كيف
فكر نيتشه في الدولة؟/ طارق عثمان
(1)
ذات ليلة، قرر آل أندروود، فرانك (كيفين
سباسي)، وزوجته كلير (روبين رايت)، دعوة “الرجل الأقوى في العالم الحر”، الرئيس
الأمريكي وزوجته، إلى العشاء في منزلهما، فدار بينهما هذا الحوار:
كلير: ماذا سنقدم للرئيس على العشاء؟
فرانك: سُم السيانيد.
كلير: السيانيد سيكون التحلية، أنا أسأل عن
الطبق الرئيس.
بالطبع، لم يكن فرانك مضطرًا أبدًا لمثل هذه
الوسائل البربرية كتسميم الرئيس بسُم السيانيد (نفسه الذي استخدمه هتلر في
محارقه)، لكي يستطيع الجلوس مكانه خلف المكتب البيضاوي، إنها دعابة بين الزوجين،
ولكنها تفصح ببلاغة عن نوايا هذه العائلة الطيبة؛ ففي تلك الليلة قد أطعما
ضيفيهما، الريش
Ribs، التي يصنعها فريدي المجرم التائب، والمحببة
كثيرًا لدى فرانك.
يأخذنا هذا المشهد من مسلسل House of cards إلى نيتشه مباشرة؛ ففي الكتاب الأول من زرادشت،
نجد هذه الشذرة: “دولة؛
أسمى موضع كل الذين يكرعون من السموم، الصالحون والطالحون معًا، دولة؛ حيث يضيع الجميع
أنفسهم، الصالحون والطالحون معًا، دولة؛ حيث الانتحار الجماعي البطيء يُدعى حياة” (نيتشه، 2007: 105).
ثمة قرابة مدهشة إذن بين استعارة نيتشه ودعابة فرانك أندروود: السم. إن فرانك
بدعابته هذه قدم شاهدًا واقعيًا على استعارة نيتشه عن الدولة.
(2)
لننطلق من دعابة فرانك وكلير إلى نيتشه،
لنتساءل: كيف فكر نيتشه بعامة في الدولة الحديثة؟ وما هي صورة الدولة في فكره؟
لنجيب أولًا بالسلب: لم يفكر نيتشه في الدولة كفيلسوف سياسي، له قول فلسفي نسقي في
الشأن السياسي، ولا بوصفه سوسيولوجيًا محترفًا، راح يتتبع أصل الدولة الحديثة
وتطورها كظاهرة اجتماعية. فواقع الأمر أن نيتشه ما كان أبدًا بفيلسوف سياسي أو سوسيولوجي
بالمعنى النسقي والأكاديمي لكلمة فيلسوف سياسي أو سوسيولوجي.
لذلك؛ أزعم أنه من غير اللائق عند التأريخ للفلسفة
السياسية، وضع اسم نيتشه جنبًا إلى جنب دونما حذر مع أسماء ماكيافيللي وهوبز
وماركس وغيرهم؛ نفتح مثلًا كتاب تاريخ الفلسفة السياسية، وهو كتاب ضخم حرره وأشرف
عليه ليو شتراوس وجوزيف كروسبي (شتراوس وكروسبي، 2005 )، على الفصل المخصص لنيتشه، نجد كل شيء عن
نيتشه إلا فلسفته السياسية، فقط في آخر الفصل ثمة إشارة قد غدت مبتذلة، من فرط
تكرارها، عن توظيف الفاشيين لتعاليم نيتشه وكأن فلسفة نيتشه السياسية ليست سوى جدل
عقيم حول حقيقة الأصول النيتشوية لفاشيات القرن العشرين (النازية خاصة). والحق أن
ليو شتراوس نفسه يؤكد بشكل جذري على أنه “كل استخدام سياسي لنيتشه يعد تحريفًا لتعاليمه” (Strauss, 1989: 98). إذن؛ يبدو أن وجود نيتشه في سياق التأريخ للفلسفة
السياسية، هو وجود غامض، ويبعدنا عن نيتشه أكثر مما يقربنا منه.
(3)
كيف فكر نيتشه في الدولة إذن؟ لقد فكر فيها
أنطولوجيًا، وليس سياسيًا أو سوسيولوجيًا، إنه يرد مسألة الدولة إلى الإنسان نفسه،
أو إلى نمط وجود الإنسان في العالم، إن شئنا الدقة. والحال، أن نيتشه يفهم الحياة
كلها وليس الدولة أو السياسة فقط من خلال الإنسان؛ إنه يقسم النوع البشري إلى
طرازات، لكل طراز نمط وجود معين (أو دازين معين لو أردنا أن نتكلم بلغة هايدجرية)
له حالة فيسيولوجية (وسيكولوجية) معينة، تنتج إرادة اقتدار معينة، ومن ثم تنتج
موقفًا معينًا من الحياة بعامة؛ موقف من المعرفة، من الفن، من المؤسسة الأخلاقية،
وأيضًا من السياسة؛ فكل طراز بشري ينتج الأفق السياسي الذي يناسبه، والدولة
ليست سوى الأفق السياسي المناسب للطراز الذي ينتمي إليه الإنسان الحديث: طراز
الإنسان الأخير، كما يسميه هو. ومن ثم لفهم تقييم نيتشه للدولة الحديثة،
علينا أن نفهم تقييمه لطراز الإنسان الحديث/ الأخير.
لنتساءل بداية: ما هي دلالة الأخير هنا؟ هل هي
دلالة زمنية محضة؟ إنها دلالة إستاطيقية aesthetic أكثر منها زمنية في واقع الأمر، دلالة على طراز
ما، صادف أنه قد وجد في الزمن الحديث. إن دلالة الأخير هنا، تتمثل في كونه الإنسان الذي يتموقع بالضبط ما
بين موت “الإله” وبين ظهور الإنسان الأعلى (أو ما بعد الإنسان إن شئنا الدقة)، إنه
آخر سلالة العدميين الذين أتوا بعد إعلان موت “الإله”، إنه يمثل خاتمة العدمية
الحديثة، إنه يقف على عتبة المستقبل الذي يمكن أن يأتي بما بعد الإنسان.
والحال، أن نيتشه قد احتقر هذا الطراز البشري،
بكل ما أوتي من قدرة على الاحتقار: “سأحدثكم عن أكثر الكائنات حقارة إذن: ذلك هو الإنسان الأخير” (نيتشه، 2007: 48).
“سيأتي زمن الإنسان الأكثر حقارة، ذلك الذي لم يعد حتى قادرًا على احتقار نفسه”
(المرجع نفسه: 49). “ها هي الأرض وقد غدت صغيرة، وفوقها يتقافز الإنسان الأخير،
الذي يصغّر كل شيء، نوعه غير قابل للانقراض، تمامًا مثل فصيلة البراغيث، إن
الإنسان الأخير لهو الأطول عمرًا” (نفسه). الإنسان الأخير طراز حقير من البشر إذن،
فما هي مظاهر انحطاطه؟
إنه إنسان راض عن نفسه تمامًا، فهو غير قادر
على احتقار نفسه، كما يصفه نيتشه، أي إنه غير قادر على تقييم نفسه أصلًا، ويرجع
ذلك لكونه وبعدما مات “الإله” وانهار سلم القيم، لم تعد لديه أية معايير يقوّم
نفسه على أساسها؛ لذلك هو كعدمي يشعر أنه كائن سعيد، يردد ساخرًا وغامزًا: “لقد
ابتكرنا السعادة” (نفسه).
إنه إنسان غير شجاع، يخلد للراحة والدعة
(ونيتشه يرى أن الحياة هي مخاطرة أو لا تكون)؛ لذلك هم أناس قد “هجروا الأماكن
التي كان العيش فيها مرهقًا، فالمرء بحاجة للدفء” (نفسه).
إنه إنسان مطمئن للأفكار الجاهزة، يسخر من كل
متسائل شكاك، فـ “أن تكون للمرء ريبة، فذلك مما يعد لديهم خطيئة” (نفسه).
إنه إنسان مستسلم لملذاته، والتي يشترط أن
تأتيه هي أيضًا دونما مشقة؛ فـ “للمرء ملذاته الصغيرة بالنهار، وملذاته الصغيرة
بالليل، لكن على المرء أن يظل حريصًا على العافية” (نفسه: 50). هذا هو إذن طراز
الإنسان الحديث، الذي ناسبته الدولة الحديثة كأفق سياسي حميم له، إنه طراز يصلح
للدولة، كما أن الدولة تصلح له. فكيف هي صورة الدولة في فكر نيتشه؟
(4)
الدولة عند نيتشه هي “الصنم الجديد” الذي ورث
“الإله” الذي تم الإعلان عن موته: “لا شيء فوق الأرض أعظم مني، يد الله المرتبة
أنا” (نفسه: 104).
لما كان الإنسان الأخير هو إنسان عدمي بلا إله، كان عليه أن ينتج صنمه الخاص، إن
الدولة هي صنم الإنسان الأخير. والحال أن نيتشه قد جعل مهمته الفلسفية الأهم، هي تتبع الأصنام في
كل مكان، بغرض تحطيمها بمطرقته (التفلسف بوصفه قرعًا بالمطرقة)، تفجيرها بنفسه
(أنا مادة متفجرة – كتلة ديناميت) هنا يبين فرقًا جذريًا بين هوبز ونيتشه؛ فالدولة
عند هوبز هي إله حقًا، فقط هو إله فانٍ؛ بينما الدولة عند نيتشه هي صنم، إله زائف.
لقد مجّد هوبز الدولة بوصفها حلًا أخيرًا لضبط المجتمع البشري، بينما نيتشه حقرها
بوصفها آية على انحطاط الإنسان الأخير. هوبز استعار لها وصف اللفياثان (وحش مقدس)؛
بينما نيتشه استعار لها أوصاف: غول، وحش، فظيع، بارد، شرس، عقور، كذاب، مزيف،
وأسنانه مسروقة. (نفسه: 102،103).
من هم المؤمنون بهذا الصنم؟ “كثير من الفائضين عن
اللزوم يأتون إلى الحياة، ولأجل هذا الفائض الكثير ابتُدعت الدولة” (نفسه: 104). إن الإنسان
الأخير في عين نيتشه، هو إنسان فائض عن اللزوم، لا هم له إلا تحصيل الثروات (وهو
يغدو أكثر فقرًا بذلك)، إنه يريد السلطة، ومن ثم تجده هو ورفاقه (الفائضون عن
اللزوم)، يتسلقون الواحد فوق الآخر، كقردة خفيفة الحركة، بغرض الوصول للسلطة، حمقى
هم؛ يظنون أن السعادة جالسة على العرش، بل الأوحال هي غالبًا ما تكون متربعة على
العرش. إنهم يثيرون اشمئزاز نيتشه: “مقرفة رائحة صنمهم في أنفي، ذلك الوحش البارد،
مقرفة رائحتهم جميعًا في أنفي، عبدة الأصنام هؤلاء” (نفسه: 105،106).
يدعونا نيتشه أن نحترس من عبدة الصنم، ويدعونا
أيضًا إلى الاحتراس من فتنة الصنم نفسه (نصحنا فوكو ذات مرة: لا تقع في هوى
السلطة). ولكن، لماذا تسعى السلطة لإغواء الكرام، ألا يكفيها كل هؤلاء الفائضين عن
اللزوم؟ “أبطالًا وشرفاء يريد الصنم الجديد أن يجعل مَن حوله، إن هذا الوحش البارد
ليستلذ بدفء شمس الضمير السعيد”. لما كانت الدولة باردة وخاوية الباطن، فإنها تريد
أن تجمل نفسها بانتماء الكرام الأشراف (كطراز بشري يمثل مقلوب الإنساس الأخير
المنحط) لها، تريد أن تجعل منهم واجهة سعيدة لها، تغني بهم نقصها وتتفاخر. إنها
أيضًا تريد أن تجعلهم فخًا لاستقطاب مزيد من الناس، طعمًا تستدرج به مزيدًا من
الفائضين عن اللزوم. (نفسه: 104)
(5)
هذه هي إذن الصورة العامة للدولة في فكر نيتشه،
والحال أن نيتشه في هذا السياق يقيم تعارضًا صريحًا بين الدولة وبين شيئين مهمين:
الشعب والثقافة.
فأولًا؛ بالنسبة لعلاقة الشعب بالدولة، فبصورة
جذرية يجعل نيتشه الدولة والشعب ضدين لا يجتمعان، إما أن يكون ثمة شعب وإما أن
يكون ثمة دولة: “في مكان ما لا تزال هناك شعوب وجيوش، لكن عندنا هنا يا إخوتي توجد
دول” (نفسه: 102). ولكن عندما توجد دولة، هل يختفي الشعب؟ “كذبًا باردًا يكذب هذا
الغول أيضًا، وكذبته تلك تخرج زاحفة من فمه: أنا هو الشعب” (نفسه: 102). إن الدولة
تبتلع الشعب، ثم تدعي كذبًا وزورًا أنها هي نفسها الشعب.
والحق، أن خطوة ابتلاع الشعب هذه هي الخطوة
الأساس التي تنشأ على إثرها الدولة أصلًا: “إن أقدم دولة قد نشأت في شكل طغيان
مرعب، في شكل آلة ساحقة باطشة، واستمرت في عملها حتى صارت تلك المادة الخام
(الشعب)، ليس فقط مطحونة وطوع العنان بل ومشكلة” (نيتشه، 2010: 117، 118). لم تنشأ
الدولة إذن عن عقد اجتماعي سعيد قد تم في أجواء ودية (روسو، لوك، هوبز)، وإنما عن
آلة بطش وحشية، ابتلعت شعبًا ودجّنته، ثم في النهاية تتحدث باسمه وبمصلحته بكل
صفاقة.
أما ثانيًا؛ فبالنسبة لعلاقة الدولة بالثقافة،
يقول نيتشه: “الثقافة والدولة -ولندع مغالطة العقل جانبًا- طرفان نقيضان: دولة
الثقافة ليست سوى فكرة من نتاج الحداثة. فالواحدة منهما تمتص الحياة من الأخرى،
والواحدة تنتعش على حساب الأخرى، وكل العصور الثقافية الكبرى هي عصور انحطاط
سياسي” (نيتشه، 2010: 90،91). إن نيتشه ينظر إلى كون كل أمة تملك موارد معينة،
وهذه الموارد إما أن تنفق على السعي للسلطة وإما أن تنفق على العقل، وعليه؛
فالأوقات التي تكون فيها أمة ما في انشغال تام بالسياسي، تتدهور لا محالة ثقافيًا
(وبالعكس). والحال، أن نيتشه (المتهم ويا للمفارقة بكونه ملهم النازية وكل فاشيات
القرن) مستعد أن يضحي بكل الإمبراطوريات الألمانية فقط في مقابل الحصول على غوته
واحد. (المرجع نفسه: 90).
إن نيتشه يرى الفكرة القائلة بأن الدولة يمكنها
أن ترعى الوضع الثقافي للأمة، محض أسطورة حداثية، إن مؤسسات الدولة التعليمية لا
يمكن لها أبدًا أن تنتج ثقافة بحق؛ وذلك لأن الدولة حينها سوف تجعل من الثقافة
مجرد أداة لخدمتها، هي مؤسسات أيديولوجية لها (حتى نتكلم بلغة ألتوسير)، بينما ما
يريده نيتشه هو أن تصير الدولة نفسها مجرد أداة لخدمة الثقافة.
إرادة الدولة إذن، هي إرادة اقتدار ولكنها
إرادة اقتدار منحطة، هي إرادة موت في واقع الأمر، “موت يزين نفسه في حلة الحياة”
(نيتشه، 2007: 105). الدولة؛ حيث الجميع يتجرعون السم، تمامًا كما فكر فرانك
أندروود يومًا ما.
(موقع "التقرير")
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1-
نيتشه، فريدريتش، 2007،
هكذا تكلم زرادشت، ت: على مصباح، ألمانيا: منشورات الجمل.
2-
نيتشه، فريدريتش، 2010،
غسق الأوثان، ت: على مصباح، ألمانيا: منشورات الجمل.
3-
نيتشه، فريدريتش، 2010،
في جنيالوجيا الأخلاق، ت: فتحي المسكيني، تونس: دار سيناترا.
4-
شتراوس، ليو، وكروسبي،
جوزيف، 2005، تاريخ الفلسفة السياسية، المجلد الثاني ت: محمود سيد أحمد، مر: إمام
عبد الفتاح إمام، القاهرة: المركز القومي للترجمة.
5-
0Strauss, Leo, 1989, the three waves of modernity, in: an introduction to
political philosophy, Wayne state university press.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق