(عن كريستيان دو لا
كامبانيْ: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ترجمة حسن أحجيج)
[تمفصلات]
أود منذ البداية البرهنة على أن الربع
الأخير من القرن التاسع عشر يشكل بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة بداية
"قطيعة" ما زلنا نعيش في شرَك نتائجها. (ص 8)
مقدمة: مولد الحداثة.
سوف يحصل القرن العشرون من لائحة جوائز
التاريخ على الجائزة الكبرى في الرعب عن جدارة واستحقاق، وسيكون البحث عبثاً، إذ
لم يشهد أي عصرٍ آخر اقتراف مثل هذا القدر من الجرائم على مستوى كوكبنا. إنها
جرائم جماهيرية طُبِّقت على نحو عقلاني وبرباطة جأش..
ومع ذلك، كانت انطلاقة هذا القرن جيدة قبل
أن تتحول إلى مأساة، إذ كانت هناك بدايات تنبئ بالخير، وكانت تلك البدايات دوافع
حقيقية إلى التفاؤل بالنسبة إلى أوروبا التي بلغت أوج قوتها بين 1880 و1914.
ألم تعش أوروبا خلال السنوات الثلاثين التي
سبقت الحرب العالمية الأولى عصراً ذهبياً حقيقيا؟ فقد كانت تهيمن على بقية العالم
عسكرياً واقتصادياً، وكانت تعتقد أنها تشهد عهد انتصار الفكر الأنواري بفضل تقدم
التكنولوجيا والطب والتربية. وفي الوقت نفسه، دخلت بفضل طليعتها من المفكرين
والمبدعين عهداً جديداً هو عهد "الحداثة" الذي أعلنت عن مجيئه التغيرات
العميقة التي مسّت النظام الثقافي. ولتقييم هذه التغيرات يتعيّن علينا أن نتذكر أن
الإنتاجات الفنية والمعرفية لم تكن تُعد منذ عصر النهضة إلى نهاية القرن التاسع
عشر مجرد بناءات ذهنية، وإنما تمثيلات وفيّة للواقع الذي يسبقها في الوجود. كانت
الآلية التي تتولد وفقها هذه التمثيلات بدون شك موضوعاً لتحليلات متنوعة جداً كانت
تعترض أحياناً على السمة "الطبيعية" لهذه التمثيلات، لكنّ مثل هذه
النزعات الشكية تظل مع ذلك معزولة. أما معظم الذين تساءلوا حول تمثلاتنا، فإنهم
يرون أن علاماتنا صادقةٌ ولغاتِنا حقيقية، وعقلنا متوافق جداً مع العالم. (ص 11)
بدأت هذه العقائد التي سادت مدة طويلة تفقد
تدريجياً هيمنتها انطلاقاً من سنة 1880. إذ ارتبطت هذه العقائد بفكرة عن الكون لم
تتغير منذ ثلاثة قرون، ووجدت هذه الفكرة والعقائد نفسها أخيراً عرضةً للتساؤل.
وظهرت مجموعة من الأسئلة كانت مكبوتة حتى ذلك الحين: هل لعلاماتنا أساس خارج
ذهننا؟ هل القوانين التي تنظّم هذه العلامات هي القوانين الممكنة الوحيدة؟ هل من
المؤكد أنها تعكس شيئاً آخر غير اختيارات ذاتية أو معايير ثقافية؟ وبدأ كثير من
العلماء والفنانين والفلاسفة يشككون فيها لأسباب متعددة. لكن إذا كان الكثير منهم
يعتقدون أنّ تطلّع لغاتنا إلى قول الحقيقة ليس إلا وهماً، فإنهم بالمقابل شغفوا
بالعلامات نفسها التي تربح على مستوى السرية ما تفقده على مستوى الشفافية. وينطبق
الشيء نفسه على آلية التمثل التي أصبحت في سنوات قليلة موضوع تأملات مدمرة.
يتعلق الأمر إن شئنا بـ "أزمة"
معيشة كإغناء، وإلى حدٍ بعيد كتحرر. ذلك أنه إذا لم يكن منطق التمثل في معناه
الكلاسيكي سوى بناءٍ ذهني، وليس تعبيراً عن بنية "طبيعية" وثابتة، فإن
من الممكن وجود أنماط بنائية أخرى، ويمكن تصور استعمالات أخرى للعلامات وإقامة
قواعد لعب أخرى. وعلى هذه القواعد أن تمكّن بدورها من استكشاف مناطق جديدة، وذلك
بقدر التعطش إلى التوسع الذي هيمن على أوروبا في كل الميادين.
هذه بعض الانشغالات التي تسمح لنا بتحديد
انبثاق ثقافة "حديثة"، حيثما رأيناها تزدهر بين العامين 1880 و 1914.
(12)
تتجلى هذه الانشغالات مثلاً لدى شعراء تلك
السنوات. .. [الذين] يشتركون في التعامل مع اللغة بحريّة لم يكن أحدٌ يجرؤ آنذاك
على التفكير بها.
..
لكن لغة الرسم هي التي تعرضت أكثر من غيرها
لتغيرات مذهلة؛ وكان السبب المباشر في ظهور هذه التغييرات هو ازدهار التصوير
الفوتوغرافي. إذ ما جدوى الوقوف عند إعادة إنتاج المظاهر، بينما أصبح بالإمكان في
تلك الفترة القيام بهذه المهمة بواسطة وسائل ميكانيكية تماماً؟ ولمّا كان الرسامون
يعون أن هذا "التقدم" سيضعهم أمام تحدي بناء مشروعيةٍ جديدة، فقد قرروا
البحث في ذواتهم عن قوانين ستتحكم منذئذ في عملهم، بدل الاستسلام للقوانين التي
تفرضها عليهم العين.
بدأ تاريخ الرسم الحديث، كمغامرة فلسفية
حقيقية، مع رد فعل كل من سيزان وفان غوغ وغوغان ضد الواقعية البصرية التي بجّلها
الانطباعيون من جهة، ومع الرمزية من جهة أخرى. لقد فتح الأوائل الباب لإعادة بناء
ذهنية للواقع، سيمنهجها المتوحشون (1905) والتكعيبيون (1908). أما في ما يخص أنصار
الرمزية.. فإنهم اختاروا التنكر للعالم المحسوس، وهدفوا إلى تصوير عالمهم الذهني
الخاص الذي يخترقه القلق الديني. وسينشأ الرسم التجريدي أو غير التصويري عن هذه
القطيعة الروحية تحت تأثير كل من كاندينسكي وكوبكا، ثم مالفيتش وموندريان بعد ذلك.
لنتفاهم أولاً، إذا كانت لوحة مالفيتش
"مربع أسود على خلفية سوداء" (1915) تنتمي إلى الرسم
"اللاموضوعي"، فإنها لا تفتقد قيمة تصويرية، بل إنها ترجع إلى مطلق روحي
فقط وليس إلى موضوع مرئيّ. وبعد ثلاث سنوات من ذلك، سجّلت لوحة "مربع أبيض
على خلفية بيضاء" نهاية المسار المساراتي. وعندما بلغ الرسم هدفه الأسمى،
اعتقد أنه وصل إلى نهايته، فتخلى مالفيتش عن ريشاته.
وتشهد عودة مالفيتش إلى ممارسة الرسم بعد
اعتزاله، لإنجاز لوحات تصويرية غريبة ذات إغراء "بدائي"، على أنه لا
يمكن تقرير موت الرسم بمرسوم، ولا موت الفلسفة أيضاً. (ص 14)
إن
ظهور الحداثة بالنسبة إلى العلماء لا تترجمه الطفرة الجذرية التي مسّت الصورة التي
يحملونها عن العالم فقط، بل يترجمه أيضاً السؤال الجدي الذي طرح حول أساس العلوم،
وكذلك ابتكار فروع معرفية تتمحور حول تحليل التمثيل.
كانت الرياضيات أول ما مسّته عملية إعادة
السبك التي بدأت في سبعينيات القرنالتاسع عشر، إذ انخرط علماء الرياضيات في مشروع
شجاع هو التفكير في لغتهم الخالصة، ذلك عندما لاحظوا أن مفاهيمهم الرئيسة، وخصوصاً
مفاهيم علم الحساب، تفتقد الصرامة. ويرتبط مشروع إعادة التفكير هذا بالازدهار
الفريد للمنطق الذي كان يميل إلى أن يصبح أكثر العلوم "جوهرية" من بين
العلوم الأخرى.
ودشنت العلوم الفيزيائية والكيميائية
بدورها مرحلة ازدهارها في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، إذ تلاحقت عدة
اكتشافات أساسية: فقد صاغ بلانك مفهوم "الكوانطوم"؛ وتوطدت أخيراً
الفرضية القديمة المتمثلة في البنية الذرية للمادة،وصاغ أينشتاين نظرية النسبية
(1905)، التي فجربت الفكرة الموروثة عن نيوتن والمتمثلة في المكان والزمان
المطلقَين. لذلك كانت بالنسبة إلى التمثل العلمي للعالم نظريةً ثورية، مثلما كان
الابتكار الملازم للتجريد ثورة بالنسبة إلى التصوير الرسمي.
تولدت الميكانيكا "الكوانطية" عن
البحوث التي أجريت حول لنية الذرّة، وعرفت في السنوات اللاحقة نمواً سريعاً. هذه
الميكانيكا، بصيغتها المهيمنة التي دافع عنها بوهر والتس سهلت انتشار ها نظرية هينزبرغ في التغير (1927)، انتهت بوضع
الحتمية الكلاسيكية محط تساؤل، ونازع في هذا التساؤل كلٌّ من أينشتاين وشرودنغز
وبروغلي الذين ما زالت اعتراضاتهم حول مستقبل الفيزياء موضع نقاش ضروس إلى اليوم.
ولم يكن التجديد في مجال البيولوجيا أقل
شأناً من غيره في المجالات الأخرى. فمن جهة، عملت نظرية التطور الداروينية على
إدخال الطبيعة في التاريخ، ومن جهة أخرى، خبا لهيب الصراع الدائر بين النزعة
الميكانيكية والمذهب الحيوي، تاركاً مكانه لمقارنة وظيفية للأحياء. وبفضل هذا
التغيير في الرؤية، حققت الفيزيولوجيا وعلم الأعصاب تطوراً مهماً، بينما فتحت
أعمال باستور الطريق للطب الحدي، وأعمال ماندل لعلم الجينات أو نظرية الوراثة.
وأخيراً جاء دور العلوم الاجتماعية، فقد ظل
اهتمام هذه العلوم منصبّاً مدةً طويلة على دراسة المكان والزمان البشريين (التاريخ
والجغرافيا والاقتصارد وعلم الاجتماع)، لكنها انطلاقاً من سنة 1880، ستغتني بثلاثة
تخصصات جديدة قاربت ظاهرة التمثل من زوايا مختلفة.
فعلى مسافة من الفيلولوجيا الكلاسيكية،
المنشغلة بالتطور التاريخي للغات أكثر من انشغالها بنمط اشتغالها الداخلي، قدم
العالم اللغوي السويسري دو سوسّير (1857ـ 1913) مبادئ علم لغوي جديد، لن تمارس
أفكاره كلّ تأثيرها إلا بعد مرور نصف قرن على ذلك.
وستنمو الإثنولوجيا من جهتها في حضن
الغزوات الاستعمارية، مساهمة في الوقت نفسه من تقويض أيديولوجيا المركزية العرقية
التي كانت تلهم تلك الغزوات. وبالفعل، كلما اكتشفت الإثتولوجيا غنى العادات
والمثلات "ما قبل منطقية" (ليفي ـ برول)؛ انقادت إلى الاعتراض على
"التفوّق" المزعوم للحضارة الأوروبية وإلى تقييم الوحدة العميقة للحدث
الرمزي، أي الجنس البشري، ذلك بغض النظر عن "غرابة" المجتمعات بدون
كتابة.
أما في ما يخص التحليل النفسيس، وهيكلمة
صاغها سنة 1896 الطبيب النمساوي سيغموند فرويد (1856ـ 1939)، فإنه، وإن كان لا
يشكل علماً بالمعنى المتعارف عليه، كما سيوضح ذلك كارل بوبر، لا يمكن اعتباره
نوعاً من الميتافيزيقا الجديدة ولا فرعاً من فروع علم النفس أو الطب النفسي.
واللاشعور الفرويدي ليس مدلولاً رومانسياً ولا مقولةً لوصف الأمراض، وإنما هو
"كيان" كوني يبدو أن ظهوره لازم ظهور اللغة والرمزي عموماً. ويرتبط
اكتشافه بممارسة نوعٍ من فك الرموز، سواءٌ من خلال العَرَض العُصابي (دراسات في
الهستيريا، بالاشتراك مع بروير 1895)، أو من خلال الحلم أو فلتة اللسان أو النكتة
لدى الإنسان "السوي". وقد بذل فرويد، الذي يبدو أنه لم يكن على علم
بالبحوث التي كان ينجزها معاصره سوسير، جهوداً كبيرة لتوضيح نظريته ف أعماله
الثلاثة، تأويل الأحلام (1900) وعلم النفس المرضي للحياة اليومية (1901) والنكتة
في علاقتها باللاشعور (1905). وتشترك هذه الأعمال الثلاثة في كونها تحمل التصور
نفسه عن "المشهد" النفسي كمكان لـ "مسرحية" يكون فيها
اللاشعور هو مؤلفها الخفي. ومقارنةً بالثورات التي كانت تحدث في مجالي الفن
والعلم، كان الإيقاع الذي تتطور به الأفكار الفلسفية هادئاً وبسيطاً. ومع ذلك إذا
كانت التحولات الفلسفية بين العامين 1880 و 1914 أقل إثارة من غيرها في المجالات
الأخرى، فإنها لم تكن أقل عمقاً.
ترتبط هذه التحولات بظهر انشغال علماء
الرياضيات بالأسس التي تقوم عليها هذه الأخيرة. ذلك أن صلابة باقي الأنشطة
المعرفية الأخرى تتوقف على صلابة الرياضيات. فلكي تنمو المعرفة في أمان يجب أن
تصاغ المبادئ الرياضية الأساسية بلغة دقيقة وصارمة وخالية من كل فرضية مسبقة،
حدسية كانت أو تجريبية أو ميتافيزيقية. بيد أن الوضع لم يكن كذلك سنة 1880.
ظلت الطريقة التي كانت تدرك بها هذه اللغة
آنذاك سجينةمذهب لم يكن يرضي مجمل علماء الرياضيات. وهذا المذهب، الذي كانت تدافع
عنه مدرسة ماربورغ بقيادة الفيلسوف الكانطي الجديد هيرمان كوهن (1842ـ 1918)، يعود
في جزئه الأساسي إلى النسق الذي عرضه قبل قرن من الزمان إيمانويل كانط في كتابه
نقد العقل الخالص (1781).
ما هو "المذهب النقدي" عند كانط؟
إنه نظرية متعلقة بالأسس التي تقوم عليها "قدرتنا المعرفية" وحدودها،
وترتكز هذه النظرية على وصف وتصنيف لأحكامنا قابلين للمناقشة.
يرى كانط أن كل حكم هو فعل عقلي يقيم علاقة
بين محمول وموضوع، ويعبّر عنه بجلمة تصاغ على نحو (س هي ص). ويمكن أن يكون هذا
الحكم تحليلياً أو تركيبياً. ففي الحكم التحليلي يكون المحمول متضمناً في تعريف
الموضوع. مثلاً: "كل الأجسام ممتدة". فالقول بأن الامتداد يشكل جوهر كل
جسم هو حكم يمكّن من توضيح المعرفة، لكنه لا يغنيها. وبالتالي لا تحقق المعرفة
نمواً حقيقياً إلا بفضل الأحكام التركيبية. (17)
وتنقسم الأحكام التركيبية إلى نوعين: أحكام
قبلية وأحكام بعديّة. ففي الحكم التركيبي البعدي، يجب أن يأتي الدليل على العلاقة
بين المحمول والموضوع من الخارج. مثلاً: "كل الأجسام ثقيلة"، ما دام
الثقل، على خلاف الامتداد، لا ينتمي إلى جوهر الأجسام. وبالمقابل، فإن تلك العلاقة
تمثل في الحكم التركيبي القَبْلي طابعاً ضرورياً وأبدياً. إذ إنها تستند إلى
"تجربة فكرية" مستقلة عن كل واقع. وباختصار، إنها تقوم على حدس خالص
وليس على حدس تجريبي. مثلاً: "7+5=12"، أو: "الخط المستقيم هو أقرب
مسافة بين نقطتين".
يفسّر كانط في الجزء الأول من النقد، الذي
يحمل عنوان "الجمالية المتعالية"، كيف أن كل هذه القضايا الرياضية هي
أحكام تركيبية قبلية. والحدس الخالص في الهندسة ينتمي إلى النظام المكاني: يدرك
عقلي وجود علاقة بين النقط والخطوط والمساحات الموجودة في فضاء ذهني. وفي الحساب،
ينتمي الحدس الخالص إلى النظام الزمني: يماثل عقلي عمليةَ جمعٍ كيفما كانت بتتابع
أرقام يحدث في الزمن كما هو الحال بالنسبة لعملية التفكير تماماً. وبالمقابل، فإن
كل قضايا الفيزياء والعلوم الطبيعية عموماً تشكل أحكاماً تركيبية بعدية؛ ولذلك تظل
دوماً قابلة للمراجعة.
ومع ذلك، تقتسم القضايا الرياضية والقضايا
الفيزيائية خاصّية مشتركة: وهي كونها تفترض أن كل تجربة معطاة في الحدس. وسواءٌ
كان الحدس خالصاً أو تجريبياً، فإنه ليس من الممكن أن تُعطَى فيه أيةُ معرفة بدون
اللجوء إلى التجربة وبدون حدوث لقاء بين مفهوم وحدس. يقول كانط في هذا السياق:
"إن الأفكار بدون محتوى تظل فارغة، والحدوس بدون مفهوم تظل عمياء".
يتعيّن على العقل إذاً ألا يتجاوز مجال
التجربة بأي حال من الأحوال. إذ لا معرفة إلا بما هو معروض في هذا المجال؛ وبصيغةٍ
أخرى، لا معرفة إلا بـ "الظواهر". فلا أحد يستطيع أن يعرف الأشياء
"في ذاتها"، أي بمعزل عن الطريقة التي تظهر لنا بها: تلك هي أطروحة كانط
الأولى. (ص 18)
ومع ذلك، ليست الكلمة الأخيرة للتجربة، ذلك
أن شروط إمكانها نفسها ليست تجريبية. رأينا سابقاً أن حدوسنا تصاغ في أشكالٍ قبلية
(المكان والزمان) وتنتمي إلى بنيتنا الإدراكية، كما أن كل مفاهيمنا تصدر عن اثنتيّ
عشرة "مقولة" عامة تنتمي إلى بنية فهمنا. وباختصار، إن الذات العارفة
ذاتٌ "متعالية" وسابقة على كل تجربة ممكنة، لأن موضوعية العلم تظل
مستقلة عن الشروط التي تنتَج فيها: وتلك هي أطروحة كانط الثانية.
إن هاتين الأطروحتين متكاملتان؛ فالأولى
تنقذنا من الوثوقية التي لا يمكن عقلاً مستسلماً لذاته أن يسقط فيها (لايبنز)،
وتنقذنا الثانية من النزعة الشكية التي يمكن للمذهب التجريبي المعمّم أن يسقطنا
فيها. هكذا أمكن لكانط أن يشعر بالرضى بعد أن وضع المعرفة في منأى من الخطرين
اللذين يتهدداننا. لقد استطاع أن ينتزع الفلسفة من "ساحة المعركة" التي
كانت تسجنها فيها الميتافيزيقيات المتصارعة. كذلك استطاع أن يضعها في "الطريق
الآمنة للعلم". ومنذئذٍ، لم تعد مهمة الفلسفة تتمثل في استخدامها كأرضية
للنظريات المتضاربة، العقيمة والاعتباطية، بل أصبحت تتمثّل في مصاحبة العمل العلمي
من خلال تسليط الضوء على المفاهيم العلمية. وبعبارة أخرى، أصبحت مهمة الفلسفة هي
التحقق مما إذا كان العمل العلمي يتمّ في الإطار الذي وضعه كتاب النقد.
إن النسق الكانطي، المتمثل في فلسفة العلم
كفلسفة حذرة، يشكل بصورةٍ ما أوجَ الفكر الأنواري. فعندما نتفحص عن قرب نظريته في
المعرفة، نلاحظ أنها تتضمن بعض الصعوبات. لكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن
العقلانية الكانطية ستجسّد أنموذجاً سيتبنّاه، لأزيد من مائة سنة، كل من سيعتقد،
مثل كانط، أن مهمة الفلسفة هي التأسيس للعلم، وأن هذه المهمة نفسها يمكنها أن تتم
بطريقة علمية. (ص 19)
يعرف الجميع اليوم أن هذين المعتقدين
وهميّان، لكن فتغنشتاين (1921) وهايدغر (1927) هما أول فيلسوفين سيؤكدان ذلك على
نحوٍ جليّ. ذلك أن الحركة المناهضة للكانطية التي تفجرت انطلاقاً من سنة 1880 لم
تكن موجة ضد هذه الأفكار العظيمة أكثر مما كانت موجهة ضد الدور الذي تسنده نظرية
الرياضيات إلى الحدس. كان أكبر المناهضين لهذا التصور الكانطي بين العامين 1880
و1914 هما فريجة وهوسرل. فالأول رفض الحدس جملة وتفصيلاً، بينما احتفظ به الثاني
ومنحه معنى ودوراً مختلفين. لكن الحقيقة أن الاعتراض ظهر قبلهما بشكل خفي، ذلك سنة
1810، أي بعد وفاة كانط بست سنوات. وظهر هذا الاعتراض في الأمبراطورية المجرية،
المنطقة الثقافية الواسعة التي صَعُب على الفكر الكانطي ذي الأصل
"البروسي" أن يتجذر فيها.
إن أول ناقد لكانط، وبالتالي الرائد الأول
لـ "الحداثة" الفلسفية، هو بيرنهارت بولزانو (1781ـ 1848). ولِد بولزانو
في براغ، وهو رجل دين كاثوليكي يدرّس "علوم الدين" في جامعة شارل. وهو
ذو عقل موسوعي يعلن انتماءه إلى فكر لايبنتس: أولاً نظراً إلى أنه عالم رياضيات
متألق، صاغ نظريات أساسية للتحليل كفرع من الرياضيات الذي يرجع إلى لايبنتس.
وثانياً، نظراً إلى اهتمامه بالمنطق؛ هذا التخصص الذي ظهر قديماً بفضل جهود أرسطو
والمدرسة الرواقية، والذي فتح له رامون لول Lull ولايبنتس آفاقاً جديدة لم يفهمها معاصروهما.
كان رامون لول (1233ـ 1316)، هذا الكتالاني
المعروف باسم رايمون لول، يرغب في هداية اليهود والمسلمين إلى الإيمان
"الحقيقي" بواسطة قوة الاستدلال الجيد فقط، لذلك تصوّر "فناً
عظيماً" قادراً على حل أي معضلة نظرية، كما هو الشأن بالنسبة إلى السيمياء Alchimie التي منحت البشر سلطة مطلقةً على المادة. ولم يُتوَّج هذا الجهاد
المنطقي اللاهوتي بالنجاح، بل جنى خيبات الأمل فحسب. وبعد مرور أربعة قرون على
ذلك، حلّ ديكارت ليتهكم بدوره بتأملات لول وينزع عنها كل مصداقية. (ص 20)
كان لايبنتس حذراً أكثر من سابقيه، لذلك
بذل جهده لتحسين "الفن" الذي اقترحه لول. لقد أراد هذا الدبلوماسي
المحنّك والمسيحي المسكوني أن يساهم بدوره في توحيد الجنس البشري من خلال تيسير
وحدة المعارف. لكن كيف يمكن الربط بين الفروع المعرفية المنفصلة بعضها عن بعض؟
يمكن الربط بينها بترجمتها في لغة كونية تكون في متناول الجميع: إنها لغة
الرياضيات. لذلك بذل لايبنتس جهوده للحفاظ على نوع الكتابة الصورية المكوَّنة من
عدد قليل من العلامات الأصلية القادرة على أن تسجل كل المفاهيم المفكَّر فيها
تبعاً لقواعد قابلة للتركيب في ما بينها. وللإجابة عن أي سؤال بمجرد إجراء عملية
حسابية بسيطة، يكفي تطبيق بعض العمليات الحسابية على هذه الرمزية المتفق حولها.
لكنّ معاصري لايبنتس لم يروا في هذه البحوث التي ظلت مجهولة مدة طويلة إلا نتيجة
لنزوع غريب نحو الحلم.
كان
كانط يجهل تلك البحوث، وكان فضلاً عن ذلك يعُدّ المنطق عموماً مجرد تخصص معرفي لا
جدوى منه، ولم يحقق أيَّ تقدم منذ أرسطو. وهذا هو السبب الذي دفع بولزانو
اللايبنتسي [نسبةً إلى لايبنتز] إلى رفض كانط.
أما السبب الثاني، حسب بولزانو المؤمن
بفضائل المنطق، فيتمثل في أن الاستعمال الجيد لهذا الأخير يمكنه أن يقدم لمشكلة
أساس الرياضيات حلاً مرضياً أفضل من الحل الذي اقترحه كانط. هذه هي الأطروحة التي
يناقشها بولزانو بتفصيل في كتابه "مساهمة في تأسيس الرياضيات على أفضل الأسس"
(1810). وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مرّ خفية في عصره، فإنه أول كتاب عارض مدلول
الحدس الخالص، الذي يعدّه بولزانو "صعباً" ومتناقضاً. فالحدس دوماً
تجريبي، سواءٌ أكان مكانياً أم زمنياً. ويمكنه أن يقوم بدور تكميلي ذي سمة تربوية،
شأنه شأن اللجوء إلى الشكل في البرهنات الهندسية. لكن لا يمكن المرءَ أن يستخرج
منه أيّ نظرية جديرة بهذا الاسم. فإذا أراد الباحث، كما يريد كانط، أن يؤسس
الرياضيات على أسس صلبة، فإنه يتغين عليه أن يدرك تلك الأسس بطريقة منطقية خالصة
بعد تطهيرها من كل عنصر حدسي. (21)
وعموماً، إن رغبة بولزانو في النجاح حيثما
فشل كانط هي التي قادته إلى رفض مذهب "الجمالية المتعالية". وعلى الرغم
من الوضعية الهامشية التي كان يشغلها بسبب اختياره هذا، تابع بولزانو نشاطه ونشر
في جوّ من اللامبالاة النسبية عملاً عظيماً يحمل عنوان "نظرية العلم"
(1837)، ثم ظهر له بعد وفاته كتاب "مفارقات في اللامتناهي" (1851).
ويعدّ هذا الكتاب الأخير مقدمة للبحوث التي
سيجريها لاحقاً عالم الرياضيات ريتشارد ديديكاند (1831ـ 1916) حول طبيعة الأعداد
اللاعقلانية. كذلك يعدّ "مقدمة لظهور نظرية المجموعات" (1872) على يد
عالم آخر سيعلن بدوره مناهضته للكانطية هو غورغ كانتور (1845ـ 1916).
أما كتاب "نظرية العلم"، فقد
عاود الصلة بطموح لايبنتس إلى تأسيس رياضيات كونية، أي بمشروع توحيد المعرفة
بواسطة قواعد نطقية خالصة. وأقحم بولزانو أيضاً مدلولاً جديداً هو "التمثّل
في ذاته" بهدف تسليط الضوء على ضرورة التمييز بين المحتوى المفهومي لتمثّل
معين من جهة، والصور الذهنية القادرة على التعبير عنه من جهة أخرى. وعموماً، فقد
طور الأطروحة ذات النفس الأفلاطوني القائلة: إنه لا يمكن اختزال القوانين المنطقية،
المزودة بـ "حقيقة في ذاتها" مستقلة عن ذاتيتنا، في العمليات التي تصاحب
صياغتها في عقلنا.
هكذا يظهر بولزانو كرائد لـ "المذهب
المنطقي" (أي لمذهب واقعي للكيانات المنطقية) الذي سيعاود الظهور مجدداً في
نهاية القرن التاسع عشر لدى كل من فريجه وهوسرل. ولن يعود الإشعاع لأعمال بولزانو
إلا بعد وفاته، وستؤثر هذه الأعمال في بعض الفلاسفة الذين لن يدخروا جهداً في نقد
كانط، مع أنهم لم يفعلوا ـ كل بطريقته الخاصة ـ غير استعادة الإيعاز الكانطي:
إقحام الفلسفة في "الطريق الآمنة للعلم".
كان تأثير بولزانو أكثر وضوحاً في النمسا
وبولونيا. فقد ظهر هذا التأثير مثلاً لدى فراتنس برينتانو (1883ـ 1917) الذي ولد
في ألمانيا ودرس في فيينا، وكذلك لدى أليكسيوس فون مينونغ (1853ـ 1920) الذي قضى
مجمل مساره المهني في غراتس بعد أن تتلمذ لبرينتانو. وقد عمّق مينونغ وبرينتانو
التفكير البولزاني في بنية الفكر، وخصوصاً في العلاقة التي تربط بين الفعل الذهني
والموضوع الذي يستهدفه. وألحّامعاً على ضرورة تجنيب المحتوى المنطقي لمفاهيمنا كلّ
تأويل ذاتي. وستلهم أعلماُهما كلاً من فريجه وهوسرل. (ص 22)
ومن جهة أخرى، سيعمل تلميذ آخر لبرينتانو
على نشر الأطروحات البولزانية في بلاده، وهو البولوني كاسيمير تواردوفسكي (1866ـ
1938) الذي ألّف كتاباً يحمل عنوان "في محتوى المثلات وموضوعها" (1894)
وكوّن طوال سنوات تدريسه في جامعة لفوف Lwow، بين العامين 1895 و
1930، جيلاً من المناطق المهووسين بتخليص نظرية العلم من كل اختزال سيكولوجي أو
تجريبي. وسيؤسس هرلاء المناطقة: لوكازييفتش، وليسنييفسكي، وتراسكي، وكوتاربينسكي ـ
بعد الحرب العالمية الأولى ـ مدرسة فرصوفيا التي ستغذي ببحوثها أعمال كارناب وبوبر
وكواين Quine.
وفي غضون ذلك، استطاع المنطق، الذي لم
يتطور منذ لايبنتس، أن يحقق تقدماً بفضل ثلاثة علماء: الأيرلندي جورج بول Boole، والأميركي تشارلز بيرس، والألماني غوتلوب فريجه. وستقدّم
أعمالهم، وخصوصاً عمل فريجه الذي يعدّ الانطلاقة الحقيقية للفلسفة الحديثة، إجابات
جديدة على لغز أسس الفلسفة. وستثير، بالموازاة مع أعمال نيتشه، اهتماماً جديداً
بمسألة اللغة.
ومع ذلك، لن يتم القضاء على
"أزمة" التمثّل، لكنها على الأقل ستمكن الفلسفة من أن تتحرر من
الكانطية، ثم لتكتشف أن ملاحقتها لمشروع كانط عبر سبل أخرى سيقودها إلى الطريق
المسدود. وهو اكتشاف سيلزم مفكري القرن العشرين، بالإضافة إلى عوامل أخرى،
بالتساؤل مجدداً حول التصوّر الكلاسيكي للعقل الذي يمثله ديكارت وفلاسفة الأنوار.
(ص 23)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق