السبت، 23 ديسمبر 2023

الموارنة، الطبيعة الواحدة والطبيعتان؛ كمال الصليبي

 


الموارنة

الطبيعة الواحدة والطبيعتان

كمال الصليبي

 file:///C:/Users/acc/AppData/Local/Temp/7ea52449-5175-4a10-b302-5bdf16634597_history09491.zip.597/history09491%20%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%86%D8%A9%20%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9%20%D8%AA%D8%A3%D9%84%D9%8A%D9%81.pdf


في غضون القرن الرابع للميلاد، اتخذت الأمبراطورية الرومانية لنفسها عاصمةً جديدةً في القسطنطينية، المدعوّةِ سابقاً بيزنطيا، ثم نبذت الوثنيّة نهائيّاً واعتنقت المسيحية. فأصبح الأباطرة الرومان حماة الدين المسيحي. وكان للكنيسة المسيحية في الأساس أربعة مركز بطريركيّة أنشأها الرسل، وهي رومية والإسكندريّة وإنطاكية والقدس، فأضيف إليها عام 381 بطريركية القسطنطينية. كان ذلك في عهد الأمبراطور ثيودوسيوس الأول، المعروف بالكبير. وما إن توفّي ثيودوسيوس هذا عام 395 حتى انقسمت الأمبراطوريّة الرومانية بين ولدية هونوريوس وأركاديوس، فتبوّأ الأوّل [هونوريوس] عرش الأمبراطورية في رومية، وتبوّأ الثاني [أركاديوس] في القسطنطينية. وعام 476 سقطت رومية في الغرب، فاجتاحت قبائلُ الفرنجة مقاطعة غاليا (وهي اليوم فرنسا)، وفرق أخرى من الغوط مقاطعة إيباريا (وهي اليوم أسبانيا والبرتغال)، وقبائل الفندال مقاطعة إفريقيا. واستمرّت الدولة الرومانية في القسطنطينية، حيث تبوّأ العرشَ عام 527 الأمبراطور يوستنيانوس الأول [الذي سيقفل مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529]. فجَدَّ هذا الأمبراطور النشيط في إرجاع الأمبراطورية إلى سابق مجدها وتمكّن، مع السنين، من استعادة جميع المقاطعات التي كانت لرومية في الجزء الغربي من حوض البحر المتوسط ما عدا غاليا. وهكذا اجتمعت المراكز البطريركية الخمسة تحت حكم يوستنيانوس كما كانت في أيام ثيودوسيوس الكبير، فتعزّز شأن المسيحية برعايته، وبدت الأمبراطورية الرومانية كأنها تشمل العالم المسيحي بأسره. 

غير أنّ إنجازات يوستنيانوس لم يُكتَب لها الدوام. فما إن توفّي هذا الأمبراطور الكبير عام 565 حتى عادت الأوضاع في الدولة الرومانية إلى التدهور. فاجتاحت إيطاليا القبائلُ اللومبارديّة، وسقطت إيباريا من جديد في أيدي الغوط. وفي الشرق تجدّدت الحرب بين الدولة الرومانية والدولة الساسانية في بلاد فارس، فانهارت قوى الرومان أمام الفرس. (12)

وما إن حلّ القرن السابع حتى اجتاح هؤلاء [الفرس] سوريّا ومصر، وأخذوا الصليب المقدّس من القدس ونقلوه إلى عاصمتهم المدائن، على نهر دجلة. وعام 610 وصلت جيوشهم إلى أقصى غرب الأناضول، مهدّدة القسطنطينية. وفي ذلك العام نفسه دُعِيَ القائد الكبير هرقل من إفريقيا إلى القسطنطينية ليتبوّأ العرش، فسارع إلى اتخاذا التدابير اللازمة لردّ الفرس عن القسطنينية. وعمد هرقل بعد ذلك إلى استرجاع بلاد الأناضول وسوريا منهم، فاستمرت الحروب بينهم حتى عام 628.

وكان من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى انهيار سوريا ومصر أمام الفرس بعد وفاة الأمبراطور يوستنيانوس ذلك الانقسام الذي طرأ في عهده على الكنيسة المسيحية في هذين القطرين. ففي عام 537، السنة العاشرة من مُلكِه، انقسمت كنيسة الإسكندرية بين القائلين بالطبيعة الواحدة في المسيح (أي إن المسيح هو الله بشكل إنسان) والقائلين بالطبيعتين (أيّ إن المسيح هو الله وإنسان في آن واحد)، فانتخبت كل فئة بطريركاً(13) خاصاً بها. وعام 557 أو 558 تم انقسام مماثلٌ في كنيسة إنطاكية. وكانت الدولة الرومانية قد اعتنقت مذهب الطبيعتين بعدما أقرّ هذا المذهب في المجمع الرابع الخلقيدوني، وهو المجمع ذاته الذي حكم ضد مذهب الطبيعة الواحدة. فدُعي القائلون بالطبيعتين في سوريا ومصر "ملكانيّين" أو "ملكيّين" من كلمة "ملكا" في السريانية، بمعنى ملك، نسبةً إلى أمبراطور القسطنطينية، حامي المذهب الخلقيدوني. أما القائلون بالطبيعة الواحدة، فالمصريّون منهم درجت تسميتهم بالأقباط، من الكلمة اليونانية لمصر egyptos، والسوريون أطلِق عليهم اسم السريان، من سوريا، أو اليعاقبة، نسبةً إلى يعقوب البرادعي، أحد كبار دعاة مذهب الطبيعة الواحدة ومنظّم الكنيسة القائلة به. وجدير بالذكر أنّ هذا الانقسام في كنيستيّ الإسكندريّة وأنطاكية عكس في وقتِه نقمةً شعبيّةً واسعة النطاق، في مصر وسوريا، ضد الحكم الروماني. لذلك أطلق الأقباط واليعاقبة على مواطنيهم الذين بقُوا على المذهب الخلقيدوني اسم الملكية، إشارةً إلى تبعيذتهم للدولة الرومانية وخنوعهم لها. وكان من مظاهر حقد الأقباط واليعاقبة على الدولة الرومانية أنّ الفريقين وقفا جانباً عندما أقدم الفرس على اجتياح سوريا ومصر، ولم يشتركا في الدفاع عنهما. (14)

وتنبّه الأمبراطور هرقل، خلال حروبه مع الفرس، إلى خطورة الانقسام الكنسي في سوريا ومصر وما ينجم عن هذا الانقسام من إحراجٍ للدولة الرومانية وللقضية المسيحية الكبرى، فسعى إلى استمالة اليعاقبة والأقباط والحدّ من نقمتهم بالتنازل بعض الشيء عن الموقف الخلقيدوني بشأن الطبيعتين في المسيح. وبناءً على اقتراح سركيس الأول، بطريرك القسطنطينية، وبموافقة هونوريوس الأول، بابا رومية، دعا الأمبراطور إلى تفسيرٍ جديد للمبدأ الخلقيدوني يجعل للمسيح طبيعيتين يصدر عنهما فعلٌ واحد. وحثّ الأمبراطور جميع المسيحيين على القبول بهذا التفسير والكفّ عن الجدل حول الطبيعة والطبيعتين. وأصدر عام 638 مرسوماً يجبر المؤمنين على القبول بالتفسير الجديد ويوضح أنّ الفعل الواحد في المسيح إنما يصدر عن مشيئةٍ واحدة. غير أنّ مرسوم هرقل لم يحلّ المشكلة، بل زادها تعقيداً. (15) ذلك أنّ القائلين بالطبيعة الواحدة والقائلين بالطبيعتين رفضوا الحلّ الوسط.

أما الذين قبلوا به، فأصبحوا فئةً ثالثةً في الكنيسة ما لبثت أن دخلت طرفاً ثالثاً في الجدل.

كان القصد من المجيء بفكرة لمشيئة الواحدة إعادة وحدة الكنيسة المسيحية في وجه الخطر الفارسي المجوسي. لذلك لا يجوز أن تسمّى هذه الفكرة أول أمرها بدعة. فالبدعة تقصد الفتنة، والفتنة تقود إلى الانقسام. أما فكرة المشيئة الواحدة، فكان القصد منها إخماد الفتنة والرجوع عن الانقسام. لذلك لقيت الفكرة التي جاء بها بطريرك القسطنطينية قبولاً عند بابا روميةوغيره من الأحبار. ولذلك أيضاً تجاوبت مع الفكرة فئاتٌ شعبية في مختلف أنحاء الأمبراطورية تحمست لمساندة الأمبراطور هرقل في كفاحه البطولي ضد الفرس المجوس باسم المسيحية.

غير أنّ بعض الأحبار المتحمّسين للمذهب الخلقيدوني شاؤوا أن يرفضوا الفكرة الجديدة رفضاً باتّاً وأن يقاوموها بضراوة، ولو سبّب ذلك إحراجاً شديداً للأمبراطور. وكان من جملة الذين آثروا التمسّك بالدقّة اللاهوتيّة في أحرج الأوقات، ولم يعتبروا أن للضرورة أحكاماً، الراهب صفرونيوس الذي نصّب عام 633 بطريركاً على القدس. وفيما استمرّ صفرونيوس يعاند هرقل، تغلّب العرب على عسكر الأمبراطوريّة في معركة اليرموك عام 636. وقام صفرونيوس نفسه، عقب هذه المعركة، بتسليم مدينة القدس إلى الفاتحين.

أما أجداد الموارنة، فكانوا من أنصار هرقل الذين اعترفوا بأحكام الضرورة، فآثروا الدفاع عن كيان المسيحية والسعي لإعادة وحدة الكنيسة على الدقة اللاهوتيّة. (17)

 

 

 

 


ليست هناك تعليقات: