الوجه المظلم للتأويل
أسماء السكوتي
مقدّمة:
يحيل التّأويل في اللّغة على الرجوع إلى أوّل؛ أي إلى الأصل الذي انطلق منه
المعنى في تحوّلاته الدّلالية، قبل أن يصل إلى ما نعرفه عنه الآن، جاء في لسان العرب: "من آل الشّيء، يؤول إلى كذا؛ أي رجع وصار
إليه"[1]، هذا المعنى/ الأصل،
حسب التّصور الدينيّ متعالٍ لا يمكن الوصول إليه؛ لأنّ علمه مقتصر على الذات
الإلهيّة، بدليل الآية القرآنيّة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}[2]، والمثل اليهوديّ
الّذي ذهب بثنائيّة العلم اللّدنيّ والجهل الناسوتيّ إلى حدّ سخريّة الأول من
الثّاني، ليقول: "الإنسان يفكر، والإله يضحك"[3].
بماذا يفيد البحث عن
المعنى السريّ الخفيّ، ما دام المتأوّل على يقين، أصلًا، من أنّ هذا المعنى سيظلّ
في حرز، أو في علم الغيب؟ بماذا تفيد العودة إلى "الأوّل" مادام لن
يغيّر شيئًا من الحاضر؟ أليس من الأجدى السير قدمًا في سيرورة البرهان العقليّ
وإنتاج أفعال قد تفيد الحاضر المستقبل؟ لماذا تنشأ هذه الحاجة إلى فهم الأصل أو
لحظة خلق المعنى الأولى؟ ألن يسقطنا هذا في أساطير وتفسيرات من أمثال قصّة آدم أو
صدمة الولادة؟
إنّ هذه الأسئلة
وغيرها؛ هي محاولة للاقتراب من التأويل أو من وجهه المظلم الخفيّ، الّذي لم نعد
نراه لكثرة افتتاننا بأطروحات إيكو عن العوالم الممكنة وبياضات النصّ، التي، وإن
لم تخلُ من صحّة وإبداعيّة؛ فهي، في الآن ذاته، لا تخلو من مثاليّة، قد تطمس جوهر
الإشكاليّة المتمثلة في مدى حاجتنا إلى التّأويل، ولأنّ التأويل هو كشف للباطنيّ
والمخفيّ؛ فقد آثرت هذه الورقة تناول وجهه الآخر الباطنيّ والخفيّ، من خلال الوقوف
على علاقة التأويل بمفاهيم، من قبيل: البدايات، السلطة، البلبلة، الكتابة، ...إلخ.
1- التّأويل والحنين إلى البدايات:
إنّ أوّل مثلبة من مثالب التأويل؛ هي ارتباطه بلحظة زمنيّة انقطعت
عن إدراكنا، ولا يفيدنا كشفها بشيء، ذاك أنّ التّأويل، كما عرّفه غادمير، هو:
"الرّجوع إلى المصادر الأصليّة والبدايات الأولى، واستخلاص معنى تنطوي عليه،
قصد الحصول على فهم جديد ومتجدّد لمعنى اخترقته جملة الممارسات والأهواء والرغبات
والمخادعات والمغالطات"[4]، ليصبح التأويل، من
منطلق هذا التّعريف، قوّة تطهيريّة تغربل المعنى، وتصفّيه من الشوائب التي التصقت
به بفعل امتداد سيرورته التداولية، فأنهكته، ليغدو التّأويل؛ محاولة للعودة
بالمعنى إلى لحظة النّقاء أو "العذرية"؛ أي قبل أن يفضّ التّداول بكارته.
الحنين إلى معنى أصليّ؛ حنين إلى زمنه، ثمَّ هروبٌ من الواقع إلى
ماض هو، بالضّرورة، أفضل من حاضرنا؛ لأنّه منقطع عن حواسنا، ومن ثمة كان لخيالنا
الحقّ في التدخّل وإضفاء القدسيّة والمثاليّة عليه، لينحصر العقل، نتيجة ذلك، في
ماضي السلف، أو في ما عبّر عنه هوراس، بقوله: "كان آباؤنا خيرًا منّا، وآباؤهم
خيرًا منهم، ونحن خير ممّن سيأتون بعدنا"[5].
إنّ الالتصاق
بالتأويل، والحنين إلى معنى أصليّ يمكن ملاحقته دون الوصول إليه، دليل على
الهروبية من الواقع، إلى ماض جامد ومنقطع في الزّمان والمكان، يصوّره لنا الخيال
على أنّه أكمل وأمثل من الحاضر المحكوم بالتغيير والحركة، ممّا يدفعنا إلى الغوص
في ثبات الماضي، وفي تقسيماته الضبابيّة بين الظّاهر والباطن.
2- الظاهر والباطن:
تطرح ثنائية الظاهر والباطن، مجموعة من الإشكاليّات؛ أوّلها: أنّ
هذا الباطن دائم الانفلات، ولا يمكن القبض عليه، وإذا كانت العقلية الدينيّة قد
علّلت ذلك بكمون المعنى الباطنيّ في علم الغيب- حيث لا يطّلع عليه إلّا الله، أو
بعض المتمرّدين من الجنّ الّذين يلاقون جزاء تجرُّئهم على السرّ اللّدنيّ، كما جاء في سورة
الصّافّات: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ
ثَاقِبٌ} (الآية 10)، فقد علّل بورخيس في قصّته
"الظاهر" هذا الانفلات الدّائم للباطن، بكونه متعذّرًا على الذاكرة أو
التذكر، ذاك أنّ القصّة في عرضها لشخصية ذات ذاكرة حديدية إلى درجة أنها لا تنسى
حتى عدد الذبابات التي رأتها في اليوم الواحد، يتعذّر عليها أن تتعرّف على مطحنة
الفلفل، وتتحوّل هذه الأداة المطبخيّة السخيفة إلى هوس يحرمها النّوم، ليعرّف سارد
القصّة، في نهايتها الباطن أو اللّاظاهر، بقوله: "هو شيء لا يمكن لأحد تذكّره
بتاتًا، بغضّ النّظر عن عدد المرّات التي رآه فيها"[6]، وربّما كان أنسب
تشبيه لمحاولة التذكّر/ القبض على الباطن، هو تشبيهها باكتشاف النار؛ إذ ماذا كان
ليحدث لو أنّ من اكتشف أنّ النّار تنتج عن احتكاك حجرين، نسيَ في كلّ مرّة فعل
الاحتكاك؟ هل كان سيتمكّن من تجاوز هذا الفعل؟ هل كنّا لنصل ذات يوم لاختراع الشمع
أو الكهرباء؟ ومن ثمّة يكون النسيان، أو استحالة تذكر أو القبض على الباطن،
إيذانًا بالبقاء في لحظة الزمن الصّفر؛ أي في الثّابت، بعيدًا عن الحركة
والدينامية التي يفرضها الواقع.
إنّ تقسيم المعنى إلى
ظاهر وباطن، إضافة إلى تشريعه لانفلات المعنى واستحالته، يؤدّي إلى تنسيب الحقّ،
وتكسير ثنائية الخير والشرّ؛ إذ إنّ فصل الأمور إلى ظاهر وباطن يفترض تدخّل الذّات
المؤوّلة ومنظورها للحدث، فيصعب الحسم في خطأ المجرم؛ بل نشرع في التماس العذر له،
ليكون الإيذان بالتأويل، إذن، إيذانًا بتماهي الحدود وضبابيتها بين الخير والشرّ
والحقيقة واللّبس، ليتحول العالم إلى سديم من الآراء التأويلية، ينتصر فيها ذوو
القدرة على تضييع الحقّ وإلباس الزّيف ثوب الحقيقة، من منطلق أنّ "كلّ واحد
له وجه في الحقّ ومستند" كما قال ابن عربي.
هكذا، ينطلق المتأوّل وحيدًا
بين مستويات المعاني، لامتلاكه قدرات تأويليّة وحكايات رمزيّة، تمكّنه من العبور
والنّفاذ إلى أغوار المعاني، ممّا يضفي عليه صورة أسطوريّة تزيّنه في أعين
العامّة، وتقرّبه من السّلطة التي لا تمانع في ضمّه تحت جناحها، مادام سيمهّد لها
بخطاباته الرّمزيّة "الحلوة" مواصلة السيطرة على العقول المفتونة
بالرّمز والتّخييل.
3- الرّمز والسّلطة:
تتّضح المثلبة الثّالثة للتّأويل انطلاقًا من ثنائيّة "الرّمز
والسّلطة"؛ التي أشار إليها علي حرب في كتابه "الحقيقة والتأويل" بقوله: "بالرّمز
تستقيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكأنّ الإنسان محتاج إلى قدر من التّخيل
والتّوهّم كي يرتضي سلطة الآخر؛ فالرمز أدعى للانقياد والائتمار، فبالرّمز تتوارى
علاقات التبعيّة والخضوع، وبه يتماهى الكلّ مع الواحد، ويصير المجموع جمعًا لا
انقسام فيه ولا نتوء، شكّلت الجموع آلة السّلطان، وأداة قيام الدولة وانهيارها،
وهكذا؛ فلا دولة تبنى إلّا على جمع، ولا دعوة تنهض إلّا بالرمز"[7].
إنّ الرّمز إذن،
انطلاقًا من هذه القولة، هو: وسيلة لتدجين العامّة، ولمّها حول أساطير وحكايات، لا
تفيدها واقعيًّا وفكريًّا، بقدر ما تشغلها بالتّخييل عن النّظر عقليًّا وبرهانيًّا
في السلطة التي تمارس عليها، لكن، هل المشكل كامن في الرّمز أم في استعمال الرّمز؟
ربّما كان الرّمز، في حدّ ذاته، خيرًا يقرّب لنا الوجود، ويمكّننا من التعرّف
إليه، لكنّه بمجرّد أن يقع في يد السلطة، يتّخذ وظيفة أخرى؛ هي وظيفة الإيهام،
ليصبح الرّمز بذلك آلة لتعطيل عقل الفرد، وضمّه إلى قطيع الجمع الموافق على كلّ ما
يأتي به السّلطان، من أحكام وقصص وأوهام، تبلبل العقول، وتجعلها أبعد ما تكون عن
التفكير والنقد والبرهان، وعن التّمرد والرّفض المهددَين لسلطة الحكم المطلق.
4- التّأويل: بين الغموض والبلبلة
لعلّ موقع التّأويل
بين الغموض والبلبلة لا يتّضح إلّا إذا عدنا إلى التراث، وبحثنا في رموزه وقصصه
التأويلية، التي كان أهمّها:
أ- يوسف والسّجن:
أين تكمن الحقيقة؟ في
الباطن، أو في قاع بئر لا يمكن أن يجدها فيه إلّا من ألقاه إخوته في الجبّ؟ لو
اتّخذنا قصّة يوسف تشبيهًا لفهم التّأويل (والتأويل يعشق المجاز والرموز) لقلنا:
إنّ الإخوة هم رمز البرهان والعقل، يلقون بيوسف/ المؤوّل (قصّة يوسف بدأت بحلم
وانتهت بتأويل الحلم) في الجبّ، ليتخلّصوا من سلطته على الأب/ العقل.
لا تخبرنا القصص بما
حلّ بيوسف في البئر (بماذا فكّر أو حلم؟)، لكنّها ما تلبث أن تخبرنا بمصيره في
مكان آخر لا يقل ظلمة وانغلاقًا، هو السّجن؛ حيث التقى بالسّجينين وأوّل حلميهِما.
في المغلق والمظلم ينسحب العقل والوعي إلى الظلّ، ويبدأ اللّاوعي
والأحلام في الاستبداد بالمشهد، ليكون الانعتاق من السجن لمن يملك جواز المرور من
الظاهر إلى الباطن، ومن صورة: {إِنِّي أَرَانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}[8]، إلى دلالة الموت،
إلّا أنّ التأويل في قصّة يوسف لا يكتفي بفكّ أسره؛ بل يجعله يتربّع على عرش
الحكم، بعد تفسير رؤيا فرعون التي أنقذت شعب مصر من الهلاك.
ارتبطت دلالات الخلاص والسلطة بالتأويل منذ النبي يوسف، وإلى الآن
مازالت الشعوب العربيّة مدمنة على قراءة كتب "تفسير الأحلام"، لعلّ
حلمًا ينقلب حقيقة، ويخلّص أصحابه من ثقل الواقع، المطالب أبدًا بالوعي والعقل
والبرهان، هكذا ترسّخت لدى العربيّ رؤية رمزيّة للعالم، قسمته إلى ظاهر وباطن،
وعقل وأسطورة، وفكر وخيال.
ب- أبو العبر
والبئر:
حفظ لنا التراث اسم شخصيّة أدبيّة ارتبط ذكرها بالبئر والبلبلة؛
إنّها شخصية "أبو العبر" الذي وصف كتاب "الأغاني" إلقاءه الشعر على
النحو الآتي: "كان يجلس على سلّم، وبين يديه بلّاعة فيها ماء وحمأة، وقد سدّ
مجراها، وبين يديه قصبة طويلة، وعلى رأسه خفّ، وفي رجليه قلنسيّتان، ومستمليه في
جوف بئر، وحوله ثلاثة نفر يدقّون بالهواوين حتّى تكثر الجلبة ويقلّ السّماع، ويصيح
مستمليه من جوف البئر: من يكتب، عذّبك الله، ثم يملي عليه.."[9].
أن يكون الأستاذ في
الأعلى والتّلميذ في الأسفل فذاك شيء مفهوم، نابع عن كون أحدهما مالكًا للمعرفة،
والآخر طالبًا لها، لكن ما لا يمكن فهمه؛ هو أن يفصل بين الاثنين مسافة شاسعة، مثل
المسافة الفاصلة بين أعلى السلم وجوف البئر، إضافة إلى المتحلّقين حول الجبّ، الّذين
لا وظيفة لهم سوى إصدار أكبر قدر من الضجيج والضّوضاء، لمنع أيّ تواصل بين من يقف
في العلن/ الظاهر، ومن يختفي في الأسفل/ الباطن.
عندما تكتمل عناصر
البلبلبة (الطالب في أسفل الجبّ، الأستاذ في أعلى السلّم، التلاميذ المطبّلون)؛
يبدأ أبو العبر في إلقاء شعره، وعلى التلميذ الموجود في قاع الجب أن يكتب ما يصله
من أشعار، أيّ أشعار ستصله وهو غارق في ظلمة باطن الأرض، وبينه وبين أستاذه ما بين
السماء والأرض؟ أمن الممكن أن يقترب النصّ المدوّن في الباطن ممّا ألقاه الشاعر من
موقعه الظاهر؟ هل يمكن تفسير فعل أبو العبر الماجن بإعادة تمثيل لصورة إله يحتفظ
في السماء بالمعنى لنفسه، ويلقي لكتبته ببعض الأسطر التي تبلبلهم أكثر ممّا
تهديهم؟
ج- برج بابل:
تشظّي اللّغة والمعنى
الحديث عن البلبلة والتّأويل يجرّنا إلى الحديث عن برج بابل، وعن
اللّحظة التي انقسمت فيها اللّغات وغاب فيها التّفاهم، وفي علاقة بالإله مرّة
أخرى، يشير النص الإنجيليّ إلى أنّ واقعة بابل كانت مقصودة، ذاك أنّ الإله قد خاف
إذا اكتمل برج بابل أن ينازعه البشر الحكم، فبلبل ألسنتهم، وفرّق أفهامهم، ليضمن
أنّهم لن يصلوا إلى السماء[10]،
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ السّماء، بدورها، باطن، وإن كانت ظاهرة، لكنّ بعدها عن
حواس الإنسان جعلها مكسوَّة بغلالة من القدسيّة، ومسكونة بالآلهة والملائكة، كما
أسكن باطن الأرض من قبل بالشّياطين والجنّ.
اللّغة، إذن، مرادفة للبلبلة؛ لأنّها تخفي أكثر مما تعلن، وتطمس
أكثر مما تبيّن، وتبلبل أكثر مما تؤدّي إلى التّفاهم للتواصل، ودليل ذلك القول
الفرنسيّ:
"Entre ce que je
pense, ce que je veux dire, ce que je crois dire, ce que je dis, ce que vous
voulez entendre, ce que vous entendez, ce que vous croyez en comprendre, ce que
vous voulez comprendre, et ce que vous comprenez, il y a au moins neuf
possibilités de ne pas se comprendre."[11]
إنّ هذه البلبلة المفترضة في اللّغة، والمشكّلة لجوهرها، ما تلبث
أن تضحي أكثر إشكالية حين ترتبط بالكتابة التي تفصل المرسِل عن المرسَل إليه، ثمّ
تلغي أيّ احتمال لتدخّل المتلفّظ للشّرح والتّفسير والتّصحيح، ليتوارى المؤلِّف
إلى الخلف، ويتدخّل المؤوّل.
5- الكتابة والتّأويل:
يدرس ريكور في كتابه من "النّص إلى الفعل" أثر الكتابة في النصّ وعلاقتها
بالتّأويل، ليخلص، في النّهاية، إلى أنّ فعل الكتابة يؤدّي إلى الآثار الآتية[12]:
- "المباعدة"؛ أي أنّه بمجرّد ما
تتم الكتابة، تنفصل نيّة الكاتب عمّا يفهمه المتلقّي، ومن ثمّة يغيب قصد الكاتب،
ويصبح للدّلالة النصيّة والدلالة الذهنيّة قدران متباعدان.
- ينفصل النصّ، بمجرّد
كتابته عن ظروف كتابته؛ السياسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، لينفتح على
سلسلة لا محدودة من القراءات، وبذلك؛ فالنصّ يلغي سياقه ليعيد بناءه في كلّ قراءة بكيفيّة جديدة واستثنائية.
- إلغاء الشرط الحواريّ الذي يجمع بين المرسِل والمرسَل إليه، في
مكان وزمان مشترك (هنا، الآن)، يؤدّي إلى انعدام إمكانيّة التفسير والشرح، ليبدأ فعل التّأويل.
- الاحتفاء باللغة لذاتها؛ إذ تتجاوز اللّغة في النص غاية التّوصيل
والتعبير، لتصبح غاية في ذاتها؛ أي تغدو جماليّة بالدّرجة الأولى.
- مركزيّة القارئ؛ إذ بمجرّد أن ينسى
القارئ قصد الكاتب، يبدأ في فهم النّصّ على ضوء تجاربه الخاصّة كذات متلقّية،
ويكون الفهم؛ هو "فهم الذّات أمام النصّ.. [أي] المخاطرة بالنّفس أمام النصّ،
واستقبال ذات أخرى أرحب".
- هل لنا أن ندرج الكتابة في الوجه المظلم للتأويل، أو في وجهه الآخر
النيّر الّذي يعدّ الانفتاح والتعدد والذاتية دليلًا على غنى النصّ وأهميّة المؤوِّل؟
لا يمكن الجواب عن هذا السّؤال، إلّا إذا عدنا إلى موقف الفلسفة من
الكتابيّ، وتفضيلها للشفويّ منذ أفلاطون، من منطلق أنّ "الأستاذ يمكن أن يختار
تلميذه، لكن ليس للكتاب أن يختار قرَّاءه، الذين يمكن أن يكونوا خبثاء أو أغبياء،
أن تكتب كلّ الأشياء في كتاب، يعني أن تضع سيفًا في يد طفل"[13].
إذن، الكتابة خطر؛
لأنّها تفصل الخطاب عن صاحبه (المتكلم)، وتجعل النصّ مشاعًا لقرّاء/ متأوّلين، لا
ندري إن كانوا سيستعملون النصّ أم سيؤولونه؟ أي؛ هل سيسقطون معتقداتهم وأحكامهم
المسبقة على النصّ، أم سيدرسونه انطلاقًا مما يريده لنفسه؟ أي انطلاقا من
استراتيجيّته وموسوعته.
إنّ المتأوّل، حسب
الرأي السابق، لا يمكن أن يكون سوى قارئ مغرض، حتّى لو لم يقصد أن يحرّف النصّ أو
يزيّفه؛ فهو أثناء قراءته لا يستطيع أن يتخلّص من معارفه وأحكامه المسبقة، ليصبح
بذلك شبيهًا بقاطع الطّريق "بروكست"، وبروكست هذا؛ قاطع طريق يونانيّ
كان يعذّب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها، كان له فراشان: فراش كبير وفراش صغير،
فكان يطرح المسافرين طويلي القامة على الفراش الصغير، والمسافرين قصيري القامة على
الفراش كبير، ثم يعمد إلى أرجل طويلي القامة فيقطعها؛ لأنّها تتعدّى الفراش
الصغير، أمّا قصيرو القامة؛ فكان يجذب أرجلهم حتى يكونوا تمامًا على حافّة الفراش
الكبير.
إنّ المؤوّل، إذن، هو تمامًا كبروكست؛ يأخذ من النصّ ما يتناسب مع
تأويله، ويبتر منه ما لا يناسبه، كل ذلك لأنّ الكتابة أتاحت له أن ينفرد بالنصّ
وحيدًا وبعيدًا عن عيون مالكه، أي عن أصله، ليعيث فيه فسادًا، وربما كان هذا هو ما
حذا التوحيديّ إلى إحراق مؤلَّفاته قبل موته، وأبا زكريا العجوني إلى أن يأمر بحلّ
كتابه في الماء، مفسّرًا رغبته بقوله: "أخاف ألَّا يفهمه أحد يأتي من بعدي،
فيكون سبب ضلاله"[14].
خاتمة:
خلاصة القول: إنّ التأويل هو "حَرْف للكلام؛ أي خروج على
الدلالة وانتهاك للنصّ"[15]، ذاك لأنّه يتّسم
بمجموعة من المياسم؛ كالماضوية، والغيبية، والانفلات الدائم للمعنى، وتنسيب الحقّ،
وكونه وسيلة للإخضاع العام للسّلطة، وإثارة البلبلة، وعرضة للقراءة المغرضة، هذه
المياسم التي تأتلف جميعًا لتكشف الوجه المظلم للتّأويل، إلّا أنّ إنكار فضل
التّأويل، هو نفي لسيرورة فهم الإنسان للوجود؛ إذ بمجرّد ما وجد الإنسان نفسه أمام
سديم العالم، حاول أن يفهمه، ويقترب منه، فكانت محاولته الأولى هي الأسطورة التي
مثّلت قوى الطبيعة بآلهة الأولمب، وأصل الخلق بقصّة آدم، ورغم كون هذه الأساطير
نسيجًا من الخرافات والأوهام، إلّا أنّ فضلها أنّها بثّت الطمأنينة في نفس
الإنسان، ووفّرت له راحة نفسيّة، مكّنته من أن ينتقل للمرحلة الآتية المتمثلة في
استعمال العقل لفهم الوجود، ولولا الأسطورة والرمز والتأويل الذين قدّموا- في
مرحلة ما من تاريخ الإنسانية- أجوبة (نتّفق جميعًا في أنّها خاطئة) للإنسان، لما
تحرّر من خوفه، ولما استطاع أن ينتج معرفة، وأي معرفة يستطيع أن ينتجها العقل وهو
مقيّد بالخوف؟
إنّ التأويل في حدّ
ذاته ليس مشكلًا؛ المشكل في الذّات التي تستعمله للتحكّم في الآخر وإخضاعه
لسلطانها، في الذّات التي تحمّل النصّ أكثر ممّا يحتمل من معاني، وتلبسه أكثر مما
يطيقه من ألبسة، حتّى ليختلط الحقّ بالباطل، وتضيع الحقيقة، وما دمنا لا نعيش في
عالم مثاليّ، تستعمل فيه كل الأشياء والمفاهيم، على وجهها الصّحيح والنّافع، فلا
مفرّ من الاستعانة بالعقل البرهانيّ لحماية أنفسنا من المتأولّين، الّذين ينحصر
اشتغالهم بالوجه المظلم للتّأويل.
بيبلوغرافيا:
باللّغة العربيّة:
-
أدونيس، زمن الشعر، دار الساقي، بيروت، 2005م.
-
حرب علي، التأويل والحقيقة؛ قراءات تأويلية في الثقافة
العربية، دار التنوير، بيروت،
2007م.
-
ريكور بول، من النصّ إلى الفعل؛ أبحاث التأويل، ترجمة: محمد برادة
وحسان بورقية، عين للدّراسات والبحوث الاجتماعيّة، القاهرة، 2001م.
-
هانس غيورغ غادمير،
"مدخل إلى أسس فن التأويل"، ترجمة: محمد شوقي الزين، مجلة فكر ونقد، العدد 16، فبراير/ 1999م.
- القرآن الكريم.
-
كيليطو عبد الفتاح، الحكاية والتأويل؛ دراسات في السرد العربيّ، دار توبقال، الدّار
البيضاء، 1988م.
-
كيليطو، لسان آدم، دار توبقال، الدّار البيضاء، الطبعة
الثانية، 2001م.
-
ابن منظور، لسان العرب، المجلد 11، دار الكتب العلمية، بيروت،
1971م.
باللّغات الأجنبيّة:
- Borges. “The Zahir”,
http://web.mit.edu/allanmc/www/borgeszahir.pdf
-
Borges. The total library; nonfiction 1922-1986, translated by:
E. Allen, S. J. Levine, E. Weinberger, London, Penguin books, 2001.
-
Kundera, Milan. L’art du roman, Paris,
Gallimard, 1986.
-
Werber, Bernard. L’incyclopédie du savoir relatif et absolu,
Paris, Albain Michel, 2003.
[4] هانس غيورغ غادمير، "مدخل إلى أسس فنّ التأويل"، ترجمة:
محمد شوقي الزين، مجلة فكر ونقد، العدد 16، فبراير/
1999م، ص 85.
[9] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، ورد لدى: عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويل؛ دراسات في السّرد العربيّ، دار توبقال، الدّار البيضاء، 1988م، ص ص 50-
51
[10] سفر التكوين، ورد لدى: كيليطو، لسان آدم، دار توبقال، الدّار البيضاء، الطبعة
الثانية، 2001م، ص ص 16-17.
[12] بول ريكور، من النّصّ إلى الفعل؛ أبحاث التّأويل، ترجمة: محمد برادة وحسان بورقية، عين
للدّراسات والبحوث الاجتماعية، القاهرة، 2001م، ص ص 85- 90
[13] J. L. Borges, The total library; nonfiction
1922-1986, translated by: E. Allen, S. J. Levine, E. Weinberger
(London: Penguin books, 2001), p359.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق