تأرجحات أفلاطونية: بين
السقراطية والفيثاغورية.
محمد الحجيري
بدايةً أقول بأن أفلاطون، الذي
ابتدأ تلميذاً لسقراط، والذي كان المصدر الأساسي لما نعرفه عنه، وجعل منه الشخصية
الرئيسية في مجمل محاوراته الفلسفية (باستثناء "النواميس")، لدرجة أننا
لم نعد نميّز بين سقراط الحقيقي وسقراط أفلاطون.
أفلاطون هذا الذي بدأ سقراطياً بدرجةٍ ما، قد انتهى فيثاغورياً.
ورغم أن أفلاطون قد بدأ تلميذا لسقراط، إلا أنّ الفارق بين سقراط وأفلاطون ليس بالبسيط.
فإذا كان سقراط يبحث عن المعرفة بواسطة الحوار، بحثاً يبغي منه الوصول إلى التعريفات الكلّية، فالعلم لا يقوم على الجزئيات والحالات الفردية، وهو محقٌّ في ذلك؛ فسقراط كان يبحث عن تعريف للعدالة يتجاوز الحالات الفردية، يتجاوز هذا الفعل العادل أو ذاك؛ وكان يبحث عن تعريفٍ للجمال، يتجاوز هذا الشيء الجميل أو ذاك، فإن أفلاطون ذهب إلى القول بوجود واقعي لفكرة أو مثال الجمال ومثال العدل ومثال الحصان. وهذه المثل سابقة في وجودها على الأشياء الفردية في العالم، وهذا توجّه فيثاغوري واضح؛ فيثاغور الذي كان يرى أن الأعداد هي أصل العالم، وبأن للأعداد وجوداً مفارقاً مستقلاً عن الأشياء.
وسقراط الذي كان يعتبر بأن العقل المفكر يستطيع أن يتوصل إلى المعرفة، وأن هذه المعرفة كامنةٌ داخل كلٍ منا؛ فهو أساساً لم يكن يدعي التعليم، كان يحاور، كان يجعل الآخرين يفكرون ويتوصلون إلى المعرفة. جلّ ما كان يفعله أنه كان يناقش ما يتوصلون إليه ليكشف بتفكيره النقدي ثغرات إجاباتهم، ويجعلهم يعيدون التفكير من جديد لتجاوز تلك النقائص في تلك الإجابات.
حتى المعرفة بالرياضيات، كان يجعل محاوريه يتوصلون إليها من خلال رسم الأشكال الهندسية على الأرض ويجعل محاوريه يفكرون ثم يجيبون عن أسئلته. ولَئن كان البعض (ومنهم راسل) يعتبرون بأن هذه الأسئلة كانت موحية بالإجابات، فأظن أن ذلك لا يقلل من أهمية التفكير الشخصي المحفّز بالحوار والمصوّب بالنقد للوصول إلى المعارف والارتقاء بها.
أفلاطون هذا الذي بدأ سقراطياً بدرجةٍ ما، قد انتهى فيثاغورياً.
ورغم أن أفلاطون قد بدأ تلميذا لسقراط، إلا أنّ الفارق بين سقراط وأفلاطون ليس بالبسيط.
فإذا كان سقراط يبحث عن المعرفة بواسطة الحوار، بحثاً يبغي منه الوصول إلى التعريفات الكلّية، فالعلم لا يقوم على الجزئيات والحالات الفردية، وهو محقٌّ في ذلك؛ فسقراط كان يبحث عن تعريف للعدالة يتجاوز الحالات الفردية، يتجاوز هذا الفعل العادل أو ذاك؛ وكان يبحث عن تعريفٍ للجمال، يتجاوز هذا الشيء الجميل أو ذاك، فإن أفلاطون ذهب إلى القول بوجود واقعي لفكرة أو مثال الجمال ومثال العدل ومثال الحصان. وهذه المثل سابقة في وجودها على الأشياء الفردية في العالم، وهذا توجّه فيثاغوري واضح؛ فيثاغور الذي كان يرى أن الأعداد هي أصل العالم، وبأن للأعداد وجوداً مفارقاً مستقلاً عن الأشياء.
وسقراط الذي كان يعتبر بأن العقل المفكر يستطيع أن يتوصل إلى المعرفة، وأن هذه المعرفة كامنةٌ داخل كلٍ منا؛ فهو أساساً لم يكن يدعي التعليم، كان يحاور، كان يجعل الآخرين يفكرون ويتوصلون إلى المعرفة. جلّ ما كان يفعله أنه كان يناقش ما يتوصلون إليه ليكشف بتفكيره النقدي ثغرات إجاباتهم، ويجعلهم يعيدون التفكير من جديد لتجاوز تلك النقائص في تلك الإجابات.
حتى المعرفة بالرياضيات، كان يجعل محاوريه يتوصلون إليها من خلال رسم الأشكال الهندسية على الأرض ويجعل محاوريه يفكرون ثم يجيبون عن أسئلته. ولَئن كان البعض (ومنهم راسل) يعتبرون بأن هذه الأسئلة كانت موحية بالإجابات، فأظن أن ذلك لا يقلل من أهمية التفكير الشخصي المحفّز بالحوار والمصوّب بالنقد للوصول إلى المعارف والارتقاء بها.
هذا المنهج التوليدي السقراطي، هذا القول بأن المعرفة كامنةٌ داخل كلٍ منا، سيذهب بها أفلاطون بعيداً ليجعل المعرفةَ تذكراً، وتعود في أصولها إلى النفس التي كانت تعيش في عالم المثل، وكانت تعرف، ثم شربت من نهر النسيان (كما يقول في أحد مجازاته الأسطورية).. المهم أنها نسيت بعد أن حلّت في الجسد، وهي حين تعرف فإنما تتذكر ما كانت تعرفه سابقاً في عالم المثل، ولا يصل إلى التذكر الكامل إلا الفيلسوف الذي يستطيع تجاوز عالم المادة الوهمي ليصل إلى المعرفة بالمثل الأزلية الثابتة.. وهو في ذلك يقترب من نوعٍ من التصوّف العقلي ومن الفيثاغورية.
ما يلفت الانتباه هو موقف أفلاطون (في محاورة ثماوس) من المرأة. وهو في نظريته في التناسخ وانتقال الأرواح بعد الموت، يجعل روح الرجل الشرير تتقمص امرأةً، وإذا أصرّت على شرّها فستتقمص في حيوان.. وهكذا.
يصف برتراند راسل موقف أفلاطون بالقول:
.. ولو عاش إنسانٌ عيشاً حسناً، ذهب بعد موته إلى حيث يقيم سعيداً إلى الأبد في نجمة، أما إذا عاش عيشاً سيّئاً، فسينقلب امرأة في الحياة الأخرى؛ ثم إذا أصرّ (أو أصرّت) على مواصلة العيش السيّء، أصبح (أو أصبحت) حيواناً أعجم، ويظل ينتقل بالتناسخ خطوةً بعد خطوة، حتى يتغلّب العقل في النهاية.
هذا ما يراه أفلاطون في محاورة "ثيماوس". وثيماوس هذا هو أحد أعلام الفيثاغورية.
ومحاورة "ثيماوس" جاءت بعد محاورة "الجمهورية".
يقول راسل: يشغل فيثاغورس في محاورة "طماوس" نفس المكان الذي كان يشغله سقراط في المحاورات السابقة لها؛ وآراء المدرسة الفيثاغورية على وجه الإجمال هو وجهة النظر التي اتخذت في هذه المحاورة، بما في ذلك (إلى حدٍ ما) الرأي القائل بأن العدد هو ما يفسر العالم؛ وتبدأ المحاورة بتلخيص للخمسة الكتب الأولى من "الجمهورية"..
المرأة في "الجمهورية":
.. إذا كان هذا هو رأي أفلاطون الفيثاغوري في المرأة، فما كان موقفه منها في محاورة الجمهورية، التي يبدو أن أفلاطون لم يكن قد دخل بالكامل في دائرة الانخطاف الصوفي الفيثاغوري؟
يفاجأ القارئ بأن المرأة كانت تحظى في "الجمهورية" بالكثير من التقدير، وهي تقف على قدم المساواة مع الرجل، تخضع لنفس النظام التربوي، وتحظى بنفس الفرص، ويمكن لها أن تكون من الفلاسفة الحكام، أو من طبقة الجند.
في جمهورية أفلاطون "تتلقّى البنات نفسَ ما يتلقاه البنون من تعليم، فيتعلّمن الموسيقى والألعاب وفنّ القتال مع الصبيان جنباً إلى جنب، ومن حق النساء أن يكنّ على أتمّ مساواةٍ بالرجال في كل شيء "فنفس التعليم الذي يجعل من الرجل ولياً للأمر طيباً، سيجعل من المرأة وليّة للأمر كذلك، لأن الطبيعة الأساسية في كليهما واحدة". ولا شكّ أن هنالك فروقاً بين الرجال والنساء، لكن هذه الفروق لا شأن لها بالسياسة، فبعض النساء فلسفيُّ النزعة، ويستطيع أن يتولى شؤون الحكم، وبعضهن حربيّ الصبغة، ويمكن أن يكنّ جنديات ماهرات." (عن برتراند راسل)
ما يثير الاستغراب والتأمل فعلاً، هو موقف أفلاطون الذي يبدو أنه تراجع عن شطحاته الفيثاغورية في سنواته التالية. فإذا كان في مرحلة كتابة "ثيماوس" كان قد تخلى عن سقراطيته لصالح نوعٍ من التطرف الفيثاغوري، فإنه في كتابه الأخير والأنضج، أقصد في كتاب "القوانين" يعود إلى واقعيته (بما نفهمه نحن من كلمة واقعية، وليس بالمعنى الأفلاطوني، الذي يرى أن الواقع هو عالم المثل)، ربما بسبب الصدمات التي تعرض لها، فيرى بأن بناء المدينة "الفاضلة" تكون من خلال إصلاح القوانين، من خلال إصلاح دستور الدولة، وليس من خلال حكم الفلاسفة كما ذهب إلى ذلك في الجمهورية.
(محمد الحجري؛ 5 أيلول 2019)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق