آراء ومواقف مجهولة للشاعر الراحل موسى شعيب
مريم شعيب (2015؛ عن "جنوبيّة")
الشاعر الراحل موسى شعيب هو من قال “أمةٌ
عربيّةٌ واحدة.. ذات رسالة خالدة”، وهي عبارةٌ لطالما تساءلتُ منذ طفولتي ماذا
تعني كلّما نظرت لصورته التي كانت تزيّن حائط منزلنا في بلاد الاغتراب، والتي فيها
كان يلقي الشعر من على منبرٍ، تعلو رأسه يافطة كبرى تحمل تلك العبارة. الشاعر موسى
شعيب امتاز بصدق نبرته الوطنية وعفوية أدائه الصادرة عن معاناته المنبعثة من ذاته
لتعبِّر عن ذوات أهل بلده وتؤاسي جراح لبنان والجوار فينطق بوجدانه الوطني
ليصبح شاعر الوطنية العربية لا الوطنية اللبنانية فحسب. فتجلت عروبته في قصيدة:
“بلاد العرب أوطاني” حين فوجئ بحالة الأمة في المغرب وتونس ومصر ودمشق وغيرها من
البلاد، وكيف جاء الجواب المطرز بدم الشهداء ليبارك الأرض ويبشر بالفجر الوضَّاء.
وظف شعره في خدمة اعتقاده السياسي
والاجتماعي فوضع المحتوى الاعتقادي في صدارة النظم التي يصوغها، وتسامى بمواقف
الاستشهاد والبطولة وبمآثر الأحرار والحريّة انطلاقاً من موقف معاناته وتمرسّه
السياسي. تميّز بإبداعه الشعري، فاهتم بالصورة الشعرية فخلت قصائده من الصنعة
اللفظية، بل امتازت بوفرة الإيقاع الداخلي، ولعل ذلك يرجع إلى استقراره النفسي
وميله إلى الأسلوب الخطابي الذي يعتمد على تجانس الألفاظ، والموازنة بين الجمل،
وحسن التقسيم، ما ساهم في نيله جائزة الشعر الأولى طوال سنوات دراسته وفي العام
1967 نالت تلك الجائزة قصيدته: “الأصابع الآثمة” ومطلعها:
ورجعت تختاليـن في
أفقـــــــي والكون منك يموج بالعـبـــــــق
رحل النهار وشمسـه
انتحــرت
وتخضّبت منهـــــــــــا يدُ الأفق
رحل النهــــار وذاك
بعض دمٍ
ما تحسبيــــــــن تورّد الشــــفق
أحلاميَ البيضـاء
دمّرهـــــــــا
رعـــب الظلام وثــــورةُ الأرقِ
ما عاد عمــري غيرُ
أتربـــــةٍ
مجبولـــــةٍ بالدمــــــــع والأرقِ
اهتمامه الدائم بطبيعة الموضوع اقتضى
الوقوف عند عناصر البناء الفني للقصيدة وعلى معانيها وهيكلها معرّجين على موسيقاها
وإيقاعها، وقوافيها ولغتها وألفاظها وتراكيبها وصورها الفنية، وتجلّى ذلك بقصيدته
الشهيرة “غزل الكادحين” التي جسّدت الصراع الطبقي في الجنوب خصوصاً وفي
لبنان عموماً، فحملت أجمل وأروع التعابير الإنسانية الصادقة والصريحة لأحلام
الفقير، وقد نالت جائزة الشعر الأولى في الجامعة البنانية عام 1965.
لا تقـولي ابن مـن
أنت، ومن أي هُويّـه؟
أنا يا حسناء من هذي
الـمـلايين الشّقـيّـه
أنـا لا أمـلك قصراً
وضياعًا يا صـبيّـــه
أنا زادي حبي الطفل
وروحي الشاعريّه
جعبتي ملأى بآلاف
الأســاطـير، غنـيّـه
بحكايـــات عـن
الشــاعر والبنت الثريّه
عـربـيُّ أنــا،
والكِلْمَةُ عـندي يَعـرُبيّـــه
هـي مـــا دنسها لحنٌ
فتبـدو أجنبـيـــــه
يتبين في صوره الشعرية التي تنبعت من
الواقع المعيش، ما يستحضره منها عالماً من القيم والتشبيهات والاستعارات والكنايات
والمجاز، فضلاً عن الأساليب الإنشائية والصور البديعة بما ينسجم مع الطابع الحزبي،
ولا شك في أن الإبداع التصويري قد تباين عنده، حين تفنن في التلوين والمشاهد
الحركية التي تصور الحدث وأبطاله، وقد برز ذلك جليّاً في قصيدته:
علّقوا الشمس بحبلٍ
واشنقوها
لنرى يحترق الحبل
أم الشمس تموت
وكما كل مواطن ثوري شريف يحمل همَّ أمته،
كان يتوقع نهايته التي ستختم مشواره بالاغتيال فكتب قصيدة “قتلوني” قائلاً:
قتلوني
وأنا دفء الأطفال
الليلي
أنا قطرات الماء
أنا أنشودة حبِّ
الفقراء
في صيف 1980 زار الشهيد موسى شعيب العراق
وألقى قصيدة “أسرج خيولك”. واغتيل في بيروت في 28 تموز من ذلك العام، فتوّج تاريخه
الشعري بقصيدته هذه. واختتم مشوار حياته الذي أصبح أسطورة تُروى على شفاه الكادحين
والعذارى.
نعم فالجميع قرأ أو ربما سيقرأ قصائد موسى
شعيب في ديوانه الذي صدر بعد وفاته، إلاّ أنهم لن يعرفوا بخلاف من عاصروه، آراءه
ببعض الموضوعات، حيث وجدت على قصاصاتٍ ورقية في مكتبته الخاصة، وكأنه يرد على
تساؤلاتٍ طرحت أو قد تطرح على كل شاعرٍ مناضلٍ أبيّ. لذا استوحينا منها أسئلةً
حولتها لمقابلةٍ فريدة تمّت دون أن تتم.
ماذا يقول موسى شعيب
عن الشعر وكيف يتصوّر الشاعر؟
الشاعر إنسان والشعر موقف، وهما واحد لا
إثنان. إنسان في موقف. الشعر وجه الشاعر الحقيقي، وجه الإنسان الحقيقي. الوجوه
اليومية الأخرى أقنعة. مهما بلغت من الانسجام والعفوية تظل زائفة. ولئن قيل عن كذب
الشاعر أو صدقه، فالحق أنه كاذب حتى يقول الشعر. وربما قيل في الشاعر عن تخلٍّ أو
التزام، عن رفض أو قبول، وفي ذلك كله يبقى شهادة إنسان. للشاعر أن ينكشف وللناس أن
يروا. له أن يقدّم ذاته وللناس أن يزِنوا تلك الذات. وليست تهم فيما بعد المقاييس،
وقد يقال عن تناقض الشاعر وتأرجحه بين كفر وإيمان ورفض وقبول. فالتناقض شجاعة فيه
وأصالة، تمزيقٌ لمعاهدات الخجل ورفضٌ للوائح الائتلاف.
وفيما يخصني.. أنا يا أخوة، شاعرٌ آمنت
بشرف الكلمة والالتزام. آمنت حتى القرارة بأمتي وحقها في الوحدة والحياة الكريمة,
هذا الإيمان يهمني أن أعلنه في أي مكان ومن على أي منبر… الصوت الشريف لا تضيره
أذن صمّاء، والأذن الأمينة لا يضيرها صوت ناشز. فكل من آمن بالحرية صديقي وكل من
أخلص للعروبة أخي وليست تهمّ فيما بعد الانتماءات.
ما هو تعريفك
للقصيدة؟
القصيدة وحدها موقف في سلسلة مواقف، تسهم
في عملية الكشف عن الشاعر ولكنها لا تكفي لكشفه. والموقف وليد الحالة. والحالة
الشعرية أبعد ما تكون عن الجمود لأنّ الجمود عدم، والشعر خلقٌ وحركة. وكما نعدِم
الشاعر حين نسجنه في قصيدة، كذلك نُميت القصيدة حين نقطع شرايين الحياة بينها وبين
شاعرها وسائر شِعره. ومثل الشاعر مع الجماعة كمثل القصيدة مع أخواتها، فهو عظيم
بمدى ارتباطه بالآخرين وإخلاصه لهم.
الشاعر صوت جيله فيه جروح ذلك الجيل وفيه
أغانيه. وفي مواسم الألم يعمِّد الألم الشاعر, يطهّره، يخضّ أحشاءه لتتمخّض عن
الحقيقة المأساة التي فيها الخلاص. وهو إذ يبدو خابطاً في الوحل، قافزاً على العشب
أو مصلوباً عى قضبان السجون يظلُّ شاء أم أبى، تعبيراً عن تمخضات الجماعات، يظل
عينها الكاشفة وأنفاسها الباحثة عن الهواء. وبعد.. قد أبدو مبالغاً، وقد أكون في
شعري متخيّلاً أو ملتزماً وربما متناقضاً، ولكنني أؤمن بأني أكشف عن نفسي ولا أرشّ
البهار.
كيف نقيس المسافة إذن
بين الإحتراف والهواية في كتابة الشعر؟
أن تكون شاعراً يعني أن تحترف الشعر فتمسي
القصيدة جواز مرورك إلى الدنيا، هويتك في العالم ولا بأس أن تصبح بديلاً عن الوطن
والقضية. تعدو خلفها بعيداً عن الوطن والقضية. غير ذلك تبقى مشروع شاعر، تلامس
الشعر أو تعانقه للحظة، ثم يفلت منك. ذلك ما يجهد مترفو الكلمة لإقراره، لجعله
ناموساً للشعر. وذاك ما يقبل عليه عديدون من طيّبي النوايا شعراء وقراء، يستمرئون
فيه طعم الكسل ورخاء اللامسؤولية.
كيف تُفسّر لنا
العلاقة بين الفن والسياسة؟
أقولها بإصرار: الفن الحقيقي في أي زمن
محرور يجب أن يتزاوج والسياسة. وأصر على أنّ الفنان هو من لا يوقفه شيء عن العطاء.
والفن الأصيل لا يمكن أن يمارس بالهواية، الفنانون الهواة قد يقدّمون أعمالاً
جميلة، قد يومضون، ولكنّهم لا يستطيعون أن يتوهّجوا باستمرار. قد تكون المرارة
الناجمة عن الإحساس بالمنفى عن مطارح الفن والوجد، هي حد ذاتها النبع الثري للفن
الحقيقي المتوهّج. فنحن كجيل عربي، ألقيت على عاتقه تركة عهود التخلف وأعباء
التحرّر القومي والاجتماعي، لا مناص لنا من مواجهة قدرنا هذا بما نملكه من
اختيارات. وأنا أؤمن أن المفاهيم الفنية تجاوزت مقولات “الفن للفن” و”الفن
للسياسة”، كما تجاوزت القيم النقدية في عصرنا تلك التقسيمات الساذجة للأدب وفنونه،
والشعر وأغراضه. لأن نظرة الإنسان إلى نفسه تغيّرت، والذين أوجدوا تلك التقسيمات
اخترعوها بأنفسهم، ولم تكن موجودة في الشعر. الشعر هو الإنسان في معاناته لوجوده.
كيف يفهم الشاعر ذلك الوجود؟ كيف يتعامل معه؟ ما الذي يستحوذ عليه من قضايا؟ إلى
أية فلسفة ينتمي وعن أية حقائق يصدر؟ ذلك كله شأن القرّاء وشأن التاريخ فيما
بعد.المهم أن يستطيع الشاعر تأكيد حضوره الإنساني الراقي والمتميّز في مسيرة
الكمال الأبدية.
كيف يخدم إذاً،
الشاعر أو الفنان خطاً سياسياً ينتمي هو إليه؟
يتوقف الأمر على صدق انتماء الشاعر أو
الفنان ومعاناته من جهة، وعلى مدى شمولية ورقي تلك المعاناة من جهة أخرى، الشرط
الأساس في هذا كله هو أن يكون الفنّان مخلصاً للفن بمقدار إخلاصه لإنتمائه
السياسي، وأسمح لنفسي أن أقول أن إخلاص الفنان لهويته السياسية الحضارية لا يشكل
مقياساً لإخلاصه الفني وحسب، بل هو بالضرورة ضمانة لذلك الإخلاص. وإنني كحزبي،
أؤكد أن انتمائي السياسي يزيدني حرارة في الدفاع عن قضية الفن، وفي الالتزام
ببلورة قيم شامخة للفنون العربية المعاصرة تسمح بتفجير مواهب أمتنا وتصقل نفوس
شعبنا. وتعمّق فيها حسّ الجمال والحقيقة.
من هو موسى شعيب؟
– من مواليد بلدة الشرقية، قضاء النبطية جنوب لبنان عام 1943.
– تلقى دراسته الإبتدائية في مدرستي الشرقية والدوير الرسمييتين.
– تابع دراسته الثانوية في الكلية العاملية في بيروت.
– في العام 1963 اضطرته ظروفه المادية للتوقف عن متابعة الدراسه، وعمل
مدرساً في مدرسة أنصار الابتدائية.
– انتسب إلى الجامعة اللبنانية في بيروت عام 1964 بعد نجاحه في شهادة
«الموحدة السورية» وعمل مدرِّساً في متوسطة البسطة الرسمية القريبة من الجامعة.
– عام 1968 نال شهادة الليسانس في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم
الإنسانية.
– حاز عام 1979 على إجازة الماجستير في الأدب العربي.
– بين العامين 1969 و1973 تنقّل مدرساً بين مدارس الجنوب والبقاع حتى
أبعد إلى ثانوية بشري، بعد إحالته إلى المجلس التأديبي وإثر ذلك فصل من وظيفته في
التدريس نظراً لمواقفه الوطنية والقومية الشجاعة ومشاركته في إضرابات المعلمين
والعمال ومزارعي التبغ.
– انتسب عام 1963 إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي.
– أصبح عضواً في القيادة القطرية عام 1975.
– عام 1971 قاد أضخم تظاهرة تنديد بالسلطة، بعد تعرض مخيّم النبطية
لغارات وحشية من قبل العدو الصهيوني، انتهت بدخوله سجن الرمل مطلع العام 1972 إثر
أعلانه ترشيح نفسه للانتخابات النيابية. حيث نال منفرداً رغم رشاوى الإقطاع
السياسي والمحاربة الشديدة التي تعرض لها مع مؤيديه من قبل أجهزة السلطة القمعية
أكثر من ثلاثة آلاف ومائة صوت.
– أعيد ترشيحه للانتخابات النيابية الفرعية في منطقة النبطية عام 1974.
– بدأ كتابة الشعر الزجلي صغيراً، ثم برز كشاعر وهو على مقاعد الدراسة
في الجامعة اللبنانية، حيث احتفظ بالجائزة الأولى للشعر طيلة سنوات الدراسة.
– ساهم مع عدد من أدباء الجنوب بتأسيس المنتدى الأدبي الجنوبي.
– كان عضواً في اتحاد الكتاب اللبنانيين ولعب دوراً مميزاً في الحفاظ
على وحدتهم النقابية.
– وكان عضواً مؤسساً للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين وعضواً
في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.
– قضَى اغتيالاً في بيروت صباح الاثنين الواقع في 28 تموز عام 1980.
له مجموعة شعرية صدرت بعد استشهاده
بعنوان:”المجموعة الشعرية للشاعر موسى شعيب” ضمت جميع أشعاره.
من أهم قصائده “هيفاء”، “غزل الكادحين”،
“أسرج خيولك”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق