محاورة "البحث علن الحقيقة بالنور الطبيعي"
ديكارت
ترجمة سفيان سعدالله
تقديم ديكارت للمحاورة:
البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي وهو نورٌ جدُّ خالص لا يحتاج إلى مساعدةٍ من الدين أو الفلسفة في تحديد الآراء التي ينبغي أن يمتلكها الإنسان النزيه، في ما يتصل بجميع الأشياء التي يمكن أن تشغَل فكرَه؛ كما أنه نورٌ ينفذ إلى أسرارِ أكثرِ العلوم استثارةً لحبّ الاطلاع.
البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي وهو نورٌ جدُّ خالص لا يحتاج إلى مساعدةٍ من الدين أو الفلسفة في تحديد الآراء التي ينبغي أن يمتلكها الإنسان النزيه، في ما يتصل بجميع الأشياء التي يمكن أن تشغَل فكرَه؛ كما أنه نورٌ ينفذ إلى أسرارِ أكثرِ العلوم استثارةً لحبّ الاطلاع.
ليس الإنسان النزيه مجبَراً على
الاطلاع على جميع الكتب، ولا على أن يكون قد حفظ جيداً ما يُعَلَّم في المدارس؛ بل
إنه من الخلل في التربية إن هو أنفق وقتاً طويلاً في تحصيل الآداب، فهو مطالَبٌ بإنجاز
الكثير من الأشياء الأخرى في مسيرة حياته التي توفّر له بإحكام تنظيمها، أفضلَ
الفرص لممارسة الأعمال النافعةِ التي ينبغي أن يكون عقلُه الذاتي قد هداه إليها،
إن هو اقتصر على التعلّم منه [من العقل].
ولكنه [الإنسان] قَدِم إلى
العالَم جاهلاً؛ ولمّا كانت المعرفة التي حصل عليها في السنوات الأولى من حياته لا
ترتكز إلا على قصور الحواسّ وسلطةِ المربّين، فإنه يكاد يكون من المستحيل أن لا
تمتلئ مخيّلتُه بعددٍ لا حدَّ له من الأفكار الخاطئة قبل أن يتمكّن عقلُه من الأخذ
بزمام الأمور، بحيث إنه يكون بعد ذلك في حاجةٍ إلى ملَكةٍ طبيعيةٍ قويّةٍ أو إلى
تعليماتِ بعض الحكماء، سواءٌ للتحرّر من المذاهب الخاطئة التي كان منشغلاً بها أو
لوضع الأسس الأولى لعلمٍ وطيد، واكتشاف جميع السّبل الكفيلة بالسموّ بمعرفته إلى
أرقى درجةٍ يمكنُه بلوغها.
تلك هي الأمور التي قصدتُ أن أعلّمها في
هذا المؤلَّف، فأكتشف ما تحويه نفوسُنا من كنوزٍ حقيقيّة، فاتحاً بذلك لكلّ إنسان
السبُل إلى أن يجد في نفسِه ودون استعارةِ أيِّ شيءٍ من غيره، كلّ العلم الذي هو
في حاجةٍ إليه لتدبير حياتِه، وليكتسب كل المعارف العجيبة التي في وسع العقل
البشري تحصيلها بعد الدراسة.
وأريد أن أنبّهَكم، حتى لا تأخذَكم، من
مشروعي الضخم، الدهشة الشديدة التي لا تترك مجالاً للتصديق، أنّ ما أشرع فيه ليس
عسيراً على النحو الذي يمكن تخيّله، لأن المعارف التي لا تفوق البتّة مستطاعَ
العقل البشري، مترابطةً في ما بينها ترابطاً رائعاً بحيث يمكن استنباطها الواحدة
من الأخرى باعتماد نتائجَ جدُّ ضروريةٍ، الأمر الذي يُغني الإنسان عن كثيرٍ من
المهارة والقدرة على اكتشافها، بشرط أن يعلم بعد البدء بأبسطها، كيف يرتقي درجةً
درجة حتى يبلغ أرقاها.
وما سأعمل على بيانه لكم في هذا
المقام، من خلال سلسلةٍ من الحجج شديدةِ الوضوح والشيوع، أن كلّ شخصٍ قادرٌ على
الحكم، بأنه لو لم يكتشف الأشياء نفسها على النحو المطلوب، فذلك راجعٌ إلى أنه لم
يبصر [ينظر] في الاتجاه الصائب، وأنه لم
يمعن النظر في ذات الأشياء [التي
أدركتُها]، وأنه لا فضل لي في العثور عليها، أكثر من فضل أحدِ المارّة وقد واتاه
الحظُّ، فوجد على مقربةٍ منه كنزاً عظيماً انصرف الكثيرُ من الناس في ما مضى، إلى
البحث عنه طويلاً دون جدوى.
وإنني لأعجب حقاً، من أنه لم يوجد بين
أصحاب العقول النادرة الذين كانوا أكثر كفاءةً مني، مَنْ كلّف نفسَه مؤونة الصبر
على تمييز المسائلِ بعضِها من بعض؛ بل إنهم قد قلّدوا كلُّهم تقريباً نوعاً من
المسافرين عَدَلُوا عن الطريق الرئيسيّ ليسلكوا طريقاً فرعياً فظلوا تائهين بين
الأشواك والمهاوي. غير أني لا أريد البتّة أن أعالج ما
عرفَه غيري أو جهله، فيكفيني أن أشير إلى أنه حتى وإن كان كل المرغوب فيه من العلم
مضمَّناً في الكتب، فإن ما فيها من جيّد قد اختلط بكثيرٍ من الأمور غيرِ النافعة،
وهو مبثوثٌ بغير نظام في كومةٍ من المجلّدات الضخمة، وأنه يلزمنا لقراءتها من
الوقت أكثر مما تستغرقه حياتُنا، ومن إجهادِ الفكرِ لاختيار ما ينفعُ منها أكبرُ
مما يتطلّبُه ابتكارُها بمجهودٍ شخصي.
وهذا ما يجعلني آمل في أن تجدوا ههنا
طريقاً أيسر من سواه، وأن تحظى لديكم الحقائق التي سأصدع بها بحسن القبول وإن كنت
لم أقتبسها البتّة لا من أرسطو ولا من أفلاطون؛ ولكنّها سترَوَّج بين الناس رواج
العملة التي لا تفقد شيئاً من قيمتها سواءٌ أَخَرَجَت من حافظة نقود مزارع أو من
خزينة مصرِف. وفضلاً عن ذلك فقد بذلتُ ما في وسعي من جهدٍ لأجعل هذه الحقائق
نافعةً للناس كافّة، ولتحقيقِ هذه الغاية لم أجد البتّة أسلوباً أكثرَ ملاءمةً من
المحاورات النزيهة التي يعرض من خلالها كل متحدّث على أصدقائه عرضاً لا كلفةَ فيه،
أفضلَ ما ينطوي عليه فكرُه من معان. وأطلقتُ أسماء "أودوكس" و "بوليندر" و "أبستيمون" على ثلاثة أشخاص
افترضتُ أن أحدَهم ذو فكرٍ متواضع لم تفسده أيةُ عقيدةٍ خاطئةٍ وهو يتمتّع بعقلٍ
كاملٍ، نقيِّ الطبيعة، وقد زارَه في مسكنه بالريف، حيث يقيم، ضيفان من ذوي أندر
العقول ومن أكثر الناس فضولاً إلى المعرفة في هذا القرن. وكان أحدُهما لم يدخل
المدارسَ قطّ، خلافاً للآخر الذي يعرف معرفةً دقيقةً كلَّ ما يمكن أن يُتعلَّم في
المدارس، وهناك حيث التقَوْا وتحدثوا في موضوعاتٍ شتى، لكُم أن تتخيّلوها وأن
تتخيّلوا ظروف المكان وكلَّ الخصائص المتوفّرة فيها، فقد جعلتهم غالباً ما يتّخذون
أمثلةً كي تكون أفكارُهم أكثر وضوحاً، فيعرِضون على هذا النحو الموضوع الذي
سيتحدّثون فيه لاحقاً، حتى نهاية هذين الكتابَين.
(ديكارت؛ مقدمة محاورة البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي) (ص ص، 131، 133)
(ديكارت؛ مقدمة محاورة البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي) (ص ص، 131، 133)
عن المحاورة بقلم المترجم، يقول سفيان
سعدالله:
في سنة 1670 اشترى ليبنتز في أمستردام
نسخةً من أعمال ديكارت منها "قواعد لتوجيه الفكر" و
"المحاورة" لكن لا أثرَ لهما.وصل ليبنتز إلى باريس سنة 1676، واتجه صحبة
"تشرنهوس" إلى "كلارسليي" للاطلاع على بقيّة مخطوطات ديكارت،
فنسخ "تشرنهوس" جزءاً من "البحث عن الحقيقة بالنور الطبيعي"، وأرسله
إلى ليبنتز بتاريخ 16 نوفمبر 1676. وهي بالفعل النسخة التي وجدها الباحث "جول
سير" بمكتبة "هانوفر". وقد صاغ ديكارت محاورته باللغة الفرنسية،
فهل يوحي هذا بمنعطفٍ جديد في فلسفته؟
لم تكن كتابة المحاورة باللغة الفرنسية حدثاً عابراً في الفلسفة الحديثة. فقد اعتاد ديكارت الكتابة باللغة اللاتينية مذ "قواعد لتوجيه الفكر"، ويبدو أن التفكير في إنشاء طريقةٍ مختلفةٍ عما هو سائد في المدارس اقتضى التخلّي عن استعمال اللغة اللاتينية الحمّالة لدلالات مدرسانية، يقول ديكارت في "حديث الطريقة": "وإن أنا كتبتُ بالفرنسية التي هي لغة بلادي، عِوضاً عن اللاتينية وهي لغةُ معلّميَّ، فلأني آمل أن يكون الذين لا يعتمدون إلا عقلَهم الطبيعي الخالص أحسن حكماً بشأن آرائي من الذين لا يؤمنون إلا بالكتب القديمة". ليست اللغة جهازاً من العلامات بقدر ما هي مستودعٌ من الدلالات، والحداثة لا تصنع ذاتها إلا بنقد تلك الدلالات وإحالتها على متاحف التاريخ؛ لكأن الفلسفة لا تؤسّس ذاتها كفكر اختلافيّ إلا بإبداع معانٍ حديثة تستدعي الإعراض عن لغة المعلمين الأوائل، وفي ذلك إعراض عن كتبهم وأساليبهم التعليمية. لهذا تحمل الكتابةُ باللغة الفرنسية أكثر من دلالة. فهي تعبّر عن نفور الفيلسوف من "الخاصة" والتوجّه في المقابل إلى "الجمهور" قصد توعيتهم وإفادتهم.
ونلحظُ هذا المنحى النقدي للفكر المدرساني عموماً في مستهل كتاب "البحث عن الحقيقة": "ليس الإنسان النزيه مجبراً على الاطلاع على جميع الكتب، ولا على أن يكون قد حقظ جيداً كل ما يعلَّم في المدارس". فالكتاب ينبئ بمخاضٍ فكريٍ بين نمطين من التفكير وربما تدلّ الأسماء على ذلك، "أودكس" مثلما يوحي الاسم لغةً ضد الدوكسا "وله فكرٌ متواضعٌ لم تُفسده أيةُ عقدية خاطئة، وهو يتمتع بعقلٍ كامل، نقيّ الطبيعة"، ونجد شخصيةً مركزيةً ثانيةً في المحاورة هي "أبستيمون" وهو يمثّل الفكر الأرسطي "ويعرف معرفةً دقيقةً كلَّ ما يمكن أن يُتَعلَّم في المدارس". ويحيل اسم "أبستيمون" في صيغته "اللغوية" على المعرفة السائدة أو مجمل الأقوال المدرسانية. أما "بوليندر" فهو الرجل الأميّ وغير المتعلِّم القادر على أن يجيد التفكير بالرغم من أنه "لم يدخل المدارس قط". وقد أجرى ديكارت بين الشخصيات الثلاث حواراً.
يستجيب إذاً كتاب "البحث عن الحقيقة" لتلك المبرّرات، وخاصةً منها عزمُه على التحرّر من التبعيّة للمعلّمين، ووجوب الاحتكام إلى العقل لبلوغ الحقيقة وممارسة الأعمال النافعة.بعد أبحاثٍ مضنية عثر الباحث "جول سير" بمكتبة "هنوفر" سنة 1906 على هامش خطَّهُ "ليبنتز" جاء فيه: "لقد مدّنا "كلارسليي" بمقال للسيد ديكارت هو "البحث عن الحقيقة" وقدّم لنا نحو اثنتين وعشرين قاعدة شرحها ودعّمها وحرّرها باللاتينية؛ وهناك محاورةٌ قصيرةٌ تدور بين "أبستيمون" و "بوليندر"، صيغت بالفرسية، ولم يتمّها".
وبعد فترةٍ زمنية علم "ليبنتز" أنه سيتم في هولندا من سنة 1701 نشر أجزاءٍ م مخطوطات ديكارت فأعلم "برنوي" أنه يمتلك من بين ما يمتلك "قواعد لتوجيه الفكر" ومقطعاً من "المحاورة".
(سفيان سعدالله؛ ص ص، 18، 20)
أودكس [أحسبه يمثل وجهة نظر ديكارت]: كيف يمكنُك يا أبستيمون، وأنت العالِم، أن تقتنع أنه يوجد في الطبيعة داءٌ واسع الانتشار لا دواء له؟ أما أنا فيبدو لي أنه مثلما يوجد في كلّ أرضٍ ما يكفي من الثمار والجداول لسدّ جوع الناس جميعاً وإرواء عطشهم، فثمّة في كلّ موضوع ما تكفي أيضاً معرفتُه من الحقائق لإشباع فضول النفوس الحكيمة وأن الجسد الظمآن لا يَبْعُد عن اعتدال مزاجه، ابتعادَ فكر أولئك الذين يشقَوْن شقاءً مستمراً بسبب فضولٍ لا ينقطع.
أبستيمون: تعلّمتُ جيداً، فيما مضى، أنّ رغبتَنا لا يمكن لها أن تمتَدّ امتداداً طبيعياً إلى الأشياء التي تبدو لنا مستحيلةً، وأنها يجب أن لا تشمل الأشياء الرذيلة أو غيرَ النافعة. بيد أنه ينبغي معرفةُ أشياءَ كثيرةٍ، وهي مما يمكن إدراكُه، وهي ليست نزيهةً وممتعةً فحسب، بل وضروريةٌ جداً لقيادة أفعالِنا أيضاً. وأعتقد أنْ ما من أحدٍ أحاط بها علماً، إلا ازداد اقتناعاً بالرغبةِ في طلب المزيد منها
.
أودكس: ما قولُكُما فيَّ إذاً إن أنا أكّدتُ لكما أنه لم تعد لي الرغبةُ في تعلّم أيِّ شيء، وإنّ سروري بما أملك من قليل المعارف يعْدِلُ سرور ديوجين ببرميله، دون أن أكون في حاجةٍ إلى فلسفته. ذلك أنّ علمَ جيراني لا يحدّ من علمي كما تحُدّ أراضيهِم في هذا المكان من الأرض التي أملك، ولا يخامرُ فكري مطلقاً وجودُ حقاقَ يجب الكشف عنها غير ما يصادفه منها فيدركها طوعاً؛ غير أنه ينعَم بالاطمئنان ذاتِه الذي ينعم به ملكٌ يسود بعض البلاد القصيّة والمنقطعة انقطاعاً يتخيّل معه أنه لا وجود لأرضٍ خارج حدود بلاده غير الصحاري القاحلة والجبال المقفرة. (ص 133، 135)
ملاحظة: تقع المحاورة في ثلاثين صفحة، مع تقديم للمترجم في مائة وثلاثين صفحة
لم تكن كتابة المحاورة باللغة الفرنسية حدثاً عابراً في الفلسفة الحديثة. فقد اعتاد ديكارت الكتابة باللغة اللاتينية مذ "قواعد لتوجيه الفكر"، ويبدو أن التفكير في إنشاء طريقةٍ مختلفةٍ عما هو سائد في المدارس اقتضى التخلّي عن استعمال اللغة اللاتينية الحمّالة لدلالات مدرسانية، يقول ديكارت في "حديث الطريقة": "وإن أنا كتبتُ بالفرنسية التي هي لغة بلادي، عِوضاً عن اللاتينية وهي لغةُ معلّميَّ، فلأني آمل أن يكون الذين لا يعتمدون إلا عقلَهم الطبيعي الخالص أحسن حكماً بشأن آرائي من الذين لا يؤمنون إلا بالكتب القديمة". ليست اللغة جهازاً من العلامات بقدر ما هي مستودعٌ من الدلالات، والحداثة لا تصنع ذاتها إلا بنقد تلك الدلالات وإحالتها على متاحف التاريخ؛ لكأن الفلسفة لا تؤسّس ذاتها كفكر اختلافيّ إلا بإبداع معانٍ حديثة تستدعي الإعراض عن لغة المعلمين الأوائل، وفي ذلك إعراض عن كتبهم وأساليبهم التعليمية. لهذا تحمل الكتابةُ باللغة الفرنسية أكثر من دلالة. فهي تعبّر عن نفور الفيلسوف من "الخاصة" والتوجّه في المقابل إلى "الجمهور" قصد توعيتهم وإفادتهم.
ونلحظُ هذا المنحى النقدي للفكر المدرساني عموماً في مستهل كتاب "البحث عن الحقيقة": "ليس الإنسان النزيه مجبراً على الاطلاع على جميع الكتب، ولا على أن يكون قد حقظ جيداً كل ما يعلَّم في المدارس". فالكتاب ينبئ بمخاضٍ فكريٍ بين نمطين من التفكير وربما تدلّ الأسماء على ذلك، "أودكس" مثلما يوحي الاسم لغةً ضد الدوكسا "وله فكرٌ متواضعٌ لم تُفسده أيةُ عقدية خاطئة، وهو يتمتع بعقلٍ كامل، نقيّ الطبيعة"، ونجد شخصيةً مركزيةً ثانيةً في المحاورة هي "أبستيمون" وهو يمثّل الفكر الأرسطي "ويعرف معرفةً دقيقةً كلَّ ما يمكن أن يُتَعلَّم في المدارس". ويحيل اسم "أبستيمون" في صيغته "اللغوية" على المعرفة السائدة أو مجمل الأقوال المدرسانية. أما "بوليندر" فهو الرجل الأميّ وغير المتعلِّم القادر على أن يجيد التفكير بالرغم من أنه "لم يدخل المدارس قط". وقد أجرى ديكارت بين الشخصيات الثلاث حواراً.
يستجيب إذاً كتاب "البحث عن الحقيقة" لتلك المبرّرات، وخاصةً منها عزمُه على التحرّر من التبعيّة للمعلّمين، ووجوب الاحتكام إلى العقل لبلوغ الحقيقة وممارسة الأعمال النافعة.بعد أبحاثٍ مضنية عثر الباحث "جول سير" بمكتبة "هنوفر" سنة 1906 على هامش خطَّهُ "ليبنتز" جاء فيه: "لقد مدّنا "كلارسليي" بمقال للسيد ديكارت هو "البحث عن الحقيقة" وقدّم لنا نحو اثنتين وعشرين قاعدة شرحها ودعّمها وحرّرها باللاتينية؛ وهناك محاورةٌ قصيرةٌ تدور بين "أبستيمون" و "بوليندر"، صيغت بالفرسية، ولم يتمّها".
وبعد فترةٍ زمنية علم "ليبنتز" أنه سيتم في هولندا من سنة 1701 نشر أجزاءٍ م مخطوطات ديكارت فأعلم "برنوي" أنه يمتلك من بين ما يمتلك "قواعد لتوجيه الفكر" ومقطعاً من "المحاورة".
(سفيان سعدالله؛ ص ص، 18، 20)
المحاورة
(فقرات كاشفة)
بوليندر [الرجل العاميّ]: أعتبرك سعيداً جداً بما اطّلعت عليه من جيّد العلوم
في الكتب الإغريقيّة واللاتينيّة، بحيث يبدو لي أنني لو درستُ كما درستَ أنتَ،
لصرتُ مختلفاً أيضاً عمّا أنا عليه اختلاف الملائكةِ عنك، ولن أغفر لوالديّ، خطأ
اعتقادِهما أن دراسةَ الآداب تحوّل الشجاعة جُبناً، فأرسلاني منذ سنّ الحداثة إلى
البلاط وخدمةِ الجيش؛ وإن الأسف لبقائي جاهلاً، سيلازمني طوال حياتي، إن أنا لم
أنَلْ من محاورتِكُما بعضَ العلم.
أبستيمون [الأرسطي]: إنّ أفضل ما يمكن أن نعلّمَك إياه بشأن هذا الموضوع، هو
أنَّ الرغبةَ في المعرفة، التي يشترك فيها كافةُ الناس، داءٌ عُضال، لأن الفضول
ينمو بالانخراط في المذهب [المدرساني]، ولأن شوائبَ النفس، لا تثير قلقَنا إلا
بقدْرِ معرفتنا بها، وإنك لأفضل منّا إذ كنتَ لا تحسّ مثلنا بالافتقار إلى عديد
الأشياء.أودكس [أحسبه يمثل وجهة نظر ديكارت]: كيف يمكنُك يا أبستيمون، وأنت العالِم، أن تقتنع أنه يوجد في الطبيعة داءٌ واسع الانتشار لا دواء له؟ أما أنا فيبدو لي أنه مثلما يوجد في كلّ أرضٍ ما يكفي من الثمار والجداول لسدّ جوع الناس جميعاً وإرواء عطشهم، فثمّة في كلّ موضوع ما تكفي أيضاً معرفتُه من الحقائق لإشباع فضول النفوس الحكيمة وأن الجسد الظمآن لا يَبْعُد عن اعتدال مزاجه، ابتعادَ فكر أولئك الذين يشقَوْن شقاءً مستمراً بسبب فضولٍ لا ينقطع.
أبستيمون: تعلّمتُ جيداً، فيما مضى، أنّ رغبتَنا لا يمكن لها أن تمتَدّ امتداداً طبيعياً إلى الأشياء التي تبدو لنا مستحيلةً، وأنها يجب أن لا تشمل الأشياء الرذيلة أو غيرَ النافعة. بيد أنه ينبغي معرفةُ أشياءَ كثيرةٍ، وهي مما يمكن إدراكُه، وهي ليست نزيهةً وممتعةً فحسب، بل وضروريةٌ جداً لقيادة أفعالِنا أيضاً. وأعتقد أنْ ما من أحدٍ أحاط بها علماً، إلا ازداد اقتناعاً بالرغبةِ في طلب المزيد منها
.
أودكس: ما قولُكُما فيَّ إذاً إن أنا أكّدتُ لكما أنه لم تعد لي الرغبةُ في تعلّم أيِّ شيء، وإنّ سروري بما أملك من قليل المعارف يعْدِلُ سرور ديوجين ببرميله، دون أن أكون في حاجةٍ إلى فلسفته. ذلك أنّ علمَ جيراني لا يحدّ من علمي كما تحُدّ أراضيهِم في هذا المكان من الأرض التي أملك، ولا يخامرُ فكري مطلقاً وجودُ حقاقَ يجب الكشف عنها غير ما يصادفه منها فيدركها طوعاً؛ غير أنه ينعَم بالاطمئنان ذاتِه الذي ينعم به ملكٌ يسود بعض البلاد القصيّة والمنقطعة انقطاعاً يتخيّل معه أنه لا وجود لأرضٍ خارج حدود بلاده غير الصحاري القاحلة والجبال المقفرة. (ص 133، 135)
أوديكس: .. لن تُعيبا عليّ قولي، إن أنا سألتُكُما عمّا إذا كان يعرِض لكما
المنامُ مثل كلّ الناس، وعمّا إذا كنتما في النوم تظنّان أنكما ترياني وأنكما
تتنزّهان في هذه الحديقة، وأن الشمس تنيرُكُما، وباختصار كلّ الأشياء التي تعتقدان
الآن أنّكما على يقينٍ منها. ألم تسمعا قطّ في بعض العروض المسرحيّة عبارة التعجّب
هذه: "هل أنا في يقظةٍ أم في حلم"؟ وكيف يمكنُكُما التأكّد من أنّ
حياتَكُما ليست حلماً دائماً وأن كلّ ما اعتقدتُما أنكما تعلّمتُماه بالحواسّ خاطئ
سواءٌ أكان ذلك في يقظتِكُما أم منامِكُما؟
ونظراً إلى كونِكُما تؤمنان مبدئياً،
بأنكما من خلقِ كائنٍ سامٍ فائقِ القدرةِ ما كان له أن يلقى من الصعوبةِ في
خلقِكُما على نحوِ ما ذكرتُ أكثر مما قد تتصوّران أن تكونا عليه.
..
أبستيمون: أتصوّر أيضاً أن التمادي الآن في هذا المسلك خطِرٌ جداً، فهذه
الشكوك المغرقة في العموم ستقودُنا مباشرةً إلى جهلِ سقراط أو إلى ريبيّة
البيرّونيّين. وهذا فيما يبدو لي شبيه ببحرٍ عمييق لا مرتكز فيه لقَدَم.
أودكس: أعترف أن الخطر يُحْدِق بمن لا يعرف المجازفة فيقحم نفسه في ذاك
البحر دون دليل وأن الكثير منهم ضلّوا [وما اهتدوا]. أما أنت فليس عليك أن تخاف
العبور إثري. فمثل هذا الخجل قد منع جلّ رجال الآداب من إرساء مذهبٍ يكون على
درجةٍ من الصلابة واليقين، يستحقّ بهما أن يسَمّى علماً، عندما خُيّل إليهم أنه لا
وجود وراء المحسوسات لما هو أمتن منها يتخذونه مرتكزاً لعقائدهم، فبنَوْا فوق هذا
الرمل بدل الحفر قدُماً حتى يبلغوا الصخر أو الأفكار التي اقترحتُها عليكما غايتي
منها، لأن دورها الرئيسيّ هو أن تثير تخوّفكما منها بالتأثير قدر الإمكان في
مخيّلِتِكُما. وإنّ في ذلك لدليلاً على أن علمَكُما ليس معصوماً من الخطأ، إلى حدّ
أنكما لا تخشيان من إمكانيّة تقويض أسسه بالشك في جميع الأشياء، وعلى أنكما تشكان
بعد، وعلى أنني قد بلغت غايتي، وهي أن أنقض مذهبك ببيان محدوديّة يقينِه. ولكن
أحيطكما علماً، حتى لا تحجما عن المضيّ قُدماً في شجاعة، أن هذه الشكوك التي أثارت
مخاوفكُما في البداية، هي بمثابة الأشباح والصور الوهميّة التي تتراءى لكما ليلاً
تحت ضوءٍ خافتٍ لا يبين؛ فإنْ أنتما هربتُما منها لاحقكُما الخوفُ منها، وإن أنتما
دنوتُما منها دنوّ من يريد لمسها، اكتشفتما بطلانها، وأنها ليست سوى هواءٍ وظلٍّ
فتصبحان أكثرَ ثقةً بالنفس عندما تجابهان أوضاعاً مماثلة.
بوليندر [الإنسان العادي]: أريد إذاً بما أقنعتني به، أن أتمثّل ما يسعُني
جمعُه من أشدّ المسائل صعوبةً وأن أصرف همّتي إلى الشكّ في أنني لم أك طوال حياتي
إلا حالماً، وإن كانت كلّ الأفكار التي لا أراها تدخل ذهني إلا من جهة الحواس، لم
تنشأ من تلقاء نفسها على نحوِ ما تنشأُ به الأفكار في النوم؛ وأنا متأكد من إغماضِ
عينيّ وانسداد أذنيّ، وباختصار عندما لا يكون لأية حاسّةٍ من حواسّي دخلٌ في
تكوينها.
ومن ثمّة لن أكون فقط غير متيقّنٍ من
وجودِك في هذا العالَم ومن وجود أرضٍ وشمسٍ بل ومن أن يكون لي عينان وأذنان وجسدٌ
أيضاً، وحتى إن كنت أحدّثُك وتحدّثُني، وباختصار سأشككُ في الأشياء جميعِها....
(ص ص 142، 143)
ديكارت يواجه أرسطو.
أودوكس: ها قد صرتَ متهيّئاً لما هو أفضل،
وهذا ما كنتُ حقاً قد قرّرت أن أقودَكَ إليه. بيد أنّ الفرصة قد حانت الآن لتصغي
بانتباه إلى النتائج التي سأستخلصها من ذلك. فأنت ترى ولك الحق ـ ولك الحق فيما
رأينا ـ أنه بإمكانك الشكُّ شكّاً له ما يبرّره في
جميع الأشياء التي لا تتأتّى معرفتُها إلا بالحواس. ولكن هل يمكنك أن تشكَّ في أنك
تشكّ وأن تظلَّ متردّداً إن كنتَ تشكُّ أو لا تشك؟
بوليندر: أعترفُ حقاً، أن هذا الأمر يثير فيَّ دهشةً شديدةً، وأن القليل من
الحصافة التي يسعفني بها الحسّ السليم يحملني على أن لا أنكر ما يأخذني من الذهول
إذ أرى نفسي مكرَهاً على الاعتراف بأنني لا أعمل شيئاً أكون على يقينٍ منه، بل
إنني أشكّ في كل شيء ولست على يقينٍ من شيء، ولكن ما الذي تريد أن تستخلصَه من
وراء ذلك؟ فأنا لا أرى وجه الاستفادةِ من هذه الدهشة الشاملة ولا الكيفيّة التي
يصير بها شكٌّ كهذا مبدأً قادراً على أن يبلغ بنا شأواً بعيداً؛ بل على العكس من
ذلك، لقد ارتأيتَ لهذه المحادثة هدفاً، هو الخلاص من الشكّ ومعرفة حقائقَ قد يكون
أبستيمون جاهلاً بها وإن كان حكيماً واسعَ الحكمة.
أودوكس: أَوْلِني فقط انتباهَك وسأقودُك
إلى أبعدَ مما تتصوّر، لأنه انطلاقاً من هذا الشكّ الشامل الذي هو بمثابة نقطةٍ
ثابتةٍ راسخةٍ، سوف أعمد إلى استخلاص المعرفة بالله
وبك أنت ذاتك وبجميع الموجودات في الطبيعة.
بوليندر: هذه حقاً وعودٌ عظيمة، وهي تستحقّ منّا أن نجيبك إلى ما طلبتَ شريطة
أن تُنجَز. فكُنْ وفيّاً إذاً بوعودك أكن وفياً بوعودي.
أودوكس: لمّا كنتَ لا تنكر أنك تشكّ بل إنك على
العكس من ذلك، تشكُّ شكاً مؤكداً، حتى أنك لا تستطيع الشكَّ فيه، صحَّ كذلك أنك
أنت الذي تشكُّ موجودٌ، وهو أمرٌ على غايةٍ من اليقين حتى أنه لا يمكن الشكُّ فيه.
بوليندر: أنا أشاطرُك الرأي، لأنني لو لم أكن
موجوداً ما استطعتُ أن أشكَّ.
أودوكس: أنت إذاً موجود، وإنك تعلمُ أنك موجود
وإنك تعلم ذلك لأنك تشك.
بوليندر: هذا كله صحيح.
أودوكس: فلنتقدّم قليلاً قليلاً، حتى لا تحيدَ عن الغاية وستجدُ كما سبق أن
بيّنتُ لك أن هذه الطريقة ستقودُك إلى أبعدَ مما تتصوّرُه. لِنُعِدْ البرهنة: أنت موجودٌ وأنت تعلم أنك موجود وأنت تعلم ذلك، لأنك تشك.
ولكن ما حقيقتك حين تشكّ في كلّ شيءٍ ولا يمكنك أن تشكَّ في نفسك؟
بوليندر: ليست الإجابةُ عسيرة، وأنا أعرف بجلاءٍ
السببَ الذي دفعك لاختياري أنا بدلَ أبستيمون للإجابة عن أسئلتِكَ، وهو أنك قرّرتَ
أن لا تطرح أيَّ سؤالٍ تعسرُ الإجابةُ عنه. وعليه فإني أجيب بأنني إنسان.
أودوكس: أنت لم تنتبه إلى ما أسألك عنه.
وما تجيبني به، وإن كان يبدو لك بسيطاً، فإنه سيضعك أمام أسئلةٍ جدُّ عويصةٍ
وشديدةِ التعقيد إن أردتُ أن أختصرها بعض الشيء. وفعلاً، لو
سألتُ أبستيمون نفسه ما الإنسان؟ ولو أجابني على نحو ما اعتاد الناس أن يجيبوا عنه
في المدارس بأنّ الإنسان حيوانٌ عاقل، وفضلاً عن ذلك، لو قادَنا في شرحِ هذين
اللفظين اللذين لا يقلّان غموضاً عن الأول إلى كلّ الدرجات الموسومة
بالميتافيزيقيّة، لوجدنا أنفسنا حقاً سائرين في متاهةٍ لا مخرجَ لنا منها. فمن هذا
السؤال يتولّد فعلاً سؤالان: السؤال الأول هو: ما الحيوان؟ والسؤال الثاني هو: ما
العاقل؟. وإضافةً إلى ذلك لو قدّم تفسيراً لما يكون الحيوان، فأجاب بأنه كائنٌ
حيٌّ له قدرةٌ على الإحساس، وأنّ [الكائن] الحيّ هو جسمٌ متحرك، وأنّ الجسم جوهرٌ
ماديّ، لرأيتَ على الفور أن الإسئلة تتزايد وتتفرّع كشجرةٍ النّسَب، لتغدوَ هذه
الأسئلةُ الطريفةُ كلُّها لغواً محضاً ولا توضّح شيئاً وتبقينا على ما كنّا عليه
من جهل.
أبستيمون: يزعجني جداً أن أجدَك مستخفاً شديد الاستخفاف بشجرة فرفوريوس، وقد
كانت على الدوام موضع إعجاب الحكماء جميعاً. ويحزّ في نفسي أن تحاول تعليم بوليندر
ما يكون بطريقةٍ تختلف عمّا هو متداولٌ في كلّ المدارس وذلك منذ أمدٍ بعيد،
وبالفعل لم يكن بالإمكان إلى حدّ اليوم العثور على طريقةٍ أفضلَ ولا أجدى كيّ نتعلّم
من نكون، سوى أن نضع نصبَ أعينِنا كلَّ المراتب التي تكوّن مجمل وجودِنا حتى
نستطيع صعوداً ونزولاً بكلّ هذه المراتب أن ندركَ ما نشتركُ فيه مع الأشياء الأخرى
الموجودةِ في الطبيعة وما نختلف به عنها. وذلك هو أقصى ما يمكن أن يدركَه العقل
البشري.
أودوكس: ما خطر ببالي يوماً ولن يخطر لي أبداً أن أحقّر من شأن طريقة التعليم
المعمول بها في المدارس، لأنني مدينٌ لها بالنزر
القليل مما تعلّمتُ، وبفضلها اكتشفتُ أن ما تعلّمتُه في المدارس لم يكن يقينيّاً.
وعليه، فعلى
الرغم من أنّ أساتذتي لم يعلّموني شيئاً يقينياً، فإنه عليّ أن أُجِلَّهم ما دمتُ
قد أخذتُ عنهم ذلك، وإني لمدينٌ لهم بما أدركتُ عنهم من أشياء، مشكوكٍ فيها أكثر
من دَيْني لهم لو أخذتُ عنهم أشياءَ ألصَقَ بالعقل؛ ذلك أنني ربما اكتفيتُ فعلاً
في هذه الحالة، بالقدر اليسيرمن الأفكار التي وجدتُها فيها، فلم أكلّف نفسسي عناء
البحث عن الحقيقة. وعليه، فالتحذير الذي وجّهتُه لبوليندر لن يجدي نفعاً
لإظهار ما تنتهي إليه أجوبتُه من لَبسٍ وريبةٍ فقط، بل لجعله مستقبلاً أكثرَ
تيقّظاً للأسئلة التي أطرحُها عليه. وأعود الآن إلى ما كنا فيه. وهاأنا أسألُه من
جديد، حتى لا يحيدَ عن طريقِنا مرّةً أخرى، عن حقيقته وهو الذي يقدر على الشكّ في
كلِّ الأشياء ولا يقدر على الشكّ في نفسه.
بوليندر: كنتُ أعتقدُ أنني قد أرضيتُ رغبتَك إذ أجبتُك بأنني إنسان. بيد أنّي
أرى أنّني أسأتُ الإجابة: فأنا أرى فعلاً أن إجابتي لم تلقَ منك استحساناً.
وبصراحةٍ أكثرَ أجدُها الآن غيرَ كافيةٍ، خاصةً إذا أخذتُ بعين الاعتبار ما كشفَتْ
عنه من الصعوبات والالتباسات التي يمكن أن تُثار بسببها لمجرّد الرغبة في توضيحها وفهمها.
وفعلاً فأياً كان قولُ أبستيمون في شأنها، فأنا أجد بالفعل غموضاً شديداً في هذه
المراتب الميتافيزيقية. فإن قال قائلٌ مثلاً إن الجسد جوهرٌ جسمانيّ دون أن يعرّف
ما هو الجوهر الجسماني، فقول هاتين اللفظتين: جوهر وجسمانيّ، لا يجعلنا نعرف بأيّ
وجهٍ من الوجوه أكثر معرفةً مما لو استخدمنا
لفظ جسم. وإن قرّر أحدُنا أنّ [الكائن] الحيّ جسمٌ متحرّك دون أن يكون قد تبيّن
سلفاً ما هو الجسم وما هو الحيّ وإن لم يتصرّف على نحوٍ مغايرٍ في سائر المراتب
الميتافيزيقية، فسيكون هذا الشخص بالتأكيد ينطق بكلماتٍ وهو ينطق بها فعلاً وفق ما
يشبه النظام، ولكنه لا يقول شيئاً، لأنّ ما قاله لا يعني شيئاً مما يمكن تصوّره
وتكوينه من فكرةٍ واضحةٍ ومتميّزة. بل أضيف إلى ذلك أنني عندما أجبتُ عن سؤالك
قائلاً إنني إنسان، لم يخطر ببالي قطّ شيءٌ من هه الكائنات المدرسيّة التي لم يكن
لي بها علم والتي لم أسمع بوجودها من قبل والتي ـ في ما أعتقد ـ لا وجود لها إلا
في مخيّلة الذين ابتدعوها. وكلُّ ما في الأمر أني أردتُ أن أتحدّث عن الأشياء التي
نلمسها ونحسّ بها والتي لنا بها خبرة. وباختصار أردتُ أن أتحدّث عن الأشياء التي
يعرفها أبسط الناس عقلاً معرفةَ أكبر الفلاسفةِ في هذا الكون سواءٌ بسواء، وأعني
أنني مجموعةٌ متركّبةٌ من يدين ورجلين ورأس ومن كلّ الأجزاء الأخرى التي تكوّن ما
يُسَمَّى بالجسم الإنساني الذي يتغذى ويمشي ويحسّ ويفكّر أيضاً.
أودوكس: ما استنتجتُه من إجابتك هو أنك لم تفهم سؤالي فهماً جيداً، وأنك كنتَ
تجيبُ عن أشياءَ أكثر مما كنتُ قد سألتُك عنه. وبما أنك قد ذكرتَ بعدُ عددَ
الأشياء التي كنتَ تشكُّ في وجودِها، كأن يكون لك يدان ورِجلان ورأس، وكلُّ
الأجزاء الأخرى المكوِّنة لآلة جسم الإنسان، لم أكن أرغبُ بأيّ وجهٍ من الوجوه، أن
أسألكَ عن تلك الأشياء كلِّها التي لستَ على يقينٍ منها. فقل لي إذاً ما حقيقتُك
أنتَ باعتبارك تشك؟ لأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي طلبتُه منك بما أنه يتعذّر عليك
أن تدرِك ما عداه أيَّ شيءٍ إدراكاً يقينياً.
(صص 144، 148)
بوليندر: الآن أعترف حقاً أنني أخطأت في إجابتي عن سؤالك، وأنني قد ذهبت إلى
أبعدَ مما يجب، لأنني لم أتبيّن فكرتَك كما ينبغي، وهذا ما يزيد من حذري مستقبلاً
ويجعلني معجباً في الوقت نفسه بطريقتك التي تقودني بواسطة سبلٍ بسيطة وسهلى إلى
معرفةِ أشياءً تريد تعليمنا إياها. ومع ذلك لي أن أعتبر الخطأ الذي ارتكبته
مناسبةً سعيدة، لأنه بفضله قد تبيّن لي بوضوح أن ما أنا ـ من جهة كوني أشكُّ ـ ليس
البتّة ما أسمّيه جسدي؛ بل أضيفُ إلى ذلك أني لا أعرف أنّ لي جسداً، لأنك بيّنت
أنه بإمكاني أن أشكّ في وجوده. وأضيف إلى ذلك أنني لا أقدر على إنكار وجود جسدي
إنكاراً مطلقاً، ومع ذلك لا يمنع من أن أكون متيقّناً من وجودي حتى إن تركنا
جانباً كلَّ هذه الفرضيات [فرضيات وجود الجسد]، بل إنها ترسّخ يقيني بأنني موجود
وأنني لستُ جسداً. وبخلاف ذلك لو شككت في جسدي [؟]، لشككتُ أيضاً في ذاتي، وهذا
أمرٌ مستحيلٌ تصديقه لأنني مقتنع تمام الاقتناع بأنني موجودٌ على نحوٍ لا يرقى
إليه الشك مطلقاً.
أودكس: أنت تقول أشياءَ رائعةً وتعالج المسألة التي تشغلنا معالجةً جيّدة
حتى أنّي لا أقدر أن أقول فيها أفضلَ مما قلتَ. ولم يبقَ لي إلا أن أتركك كلّياً
لمشيئتك، وسأقصر همّي على توجيهك إلى الطريق القوّيم، بل أكثر من ذلك، إنني أقدّر
لاكتشاف الحقائقِ حتى أشدّها عسراً، أنه يمكن الاكتفاء بما يسمّيه الناس عادةً
الحسّ المشترك، بشرط أن يكون التوجيه حسناً. وبما أنّي أجدُك مهيّأً على نحوِ ما
كنت أرغب، سأرشدك مستقبلاً إلى الطريق الذي ينبغي أن تسلكَه. فواصِلْ إذاً
بمجهودِك الخاصّ استخلاص النتائجِ المترتّبة على هذا المبدأ الأول.
بوليندر: يبدو لي أن هذا المبدأ خصبٌ جداً، فأشياءُ كثيرةٌ تمثل أمامي دفعةً
واحدةً، إلى حدّ أني ـ فيما أعتقد ـ سأجد عناءً شديداً في تنظيمها. وهذا التنبيه
الوحيد الذي وجّهتَه إليّ، حتى أنتبه إلى ما أكون [أنا الذي يشكّ] انتباهاً
دقيقاً، وحتى لا أخلط بينه وبين ما كنت في ما مضى أعتقد أنه أنا، قد أشاع في فكري
نوراً طرد عنه فوراً الكثير من الظلمات، وبفضل ذلك النور تحسّنت رؤيتي لما بداخلي
من أمور لم تكن قط مرئية. وقد ازداد اقتناعي باكتساب ما لا يُدرَك بالحس، وأن
امتلاكي للجسد ما كان ليحقق وجودي.
أودوكس: إن تحمّسك هذا يروقني جداً وإن لم يرُق لأبستيمون الذي ما لم تخلّصه
من الخطإ الذي هو فيه وما لم تضع نصب عينيه جزءاً من الأشياء التي ترى أنها
متضمَّنةٌ في هذا المبدأ، سيكون دائماً مهيَّأَ للاعتقاد أو على الأقل متخوّفاً من
أنّ هذا النور الذي شاع بداخلك قد يكون شبيهاً بتلك الأنوار الخلَّب التي ما إن
تقتربَ منها حتى تنطفئ وتتلاشى، ومن أن تقع ساعتها في سالف الظلمات، أعني أن تقع
في ما كنتَ فيه من جهل؛ وستكون معجزةً
حقاً إن صرتَ عالماً في أسرعِ وقتٍ وبأقلَّ عناء رغم أنك لم تتعلّم البتّة ولم
تتصفّح كتبَ الفلاسفة، ولذا لا ينبغي أن أندهش من أن يكون أبستيمون له الرأي نفسُه.
أبستيمون: أعترفُ حقاً أنني ظننت الأمر حركةً اندفاعيّة، واعتقدت أن بوليندر
الذي لم يعمل فكرَه أبداً في هذه الحقائق الكبرى التي تعلّمها الفلسفة قد غمره
سرور بالغٌ عند النظر في أدناها، مما دفعه إلى التعبير عنها بكلّ هذه الحيوية. أما
من جاب مثلك طويلاً هذه الشعاب، وأشعل من مصابيحِ الدرس ما أشعل، وبذل ما بذل من
الجهد في قراءة كتبِ الأقدمين وإعادة قراءتها، فلا يرتاح قطّ إلى اندفاع الذهن
هذا، ولا يعطيه قيمةً أكثر من قيمة الأمل الواهم الذ ينتاب بعضَ الذين يسلّمون
بفضل الرياضيات وهم لا يزالون على عتبتِها. فهؤلاء فعلاً هم الذين يتصوّرون أنهم
سيحلّون مشل تربيع الدائرة ومشكل تضعيف المكعَب بمجرد أن تعطيهم خطأً ودائرةً
وتعلمهم ما المستقيم وما المنحني، أما نحن فقد دحضنا مراراً مذهب البيرّونيّين،
فذريعتهم في التفلسف لم تثمر لهم إلا القليل، إلى حدّ أنهم تاهوا فيما يبدو طوال
حياتهم، وما استطاعوا الخلاص من شكوكهم التي أدخلوها على الفلسفة، إلى درجة أنهم
قصروا فيما يبدو أمرَهم على تعلّم الشكّ فقط. وعليه فإني، حتى وإن لم يرُق الأمرُ
لبوليندر، سأبقى شاكاً حتى يتمكن بذاته من أن يستخلص من هذا المبدأ شيئاً أفضل.
أودوكس: أرى جيداً أنك تريد تجنّب محاورتي بتوجيه الخطاب إلى لوليندر، ومع
ذلك يبدو جلياً أن سخريتك موجّهةٌ إليّ. فليواصل بوليندر كلامه وسنىرى بعد ذلك من
منّا سيكون آخر الضاحكين.
بوليندر: سأفعل ذلك عن طيب خاطر وما أخشاه هو أن يحتدّ هذا النقاش بينكما،
وأنه إذا ما نظرتما إلى المسألة من مستوى عالٍ، فإنني لن أفهمَ منها شيئاً البتّة،
وهذا ما يسلبني كلَّ الثمار التي وعدتُ نفسي بجنيها بالعودة على أعقابي. لذا أرجو
من أبستيمون أن يسمح لي بتغذية هذا الأمل ما طاب لأودوكس أن يأخذ بيدي على الطريق
الذي وجّهني إليه بنفسه.
أودوكس: لقد تبيّن لك في حدود اعتبارك شاكاً أنك لستَ جسداً، ومن صمّة فإنك
لا تجد في ذاتك شيئاً من هذه الأجزاء التي تكوّن آلة الجسم الإنساني، أعني أنك لا
تجد لا يدَيْن ولا ساقين ولا رأساً ولا حتى عنينين ولا أذنين ولا أيّ عضوٍ صالحٍ
لحسٍّ ما. لكن انظر بالمثل إن كنتَ قادراً على إنكار الأشاء الأخرى التي أدرجتَها
منذ قليل في تعريف الإنسان وفق ما كنتَ تتصوّره في ما مضى، لأنك كما سبق أن لاحظتَ
ذلك جيداً إذ تجاوزتَ في إجابتك حدود سؤالي، قد أخطأتَ خطأً محموداً صرتَ بفضله
فعلاً قادراً بيسر على بلوغ معرفةٍ بمن تكون، وذلك بإبعاد كلّ ما تبيّن لك بوضوح
أنه لا يتعلّق بك وإقصائه وبعدم قبول أيّ شيءٍ لا ينتمي إليك انتماءً ضرورياً
يضاهي في يقينه وجودك وشكّك.
بوليندر: أنت تسدي لي خدمةً جليلة بإرجاعي على هذا الحو إلى الطريق، إذ كنتُ
قد ذهلت عن موقعي. فقد سبق أن ذكرتُ أنني كنت كلاً مكوّناً من ذراعين وساقين ورأس
ومن جميع الأجزاء الأخرى المكوِّنة لما يسمى الجسم الإنساني، وأنني فضلاً عن ذلك
كنت أمشي وأتغذى وأحسّ وأفكر. وكان عليّ أيضاً كي أنظر إلى نفسي على النحو الذي
أعرف به أنني موجود، أن أتنصّل من كلّ هذه الأجزاء وهذه الأعضاء الكوّنة لآلة
الجسم الإنساني، بمعنى أن أنظر إلى ذاتي مجرّداً من اليدين والرجلين والرأس، وفي
كلمةٍ واحدة مجرّداً من الجسم. فما يشكّ بداخلنا حقاً، ليس البتّة ما نقول عنه إنه
جسمنا. ويصح إذاً أنني من جهة كوني أشك لا أتغذى ولا أمشي، وليس من هذين الفعلين
ما يمكن أن يتحقق دون الجسم. وفضلاً عن ذلك، لا يمكنني من جهة كوني أشكّ حتى مجرّد
التأكيد أنني قادرٌ على الإحساس، ذلك أنه كما يُحتاج في المشي إلى قدمَين، يُحتاج
في النظر إلى عينين، وفي السمع إلى أذنين. ولكن ما دمت لا أملك أيّ عضوٍ من هذه
الأعضاء لأنه ليس لي جسم، فأنا لا أستطيع في الحقيقة القول بأنني أحسّ. وبالإضافة
إلى ذلك كنت أعتقد في ما مضى أنني أحسّ في الحلم بأشياءً كثيرةٍ ما كنت أحسّ بها
في اليقظة. (وبما أنني قرّرت ألا أقبل أيّ شيءٍ يكون
حقيقياً إلى درجة أنه لا يمكن الشك فيه، يمكنني القول بأني شيءٌ يحسّ، أعني شيئاً
يرى بعينين ويسمع بأذنين.)
[هنا العبارة ملبتسة، وتؤدي معنىً أراه لا ينسجم مع يريد
ديكارت قوله، لذلك أظن أن الصحيح هو أن تكون العبارة على الشكل التالي: وبما أنني
قرّرت ألا أقبل أيّ شيءٍ [إلا أن] يكون حقيقياً إلى درجة أنه لا يمكن الشك فيه، [فلا]
يمكنني القول بأني شيءٌ يحسّ، أعني شيئاً يرى بعينين ويسمع بأذنين.]
ومن الممكن أن أعتقد بأنني أحسّ على هذا
لانحو، في حين أن شيئاً من ذلك لم يحصل.
أودوكس: لا أستطيع عند هذا الحدّ إلا أن أوقفَك عن الكلام، وذلك لا للعدول
بك عن طريقك، بل لأشجعك ولأجعلك تقف على قدرة العقل إن أحسنتَ قيادته. وفعلاً، هل يوجد
في كلّ ما قلتَه هذا شيءٌ صحيح لم يكن قد استخلص استخلاصاً صحيحاً من مقدماته؟ ومع
ذلك فكل هذا يقال ويحصّل دون مراعاة منظقٍ أو قاعدةٍ ودون صيغةٍ حجاجيّة، بل بنور
العقل وحدَه، والعقل يكون أقلَّ عرضةً للخطأ عندما يتصرّف من تلقاء نفسه منه عندما
يراعي، جاهداً نفسه في قلق، ألفَ قاعدةٍ مختلَقة اختلقتها صناعة الناس وخمولُهم
لإفساده بدلا إصلاحه. فضلاً عن ذلك، يبدو لي أنّ أبستيمون يشاطرنا رأينا فعلاً،
لأنه لم يقل شيئاً، فهذا يعني أنه موافقٌ على ما قلتَ. فلتواصل، إذاً، يا بوليندر
ولتبيّن له المدى الذي يمكن للعقل بلوغُه وفي الوقت نفسِه النتائج التي يمكن
استخلاصُها من مبدئنا.
بوليندر: لم يبقَ للنظر من بين كل الصفات التي عرَّفْتُ بها ذاتي إلا صفةٌ
واحدةٌ هي التفكير، وأنا أعترف أنها الصفة الوحيدة التي لا أستطيع التنصّل منها
بسبب طبيعتها. ذلك أنني إذا كنت حقاً أشك شكاً لا ريب فيه، فأنا حقاً أفكّر أيضاً
وفعلاً. أليس الشك تفكيراً بوجه من الوجوه؟ فعلاً، إن لم أكن أفكر، لَما أمكنني أن
أعرف لا أنني أشك ولا أنني موجود. ومع ذلك فأنا موجود وأنا أعرف أني موجود، وأنا
أعرف ذلك لأنني أشك، أعني بالتالي لأنني أفكر. وإذا ما توقفت لحظةً عن التفكير،
فقد أتوقف في الوقت ذاته عن الوجود. وعليه، فالشيء الوحيد الذي لا يمكنني فصلُه عن
ذاتي، والذي أعلم علم اليقين أنه ذاتي والذي أستطيع الآن الجزم به دون خوفٍ من
الوقوع في الخطإ، هو أنني شيءٌ يفكر.
(صص 149، 153)
أودكس: ما هو رأيك يا أبستيمون في ما قاله بوليندر؟ وهل تجد في استدلاله
شيئاً غامضاً أو غير متماسك؟ وهل كنتَ تعتقد أنّ رجلاً أمّياً غير متعلّم قادرٌ
على أن يُجيد التفكير، وأن يكون طيلة ذلك على وئام مع ذاته؟ وعليه ـ إن كان حكمي
صائباً، ققد بدأ يتبيّن لك أنه إذا استخدم المرء شكّه استخداماً حسناً، كان
بإمكانه استخلاص نتائجَ جدُّ يقينيّة، بل إنها أوثق وأنفق من جميع النتائج التي
تبنيها عادةً على هذا المبدإ الهامّ الذي يُعَدُّ أساس كلّ الأشياء، وهو بمثابة
المركز الذي ترجع إليه وتنتهي عنده. فمن المستحيل أن يكون شيءٌ واحدٌ موجوداً
ومعدوماً في الوقت ذاته. وستتاح لي الفرصة دون شك، لأبيّن لك فضل ذلك، ولكن لا
نبتعد عن موضوعِنا، حتى لا نقطع على بوليندر حبلَ أفكاره. فانظر إذاً في ما إذا
كان لك ما تقولُه أو ما تعترض به.
أبستيمون: بما أنك تتعمّد مواجهتي ويحملك ذلك حتى على استفزازي، فإنني سأبيّن
لك ما يستطيع المنطق إثارته، وسأضع في الوقت نفسه أمامك من المعضلات والعقبات ما
يعجز عن تخطيها إلا بالجهد الجهيد لا بوليندر فحسب بل أنت أيضاً. ولا تذهبنّ
بعيداً، بل لنبقَ ههنا ولنتداول الرأي ونتفحّص بدقّة أسسَك ومبادئَك واستنتاجاتِك،
لأنني سأبين لك، انطلاقاً من المنطق الحق ومن مبادئك ذاتِها أن كلّ ما قاله
بوليندر قد أُرسِيَ على أساسٍ غير مشروع، وهو لا يفضي إلى شيء البتّة: فأنت تقول
إنك موجود وإنك تعرف أنك موجود وإنك تعرف ذل لأنك تشك ولأنك تفكر. ولكن هل عرفت
يوماً ما معى أن تشك وما معنى أن تفكر؟ وبما أنك لا تريد أن تقبل بشيءٍ لستَ
عارفاً متيقّناً منه ولستَ عارفاً به معرفةً جيدة، فكيف تثق بوجودك بالارتكاز على
أسسٍ هي على غايةٍ من الغموض وضعف اليقين؟ كان الأجدى بك أن تعلّم بوليندر ما
الشكّ وما التفكير وما الوجود حتى يكتسب استدلالُه قوةً برهانية، وحتى يتمكّن من
فهم نفسه بنفسه قبل أن يحاول إفهام غيرِه.
بوليندر: هذا يتجاوز حقاً مدى ذكائي، ولذلك، فإني أسلّم [بما تقول] تاركاً لك
فكّ هذه العقدة مع أبستيمون.
أودوكس: سآخذ في هذه المرّة الأمر على عاتقي عن طيب خاطر بشرط أن تكون
حكَماً بيننا في هذا النقاش، فأنا لا أطمع في أن يقتنع أبستيمون بحججي. فمن كان
مِثلَه قد ازدحمت بداخله آراء وأربكته مئات الأحكام المسبّقة ينقاد بعسرٍ للنور
الطبيعي، لأنه قد اعتاد الخضوع لسلطة المعلّمين، بدل أن يصغي إلى صوتِ العقل
وحدَه. فهو يسأل غيره ويقيّم ما كتبه السّلف بدل أن يسأل نفسه في شأن ما يتعيّن
عليه أخذُه من حُكم.
وفضلاً عن ذلك، فهو مثلما كان يعتبر منذ
الصغر، أن العقل لا يقوم إلا على سلطة معلّميه، فإنه يعرض الآن سلطتَه على أنه
العقل وهو يسعى إلى أن يدفع له الآخرون الضريبة نفسَها التي كان دفعها في ما مضى،
ولكن ثمّة ما يُشيع السرور في نفسي، وأعتقد أنن أجبتُ إجابةً إضافيةً عن
الاعتراضات التي واجهك بها أبستيمون إن وافقت على ما سأقوله ووثق عقلُك به.
أبستيمون: ما أنا بالمعاند، ولا من الذين يعسر إقناعُهم، وما أنا بمستاء من
عدم موافقتي إلى الحدّ الذي تعتقدانه. وفضلاً عن ذلك، فإني لا أرى مانعاً من تحكيم
بوليندر في جدالنا، رغم أن لي ما يبرّر احتياطي منه، وأنا أعدك حتى بأنني سأعترف
أمامك بالهزيمة فور استسلامه [؟]، ولكن عليه أن يحترس من الانخداع ومن الوقوع في
الخطأ الذي يؤاخذ به الاخرين [أظن هنا يجب استخدام صيغة المخاطب بدل الغائب: لكن
عليك أن تحترس من الانخداع ومن الوقوع في الخطأ الذي تؤاخذ به الآخرين. (م.ح)]،
أعني أن لا تتخذ التقدير الذي تكنّه له مأخذ الحجة القاطعة.
أودوكس: إن كان بوليندر يرتكز على أساس غايةٍ في الوهن، فإنه سيكون بالتأكيد
شقياً شقاءً لا مزيد عليه؛ وإنني أنصحه أن يحترس من ذلك جيداً، ولكن كفاناً
استطراداً ولنستأنف طريقنا فإني أتفق معك يا أبستيمون بخصوص هذه النقطة، وهي وجوب
معرفة معنى الشك والتفكير والوجود، قبل الاقتناع التام بحقيقة هذا الاستدلال أعني
أنا أشك إذاً أنا موجود أو قل أنا أفكر إذاً أنا موجود. غير أنه عليك أن لا تتخيّل
أن المعرفة بذلك تستوجب إكراه ذهننا وإرباكه كما لو أن الأمر يقتضي العثور على
الجنس القريب والفصلالنوعي قصد صياغة تعريف حقيقي، فذلك شأن من يريد لعب دور
المرشد أو المنازع في المدارس. أما من يرغب بنفسه في تفحّص الأشياء والحكم عليها
وفق تصوّره لها، فلا يمكن أن يكون ذا ذهنٍ ضعيفٍ جداً، بحيث يفتقر إلى ما يكفي من
نور يمكّنه من معرفة كافية بمعنى الشك والتفكير والوجود، وكي يتعلّم بالضرورة ما
يميّزها بعضَها من بعض كلما سلّط انتباهه عليها. وفضلاً عن ذلك، ثمّة فعلاً أشياءٌ
كثيرةٌ نزيدها غموضاً عندما نعرّفها لأنه لا يمكننا معرفتهاجيداً ولا إدراكها إلا
بذاتها نظراً إلى كونها بسيطةً جداً وعلى غايةٍ من الوضوح. بالإضافة إلى ذلك، يجب
أن نعُدّ من بين الأخطاء الرئيسية التي قد تُرتكب في العلوم، خطأ أولئك الذين
يريدون تعريف ما يجب الاكتفاء فيه وحدَه بالتصوّر، والذين لا يستطيعون تمييز واضح
الأشياء من غامضها، ولا التمييز ـ في معرفة الأشياء ـ بين ما يتطلّب تعريفاً أو
يدعو إليه، وبين ما تمكن معرفتُه بذاته معرفةً جيدة. وبالفعل فإنني لا أعتقد أنه
يوجد شخصٌ بلغ به الغباء حداً يحتاج فيه إلى تعلّم ما الوجود قبل أن يكون قادراً
على استنباط أنه موجود وتأكيده. وكذلك شأن الشك والتفكير. وأضيف أيضاً أنه من
المستحيل تعلّم هذه الأشياء تعلّماً ذاتياً لا على نحوٍ آخر ولا سبيل إلى الاقتناع
بها إلا بتجربتنا الخاصة لا على نحوٍ آخر، ولا بغير هذا الوعي أو قل بغير هذا
الدليل الداخلي الذي يجده كلّ فردٍ في نفسه عدما يتفرّغ لتفحّص أمرٍ ما.
وكما أنه لا يُجدي أن نعرّف البياض حتى
يفهمه الأعمى، بل يكفي فيه أن نفتح أعيننا لنعرف معناه، فكذلك الشأن في معرفة معنى
الشك والتفكير فإنه يكفي فيه أن نشكّ وأن نفكّر، فهذا يعلّمنا كلَّ ما يمكننا
معرفته بهذا الشأن، بل ويمدّنا بمعرفةٍ تفوق ما تمدّنا به أكثرُ التعريفاتِ دقة.
صحيح إضاً أنه كان على بوليندر أن يكون عارفاً بهذه الأشياء قبل أن يتمكّن من
استنباط النتائج التي صاغها، وعلى كلّ حال، وبما أننا قد اخترناه حكَماً فلنسأله
هل كان جاهلاً بها.
بوليندر: أعترف أني استمعت إليكما ببالغ السرور وأنتما تتناظران في هذا الأمر
الذي ما كان لكما أن تتعلّماه بدوني. وإنه لمن الغبطة أن أرى في هذه المناسبة على
الأقل أنه يجب أن تعترفا بأنني كنت لكما بمثابة المعلّم وكنتما لي بمثابة
التلاميذ. لهذا لابب وحتى أخلّصكما معاً من هذا الحرج وأفضّ على الفور ما استعصى
عليكما، (ويقال فعلاً إنّ شيئاً ما قد حدث على الفور عندما يحدث دون أن يكون لنا
أيّ أمل فيه أو دون أن نتوقّعه) وأستطيع أن أؤكّد لكما، أنني لم أشكّ البتّة في
معنى الشك، رغم أني لم أشرع في معرفته أو بالآحرى التلفّت إليه إلا عندما أراد
أبستيمون نفسه أن يشكّ فيه. وما إن بيّنتما لي ضعف ما لدينا من يقين عن وجود
أشياءَ لا تتأتّى معرفتها إلا بالحواسّ، حتى بدأت أشك في هذه الأشياء. وكان ذلك
كافياً لأتبيّن بوضوح أنني أشك وأن أكون في الوقت نفسه متيقّناً بأنني أشك إلى
حدٍّ أستطيع بمقتضاه أن أؤكد أنني بدأت أعرف نفس معرفةً يقينية منذ بدأت أشك. غير
أن شكي ويقيني كانا لا يتعلقان بنفس الأشياء، فشكّي كان مرتبطاً فقط بالأشياء
الموجودة خارج ذاتي، في حين كان يقيني متعلقاً بشكي وبذاتي. لذا فما يقوله أودوكس
إذاً صحيح حول وجود أشياءَ لا يمكننا تعلّمها إلا عند رؤيتها. فتعلّم معنى الشك
ومعنى التفكير لا يتطلب إلا أن نشك وأن نفكر بأنفسنا، وكذلك الشأن بالنسبة إلى
الوجود، فهو لا يتطلب سوى معرفة ما يُقصد بهذه الكلمة، وعلى الفور نعرف الشيء
فعلاً على قدر طاقتِنا. ولا توجد حاجةٌ في هذا المقام إلى أيّ تعريفٍ قد يضف على
الشيء غموضاً بدل أن يجليَه.
أبستيمون: بما أن بوليندر أعرب عن رضاه فسأكتفي أنا أيضاً بهذا القدر، ولن
أُمعِنَ في النقاش أبعد مما فعلنا، غير أني لم ألاحظ أنه حقق تقدماً يذكر طيلة
ساعتين قضيناهما ههنا في التفكير. فكل ما تعلّمه بفضل هذه الطريقة الجيدة التي
تجلّها كثيراً هو إنه يشك لا غير، وأنه يفكر، وأنه شيءٌ مفكر. وإنه لأمر عجيب حقاً
أن يعبّر كلام كثيرٌ عن أشياء قليلة، وكان من الممكن أن يقال هذا بإيجاز فنتفق.
أما بالنسبة إليّ، فلو كان عليّ أن أتلفظ بكل هذا الكمّ الهائل منالكلام وأن أصرف
كلّ هذا الوقت، من أجل تعلّم شيءٍ قليل الأهمية، فإنني سوف لن أذعن بيسر؛ فما
يقوله لنا معلّمونا عنه أكثر من هذا بكثير، وثقتهم به أكبر، ولا يصدّهم عن فهمه
شيء، وهم يتحمّلون مسؤولية كل شيء، ويتخذون القرار في كل شيء، فلا شيء يثنيهم عن
غايتهم ولا شيء يذهلُهم، ومهما حدث من أمر، فإن أحسوا بأن الخناق اشتدّ عليهم فإهم
يتخلّصون من الحرج كلِّه، إما بعباراتٍ تحتمل أكثر م معنى، وإما بالحذلقة. وإضافةً
إلى ذلك، فكن على يقينٍ أن طريقتهم ستكون دائماً أفضل من طريقتك التي تشك في كلّ
شيء والتي تظلّ، من فرط ما تخشى التعثّر، في تردد مستمر، فلا تتقدمُ أبداً.
أودوكس: لا أدعي أبداً أن أملي على أيٍّ كان الطريقة التي ينبغي اتباعها
للبحث عن الحقيقة. وإنما رأيت أن أعرض الطريقة التي أستخدمها فإن بدت فاسدةً
تُرفَض، وإن تبيّن على العكس من ذلك صلاحها ونفعها فلغيري أن يستخدمَها أيضاً.
ومهما يكن فلكلّ إنسانٍ مطلق الحرية في أن يعتمدها أو أن يرفضها. فإن قيل لي الآن،
إنني بفضل هذه الطريقة لا أحرز سوى تقدّم طفيف، فالفضل يرجع في ذلك إلى التجربة،
وإذا ما واصلتَ انتباهك لي فإنني على يقينٍ من أنك ستقرّ معي بأننا لا نستطيع أن
نكون حذرين بما فيه الكفاية لوضع مبادئنا، وأنه بمجرّد أن نؤسّس جيداً هذا
المبادئ، حتى يكون بوسعنا استخلاص النتائج الأدق وبصورةٍ أيسر مما كنا نأمله.
ونكذا يبدو في نظري، أن كل الأخطاء التي تحصل في العلوم تعود إلى أصلٍ وحيد هو
أحكامنا المتسرعة في البداية، كما هو الشأن حينما نتخذ من الأشياء الغامضة التي لا
نعلم عنها شيئاً واضحاً ومتميّزاً مبادئ لنا. وما يثبت الحقيقة التي كنت بصدد
التصريح بها هذه الخطوات البسيطة التي حققناها في العلوم ذات المبادئ اليقينية
والمعروفة لدى الجميع. وعلى العكس من ذلك، ففي العلوم الأخرى ذات المبادئ اليقينية
والمعروفة لدى الجميع. وعلى العكس من ذلك، ففي العلوم الأخرى ذات المبادئ الغامضة
وغير اليقينية، يجب أن يعترف أولئك الذين يريدون أن يكونوا نزهاء مع أنفسهم أنهم
يقرّون أنهم لا يعرفون عنها شيئاً، ولم يتعلّموا منها شيئاً، رغم ما أهدروه من
وقتٍ طويل وما طالعوه من مجلدات كثيرة. فلا تتعجب البتّة إذاً يا عزيزي أبستيمون
إن ركّزت على هذه النقطة الدققة والمضبوطة بأنني لا آخذ شيئاً مأخذ الحقيقة ما لم
أكن متيقّناً غاية اليقين بأنني موجود وأنني أفكر وأنني شيءٌ يفكر، فذلك لأنني
أريد أن أقود بوليندر إلى طريقٍ أوثق مما علّموني إياه.
أبستيمون: تبدو لي شبيهاً بهؤلاء البهلوانيّين الذين يقفزون وينتصبون دائماً
على أقدامهم. كذلك شأنك، فأنت تعود دائماً إلى مبدئك. غير أنك إن واصلتَ على هذا
الحو، فلن تقترب من الهدف ولن تسرع نحوه؛ وبالفعل أنّى لنا أن نكتشف دائماً حقائقَ
يُضاهي يقينُنا بها يقينَنا بوجودِنا؟
أودوكس: ليس هذا بالأمر العسير إلى هذا الحدّ الذي تظنّ، لأن كل الحقائقِ
تتتابع الواحدةُ تلو الأخرى وهي مترابطةٌ في ما بينهاترابطاً تبادلياً. ويكمن
السرُّ كلّه في هذا الأمر وحَه وهو أن نبدأ بأولى القضايا وأبسطها، ثم نتقدّم بعد
ذلك شيئاً فشيئاً على نحوٍ تدريجي، إلى أن نبلغ أقصاها وأكثرها تركيباً. فمن ذا
الذي سيشك إذاً في أنّ ما وضعته مبدأً أوّل، لا يكون أولَ مبدإ لجميع الأشياء التي
يمكن أن نعرفها مهما تكن الطريقة؟ وبالفعل، فإنه من البديهي أنه لا يمكننا الشك
فيهاحتى وإن شككنا في حقيقة جميع الأشياء الموجودة في العالم. وبعد أن نكون قد
بدأنها بدايةً سليمة كي لا نقع البتّة في الخطإ لاحقاً، يجب علينا أن نحترس من
ألاّ نقبل شيئاً على أنه حقٌّ إذا كان فيه أقلُّ داعٍ للشكّ، وذلك على غرار ما
نفعل. ولبلوغ هذه الغاية أرى أنه يجب أن نترك الكلمة لبوليندر وحدَه. وبما أنه لا
يتّبع خطى أيّ معلّم غير الحسّ المشترك وبما أن تفكيره لم يفسده أيّ حكمٍ مسبّق،
لذلك يكاد يكون من المستحيل أن يخطئ، وإن حصل ذلك، فإنه سيتفطّن إليه بيسرٍ
وسيتمكّن من العودة إلى السبيل السويّ. فلنصغِ إذاً إليه يتكلّم، ولنُفسَح له
المجال لعرض الأشياء التي يقول عنها بنفسه إنها متضمّنة في مبدئك.
بوليندر: تتضمّن فكرةُ شيءٍ يفكّر أشياء كثيرة، يستوجب شرحُها أياماً
بتمامها. غير أننا الآن لا نعالج من هذه الأشياء إلا الأساسي وما يفيد في جعل هذه
الفكرة أكثر تميّزاً، وما يساعد على عدم خلطِها بما لا يتعلّق بها البتّة.. وأا
أقصد بالشيء الذي يفكّر..
(بقية المحاورة مفقودة) ـ انتهى ـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق