الخميس، 8 يونيو 2023

الذاتية الترنسندنتاليّة: مصدر المعنى والوجود معاً. (فصل من كتاب "فلسفة إدموند هوسّرل" لنادية بونفقة)

 


فصل من كتاب فلسفة إدموند هوسّرل لنادية بونفقة

4ـ الذاتية الترنسندنتاليّة: مصدر المعنى والوجود معاً:

نستخلص من كلّ ما سبق أنّ وظيفة الفيلسوف الحقيقية والأساسيّة، حسب هوسّرل، تتمثّل في تحويل كلِّ موجودٍ إلى موجودٍ معقول، من خلال الشعور التأسيسي الذي هو قصديّة عملية أو (إنتاجية)، وهذا يعني أن التأسيسَ هو التفسير الوحيد للوجود. يقول هوسّرل: "لا شيءَ يوجد إذا لم يكن وجوده بواسطة عمليّة خاصة آنيّة أو كامنة للشعور". إذاً فالمعنى الكلّي لما هو موجود مشتقٌ من القصدية الإنتاجية أو (العمليّة) لحياة الشعور. ولقد توصّل هوسّرل انطلاقاً من قناعته بهذه الحقيقة، إلى استنتاجِ فلسفةٍ كاملةٍ تخص المعرفة الراديكاليّة للذات، ذلك أنه ما دامت كل معرفةٍ متعلقة بالموضوعية متضمّنة في معرفة الذات، فإنه يصير من الواجب علينا تجاوز هذا النسيان للذات. هذا، ولا يمكن نتيجةً لهذا، لعلمٍ فلسفيٍّ دقيق أن يتحقّق، إلا عندما يتمّ الاعتراف بأنّ كلَّ وجودٍ هو وجودٌ مرتبطٌ بالذاتيّة الترنسندنتاليّة التي يتأسّس فيها، والتي [هي] تيّارٌ دائمٌ من التأسيس.

لنقف وقفةً أطول مع هذه المسألة. لقد سبق أن بينّا أنّ الموضوعية الأولى التي يصادفها الشعور، أو بالأحرى، التي تفرض نفسها، إن صحّ التعبير، تلقائيّاً على الشعور، والتي لا يمكن، بالتالي، الشك في بداهتها، باعتبارها حاضرةً على الدوام أمام الشعور، هي العالم، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون الفينومينولوجيا، في نهاية الأمر، علماً بالعالم، وإلا فلن تكون علماً بأيّة صورة!

ذلك أنّ هدفها الأساسي الذي يتمثّل في التوغّل إلى معنى الوجود ككلّ لن يتحقق إلا إذا بدأت بالبحث في معنى العالم.

لمّا كان العالَم من منظور فينومينولوجي، هو مجموع ما هو مؤسَّس، في هوّيةٍ دائمةٍ مع ذاته، في القصديّة الإنتاجيّة للشعور، فإنَّ المعرفةَ الأوّليةَ للذات التأسيسيّة هي أيضاً معرفةٌ بالعالم، بما أنّ معنى العالم الذي هو واحدٌ دائماً، يجب العثور عليه في الذاتيّة، وفي الذاتيّة فقط. وبهذا نستطيعُ أن نقولَ إنّ الذاتيّة الترنسندنتاليّة تسبق وجودَ العالَم، لأنها هي التي تؤسِّس في ذاتها معنى هذا الوجود، ومعنى هذا أنّها تحمل في ذاتها واقع العالم في مجمله كفكرة مؤسَّسةٍ فيها حاليّاً وبالقوّة.

ومع ذلك، فيجب ألا نفهمَ من هذا أنّ الذاتيّةَ جوهرٌ يؤسِّسُ ويتضمّن معنى العالم بصورةٍ واقعيّة، ذلك أنّ الذاتيّة هي في حدّ ذاتها تأسيسٌ مستمرٌّ للمعنى. إنها قبليٌّ كلّيّ لأنها وحدةٌ دائمة للحياة القصديّة.

وبما ،ها هي التي تؤسّس العالم، فإنها لا تملك تجربة، لأنها هي تجربته، إلا أنها في الوقت الذي تؤسّس فيه الموضوعية تتأسس هي ذاتُها كذات شخصية مماثلة دوماً لنفسها، لذلك يؤكّد هوسّرل أنّ الموضوع الوحيد للفينومينولوجيا الترنسندنتالية هو الذات التي تتضمّن بداخلها كلَّ موضوعيّة، فالعالَم الوحيد الموجود هو العالم الموجود بالنسبة إلينا، والذي لا يكون موجوداً بالنسبة إلينا إلا إذا كان مؤسّساً فينا، أما خارج هذه الذاتية، فلا يوجد بكل بساطة أيّ عالم، لأن كلمة يوجد est ليس لها خارج هذه الذاتية أية دلالة.

"إن التعلّق بالشعور ليس فقط صفةً آنيّة لعالمنا، ولكنّها، طبقاً لضرورة ماهويّة، صفةُ كلِّ عالم متصوَّر"

إنّ العالم له فعلاً تغيّراته، مظاهره المتعدّدة، إلا أنّ كلّ تغيّر في العالم يعني تغيّراً في الذاتية، أي إنّ التغيّرات الآنيّة والممكنة للعالم تكون محدودةً بماهيّة الذاتية، وهذا لأنّ كلّ عالم متصوَّر يجب أن يتقدّم بواسطة التجربة، ولأنّ كلّ تجربةٍ متصوَّرة يجب أن تكون محكومةً بالقوانين الأساسيّة للذاتية.

وعلى الرغم من كل هذا، فإن هذا العالم الفينومينولوجي ليس عالماً جديداً، ليس عالماً مختلفاً موضوعياً عن عالم الموقف الطبيعي.

إنّ الموقف الفينومينولوجي لم ينشِئ عالَماً آخر، وكلُّ ما فعلَه هو أنّه أسّس معنى العالَم، أيّ إنه أعطى للعالَم الوجودَ الوحيد الذي يملكُه، وأنشأ العالَم الوحيدَ الموجود. بعبارةٍ أخرى، إنّ العالَم من الناحية الموضوعيّة، هو نفسُه في الموقفَين: الطبيعي والفينومينولوجي، كما أنّ هوّيته راجعةٌ إلى هوّية الأنا الفاعل في الموقفَين، إلا أنّ الفرق يكمن بالتحديد في أنّ الأنا الواعي بذاته، في الموقف الفينومينولوجي، هو الذي يؤسس العالم الموجود.

هناك أمرٌ يجب التنبيه إليه هنا، وهو أنّه إذا كان كلُّ شيءٍ لا يمكن أن يُعطى إلا إذا كان مؤسَّساً في الذاتيّة، وبالتالي محوَّلاً إلى موضوع، فإنّ الذاتيّة بدورِها تعطى باعتبارِها مؤسَّسةً حقاً، لكن ليس باعتبارِها محوَّلةً إلى موضوع، وهذا لأنا "الوجود ـ المعطى الأصلي" l’être-donné original، أو الحضور الأصلي الذي تُعتَبر أوَّليتُه في نظر العالم هي كونه معطى، بمعنى أنّ الذات تكون معطاةً في كلِّ موضوع، ولكن بصفتها متقدِّمةً عليه. إن العالم هو بالفعل مجموع الموضوعيّة totalité de l’objectivité، غير أنّ الموضوعيّة لا توجَد إلا في حالةِ ما إذا كانت معطاةً في الوجودـالمعطى الأصلي للذاتيّة، أيّ إن العالَم ليس موجوداً، ولا يكون موجوداً إذاً إلا إذا كان معطىً، بمعنى إلا إذا كان مردوداً إلى الوجودـالمعطى الأصلي الذي ليس موضوعيّةً لأنه هو الذاتيّة نفسُها!

هذا، وإنّ انتهاء التأملات الفينومينولوجيّة إلى نقطة الذاتيّة الترنسندنتاليّة لا يعني مجرّد عودةٍ إلى نقطة الانطلاق، أي الكوجيتو. إنه بالفعل رجوعٌ إلى الذاتيّة المعطاة في الكوجيتو، إلا أنه رجوعٌ إلى ذاتيّة مثراةٍ بكلّ التحليلات القصديّة التي أجراها هوسّرل خلال تأمّلاته.

إنّ هذه الذاتية الترنسندنتاليّة المعطاة في نهاية السير "الذاتيّة التي يكون كل الباقي معطىً فيها" ليست ذاتيّةً جديدة مستنبطَةً من المعطى الأصلي للكوجيتو ولا توضيحاً بسيطاً لما كان معطى في الأول بشكلٍ غامض فقط. وإنما نعني بها الأنا المعطى في حياة تجربةٍ تؤسّس الموضوعيّة وتتأسّس هي ذاتها في آن واحد كمصدرٍقبلي للموضوعية، مصدرٍ متطوّرٍ باستمرار، وهذا هو معنى القول إن كل ميزة للموضوعية في في الأخير ميزة للذاتية. في بداية الأمر يكون الأنا موجوداً يقينياً فارغاً، وفي الأخير يصبح يقيناً يتضمّن كلّ يقين.

إضافةً إلى ما سبق ينبغي الإشارة أيضاً إلى أنّ الذاتيّة الخالصة تكون منذ البداية معطاة، وهذا باعتبارها أساساً ذاتيةً لا موضوعيّة، وباعتبارها كذلك محدّدةً بمفهوم الزمانية الذي هو معطى أصلي "لا موضوعي" وما دامت الزمانيّة تحديداً أساسياً للذاتيّة كما هي، فإنها أيضاً شرطٌ أساسيٌّ للموضوعية.

بالإضافةِ إلى هذا، فإنها تمنحها أيضاً صفتها الأولى والأساسية، وهي كونها مندرجةً في تيار قصدي، ومحاطةً بأفق من اللاآنيّة.

وعلى كلّ حال، فإنه مما ينتمي إلى ماهيّة الذاتيّة أن تكون مرتبطةً بالموضوعية لا أن تكون معطاةً في ذاتها ببساطة، إذ ستكون في هذه الحالة موضوعاً.

وبالمقابل، فإنه مما ينتمي إلى ماهيّة الموضوعيّة أن تكون مرتبطةً بالذاتية، ذلك أنه لكي يكون شيءٌ ما موضوعاً، يجب أن يكون له معنى، والحصول على معنى يكون بالارتباط بذاتٍ ما. ولا يوجد، كما رأينا، سوى طريقةٍ واحدةٍ لشرح الارتباط المشترك بين الموضوعيّة والذاتيّة، ونعني بها فكرة التأسيس، أي تأسيس الموضوعية في الذاتية. وعلى هذا الأساس تكون الذاتية مرتبطةً حتماً بالموضوعية، لأنّ ماهيّتها هي بالتحديد أن تؤسس الموضوعية، والموضوعيّة تكون مرتبطةً حتماً بالذاتية، لأنّ ماهيّتها هي أن تكون قصداً صادراً عن تلقائيّةٍ ذاتية.

ونتيجةً لهذا، فلا يمكن أن تكون الذاتية سكونيّةً لأنها تتأسّس هي نفسها باستمرار، وهي تؤسّس الموضوعية، فهي تكون دائماً شيئاً آخر حينما تعمل على ولادة الآخر، كذلك لا يمكن أن تكون الموضوعيّة هي الأخرى سكونيّة، لأن وجودها الوحيد هو أن توجد في تيّارٍ من تجاربَ يغيّر كل عنصر منه كلَّ عنصرٍ آخر ويتغيّر بواسطته. وأخيراً فإن الذاتية هي قبليّ كلّي، وهذا نظراً إلى أنه لا يوجد أيّة موضوعيّةٍ ليست ماهيّتها محكومةً بماهيّة الذاتية، كما أن الموضوعيّة هي بدورها موضوعيّة قبلية، لأن مجموع تحقيقاتها الحاضرة والممكنة محكوم بقوانين البنية الأساسية المتضمَّنة في الذاتيّة. 


ليست هناك تعليقات: