[عن الانحطاط والنهضة]؛ جورج سارتون.
عن كتاب "مقدّمة في تاريخ العلوم"
ترجمة فاطمة عصام صبري
لم يكن انحطاط الإسلام بسبب نقص
القوّة المادّية والتفوّق السياسي وضياعهما بل بسبب أن القوّة الروحية فيه قد
تداعت. إن الشعور بالعزّة الذي تضرمه فينا ذكرى أعمال أجدادِنا المجيدة هو شعور
خطير لا سيما إذا رافقه تقاعسٌ في جهودنا. فالشعب الذي يقوم بالأعمال العظام لا
يتبجّح بها إذ ليس لديه وقتٌ لذلك، وهو على تحقيق أهدافِه أشد إكباباً منه على
استجداء الإطراء من الشعوب الأخرى. وعندما يهرم أفرادُه وقد أنجزوا ما كان عليهم
عملَه يغالون في ترديد ذكرياتِهم وتمجيد أنفسهم. إن هذا ليس أمراً ذا بال في حياة
الأفراد القصيرة إذ لا بأس من أن يسمح لهم بوقتٍ قصير يستمتعون فيه بدفء الشمس قبل
أن يرحلوا، ولكنه ـ بخلاف ذلك ـ أمرٌ على جانبٍ كبير من الخطورة في حياة الأمم
لأنها إذا بدأت تستريح إلى مجدها وتتباهى بماضيها دون أن تمشي قُدُما فإنها في
طريق الانحطاط تسير وهي في سبيل الضياع. إنها تستمر في وجودها لأن القاعدة هي أن
الأمم لا تموت ولكن حياتها محكوم عليها بالتفاهة. وهذا تماماً ما حدث للإسلام:
توقف الجهد الخلاّق ورافقه ازدياد التفاخر وازدراء الآخرين، وصار النور الباطن
كابياً حتى إن إيمانهم أضاع قوّته وصفاءه. وحلّت الخرافة محلّ الدين، والتعصبُ
مكان الاعتقاد، والكراهيةُ بدل المحبة.
وينبغي أن نُسهِب بعض الشيء في الكلام على
ذلك العامل الرئيسي في الانحطاط، ألا وهو الخُرافة، لأنها أكثر العوامل مخاتلةً،
ونماؤها ليس سبباً رئيسياً للانحطاط وحسب، وإنما هو أكثر أعراضه وضوحاً.
إن الخرافة تروق دائماً للشعوب الجاهلة
التي تريد أجوبةً عن أسئلتها؛ أجوبةٌ يكون العرّافون على أتمّ أهبةٍ لتقديمها. هكذا
كانت الحال وأبداً ستكون: عندما تضعف الجهود العلمية العربية، تخالط الخرافةُ
العلمَ نفسَه فيكون هذا أمراً مشؤوماً. لقد شرفت المؤلفات العلمية العربية بعديد
من الروائع ثم بدأت تنحدر بفيضٍ من المؤلفات التنجيمية والسيميائية والسحرية. ويبدو
تسرّب فضول السحر إلى الرياضيات على أتمّ شكلٍ في كتاب لمؤلِّف روحاني من الجزائر
يدعى أحمد بن علي البوني، عاش في النصف الأول من القرن الثالث عشر. ولكن أفضل شرحٍ
للموضوع بكامله نجده عند رجلٍ من أبرز مفكري العصور الوسطى في الشرق والغرب وهو
التونسي ابن خلدون (عاش في النصف الثاني من القرن الرابع عشر).
تأملوا مثلاً ما كتبه عن الهندسة:
"واعلم أن الهندسة تفيد صاحبَها
إضاءةً في عقلِه واستقامةً في فكره لأن براهينها كلَّها بيّنة الانتظام جليّة
الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيسَتَها لترتيبها وانتظامِها فيبعد الفكر بممارستها
عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقلٌ على ذلك المهيع، وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب
[أكاديمية] أفلاطون: من لم يكن مهندساً فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخُنا رحمهم الله
يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يَغسِل منه الأقذار
وينقّيه من الأوضار والأدران، وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه".
إن بيانه هذا على ما فيه من إطنابٍ جديرٌ
بالإعجاب، أصاب فيه المحزّ وطبّق المَفصِل. فالخرافات في الفكر الإنساني كالقذارة
والطفيليات في الجسم، مدعاة خزيٍ مرير. ويا ويحَ الشعوب التي تبتلي بالخرافات
والطفيليات فهي لا تدرك خزيها وإنما تميل إلى الاستزادة منه وتغرق أنفسها في
الحقارة يوماً بعد يوم.
إنّ مناقشة ابن خلدون للخرافات المختلفة
عند المسلمين هو بحثٌ فريد في مؤلفات العصور الوسطى، مع أنه على حصافته لم يستطع
أن يتحاشى تصديق بعضها. وتفاقم الأمر سوءاً بعد عصره إذ حصل إذ ذاك ما يشبه ما
ندعوه اليوم بالتفاعل المتسلسل: فانحطاط الإسلام الروحي أشرع الباب إلى ازدياد
الخرافات. وقد حطم جهل رجال الدين وتعصّبهم سدود العقل، وأنمت الخرافات الجديدة
عند الشعب سرعة التصديق وقلّة المحاكمة والغفلة والتعصّب، وأفضت الخرافة إلى
الخرافة وهكذا دواليك. وتفاقمت خطورة هذه الحال لأنه في الوقت الذي بدأت تهزل فيه
الجهود العربية ويصبح الشعب العربي فريسةً سائغةً للخرافات المتزايدة كان الشعب الغربي
(اللاتيني) يكشف عن سرٍّ جديد لمعرفةٍ لا تتناهى وحياةٍ زاخرة، تلك هي الطريقة
التجريبة التي أنشأت حضارةً جديدة في بضعةِ قرون وبعثت فوق ذلك ثورةً في العالم
كلِّه في العالم الروحي وفي العالم المادي معاً. ولم يكن للشعب الناطق باللغة
العربية نصيبٌ في ذلك. بينما كانت الأمم الغربية تتقدم بحطى حثيثةٍ جداً، كان
العرب مسمّرين في أمكنتهم، وهكذا بدأوا يتراجعون بلا رجاء. فالإسلام الذي بارتقائه
العظيم رفع العرب إلى أسمى الذرى عاد فألقى بهم لمّا تداعى في عميق الهاوية.
ولكن هذا ليس نهائياً على أيّة حال،
فالأمور في الواقع تتغيّر بسرعة. ولقد قادت شعوب الشرق الأوسط العالم مدى حقبتين
طويلتين طوال ألفيّ سنة على الأقل قبل اليونان، ثم كرّةً أخرى في العصور الوسطى طوال
أربعة قرون أو ما يزيد على ذلك. فليس ما يمنعها من أن تقوده مرّةً جديدة في العاجل
أو في الآتي البعيد.
كان سبب قيادتهم في الحقبة الأولى عبقريتهم
الخلاّقة؛ كانوا البُناة الأوّل والكتّاب الأوّل، أفاقوا قبل أن يفيق سائر
العالَم. أما الحقبة الثانية فكانت أقصر من الأولى وأقلَّ أصالةً إلا أنها تظلّ مع
ذلك خصيبةً غاية الخصب. لقد سبقوا بحضارتِهم القديمة اليونان في مضمار المآثر
العلمية أو فتحوا السبيل لهذه المآثر فجعلوها ممكنةً ثم تغيّر الأمر فأصبحت الشعوب
الناطقة باللغة العربية ورثة العلم اليوناني ونقَلَتَه إلى الغرب. ولم يكونوا
نقلَةً لا نظر لهم ولا تأثير، بل على العكس، زادوا التراثَ اليونانيَّ وأورثوا
خلفاءهم اللاتينيين تراثاً أغنى. ولا يرجع رقيّهم في هذه المرّة إلى أصالتهم
الخلاّقة بقدر ما يرجع إلى إتقانهم وحماستهم الفذّة. لقد أدركوا إذ ذاك ما كانوا
قد نسُوا من أن المعرفة يجب أن تشاد على قواعدَ راسخةٍ وإذا لم تضرب جذور الحضارة
إلى عمقٍ كافٍ فإن هذه الحضارة سوف تذوي وتموت. وكانت جذورهم الدينية وافيةَ
العمقِ وكذلك كانت جذورهم العلمية، لفترةٍ على الأقل، الجذور اليونانية القديمة. أدرك
قادتُهم أدراكاً جليّاً أن المرء إذا شاء أن يحصل على
المعرفة العلمية ينبغي أن يبدأ من جذور أوّلِ المبادئ لا من قمّة آخر التطبيقات. يسهل
قطف الثمار الناضجة من أعالي الشجر. حتى الأبله يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن الأصعب
منه غرس الأِشجار السليمة التي تعطي أغزر الثمار في مواسمها. هذا هو الدرس الذي
يجب أن يتعلّمه اليوم شعبُ الشرق الأوسط ثانيةً.
لا طريق إلى العلم قصير. من اليسير تعليم
الميكانيك، ولا صعوبةَ بالغةً في تدريب المهندسين، ولكن إعداد رجل العلم عمليةٌ
شاقة وطويلة. إن درب العلم لا راحة فيه ولا نهايةَ له.
ويقتضي الابتكار في العلم والمعرفة من
المرء سنين طويلة ومتواصلة إن لم يستنزف عمرَه كلّه. بل إن الحياة ذاتَها جدُّ
قصيرةٍ وكل رجل علمٍ يورث من يأتي بعدَه مسائلَ غير محلولة. ليس من سببٍ يعوق عرب
اليوم على الإطلاق عن أن يضاهوا أسلافهم ويتبوّأوا مركز القيادة مرّةً جديدة. حقاً
ليس هذا سهلاً، وهو يزداد صعوبةً كلَّ يوم، ولكنه أمرٌ ممكن. (159)
لقد تمّت انطلاقةٌ جديدة في المضمار الديني
دعا إليها الشيخ محمد عبده فراق الجوّ الإسلامي. وكذلك أخذ يهود الشرق الأوسط
ومسيحيّوه ينهجون نهجاً أفضلَ من قبل، وارتفع مستوى التعليم في عدّة بلادٍ
ارتفاعاً ملحوظاً. وكان الفضل في جزءٍ جوهريٍّ من هذه النهضة العلمية يعود للجهود
الأميركية وخاصةً الجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت منبت الرجال الصالحين
والنبع الدائم للإرادة الطيّبة، فهذه الجامعة والمعاهد الأخرى في القاهرة
واستانبول وبغداد لم تقدّم فقط هباتها الفائقة بأكرمِ روحٍ وإنما خلقت تنافساً
ودّياً واضطرت المدارس الأخرى أن تحسّن مناهجها. ولا يستطيع المرء أن يفي المشرفين
على هذه المعاهد ولا من يقومون بإدارتها حقوقهم من الشكر لكل ما أولوه من هبات
مباشرة وغير مباشرة. ثم إن الاستقلال السياسي قد أعلى المطامح الروحية في كل بلد،
ولا سببَ يقف حائلاً دون تحقق هذه المطامح ما دامت مدعومةً بالأعمال والتضحيات
المتلاحقة لا بالكلام وحده. ثمّة عديد من المسائل ما برحت بلا حلول، ولكن حيث توجد
الإرادة يوجد السبيل إلى الحل. وإن كان سبيلاً طويلاً يحتاج إلى كثيرٍ من الصبر. وأهم
ما في الأمر إدراك أن النشاط العلمي شديد الصعوبة، وأن على المرء أن يشمّر عن ساعد
الجِدّ لبذل جهودٍ هائلة. فالذين يضلّهم الظن أن الأمر سهلٌ وأنّ بوسعهم مراوغة
الصعوبات هم أناسٌ قدّر لهم الإخفاق إذ كانت الجهود التافهة تضيع عبثاً.
ليست المدنيّة مرضاً فيعالَج، إنها معركة
نضال مستمر. هي معركةٌ ليست مضمونة العاقبة. فحرّيتنا ومعرفتنا وكل ما في حياتنا
من نِعمٍ هي دائماً رهن الاختبار. ينبغي أن نواصل البرهان على جدارتنا بتلك القيم
وإلا فقدناها. إن تراخَينا زلّت أقدامُنا. لا نهاية لكفاح الظلم والخطأ والقبح
والفقر.
أنا لا أزال أؤمن بالتقدم إيمان سينيكا لا
إيمان أنصاف المتعلمين الذين يقيسونه بألفاظ التقدم المادي والرفاهية. إن التقدم
المادي المحض مهلك بل إنه ليس تقدماً على الإطلاق، وإنما نكوصٌ حقيقي. والتقدم الصحيح
الذي معناه إصلاح لواقع الحياة لا يمكن أن يتخذ له أساساً الشغف بالآلات والعُدد
بل يجب أن يقوم على الدين والفن وفوق كل شيءٍ على العلم، على العلم الخالص، وعلى
حب الله وحب الحقيقة وحب الجمال وحب العدالة.
ويتّضح ذلك اتضاحاً كافياً حين ننظر إلى الوراء،
من هم عظماء الرجال في الغابر؟ من هم أعلام المصلحين عندنا؟ لمن ندين بنعم حياتنا
ومسرّاتها؟ كانوا رجالاً من أمثال أفلاطون وأرسطو وإقليدس وأرخميدس في اليونان
القديمة وأمثال الفارابي وابن سينا وابن الهيثم والبيروني والغزالي وابن رشد وابن
مثمون وأبي الفداء وابن خلدون في العصور الوسطى. لم يعش أولئك الرجال في معزل عن
الحياة الاجتماعية، وكان الحكام والموسرون في أيامهم أعظم شهرة منهم، بيد أن
الحقيقة تجلّت تدريجاً وها نحن أولاء لا نذكر من الرجال إلا هؤلاء وأمثالَهم، أما
الملوك والسلاطين والوزراء فقد غدَوْا نسياً منسيّا. لقد كان الحكّام وموظفوهم
يعملون ليومهم أو لعامهم أما العلماء ورجال المعرفة فقد كانوا يعملون للخلود. وإننا
لنشعر شعوراً عميقاً بما ندين به لهم ونقرّ بفضلهم علينا. والذي يتضح حين ننظر إلى
الوراء ينبغي أن يتضح مثله تماماً حين ننظر إلى المام فيهدي خطانا إلى المستقبل.
كثيراً ما يتحدث الناس عن التفاوت بين
الشرق والغرب، هذا التفاوت قائمٌ إلا أنه أقلّ أهميةً جداً من التفاوت بين المادية
والنفعية من جهة وبين المثالية من جهةٍ أخرى. فهذا التفاوت الثاني مستقل عن الزمان
والمكان. ولقد وجد ويمكن أن يوجد في كل زمان ومكان. لعلّ بعض الناس يريد منّا أن
نعتقد أن سكان الشرق الأوسط مثاليون وأن سكان الغرب ماديون، وذلك يفسّر لمَ أثرى
الغربيون وافتقر الشرقيون. بيد أن هذا بعيدٌ عن الحقيقة. ففي الغرب فقر كثير وفي
الشرق غنىً واسع. ولكن ربما كان التباين على وجه العموم بين الغنى والفقر في الشرق
أعظم منه في الغرب، وأن أثرياء الغرب عامةً أكثر كرماً وحباً للخير وأعظمَ حكمةً
في إحسانهم من أثرياء الشرق الذين يتّسم سخاؤهم بالمباهاة والتفاخر.
ومع أن الشرق الأوسط كان مهداً لدياناتنا
ومُثُلِنا العليا في العلم والفنّ، فإنه من الخطل أن نقول إنه اليوم أشد مثالية من
الغرب. يصبح هذا القول تملقاً أكثر منه صدقاً ومثل هذا التملق أذيّته أشد من نفعه.
في رأيي أن الشرقيين لا يختلفون في الجوهر عن أولئك الغربيين. ففي كل بلد يجد
المرء درجاتِ السلّم تامة. من أوج الولاية إلى حضيض الفساد.
ندر من هو صالح جداً، وكذلك ندر من هو
فاسدٌ حقاً. والغالبية العظمى ضحايا الظروف والملابسات، قد تسمو بهم العدالة
واللطف سموّاً لا يضاهى، كما قد يطوح بيسرٍ بهم البؤس والشر والكذب. تبقى المسألة
الرئيسية في عالم اليوم، (بل في كل زمان) مسألة رفع المستوى الروحي للجماهير. فإذا
أخفقنا في رفع هذا المستوى انقلبت كل مزايا مدنيتنا المادية عليه، فحطت منه
وحطمته. إذا جعلنا قيمنا الأساسية العدالة والإحسان والحقيقة نجونا، وإذا جعلنا
قيمنا الأساسية الراحة والمال حاق بنا الهلاك.
ليست المدنية مرضاً، ولكن قد يسري المرض
والعفونة إلى قلوب الفاسدين من الناس. ليست المدنية شرقية ولا غربية. لم تلق عصا
التسيار في واشنطن ولا قبلها في بغداد، إنما تستطيع أن تتوطد حيثما وحينما يوجد
الصالحون وتوجد الصالحات من الناس الذين يدركون معناها، ويعرفون كيف يمارسونها ولا
يسيئون تلك الممارسة.
إن الشرق
الأوسط (إذا لزم أن نستعمل هذا المصطلح) كان مهد حضارتِنا وهو الذي هيّأ لها أسباب
النجاة إبّان العصور الوسطى حين كان الستار الحديديّ يفصم العالم إلى شطرين. نرنو إلى
ماضيه بعرفان الجميل، ونرنو إلى مستقبله بالأمل الوامق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق