الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

راهنيّةُ العروبةِ بين الماضي والمستقبل؛ محمد الحجيري.


 


 

راهنيّة العروبة بين الماضي والمستقبل

 محمد الحجيري

 (تقديم لمجموعة أبحاث تمّ نشرها في كتابٍ تحت عنوان "راهنيّة العروبة ومشاريع الاستهداف الخارجي)


 الراهنُ يعني الحاليّ أو الحاضر: ما نعيشه الآن.

والراهنيّةُ يصح استخدامُها بمعنى ما يصلح للتعامل مع ما هو راهن. الراهنيّةُ تتقابلُ وتتعارضُ مع ما عفا عليه الزمنُ وصار من الماضي، أو ما كان يصلحُ للماضي ولم يعد يصلح للحاليِّ والراهن.

بهذا المعنى، وفي هذا العصر الذي يعاني فيه العربُ من شتى أشكالِ المشاكلِ وأسبابِ الضعف والتفكّكِ وضياعِ المقاييس والمسلّمات، وبعد نكسات أُصيبَ بها العربُ، هل ما زال للعروبة مكان قابل للتطبيق أو يصلح لأن يكونَ وصفةً لمشاكل الحاضر؟

ونقصد بالعروبة هذا الشعورُ الواضحُ المتمايزُ بالهوّية والذي يؤسسُ لمشروعٍ سياسيٍّ ضروريّ لبناء الاقتدار والاستنهاض الحضاريّ

أزعمُ أن "العروبة" لطالما كانت راهنيّةً في تاريخ العرب. بمعنى أنها كانت الوصفة السحريّةَ أو الواقعيةَ الملائمة لحلِّ مشاكلِهم وبلورةِ شخصيّتِهم وتخليصِها من التشويش الذي كان يساكنها لفترات، طويلةٍ أو قصيرةٍ من فترات التاريخ.

على الأقل، أرى أن هذا الأمر كان واضحاً منذ مجيء الإسلام وحتى اليوم.

لن أذهبَ إلى تاريخ العرب ما قبل الإسلام، والحضارات التي أنشأوها، وماذا كانت تعني العروبة في تلك المراحل السالفة؛ فهذا متروك للمؤرّخين، للبحثِ والحفر في خباياه، مع ما تظهره الحفريات الأثرية من لُقىً جديدةٍ تكشفُ عن حضاراتٍ مزدهرةٍ سالفةٍ حتى في الصحراء.

العروبةُ في اللحظةِ الإسلاميّة:

حين جاء الإسلام، كان العربُ في حالةٍ من الشعور بالذات المتمايزة عن غيرها: بلُغَتِهم وعاداتِهم ومثُلِهم العليا وطرقِهم في العيش، المتمايزة عما كان يجاورهم في المحيط، وبالتحديد في أمبراطورية الروم وأمبراطورية الفرس، اللتين كانتا تفرضان سيطرتَهُما على بلاد العربِ في الشمال: العراق والشام. بينما كانت شبه الجزيرة العربية تعيش حالةً من الاستقلال السياسي، على شكل جزرٍ مستقلةٍ أو قبائلَ أو تجمّعِ قبائلٍ في مناطقَ متجاورةٍ دون أن يكون لديها أيُّ نوعٍ من السلطة التي توحّد الكلَّ وتدافع عن هذا الكلِّ وتقودُه وتنظِّم علاقاتِه وتجعلُ منه قوّةً موازيةً للقوى الإقليمية في تلك المرحلة من التاريخ.

الوظيفةُ السياسيةُ التي قام بها النبيُّ محمّد، أو النتيجةُ السياسيةُ التي ترتّبت على رسالته الدينيّة، كانت بدايةً في توحيد العرب في كيانٍ سياسيٍّ واحد، له قيادةٌ مركزيّةٌ تنظّم أمورَه وتقودُه خارجَ حدودِ الجزيرةِ العربية، نحو الشامِ والعراقِ ومصر، وصولاً إلى بلاد فارس وغيرِها، حيث حققت أكثر ممّا كان يمكن لأكثر المتفائلين بنتائج تلك الوحدة أن يتوقعَه: لم ينتهِ الأمر عند تخليصِ العربِ من نفوذ الفُرسِ والروم، بل دحر الروم واستخلص مصر، كما قضى على الدولة الفارسية.

كانت العروبةُ راهنيّةً مع الإسلام. كان الإسلام بطاقةَ عبورٍ نحو توحّد العربِ وبناءِ كيانِهم السياسيِّ الموحَّد الواعي بذاته، ومقدمةً لبناءِ مشروعٍ حضاريٍّ دخلت فيه تعقيداتٌ كثيرةٌ فرضَها التنوعُ الجديدُ الناجمُ عن التوسِّعِ الكبيرِ الجغرافي والبشري.

المرحلة العبّاسيّة:

مع مجيء الدولة العباسية، طغت العناوينُ الدينيّة، وتراجع البعد العروبي، فلم يعُد من الممكن المحافظةُ على أهمِّيّة العاملِ العروبي في ظلِّ خلافةٍ عباسيّةٍ بات العربُ يشكّلون أقليّةً من سكانها، وبعد أن تحالف الخلفاء العباسيون مع تجمعاتٍ من بلاد الفرسِ في محاربةِ الدولة الأمويّة، وبعد ذلك استعانوا بعناصرَ بحتةٍ من الفرس أو من الترك للحفاظ على حكمهم.

كانت العروبة راهنيّةً مع مجيء النبيّ محمد لتوحيد العرب.

ولم تعد كذلك مع الدولة العباسية، بل أخلَت المكانَ للشعاراتِ الدينية، أو للعامل الديني، ولم يعد للعبِاسيين (العرب) من السلطة إلا الاسم، واستمرّ ذلك بالطبع مع المماليك، ثم مع العثمانيين: دولٌ يحكمها أو يسيطرُ عليها الفرس أو الترك أو المماليك أو العثمانيون، خلف شعاراتٍ دينيةٍ تؤمّنُ المشروعيةَ أو الغطاءَ الشرعيَّ للسلطات المتعاقبة.

مع الثورة الفرنسية: نهضةٌ كونيّة للقوميّات:

طفا أو طغى العاملُ القومي على المشهدِ الكونيِّ مع مطلع القرن التاسع عشر (بعد الثورة الفرنسية)، تلا ذلك تمايزٌ واضح بين العرب والأتراك في ظل الدولة العثمانية التي اتضح أنها كانت، كغيرها ربما، توظف العاملَ الدينيَّ لخدمةِ السياسيِّ في بعده القومي.

عادت العروبة لتصبح راهنيّةً من جديد، وأصبح أيُّ ناشط سياسيٍّ يرفع شعار العروبة يمكنُ له أن يكسبَ التعاطف، وبشكلٍ أكثرَ وضوحاً في منطقة المشرق العربي.. والمرحلة حافلةٌ بأسماءِ السياسيّين والمفكرين التنويريين الذين برزوا في تلك المرحلة.

لكنّ تبلورَ العروبة على مستوى الشعورِ الجمعيِّ والإحساسِ بالهوّية وعلى مستوى النخب المثقفة، لم تواكبه أشكالٌ متطورة من التنظيم السياسي والحزبي والخبرة في العمل السياسي في منطقة كانت محطَّ أنظار دولِ الاستعمار الناشئةِ والطامحةِ لتحلَّ محلَّ الأمبراطوريات التي شاخت، مثل الأمبراطورية العثمانية.

البعثيّون في الواجهة:

الفكر والتجربة السياسية اللذان شكّلا الطرح الأكثر راهنيّةً في تلك الفترة كان تجربة حزب البعث في أواسط أربعينيات القرن الماضي.

الانطلاقة البعثية التي حظيت بالتفافٍ واسعٍ وغيرِ متوقَّعٍ حولها في الشارع العربي تثبت أنّ ذلك الشارع كان يَنتظرُ خشبةَ الخلاص، وأنَّ هذه الطروحات تلامسُ التطلعاتِ والآمالَ العريضةَ للناس من جهة، وترتّب مسؤولياتٍ جساماً على تجربةٍ حزبيَّةٍ ناشئةٍ لم تصقلها التجربة بعدُ من ناحيةٍ أخرى.

ما يهمنا من الموضوع هو أنَّ راهنيّةَ العروبةِ في فترة ما بعدِ الدولةِ العثمانية أمرٌ لا تخطئه العين..

ثم جاءت التجربة الناصريّة لتثبت راهنيّة تلك العروبة، حيث كان بسطاء الفلاحين يتجمعون حول المذياع من المحيط إلى الخليج للاستماع إلى خطابات جمال عبد الناصر الوحدوية.

راهنيةُ العروبة واضحة كانت وما زالت.

والعروبيّون في الميدان منذ تلك اللحظة التاريخية وما زالوا. يصيبون ويخطئون، ومتصيّدو أخطائهم ينتظرون عند كل منعطف.

ضرورةُ القراءة النقديّة للمرحلة الماضية:

ليس مهمّاً إن كانت توجدُ مؤامرةٌ تستهدف المنطقة العربية أم لا، وهي على الأرجح موجودة. على الأقل هناك مصلحةٌ لدول الغرب في أن يبقى هذا العالمُ العربيُّ متخلفاً ومجزّأً ومستهلكاً وضعيفاً، وقد أصبح ذلك مصلحةً لدول المحيط المشرقيِّ الآن، وربما كان كذلك قبل الآن.

وإذا كان الأمرُ كذلك، فهذا يحمّل راهنيّةَ العروبةِ وحاملي لوائها مسؤولياتٍ أكبرَ وأعباءً أعظمَ وذكاءً في التعامل مع الداخل والخارج، خاصةً بعد أن تمكّنوا من الوصول إلى السلطة لأكثر من مرَّة وفي أكثر من قطر عربي.. فهل كانوا كذلك؟

التجربة الأكثر نصوعاً ونضوجاً للعروبيّين ربما كانت التجربة البعثية في العراق، التي استطاعت أن توظف إمكانيات ذلك القطر بفعاليّةٍ عالية وفي الاتجاه الصحيح، ما سمح له بأن يحقق قفزاتٍ هامةً في مجالات التصنيع والتعليم والطبابة والمقدرة العسكرية ومحاربةِ الفساد.. خلال فترة قياسية: ما بين تأميم النفط العراقي في أوائل السبعينيات وبداية الحرب العراقية الإيرانية.

لكنّ السؤالَ الذي يمكن أن يُسأل، أو يجب أن يُسأل: العراق الذي كانت لديه الجرأة لاتخاذ قرار النهوض، لماذا فشل في التوصل إلى تحاشي الوصول إلى ما وصل إليه بعد ذلك، من اجتياح واستباحة من الشرق والغرب؟

سؤال برسم المراجعة الموضوعية بعيداً عن التبرير والتجنّي.

في كل الأحوال، ظهر جلياً أنّ استهدافَ العراقِ أصابَ العرب، كلَّ العرب، في مقتلٍ وأدى بهم إلى حالٍ من الفوضى والانكشاف وجعلهم يقفون في العراء في عالم لا يحفظ حقَّ من لا يعرف كيف يدافع عن حقِّه.

خرابٌ وفوضى ونهبٌ في العراق، دمارٌ وفوضى في ليبيا، وفي سورية، وفي اليمن، ودولٌ خليجيةٌ تستجدي الاحتماء بالصهيوني في مواجهة البعبع الإيراني.. وفوضى في السودان، ومصرُ تعيش وكأنها في كوكبٍ آخر لا علاقةَ لها بأوضاع المنطقة ولا تأثير.

حالةُ الانكشاف والفوضى والاستنزاف في المنطقة العربية تؤكّد من جديد على راهنية العروبة.

في غياب العروبة، هذه نماذج عن البدائل: هذا ما يؤدي إليه غياب الحضن القومي.

وهذا يرتب أعباءً ومسؤولياتٍ إضافيةً على عروبيّي الأمس واليوم.

عبءُ مراجعةِ تجربتِهم السابقةِ وتحرّي أخطاءِ المرحلة الماضية، وعبءُ البحثِ عن وسيلةِ الخروج من المأزق الذي نحن فيه.

قد يكون الوضع الراهن بالغ الصعوبة على من يريد المبادرة والعمل على نقد الماضي ورسم معالم المستقبل والعمل على حلِّ مشاكله، لكن لا يبدو أن ثمّة طريقٌ آخر أو خيارٌ آخر.

في هذا السياق تأتي اجتهادات بعض الغيورين على حاضر هذه الأمة ومستقبلها، كمبادرة يجب أن تكون جزءاً من ورشةِ عملٍ قوميَّةٍ أوسعَ وأشمل.

أوراقٌ بحثيّة:

وفي هذا السياق تأتي مبادرةُ مكتبِ الدراسات والنشر في حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي في طرح هذه الإشكالية للاجتهاد والبحث، حيث تمَّ تقديمُ عدَّةِ أوراقٍ حول الموضوع في نُدوةٍ تمَّ إعدادُ أوراقها وتقديمها.

أدار الندورة الدكتور عبده شحيتلي، وقدم ورقةً بعوان: "راهنية العروبة: مبرِّراتُها والرهانات"، متحدثاً فيها عن راهنية العروبة وآفاق وتحدّيات المستقبل، مضمِّناً بحثَه إشاراتٍ نقديةً، بخاصّةٍ في ما يتعلّق بالديموقراطية، فـ"ما عاد مقبولاً بعد أن بلغ مجتمعُنا العربي هذا المستوى من التطوّر، بفعل تطور التعليم، والإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسيّة... أن يُمنَع كلُّ من يهتم بالشأن العام من المشاركة الفاعلة في الحياة السياسيّة وتولّي السلطة تشريعيّةً كانت أم تنفيذيّة"

الدكتور محمّد مراد قدّم بحثاً أكاديمياً مطوّلاً تناول المسألة في سياقها التاريخي. مؤكداً على أهمّيّة وخصوصيّة المجال الجغرافي العربي، التي يحلو للدكتور مراد أن يدعُوَها بـ "شخصية المكان" الذي جعل المنطقة العربية "منذ القِدَم.. مسرح تجاذبٍ للاستهدافات والغزوات والاحتلالات الوافدة من الخارج البعيد والقريب.. من أجل توظيف الخصوصيّات الجيوسياسيّة لهذا المجال في مشروعاتها الاستراتيجية لبناء القوة والنفوذ والتوسع والسيطرة" ما جعل الوحدةَ تُمسي "حاجةً تاريخيةً تستجيب من خلالها الجماعة ـ الأمة لتأمين التكافؤ في مواجهتها التحدياتِ والأخطارَ المحدقة بموقعها (قلب العالم)، وبمخزونها من الثروات الغنيّة، وبحضورها الإنساني الفاعل.."

بينما قدّم الدكتور علي بيّان تقريراً مكثّفاً حول انتشار القواعد الأميركية في المنطقة العربية، كمنطقة هيمنة ونفوذ، وكقاعدة انطلاق. معرّجاً قبل ذلك على الأخطار الأخرى التي تتهدّد العرب وعلى بعض المناطق والأقطار التي ما زالت خاضعة للقضم أو الاحتلال ووضع اليد، من الجولان وبعض الجنوب اللبناني وفلسطين، مروراً بالأحواز ولواء اسكندرون، وصولاً إلى سبتة ومليلة في أقاصي المغرب العربي أو المشاكل العديدة التي يعاني منها السودان..

وأخيراً قدّم الباحث الأستاذ حسن غريب مقاربةّ تناول فيها المشروع المضاد الذي يستهدف الأمة أساساً، وهو مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي جعل المنطقة العربية منطقة للتنافس بين الهيمنة الأميركية والهيمنة الإيرانية، مقدماً وجهة نظر حول توظيف "الربيع العربي" في إطار السعي إلى إحداث الفوضى في المنطقة العربية.

هذه هي عناوينُ وموضوعاتُ الأبحاثِ التي تمّ تقديمها في الندوة الفكرية تحت عنوان "راهنيّة العروبة" والتي تمثّل أحد أشكال الاستجابة لحاجة هذه الأمة إلى تداعي مفكريها والحريصين على مستقبلها إلى التداول في توصيف وتشخيص ما وصلت إليه أحوالها، وأساب ذلك، والمقترحات وخطط العمل من أجل مستقبلها.

 

محمد الحجيري

صيدا في 6 تشرين الثاني 2022

 


ليست هناك تعليقات: