الجمعة، 19 مايو 2023

الوعي واللاوعي؛ إعداد محمد الحجيري

 

الوعي واللاوعي

إعداد محمد الحجيري

 ـ الوعي: مقدمة

 ـ خصائص الوعي:

1.    ـ عند ديكارت

2.    ـ عند وليم جيمس

3.    ـ عند برغسون

4.    ـ عند بيار جانيه

5.    ـ عند هوسّرل

ـ علم نفس الوعي: الموضوع والمنهج.

ـ نقد

ـ علم النفس الحديث:

1.    السلوكية

2.    مدرسة التحليل النفسي

ـ الأدلّة على وجود اللاوعي:

1.    ـ جبل الجليد

2.   ـ إستكشاف اللاوعي:

1.    التنويم المغناطيسي

2.    التحليل النفسي

3.    التداعي الحرّ

4.    زلات اللسان

5.    الأفعال الناقصة

6.    الأحلام الليليّة

ـ الجهاز النفسي: (الهو والأنا الأعلى والأنا)

ـ الكبت

ـ اللاوعي بين فرويد وبيار جانيه

ـ العامل الجنسي.

ـ التحليل النفسي بعد فرويد:

1.    آدلر

2.    يونغ

3.    الاختبارات الإسقاطية

ـ خلاصة


   الوعي 

مقدّمة:

 يدعو سقراط الإنسان إلى معرفة ذاته: "أيها الإنسان إعرف نفسك!"، وهذا يعني بأن معرفة الذات ممكنة، ولكنها في الوقت ذاته ليست أمراً بدهياً. فلو كان كلّ منا يعرف نفسه لما كانت هناك حاجة إلى هذه الدعوة: أيها الإنسان إعرف نفسك!

لقد كانت الحياة النفسية قبل القرن التاسع عشر تنتمي ـ حسب غالبية الفلاسفة والمفكرين، مع استثناءاتٍ قليلة ـ لقد كانت تنتمي إلى دائرة الوعي..

فالحياة النفسية هي حياة واعية، ولقد جعلها ديكارت اليقين الأول الذي بنى عليه فلسفته بكاملها. فـ "كل ما هو نفسي واعٍ، وكل ما هو لاواعٍ جسدي".

 

لكن ماذا نعني بالوعي؟

 

إننا نقول عن الذي يستفيق من حالة التخدير بأنه "يستعيد وعيه".

إنه يستعيد إحساسه بنفسه

وإحساسه بالأشياء الخارجية (الألوان والأصوات والأشكال...)

إنه يستعيد قدرته على الشعور والانفعال: الفرح والغضب والحزن... ويستعيد قدرته على الرغبة بأشياء معيّنة

وكذلك قدرته على التذكّر والتفكير.

إستعادة الوعي إذاً تتضمّن عودة هذه الأمور كلّها.

وبالتالي نستطيع القول بأن الوعي هو هذا الحدس أو المعرفة المباشرة بالذات وبالعالم الخارجي وبالحالات الداخلية: من انفعال ورغبة وتذكّر وتفكير....

 

والوعي حسب هيغل هو هذه العلاقة بين الأنا وبين موضوعاتها، سواء أكانت داخلية أم خارجية.

وإذا كان الوعي هو هذه المعرفة المباشرة بالذات وبالعالم الخارجي وبالحالات الداخلية، فإن الآراء حول خصائص هذا الوعي قد تعدّدت لدى الفلاسفة.

خصائص الوعي:

الوعي عند ديكارت:

يرى ديكارت بأن الوعي هو اليقين الأول المؤسس لكل الحقائق الأخرى؛ لقد شك ديكارت في كل معارفه: نحن نعتقد أن الكثير من الأمور حقيقية ثم لا نلبث أن نكتشف أنها لم تكن كذلك؛ ونحن في الأحلام نظن أن ما نراه حقيقياً، وعند يقظتنا نكتشف أنها لم تكن أكثر من أحلام غير واقعية وغير حقيقية... فما الذي يضمن أن ما نظنه الآن حقيقة ما هو إلا نوع من الحلم الطويل، ولن نكتشف هذه الحقيقة إلا بعد يقظتنا؟

ثم ما الذي يضمن بأن حياتنا التي نحياها (أو ما نظن بأنه كذلك) ما هي إلا حلم طويل، وسنعرف ذلك أيضاً بعد اليقظة من هذا الحلم الطويل؟ ....

يتنبّه ديكارت بأنه مهما كانت إحتمالات الصح والخطأ في كل هذه الشكوك، فهناك حقيقة أكيدة هو أنه يفكر فيها ويشك فيها (والشك هو نوع من التفكير)، فالفكر موجود أكان مضمونه صحيحاً أم خاطئاً، وهذه حقيقة أولى أو يقين أول، ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة: "أنا أفكّر إذاً أنا موجود" والتي تسمى بالكوجيتو الديكارتي، والتي ينطلق منها ليبرهن الحقائق اللاحقة..

مع الإشارة هنا بأن ما يقصده ديكارت بالأنا هو هذه الفكرة ليس إلا.. هو هذا الشك والذي هو موجود مهما كانت احتمالات واقعيته..

من صفات هذا الفكر هو أنه غير متعيّن في مكان، مقابل المادة أو الجسم الموجود في الحيّز أو المكان، فخاصية المادة وجودها في المكان، وخاصية الفكر أنه من طبيعة مختلفة ولا يوجد في مكان، وهذه الثنائية تطرح بشكل حاد طبيعة العلاقة بين المادة والفكر أو الروح..

والحياة النفسية بكاملها ـ حسب ديكارت ـ هي واعية، فكل ما هو نفسيّ واعٍ، وكل ما هو لا واعٍ جسدي. وبناءً على هذه العبارة يصبح كل حديثٍ عن اللاوعي النفسي تناقض في التعبير، أو لا معنى له، إذ لا معنى للحديث عن اللاوعي الخاص بحياة كلها وعي. وهذا ما سيعارضه الكثير من  الفلاسفة، ومن أبرز من سيعارض هذا الرأي هو فرويد.

 

لقد انتقد "غاسّندي" الكوجيتو الديكارتي، معتبراً بأن ديكارت لم يكن بحاجة إلى كل هذا الجهد لكي يثبت وجوده، فيكفي أن يقول أنا أمشي فإذًاً أنا موجود.

ويبدو أن غاسّندي قد أخطأ في فهم ما يقصده ديكارت بـ "الأنا" كفكر، لأن الشك في وجود الأشياء لا يثبت وجودها، بينما الشك في وجود الفكر يثبت وجوده: لأن الشك في وجود هذه الطاولة قد ينفي وجودها، بينما الشك في أني أفكّر يثبت وجود الفكر لأن الشك نفسه هو فكر..

الوعي عند وليم جيمس:

يرى وليم جيمس بأن الوعي مرتبط بشخصية صاحبه لا ينفصل عنها، مرتبط بعمره وبحالته الصحية ومهنته....

وهو ـ أي الوعي ـ في حالة تحوّل مستمرّ، فنحن قد نعي موضوعاً ما مرّتين متتاليتين، لكن وعينا في المرّة الثانية لا يمكن أن يكون مطابقاً للمرة الأولى.. وكذلك إحساساتنا.

وهو وعي إنتقائي، فأنا لا أدرك كل تفاصيل الأشياء، كما أني لا أحتفظ في ذاكرتي بكل ما أدركته كما هو..

برغسون:

أما برغسون فيرى بأن الوعي قدرة على الاختيار، وبأنه نشاط في خدمة الفعل الحاضر وفي خدمة التكيّف، فأنا أستحضر في وعييَ الحاضر ما أنا بحاجة إليه الآن، وأبرز مثال على ذلك هو عمل  الذاكرة: فنحن نستحضر في وعينا من الذاكرة ما نحن بحاجة إليه الآن. (خلال مسابقة التاريخ أستحضر في وعيي ما له علاقة بالأسئلة المطروحة، منحياً كل ما لا يفيدني الآن من معارف سابقة مما لا علاقة به بالموضوع.)

ثم هو يميّز بين نوعين من الوعي: ـ الوعي الواقعي الذي يتميّز بالانتباه والتركيز.

                                        ـ الوعي الذي نلاحظه في حالات الأحلام أو الشرود، والذي يتميّز بابتعاده عن الواقع.

بيار جانيه:

الوعي عند بيار جانيه هو قدرة على التوليف synthese.

ففي حالات التركيز أستطيع أن أستمع وأستوعب وأن أتذكّر وأقارن وأبدي موقفاً ورأياً..

هو وعي نستطيع القول عنه أنه من درجات متعدّدة، أو بالأحرى له روافد ومكوّنات متعدّدة.

مع التعب أبدأ بفقدان هذه القدرات بالتدريج.. يغيب التوليف ويضعف الوعي وأنزلق تدريجاً نحو اللاوعي.. أبدأ بفقدان القدرة على المقارنة وإبداء موقف، ثم التذكّر ثم الإستيعاب ثم أخيراً أنزلق نحو النوم أو اللاوعي شبه الكلّي.

هذا اللاوعي إذاً ناتج عن ضعف التوتر أو الجهد الذهني والطاقة النفسية (وهذا ما سيعارضه فرويد بشدّة).

          وبنفس الطريقة يفسّر جانيه الحالات المرضيّة.

فهو يفسّر لنا بعض حالات الأعراض الهستيريّة من خلال ضعف الطاقة الذهنيّة (المتعدّدة في الأساس).

فالمريض الذي يعي الحوار الذي يتمّ معه خلال مقابلة، هو في المقابل يقوم بكتابة ما يُقال، ولكن بطريقةٍ غير واعية، لأنه لم يعد يمتلك ما يكفي من الطاقة الذهنيّة للمحافظة على وعيه بالأنشطة الأخرى.

          كذلك فإن أفكاراً ووساوس تستحوذ على المريض (على شكل إعراضٍ هستيريّة)، لأن الطاقة الذهنيّة غيرُ كافيةٍ لفرض رقابتها على الوعي، فتفرض بالتالي هذه الأشكال من الوعي الهستيري نفسها على المريض.

أما في الحالات السليمة أو السويّة فإن القدرة التوليفيّة (المركّبة) للوعي، تكون قويّة بما يكفي للإحاطة أو لاحتواء كامل أنشطتنا المتنوّعة. (عن Huisman)

لكنّ جانيه هنا لا يخبرنا عن سبب ضعف الطاقة الذهنيّة، (بينما يفسّرها فرويد كنتيجة للصراع النفسي الداخلي)

 

مستويات الوعي هذه تشبه ما يقول به  دولاي Delay   حول مستويات الوعي المتدرّجة من التركيز التام والتيقّظ  وصولاً إلى أدنى درجات الوعي في حالات الغيبوبة، وهو يقسّمها إلى سبعة مستويات ..

هوسّرل Husserl   

الوعي عند هوسّرل هو فعالية ذهنية تستهدف موضوعاً معيّناً، إنه يتميّز بالقصديّة، فكل وعي هو وعي لشيئ ما؛ ليس هناك شيئ في الوعي، هناك فعل وعي يتجه نحو موضوعه، أو هو طريقة في التوجّه نحو العالم.

 عند هوسّرل لا انفصال بين الوعي وموضوعه، ولا وجود لوعي في المطلق ومكتفٍ بذاته.

والإختلافات بين أشكال الوعي عند هوسّرل هي اختلافات نوعيّة، (وليست كمّية كما يرى البعض)، فالوعي الناتج عن الإدراك الحسّي: كالسمع والإبصار.. هو طريقة في التوجّه نحو العالم بطريقة مختلفة نوعيّاً عن طريقة الوعي من خلال التذكّر أو التخيّل. هناك إذاً الوعي الإدراكي والوعي التخيّلي والوعي التذكّري... (طرائق مختلفة نوعيّاً في التوجّه نحو العالم)

علم نفس الوعي:

بالعودة إلى ديكارت فإن حياتنا النفسية بكاملها واعية، هو يقول بأن  كل ما هو نفسيّ واعٍ،وكل ما هو لاواعٍ جسدي ....

لا مكان للاوعي في الحياة النفسية. كل ما هو لا واعٍ ينتمي إلى الجسد: الأظافر تنمو، والشعر ينمو والغدد تقوم بوظائفها وخلايا الجلد تتبدل والدورة الدموية تجري في أجسامنا، كل ذلك وغيره يحصل دون وعي منا..

أما الحياة النفسية فتنتمي بكاملها إلى دائرة الوعي، وبالتالي فإن كل دراسة للحياة النفسية هي بالضرورة دراسة للوعي. ومن هنا فإن علم النفس التقليدي كان يكتفي بالوعي كموضوع له.

لكن كيف تتم دراسة هذا الوعي؟

إن المنهجية المتّبعة في دراسة الوعي هي "الاستبطان": والاستبطان هو طريقة في البحث تقوم على دراسة الأنا للأنا؛ وذلك لأنه بما أن الحياة النفسية واعية بكاملها، فإن دراسة هذه الحياة النفسية هي دراسة الوعي ذاته، وأفضل من يعرف وعيي هو أنا نفسي. لذلك فإن أفضل دراسة أو معرفة بحياتي النفسية هي تلك المعرفة التي أكوّنها عن ذاتي، فلا أحد يعرف ذاتي أكثر مني..

هذا هو الاستبطان: أن يدرس كل واحدٍ منا ذاته.

 نقد:

لا شك بأن كل واحد منا يكوّن معرفةً أو رأياً ما عن ذاته وذلك بشكل تلقائي أو مقصود..

لكن هل يمكن الركون إلى هذه المعرفة وما هي درجة موضوعيتها أو علميتها؟

ألا يمكن أن نسيئ تقدير الذات فنصاب بالغرور حين نبالغ، وبضعف الثقة بالنفس حين لا نقدّر نفسنا حقّ قدرها؟

ولماذا يدعونا فيلسوف مثل سقراط إلى معرفة ذواتنا: "أيها الإنسان: إعرف نفسك!" لو أن هذه المعرفة حاصلة ويمكن الوثوق بها؟

في الواقع لقد تعرّض الاستبطان إلى جملة من الانتقادات التي تنفي عن هذه المنهجية صفة المنهجية العلمية وذلك للأسباب التالية:

ـ هي منهجية غير علمية لأنها غير موضوعية، لأن الموضوعية تفترض وجود مسافة ما بين الباحث وموضوع البحث الذي يقوم به، ولا يمكن بالتالي أن يكون المرء محايداً تجاه نفسه.. هناك دائماً انحياز لصالح الذات

وفي هذا المجال يعلّق أوغست كونت متهكماً: "أنت لا تستطيع أن تراقب نفسك من الشرفة سائراً في الشارع!" .

ويقصد بذلك أن هذه المنهجيّة لا يمكن أن تؤمّن الموضوعية والحيادية المطلوبة.

ـ هي مستحيلة التطبيق في بعض الحالات النفسية: كحالات الانفعال الشديد، كالهلع والغضب الشديد، فأنا في هذه الحالات لا أملك وعياً واضحاً عن نفسي أو عن تصرفاتي ويقوم الآخرون بإخباري عن ذلك في وقت لاحق..

ـ هي طريقة قاصرة وتستبعد العديد من ميادين علم النفس، وربما هي الميادين الأهم، فالطفل لا يستطيع أن يقوم بدراسة نفسه بسبب قصور الوعي لديه..

والمريض العقلي أيضاً لا يستطيع دراسة ذاته، بل هو بحاجة إلى فهم الآخرين له وإلى مساعدته..

والحيوانات أيضاً لا تستطيع القيام بهذه الدراسة .

وبذلك فإننا نرى بأن هذه المنهجية تستبعد بالتأكيد علم نفس الطفل وعلم النفس المرضي وعلم نفس الحيوان من مجال دراستها، ونحن نعرف الأهمية القصوى لهذه الميادين، وإذا سلمنا بإمكانية قيام هذا العلم على أساس هذه المنهجية فهي في أحسن الأحوال مقتصرة على الأسوياء العقلاء أو على علماء النفس أنفسهم..

لكل تلك الأسباب فقد تخلّى علم النفس الحديث عن الاستبطان كمنهجية علمية وعن الوعي كموضوع وحيد لعلم النفس.

 

 من الوعي إلى اللاوعي

لكن ما هي البدائل المقترحة كبدائل عن علم نفس الوعي؟

إن أهم الموضوعات المقترحة في هذا المجال هما: ـ السلوك

                                                        ـ اللاوعي

السلوكية:

لقد اعتبرت المدرسة السلوكية بزعامة "واطسون" بأن ما يمكن إخضاعه للمراقبة الموضوعية المحايدة هو السلوك، هذا السلوك الناتج كاستجابة على مثير معيّن..

يمكن الاكتفاء هنا بذكر الاعتراض على هذه المدرسة بتبسيطها للسلوك البشري باعتباره نوعاً من ردّة الفعل الحتمية على مثير ما. فليس هناك إجماع من قبل علماء النفس على هذه المدرسة ولا على غيرها، لكن يمكن القول أيضاً بأن هذه المدارس المتعارضة قد ساهمت في تحسين فهم الإنسان لنفسه وفي تحسين ظروفه النفسية كما تم توظيفها في حالات العلاج النفسي والتربية وطرائق التعليم ...

مدرسة التحليل النفسي:

أما مدرسة التحليل النفسي فقد رفضت اعتبار الوعي كموضوع وحيد لعلم النفس، واعتبرت على لسان مؤسسها فرويد Freud   بأن الحياة النفسية تشبه جبل الجليد الذي يطفو على وجه الماء: لا يظهر منه إلى العيان إلا قمته، أما الجزء الأعظم فهو مغمور تحت السطح ولا يبدو للعيان، كذلك الحياة النفسية فإن الحياة الواعية لا تمثل إلا قمة جبل الجليد، أما معظم حياتنا النفسية فهي لاواعية..

اللاوعي قبل فرويد:

  إننا نظن بأننا نعرف الدوافع الحقيقية لسكوكنا، لكن غالبية الدوافع هي دوافع لا واعية، وهذا أمر كان قد أشار إليه العديد من الفلاسفة أمثال شوبنهاور ونيتشه الذي اعتبر بأن الإنسان هو الكائن الأبعد عن ذاته (أي آخر من يعرف حقيقة نفسه) وليس الكائن الأقرب منها كما يُظَنّ، ولاروشفوكو القائل بأن الدافع الحقيقي وراء سلوكنا هو الأنانية وحب الذات، هذه الأنانية ا لتي تحجب نفسها وراء أقنعة متعددة ومزيّفة من حب الآخرين والصداقة ونكران الذات.

لكن مع فرويد اتخذ اللاوعي أبعاداً جديدة لتصبح أكثر تنظيماً وتكاملاً، أي لتصبح نظرية متكاملة وأداة معتمدة في العلاج النفسي.

الأدلة على وجود اللاوعي:

إن الأدلة على صحة الفرضية القائلة بوجود اللاوعي النفسي هي قدرتها على تفسير العديد من الحالات النفسية والسلوك ونجاحها في علاج العديد من الحالات المرضية انطلاقاً من هذه الفرضية.

إن نجاح تقنيات العلاج التي كان يعتمدها فرويد انطلاقاً من فرضية وجود اللاوعي ومسؤولية الخبرات المؤلمة المكبوتة في اللاوعي عن التسبب في المرض هي من العوامل التي كانت تعزّز صحة هذه الفرضية، أي فرضية وجود اللاوعي.

لقد بدأ فرويد حياته المهنية كطبيب أعصاب، لكن حالاتٍ مرضيّةً كانت تصادفه لا يجد لها أسباباً عضوية، فبدأ بالبحث عن أسباب نفسية لهذه الحالات.

عمل فرويد مع شاركو   Charcot طبيب الأعصاب الفرنسي (والذي عمل تحت إشرافه أيضاً بيار جانيه، الذي درس الفلسفة والطب)، معتمدَين تقنية التنويم المغناطيسي في العلاج، إنطلاقاً من فرضية أن المرض إنما يتأتى من تأثيرات وإيحاءات لاواعية عند المريض، وكان العلاج يتم من خلال إيحاءات مضادّة يتم خلقها لدى المريض خلال فترة التنويم، وكانت تلك الإيحاءات المضادة تؤدي إلى تحسن حالة المريض أو شفائه.

(يمكن معالجة حالات مثل عقدة الدونية)

إن نجاح هذه التقنية في العلاج كانت الدليل الأول لدى فرويد على وجود ما يسمى باللاوعي النفسي المسبّب للمرض.

هذه النتيجة عزّزت ما كان قد توصّل إليه فرويد بمشاركة بروير Breuer   خلال معالجتهما فتاة في الواحدة والعشرين من عمرها كانت ـ بعد وفاة والدها ـ  تعاني من اضطرابات هستيرية وألم واضطراب في حركة العنينين دون سبب عضوي لذلك، وخلال إحدى جلسات التنويم المغناطيسي روت تلك الفتاة أحداثاً سابقة خلال اعتنائها بوالدها أثناء مرضه: كانت لديها رغبةٌ شديدة في البكاء، لكنها، وحرصاً منها على عدم تأثر الوالد أو إزعاجه, حبست دموعها وامتنعت عن البكاء. كما أنها، وللسبب ذاته، امتنعت عن أن تنهر كلباً يشرب من الإناء أمام ناظريها..

بعد أن تمّ إيقاظها من حالة التنويم كانت الفتاة قد تخلصت من حالتها المرضية.

لقد اعتبر فرويد بأن المسبّب للمرض هو هذه الخبرة المؤلمة السابقة المكبوتة في اللاوعي، وبأن الشفاء قد تم من خلال التخلص أو التطهّر من هذا المسبِّب، وذلك بمجرد معرفته، ولذلك سُمّيت هذه الطريقة بالطريقة "التطهرية". 

التحليل النفسي:

بعد ذلك عدل فرويد عن طريقة التنويم المغناطيسي، مبتكراً طريقته الخاصة وهي طريقة التحليل النفسي.

الفرضية (أو النظرية) الثابتة التي لازمت فرويد بقية حياته هي مسؤولية الخبرات المؤلمة المكبوتة في اللاوعي عن التسبّب بالمرض النفسي.

وبأن العلاج يكون بنقل هذه الخبرات اللاواعية إلى حيّز الوعي.

وكل التقنيات التي استخدمها فرويد في استكشاف اللاوعي من أجل فهم أفضل لشخصية الفرد أو من أجل العلاج كانت تعزّز لديه هذه الفرضية وتمتلك القدرة على التفسير، وبالتالي فإن نجاح العلاج انطلاقاً من هذه الفرضية هي أدلة تعزّز القول باللاوعي النفسي  ومسؤوليته عن الحالات المرضية، ومن أهم التقنيات التي اعتمدها فرويد في استكشاف اللاوعي النفسي هي :

ـ طريقة التداعي الحر

ـ زلات اللسان

ـ الأفعال الناقصة

ـ تأويل الأحلام

التداعي الحرّ:

التداعي الحر هي طريقة في استكشاف اللاوعي ابتكرها فرويد تعتمد على جعل المريض يسترجع بذاته، ودون تنويم، مكبوتاته وهواجسه اللاواعية، وذلك بالطلب من المريض بالتمدّد على أريكة مريحة، والاسترخاء الكامل والتخلص قدر الإمكان من الرقابة الذاتية ثم الاسترسال في الكلام بتلقائية وعفوية وعدم أهمال أي كلمة أو فكرة حتى لو لم يكن لها علاقة بالسياق أو لو كانت تبدو خالية من المعنى..

يراقب المحلّلُ كلام المريض، وحين تلفت انتباهه كلمة ما، يقوم باعتمادها كنقطة ارتكاز،  ويطلب من المريض أن يستسلم إلى تداعٍ للأفكار التلقائية انطلاقاً من هذه الكلمة دون تفكير أو رقابة إرادية، متوقعاً انزلاق كلمة ما لها علاقة بموضوع الكبت ومحاولاً تشكيل سيناريواً متكاملاً عن الخبرة المكبوتة في لاوعي المريض.

خلال هذه العملية يواجه المحلّل حالات لدى مرضاه منها:

ـ حالة ما يسمى بالمقاومة، أي المقاومة التي يبديها المريض في مواجهة كشف حالات اللاوعي، ويتبدّى ذلك من خلال مقاطعته لجلسات العلاج، أو نسيان موعد الجلسة، أو من خلال التوقّف المفاجئ عن الكلام. وهذا بحدّ ذاته مؤشّر على أننا قد اقتربنا من الموضوعات الحساسة التي لها علاقة بموضوع الكبت.

ـ النقلة أو التحويل، وهي أن ينقل المريض ميله العدائي المكبوت في لاوعيه من موضوعه الأصلي إلى المحلّل ذاته، وهذا ما يسمّى بالتحويل السلبي، كأن يخبر المحلّلُ المريضَ بأنه يكره والده أو أنه يتمنى موته.. أو يخاف منه .. والكثير من الحالات المشابهة والتي يرفض المريض الاعتراف بها أو قبول تفسير المحلّل لسبب المشكلة النفسية ويتخّذ موقفاً عدائياً من الطبيب النفسي ذاته.

   ويسمّى هذا التحويل إيجابياً حين يتم نقل الميل الإيجابي إلى المحلّل، كتعلّق بعض المريضات بالمحلّل النفسي، وفي كلتا الحالتين أيضاَ فهذا مؤشّر على الاقتراب من الموضوع المكبوت.

ومن الواضح أن الأهمية في هذه الطريقة مرتبط بالدرجة الأولى بنباهة المعالِج.

 زلات اللسان:

زلة اللسان هي خطأ لا إرادي نقع فيه من خلال التلفظ بكلمة بدلاً من كلمة أخرى، كأن نتقدّم من شخص بعبارات العزاء بدل التهنئة.. ثم نعتذر لنصحح العبارة الملائمة بالمناسبة.

لا يقبل فرويد بتجاهل هذا الخطأ غير المقصود أو التقليل من أهميته، بل يعتبره مليئاً بالدلالة، فالكلمة التي تم التلفّظ بها بشكل خاطئ تعبر عن موقفنا الحقيقي بطريقة لاواعية.

من الأمثلة المذكورة في المراجع عن هذا الموضوع هي حالة رئيس إحدى الجلسات السياسية حيث يصعد إلى المنصّة ليعلن: أيها السادة، إني أعلن اختتام الجلسة .. عفواً .. إفتتاح الجلسة.

ليتبيّن من خلال التقصي أن الخطيب الأول هو من ألد الخصوم السياسيين للمتحدّث، وبأنه في حقيقة أمره يرغب في عدم انعقاد الجلسة أصلاً، وهو ما عبّر عنه بطريقة لاواعية.

أو التلفظ بعبارات العزاء في مناسبات خاصة بالفرح...

الأفعال الناقصة:

الأفعال الناقصة هي تلك الهفوات التي نرتكبها أو حالات النسيان التي نقع فيها، والتي يفسرها البعض بأنها ناتجة عن الإرهاق أو الشرود وبالتالي فهي حالات بريئة وليس لها أية أبعاد.

لكن فرويد يعتبر بأنها، على العكس من ذلك، هي تصرفات ذات معنى تكشف عن مشاعر لاواعية عند الأفراد.

وهناك أمثلة عديدة عن هذه الأفعال الناقصة التي نشاهدها في حياتنا اليومية مثل تقديم غرضٍ إلى شخصٍ ما بدلاً من الشخص المعني.

نسيان كتابٍ معيّن في المنزل من قِبل الطالب، أو التأخر في الإستيقاظ في يوم مدرسيّ، أو البقاء في المنزل ظناً بأنه يوم العطلة دون أن يكون كذلك.. كل هذه الأمثلة تكشف موقفاً سلبياً تجاه المدرسة أو تجاه أستاذ أو مادة معيّنة بطريقة لاواعية أيضاً.

نسيان الذهاب إلى موعد تم تحديده سابقاً

نسيان إسم أحد المعارف خلال توزيع الدعوات إلى حضور مناسبة معيّنة.

كذلك فإن فقدان محبس الزواج أو نسيان تقديم هدية عيد الزواج فهي حسب مدرسة التحليل النفسي تكشف عن انشغال الزوج (أو الزوجة) بعلاقة جديدة أو فقدان الحظوة أو المكانة التي كان يحتلها الشريك لدى الشريك الآخر.

يتلقى أحد الأزواج كتاباً كهدية من زوجته، وعبثاً يحاول الزوج العثور عليه لاحقاً لكنه لم يجده.

برود الزوجة وعدم قدرتها على التعبير عن مشاعرها الحقيقية جعلت الزوج يفسّر ذلك على أنه قلّة اكتراث به ..

تمرض والدة الزوج فتبدي الزوجة اهتماماً وعناية فائقين بها مما يجعله يكتشف مكانته لديها..وفجأة يجد الكتاب الذي كان قد بحث عنه سابقاً دون جدوى.

فقدان الكتاب إذاً ثم إيجاده لاحقاً كان مرتبطاً بموقفٍ لاواعٍ تجاه الزوجة.. هذا على الأقل تفسير مدرسة التحليل النفسي.

تأويل الأحلام الليلية:

تشكّل الأحلام عند فرويد الطريق الملكي لاستكشاف اللاوعي..

بينما كانت الأحلام قبل فرويد تخضع لنمطين اثنين من التفسير:

1 ـ التفسير الميتافيزيقي: الذي يعتبر بأن الحلم هو عبارة عن اتصال النائم بالقوى الغيبية أو عالم ما فوق الطبيعة. إنه نوع من التنبؤ بطريقة رمزية ويحتاج ألى تفسير أو تأويل لمعرفة الرسالة المتلقاة خلال النوم. من أشهر هذه الأحلام في التاريخ هو حلم يوسف وحلم فرعون (الذي رأى سبع بقرات سمان يتبعها سبع بقرات عجاف ...)

2 ـ التفسير الفيزيولوجي الجسدي: الذي يعتبر بأن حالات الوعي اليومية تبقى محفوظة في الدماغ والخلايا العصبية، وخلال النوم فإن الصور المحفوظة في الدماغ تفقد حضورها المنظّم بسبب غياب الرقابة التي كانت اليقظة تفرضها فتتداعى تلك الصور بشكل عشوائيّ، وهذا ما يفسّر طبيعتها الغامضة، وبالتالي فليس لها أي دلالة.

يرفض فرويد هذين التفسيرين لأنهما ينفيان عن الأحلام بعدها الإنساني، إما بنسبتها إلى الجسد أو بنسبتها إلى عالم فوق بشري خاص بالأرواح والآلهة.

بالنسبة إلى فرويد فإن الحلم ذو بعد نفسي يخص صاحبه ويعبّر عن هواجسه وله دور بالغ الأهمية في حياة الأفراد ويؤدي أكثر من وظيفة:

أولى هذه الوظائف أنه يحافظ على استمرارية النوم، فهو كما يقول فرويد حارس النوم الأمين: فحين نشعر بالعطش مثلاً خلال النوم فإننا وبدل أن نستيقظ ونشرب الماء فإننا نحلم بأننا نشرب، وفي ذلك نوع من الإشباع الرمزي وظيفته الحفاظ على استمرارية النوم.

إضافة إلى أن الكثير من الرغبات المكبوتة في اللاوعي أو الرغبات المقموعة إجتماعياً وبالتالي لا تستطيع الحصول على الإشباع، يتم إشباعها بطريقة رمزية خلال الحلم حين تضعف الرقابة، وبما أن الرغبة تضعف خلال النوم ولا تغيب كلياً، فإن الخبرات والميول المكبوتة في اللاوعي تعبّر عن نفسها بطريقة رمزية، ولذلك فهي بحاجة إلى نوع من التفسير أو التأويل لمعرفة مضمونها الحقيقي، وهذا ما تصدى فرويد ومدرسة التحليل النفسي إلى القيام به.

يروي "فرانك" Frinck المحلل النفسي الأميركي حالة امرأة شابة تحلم أنها تتنزّه مع صديقتها في الشارع، ثم تدخل أحد المتاجر لشراء قبّعة أنيقة سوداء غالية الثمن..

لا يبدو في الحلم ما يثير الانتباه.

لكن خلال حوارها مع المحلل النفسي بدأت الصورة تتوضّح شيئاً فشيئاً لتنتهي بكشف حقيقة لم نكن نتوقعها..

تتذكر المرأة أنها فعلاً كانت قد قامت بنزهة في ذلك الشارع برفقة صديقتها في اليوم السابق.

لقد كانت تهتم بزوجها المريض وكانت قلقة ومتخوفّة على صحته، وكان هو الذي أشار عليها القيام بهذه النزهة للترويح عن نفسها.

تذكرت بأنها تأملت واجهة أحد المحلات وشاهدت القبّعات المعروضة لكنها لم تشترِ أية قبعة بسبب غلاء ثمنها.

ثم تتذكّر بأنها تحدّثت خلال النزهة عن شاب كانت قد عرفته قبل الزواج وكانت معجبة به، وعندما سألها الطبيب عن سبب عدم زواجها به أخبرته بأنها لم تفكّر في ذلك لانتمائه إلى طبقة ثرية لا تتناسب مع وضعها.

لقد كانت هذه القبّعة السوداء مشبعة بالدلالات حسب ما توصل إليه المحلل النفسي، فإن هذه القبعة الأنيقة كانت تعني الحاجة إلى الأناقة من أجل إغواء من تحب، أما ثمنها الباهظ فيكشف الرغبة في الثراء، ثم إن اللون الأسود للقبعة يكشف الرغبة اللاواعية في التخلص (موت) من الزوج الذي كان يشكل عائقاً أمام تحقيق رغبتها اللاواعية.


راسل واللاوعي:

كل هذه النماذج السابقة كانت تعزّز فرضية اللاوعي النفسي.

كما أن البعض يرى في بعض حالات الإلهام والابتكار أن هناك مرحلة مهمة حيث تنضج الأفكار في اللاوعي. ففي بعض الاكتشافات الرياضية يعود الفضل إلى عمل اللاوعي المثمر أكثر من عمل الوعي الذي سبقه، فالحلول التي تم البحث عنها طويلاً دون نتيجة، تظهر فجأة بينما يكون الذهن منشغلاً في أمرٍ آخر..

يقول برتراند راسل  Russel  (وهو  عالم رياضيات وفيلسوف الوضعيّة المنطقيّة) :"لقد لاحظت أني إذا كان عليّ أن أكتب في موضوعٍ شائك، فإن الطريقة الفُضلى هي في التفكير فيه بتركيز شديد قدر الإمكان، خلال ساعات أو حتى أيام، ثم أعهد بمتابعة المهمة إلى عمل اللاوعي..

وبعد أشهر أعود إلى العمل الواعي على نفس الموضوع لأجد أني قادر على إنجازه بشكل جيّد.   

 

الجهاز النفسي: (الهو ـ الأنا الأعلى ـ الأنا) (آليّة الكبت في اللاوعي):

لكن كيف يفسّر فرويد عملية الكبت في اللاوعي؟

يقسّم فرويد الجهاز النفسي إلى ثلاث طبقات مكوّنة للشخصية أو الجهاز النفسي عند الفرد :

 ـ الهو ـ الأنا الأعلى  ـ والأنا.

الهو: حين يولد الطفل يسعى بشكل فطري إلى إشباع ميوله إلى الطعام والأمن للتخلص من التوتر أو الألم الناشئ عن عدم إشباع تلك الميول.

فهو إذاً يسعى إلى الحصول على اللذة والتخلّص من الألم ليس إلا.

الرضاعة والنظافة والتخلص من الفضلات تؤمن له حاجاته الجسدية، وحنان الأم ودفؤها يؤمنان له الإحساس بالأمن.

يهدأ الطفل إذا تأمنت له هذه الاحتياجات، ويبكي إذا لم تتأمن إحداها.

هذا السعي إلى الاشباع هو ما يسميه فرويد بـ "الهو" والقائم على مبدأ اللذة والسعي للحصول عليها.

 

ـ الأنا الأعلى:

مع نمو الطفل تزداد تطلباته ويزداد نشاطه وفي المقابل تزداد الضغوطات عليه: لم يعد الأن يكتفي بالطعام، تبرز ميوله المعرفية وحشريته ومحاولته استكشاف المحيط حوله في مقابل محاولة محيطه الاجتماعي تنظيم أنشطته وسلوكه كالنظافة والترتيب وارتداء الثياب واحترام ملكية الآخرين.. وغير ذلك، باختصار تصبح هناك قواعد وقوانين عليه مراعاتها والالتزام بها: العيب والحرام والمسموح والممنوع، وهو يلتزم بذلك إما قسراً وإما حرصاً منه على الاحتفاظ بحنان الأم، بينما لا يهم الـ"الهو" إلا الحصول على ما يريد.

هذه الرقابة الاجتماعية المفروضة على الطفل تتحول لاحقاً إلى نوع من الرقابة الذاتية لتصبح ما يسميه فرويد بالأنا الأعلى.

الأنا:

الأنا هو الجزء الواعي من الشخصية والذي يحاول التوفيق ما بين متطلبات الهو وبين منظومة القيم الاجتماعية، سامحاً ببعض الاشباعات المقبولة إجتماعياً ومانعاً البعض الآخر ومؤجّلاً البعض الثالث.

وحسب فرويد فإن الكبت في اللاوعي يتم بسبب هذا الصراع بين الهو والأنا الأعلى (مثال: عقدة أو ديب).

اللاوعي بين فرويد وجانيه:

بناءً على نظريته في "الجهاز النفسي" فإن فرويد يعتبر بأن اللاوعي يتأتى من خلال الصراع القائم بين الهو والأنا الأعلى فيتم نقل الخبرات المؤلمة والميول "اللاأخلاقية" إلى اللاوعي.

في المقابل فإن بيار جانيه يعتبر بأن اللاوعي هو نتيجة هذا الانخفاض في مستوى التوتر أو الجهد الذهني بسبب الإرهاق والتعب، مشبّهاً ذلك بقطار يتوقف عن السير بسبب نفاد الوقود.. بينما يشبه فرويد الأمر بتوقف قطارٍ بسبب اصطدامه بقطارٍ يسير في الاتجاه المقابل وليس بسبب نفاد الوقود، أي بسبب هذا الصراع القائم بين نزوات اللاوعي وبين رقابة الأنا الأعلى.

رأي:

يبدو أن نظرية جانيه تستطيع تفسير حالات غياب الوعي السوية (غير المرضية) بسبب الإعياء والتعب، فالوعي يضعف فعلاً في حالات الإعياء (كالحرمان من النوم لفترة طويلة) وصولاً إلى الغياب شبه الكامل..

لكن هذا ليس إلا جزءاً من الصورة وهو غير اللاوعي بالمعنى الفرويدي: أي اللاوعي المرضي والذي لا يعرف به صاحبه حتى حين يكون في حالة راحة تامة وغير مرهق.

إن التجربة المستعارة من المدرسة السلوكية، والتي أخضعت كلباً لتشريط إيجابي من خلال تقديم الطعام لهذا الكلب متزامناً مع عرض إشارةٍ ضوئية على شكل دائرة؛ ثم إخضاعه لتشريط سلبي من خلال تعريضه لصدمة كهربائية بالتزامن مع عرض شارة ضوئية على شكلٍ بيضاوي (قطع ناقص)، ثم تم تعريض هذا الكلب إلى رؤية شارة ضوئية ملتبسة: لا هي بالقطع الناقص ولا هي بالدائرة، هي بين بين: فيها شيئ من الدائرة وشيئ من القطع الناقص.

النتيجة كانت ظهور أعراض العصاب عند الكلب وهذا يؤكد دور الصراع النفسي في ظهور الحالات المرضيّة.

المثال الآخر الذي يؤكد وجهة نظر فرويد هو حالة الجندي في المعركة الذي يصاب بالشلل الهستيري بسبب الصراع ما بين خوفه من الموت في المعركة (الهو) وبين خوفه من اتهامه بالجبن إن هو فرّ من المعركة، أي المتطلبات الاجتماعية (الأنا الأعلى)، وهو يصاب بالشلل نتيجة هذا الصراع. وبذلك فهو يبتعد عن المعركة دون وصمه بالجبن.

وبذلك فإن ما لا يستطيع تفسيره بيار جانيه تستطيع نظرية فرويد تفسيره في الحالات المرضية.

ويشكل العامل الجنسي السبب الرئيس لهذا الصراع حسب فرويد، وذلك لأن الموضوع الجنسي هو من أكثر الموضوعات إلحاحاً من قبل الهو، في الوقت الذي يشكل أكثر الموضوعات خضوعاً لرقابة الثقافة الاجتماعية والمجتمع وبالتالي لرقابة الأنا الأعلى.

تجدر الإشارة هنا إلى أن لمفهوم الجنس عند فرويد معنىً شاملاً وفضفاضاً ويتطور مع العمر ماراً بمراحل متعدّدة.

 مراحل تطوّر الحياة الجنسيّة:

ـ المرحلة الفمية: حيث تتركز اللذة في منطقة الفم من خلال الرضاعة ومص الأصابع أو أي شيئ يقع بين يديّ الطفل.

ـ المرحلة الشرجية السادية: حيث يشعر الطفل باللذة من خلال إخراج الفضلات (التبوّل والتغوط)، وتترافق مع هذه المرحلة ميول عدوانية واضحة لدى الطفل فهو يسعى إلى تحطيم وتمزيق مايصادفه. (ربما تعود العدوانيّة إلى ردّة الفعل على القمع الذي يتعرض له الطفل..)

 

ـ المرحلة القضيبية: حيث تصبح منطقة الأعضاء الجنسية هي مركز اللذة، ويتم ذلك في سن الثالثة تقريباً، وهي ما يسمى بالمرحلة الأوديبية والتي يقول فرويد بأن الصبي يتعلق خلالها بالأم (والبنت بالأب) ويسعى لإزاحة الأب كمنافس له، ولما كان الطفل أضعف من أن يزيح الأب من طريقه فإنه يشعر بالرغبة في موت الوالد، ولما كانت هذه الرغبة غير أخلاقية فإن الطفل يعيش نوعا ًمن الصراع بين رغبته الحقيقية (موت الأب = الهو) وبين وعيه بأن هذه الرغبة غير أخلاقية (الأنا الأعلى)، وهذا ما يؤدي إلى كبت هذه الرغبة في اللاوعي، والتي قد تظهر  لاحقاً على شكل  أعراض مرَضِيّة (عقدة أوديب) في حال لم يتم تجاوز هذه المرحلة بطريقة سويـّة.

ـ مرحلة الكمون: لا تعود خلالها منطقة الأعضاء الجنسية، وبشكل مؤقت، كمنطقة للّذّة، ثم تعود كذلك (منطقة للّذّة) في المرحلة اللاحقة أي المرحلة التناسلية أو مرحلة المراهقة.

 

لقد تعرضت هذه النظري لانتقادات عديدة حتى من قِبَل تلامذة فرويد وأتباع مدرسة التحليل النفسي، أمثال ألفرد آدلر ويونغ..

آدلر: (نقد أهميّة العامل الجنسي):

يرفض آدلر اعتبار أن العامل الجنسي هو العامل الأهم الكامن خلف السلوك، بل يعتبر بأن العامل الأساس هو عقدة الدونيّة، ومحاولة تخطّيها من خلال التعويض وتأكيد الذات.

فالمقعد، وكنوعٍ من التعويض، يصبح رساماً، وتملأ لوحاته صورُ الفتيات الرشيقات أو راقصات الباليه أو لاعبو السيرك..

ذميم الشكل قد يتحول شخصاً ظريفاً ومحبباً ولطيفاً.

ومن أبرز الأمثلة مثال دون جوان الذي يتحول بدافع من الإعاقة في القدم التي تلازمه إلى زير نساء: إنه يحاول أن يعوّض عن إعاقته بغواية الكثير من النساء.

وإذا كان آدلر قد فسّر حالة دون جوان من خلال نظريته في التعويض وتأكيد الذات، فإن النظرية الفرويدية تحاول تفسيرها من خلال عقدة أوديب: إن "دون جوان" يقيم علاقاته المتعددة مع النساء، باحثاً دون جدوى عن صورة الأم من خلال تلك العلاقات العديدة.

(مناقشة وإبداء رأي من قبل الطلاب)

يونغ:

الشخصية بين الانطوائية والانفتاح:

يرى يونغ بأن نظرية فرويد وآدلر تكشفان عن نمطين من الشخصية: الشخصية الانطوائية المنكفئة على ذاتها، وهذا النمط من الشخصية تصح عليه نظرية آدلر.

والشخصية المنفتحة المتوجهة نحو الخارج والتي يصح عليها ما قاله فرويد.

اللاوعي الجمعي:

يتبنى يونغ فكرة اللاوعي، لكنه يعتبر أن اللاوعي هو لاوعي جماعي له علاقة بخبرات الأجداد القدماء للبشرية وليس الخبرات الفردية للشخص. وبذلك نستطيع تفسير ما يستحوذ علينا من موضوعات كالشياطين والجن وغيرها.. والتي كانت ملازمة للأساطير القديمة التي عرفتها كل الشعوب القديمة.

إننا لا نستطيع تفسير خوف الطفل المعاصر من الظلمة، ليس لذلك أيُّ معنىً، لقد ورث الإنسان المعاصر هذا الخوف من أسلافه القدماء الذين كانوا يعيشون في الغابة، لقد كان الخوف من الظلام مبرّراً ويؤدي وظيفة في الحفاظ على الحياة لأن الظلام كان يعني وضعية محفوفة بالخطر بسبب وجود الحيوانات المفترسة، أما اليوم فلا معنى لأن نخاف من الظلام في غرفة مغلقة، هذا الخوف من الظلام قد ورثناه كنوعٍ من اللاوعي الجمعي الذي كانت له وظيفة في الماضي..

الاختبارات الإسقاطية:

إنطلاقاً من فرضية اللاوعي، وسعياً نحو استكشاف هذا اللاوعي وفهم أفضل للشخصية هناك العديد من التقنيات الحديثة المعتمدة، من هذه التقنيات ما يسمى بالتقنيات الإسقاطية:

إختبار موراي: ويعتمد على تقديم مجموعة من اللوحات تمثّل شخصيات مختلفة في وضعيات مختلفة، يُطلب من الشخص الخاضع للاختبار تأليف قصة متماسكة انطلاقاً من تلك اللوحات، وهو بذلك يقوم بنوع من الإسقاطات التي لها علاقة بهواجسه وميوله المكبوتة خلال تلك العملية مما يسمح بفهم أفضل لشخصية الفرد الخاضع للاختبار

إختبار روزينونغ:

 حيث يُقَدّم للشخص الخاضع للاختبار مشهداً لشخصيتين في موقف معيّن، نعرف ما يقوله الشخص الأول ويُطلب من الشخص الخاضع للاختبار جواب الشخصية الثانية: كتقديم مشهد فيه خادمة وقد كسرت إناءً ثميناً وهي تقوم بالاعتذار من سيدتها: آسفة على فعل ذلك، لم أكن أقصد ذلك..

ثم يُطلب إكمال الحوار أو الجواب المتوَقَّع من قِبَل سيدة المنزل.

(أجوبة مقترحة من قِبَل الطلاب)


إختبار رورشاخ:

حيث يطلب من الخاضع للاختبار تأويل بقعة من الحبر على ورقة تم صنعها من خلال نقطة من الحبر يتم وضعها على وسط الورقة ثم نقوم بثنيها لتحدث شكلين متطابقين متقابلين على جانبي الثنية.

بقعة الحبر بحد ذاتها لا تعني شيئاً، لكن كل واحد يرى فيها أشياء مختلفة عن الآخر حسب شخصية كل فرد وهواجسه ومكبوتاته..

 

 إختبارات المسرح:

حيث يُطلب فيه من الشخص أن يختار دوراً بمحض إرادته ثم يقوم بتمثيله على المسرح، وهذه الطريقة تسمح باستكشاف لاوعي المريض من خلال الدور الذي اختاره وطريقة عرضه، إضافة إلى أن لها قيمة علاجية لأنها تسمح للشخص بالتعبير عن نفسه بحرية متجاوزاً الرقابة والأعراف الاجتماعية كما تسمح له بتفريغ الشحنة الانفعالية المسببة لمشاكله النفسية.

ألا يعني هذا أن العديد من مظاهر التراث الشعبي والفولكلور (مثل الرقص والدبكة) لها وظيفة علاجية تسمح للأفراد بالتعبير الحر عن أنفسهم ضمن طقوس مبرّرة ومقبولة إجتماعياً؟

خلاصة:

لقد استمر الإنسان لفترة طويلة يعتقد بأن الحياة النفسية هي حياة واعية، والوعي هو المقدمة الأولى للاختيار، أو هو الشرط الأول للحرية، فأنا أختار سلوكي عن وعي وبمحض إرادتي..

لكن إذا كان الدافع الحقيقي لسلوكي هو دافع لاواعٍ، فهذا يعني أن ظني أني أختار أفعالي هو ظن خاطئ، لأن السبب الحقيقي لهذا الفعل هو سبب لاواعٍ ولا أعرفه وبالتالي فإن فكرة الاختيار والحرية ما هي إلا وهم من الأوهام.

لقد أثبتت مدرسة التحليل النفسي وجود اللاوعي النفسي بقوّة: منهم من اعتبر أن الدافع الأساس وراء السلوك هو الدافع الجنسي، ومنهم من اعتبره الميل إلى التعويض وتأكيد الذات ومنهم من اعتبره الأنانية وحب الذات أو التعلق بالحياة ومحاولة الحفاظ عليها بأي ثمن..

لقد ركّز كل منهم على أحد هذه العوامل مهملاً العوامل الأخرى. لكن يبدو أن هذه الدوافع كلها وغيرُها أيضاً يلعب دوره في تكوين السلوك.

اللاوعي يؤثّر في سلوكنا دون أن ندري.

والوعي أيضاً يؤثّر في سلوكنا .. وندري.

لكن السؤال هو هل يؤثّر اللاوعي في طريقة وعينا؟

ألا يكون الوعي بذلك خاضعاً للاوعي وأداةً له وفي خدمته؟ وبذلك تكون بقعة الضوء خاضعة لمساحة الظلام الكبيرة. (أي ما نظنّه فعلاً حرّاً خاضعاً للوعي، ما هو إلا وهم وبأن اللاوعي أو الدوافع اللاواعية هي الأسباب الحقيقيّة المنتِجة لسلوكنا بشكلٍ حتميّ، وبالتالي فليست الحرّية إلا نوعاً من الوهم.)

تلك هي الطعنة الكبيرة التي وجّهها فرويد لكبرياء الإنسان في تاريخه المعاصر.

ليست هناك تعليقات: