار في جميع الأقطار).
    أما نظرية مبادرة الاعتدالين فهي تقدم أوان الاعتدالين عشرين دقيقة في السنة بسبب تحول نقطتي الاعتدال خمسين ثانية على فلك البروج. ومفاد ذلك أن "هيبارخوس" المتولد في نيقيا من الأناضول في القرن الثاني قبل الميلاد) كما يروي بطليموس (المتوفى سنة 167 قبل الميلاد قرب الإسكندرية)، عندما قابل أرصاده مع الأرصاد التي أجريت قبله بقرن في الإسكندرية على يد أريستولوس وتيموخاريس (القرن الثالث قبل الميلاد) تبين له أن النجوم انحازت قليلا لجهة المشرق وبهذا اكتشف تقدم الاعتدالين(33).
    وأما واضع نظرية نوسان الاعتدالين فهو ثيون الإسكندري "أواخر القرن الرابع قبل الميلاد" وعلى الرغم من أنها نظرية خاطئة فقد تقبلها أناس كثيرون ومع أنها تناقض نظرية تقدم الاعتدالين التي قال بها هيبارخوس وفسرها بطليموس، فإن بعض الفلكيين حاولوا التوفيق بين النظريتين. وقد تقبل نظرية نوسان الاعتدالين المنجم الهندي آريابهاطا "أواخر القرن الخامس" الذي يمكن اعتباره حلقة الاتصال بين ثيون وبروكلوس من جهة وبين ثابت بن قرة (أواخر القرن التاسع) أول كاتب في العهد الإسلامي تعرض لهذا البحث، من جهة أخرى(34).
    في الطب والصيدلة 
    كان ثابت طبيا ماهرا برع في الطب وطارت له في هذا العلم شهرة واسعة الأفياء، وله فيه نوادر رواها المصنفون كالقفطي وغيره.
    وقد ترك ثابت مؤلفات متعددة في هذا العلم، تنقل بعض أسمائها عن ابن النديم والقفطي، لتبيان المواضيع المختلفة التي خاضها عالمنا الفذ :
    - كتاب رسالته في الحصى المتولد في المثانة، وقد سماه القفطي كتابه في أوجاع الكلي والمثانة وأوجاع الحصى(35).
    - كتابه في وجع المفاصل والنقرس، مقالة(36).
    - كتاب رسالته في البياض الذي يظهر في البدن(37).
    - كتاب جوامعه لكتاب جالينوس في الأدوية المفردة(38).
    - كتاب رسالته في الجدري والحصبة(39).
    - كتابه في السكون بين حركتي الشريان(40) مقالتان، صنف هذا الكتاب سريانيا لأنه أومأ فيه إلى الرد على الكندي، ونقله إلى العربي تلميذ له يعرف بعيسى بن أسير النصراني.
    - كتابه في صفة كون الجنين.
    - كتابه في المولدين لسبعة أشهر.
    - كتاب في تشريح بعض الطيور وأظنه مالك الحزين.
    - كتابه في الصفار وأصنافه وعلاجه.
    - كتابه في أجناس ما تنقسم إليه الأدوية.
    - كتابه في أجناس ما توزن به الأدوية.(41)
    - كتاب الذخيرة في علم الطب وأكثره في المعالجة.
    هذا الكتاب الذي ألفه لابنه سنان طبعه في القاهرة ج. صبحي سنة 1928، وكتب تحليلا له في مجلة إيزيس ماكس ما يرهوف في مجموعة سنة 1930 ومنه نسخة خطية في مكتبة مالك بطهران تحت الرقم 4543 يعود تاريخها إلى القرن العاشر. وهذا الكتاب من نوع الكناشات أو الكناش، لفظة سريانية، عربيها "الحاوي".
    أما مهارة ثابت في فن التطبيب والمعالجة فشاهدها هذه الرواية التي نقلها القفطي في كتابه، قال القفطي(42).
    وحكى أبو الحسن بن سنان قال :
    يحكي أحد أجدادي عن جدنا ثابت بن قرة أنه اجتاز يوما ماضيا إلى دار الخليفة، فسمع صياحا وعويلا، فقال مات القصاب الذي كان في هذا الدكان ؟ فقالوا له أي والله يا سيدنا، البارحة فجأة. فقال ما مات خذوا بنا إليه، فعدل الناس معه، وحملوه إلى دار القصاب. فتقدم إلى النساء بالإمساك عن اللطم والصياح، وأمرهن بأن يعملن مزورة(43) وأومأ إلى بعض غلمانه بأن يضرب القصاب على كعبه بالعصا، وجعل يده في مجسه، ، وما زال ذلك يضرب كعبه إلى أن قال حسبك، واستدعى قدحا وأخرج من شستكة في كمه دواء، فدافه في القدح بقليل من الماء وفتح فم القصاب وسقاه إياه، فأساغه ووقعت الصيحة والزعقة في الدار والشارع بأن الطبيب قد أحيا الميت. فتقدم ثابت يغلق الباب، وفتح القصاب عينيه، وأطعمه مزورة وأجلسه وقعد عنده ساعة. فإذا بأصحاب الخليفة قد جاءوا يدعونه، فخرج معهم والدنيا قد انقلبت، والعامة حوله يتعادون إلى أن دخل دار الخلافة. ولما مثل بين يدي الخليفة قال له : يا ثابت ! ما هذه المسيحية التي بلغتنا عنك ؟ قال : يا مولاي كنت أجتاز هذا القصاب وألحظه يشرح الكبد ويطرح عليها الملح ويأكلها، فكنت أستقذر فعله هذا أولا، ثم قدرت أن سكتة ستلحقه، فصرت أراعيه، ولما علمت عاقبته انصرفت وركبت للسكتة دواء استصحبته معي في كل يوم فلما اجتزت اليوم وسمعت الصياح قلت مات القصاب، فقالوا نعم. مات فجأة البارحة، فعلمت أن السكتة قد لحقته. فدخلت إليه ولم أجد نبضا، فضربت كعبه إلى أن عادت حركة نبضه، وسقيته الدواء ففتح عينيه، وأطعمته مزورة والليلة يأكل رغيفا مدراج وفي غد يخرج من بيته.
    وقد شهد لثابت ببراعته في صناعة الطب جميع المصنفين الذين ذكروا اسمه ومما جاء في تاريخ الإسلام للذهبي(44) قوله : "لم يكن في زمان ثابت بن قرة الحكيم من يماثله في الطب ولا في جميع أنواع الفلسفة".
    كما أن الشاعر المعروف السري الرفاء مدح ثابت بمهارته في التطبيب بعد أن شفاه من مض كاد يؤدي به، قال :

    هل للعليل سوى بان قرة شافـي         بعد الإله، وهل له من كافــــــي ؟
    أحيا لنا رسم الفلاسفة الــــــذي         أودى وأوضح رسم طب عافــــي
    فكأنه عيسى بن مريم ناطقــــــا          يهب الحياة بأيسر الأوصــــاف !
    مثلت له قارورتي فرأى بهـــــا          ما اكتن بين جوانحي وشغافــــي
    يبدو له الداء الخفي كما بـــــدا           للعين رضراض الغدير الصافـي 
    وفي وفيات الأعيان(45) يزعم ابن خلكان أن السري الرفاء قال هذه الأبيات في إبراهيم بن ثابت لا في والده، كما يشير إلى أن بعضهم رغم أنه قالها في ثابت بن سنان ثابت. غير أننا نستبعد ذلك لأن هذين الأخيرين لم يعرف عنهما أنهما اشتغلا بالفلسفة، والبيت الثاني من مقطوعة السري الرفاء مدح بالبراعة في الطب والبراعة في الفلسفة، وقد مر بنا أن ثابتا عرف باشتغاله بالفلسفة، وكانت غالبة عليه، كما يقول القفطي وابن خلكان نفسه.
    هذا هو ثابت بن قرة مترجما، وشارحا، ومؤلفا في الدين والفلسفة والموسيقى، وحاسبا ومهندسا وعالما فلكيا، وطبيبا صيدليا. والحقيقة أن سعة علمه، وعمق معرفته بشتى العلوم والفنون تحير الناظر في ذلك، فضلا عن أن المصنفين القدامى جميعا شهدوا له بالبارعة والتفوق في تلك الفنون التي خاضها.
    وقد كان لثابت أثر مشكور في كل ذلك : إن في التأليف والممارسة، أو في التلامذة الذين أخذوا عنه وأشرف على تنشئتهم، وأشهرهم عيسى بن أسيد النصراني العراقي الذي كان بارعا في النقل من السريانية إلى العربية(46).
    وحسبنا دليلا على وفور علمه وتجليل أولي الأمر له ما ذكره البيهقي في "تتمة صوان الحكمة" ننهي به ما ليس له نهاية من حديثنا على ذلك النابغة الفذ الذي تفرعت منه دوحة عظيمة كثيرة الفروع، يأتي في طليعة فروعها ابناه : إبراهيم الطبيب، وسنان الرياضي والطبيب، وأبو الحسن بن سنان ابن ثابت الطبيب وإبراهيم بن سنان المهندس، وأبو الفرج ابن أبي الحسن بن سنان الطبيب، وأبو الحسن بن أبي الفرج ابن أبي الحسن بن سنان الطبيب وغيرهم.
    قال البيهقي(47) : وكان المعتضد يكرمه ومن إكرامه له أن المعتضد طاف معه في بستان له ويده على يد ثابت فانتزع بغتة يده من يد ثابت، ففزع من ذلك ثابت فقال له المعتضد : يا ثابت ! أخطأت حين وضعت يدي على يدك وسهوت، فإن العلم يعلو ولا يعلى. فهذه غاية إكرامه في بابه..
    (1)  الفهرست طبعة مصر، ص 394.
    (2)  وفيات الأعيان، مصر 1948 : ابن زهرون ويقال هرون، ص 278.
    (3)  أخبار العلماء بأخبار الحكماء مصر 1326 هجرية – بن كريا، ص 80.
    (4) أخبار : بن سالامانس. وفيات الأعيان ابن مالاجريوس.
    (5) يتفق في ذلك ابن النديم 394 والقفطي 81 و85، وابن خلكان ج 1 ص 278.
    (6)  راجع أخبار ص 81. وفيات 278، وفهرست 394.
    (7)  أخبار ص 81.
    (8)  أخبار 81.
    (9)  أخبار 84.
    (10)  تاريخ العلم الجزء الأول من الترجمة الفارسية ص 119.
    (11)  وفيات الأعيان، ج 1 ص 278.
    (12)  العلم عند العرب، بالفرنسية تأليف الدوميلي ص 86.
    (13)  أخبار العلماء، آخر الصفحة 38.
    (14)  أخبار العلماء، ص 84.
    (15)  أخبار العلماء ص 81 وكذلك ابن جلجل في طبقات الأطباء، القاهرة 1955- ص 75.
    (16)  أخبار ص 83.
    (17)  وفيات الأعيان ج 1 ص 278 (وتاريخ الإسلام للذهبي مجلده 15 232).
    18)  العلم عند العرب، ص 86.
    (19)  الفهرست 394.
    (20)  أخبار ص 82 و83 و84.
    (21)  الفهرست 394 وأخبار 81.
    (22)  أخبار العلماء ص 82 83 و81 و82.
    (23)  أخبار 83.
    (24)  أخبار 82.
    (25)  العلم عند العرب ص 86.
    (26)  طبقات الأطباء والعلماء ص 5.
    (27)  تاريخ الأدب العربي ج1 ص 201.
    (28)  تاريخ التمدن الإسلامي 3 ص 11.
    (29)  الفهرست 394.
    (30)  أخبار ص 82. 
    (31)  أخبار ص 83.
    (32)  الفهرست 394- وأخبار 82.
    (33)  جورج سارتن : تاريخ العلم، الترجمة الفارسية ج 1 ص 476 و477.
    (34)  تاريخ العلم ج 1 ص 478.
    (35)  الفهرست 394- وأخبار 83.
    (36)  الفهرست 394.
    (37)  أخبار 81.
    (38)  أخبار 83.
    (39)  أخبار 84.
    (40)  أخبار 84.
    (41)  
    (42)  
    (43)  مزورة، بوزن المفعول، مرقة يطعمها المريض، مولدة وقال الفقهاء في الإيمان هي ما يطبخ خاليا من الأدهان (خفاجي : شفاء الغليل، مصرت 1952 ص 241.
    (44)  
    (45)  تتمة الصوان ص 6 و7.
    (46)  أخبار 164 – والفهرست 394.
    (47)