الطوفان الكبير
في عددٍ كبير من الحضارات القديمة هناك
وصفٌ ملحميّ لطوفانٍ كبير. تشمل هذه الأوصاف ملحمة جلجامش البابلية وقصةنوح في
التوراة والأساطير الصينية والهندية. تمتلك الثقافات الأمريكية والبولينيزية
القديمة كلها نسخاً عن أسطورة الطوفان. في العديد ن هذه الأساطير يبقى بحّار على
قيد الحياة بعد الطوفان، ويرى الأرض تغطى تدريجياً بالماء حتى تختفي. وفي النهاية
ينحسر الماء وتُشاهَد الأرض حيث تبدو الارتفاعات الأعلى أولاً.
اقترحت العديد من الأفكار حول أسطورة
الطوفان، لكن التفسير المعقول الذي لم يُطرَح إلى الآن هو ظاهرة اختفاء الأرض وراء
الأفق مع ابتعاد القارب. وظهور أعلى الارتفاعات أولاً عند العودة والاقتراب من
اليابسة. يمكن تعليل أسطورة الطوفان كظاهرةٍ لاختفاء الأجسام فوق الأفق بالنسبة
إلى ثقافات تعتقد أن الأرض منبسطة. كيف يمكن وصف هذه الظاهرة بطريقة أخرى إذا كانت
الأرض منبسطة؟
هناك الكثير من الأسباب المنطقية للقيام
برحلات طويلة المدى. صيد الإسماك والتجارة بالتأكيد اثنان من أهمها، كما أن
العوامل الاقتصادية يمكن أن تشكل حافزاً قوياً. الهجرة إلى مسافاتٍ طويلة عبر
المحيط أقل شيوعاً لكنها مسؤولة عن تجانس سكان جزر المحيط الهادئ. يمكن أن يشكل
تزايدُ السكان بموارد محدودة حافزاً مهماً للقيام بهذه الرحلات.
تخيّل شيخ عشيرةٍ يعيش مع عائلته نحو 7000
ق.م. إنه يعيش في منطقةٍ ساحلية خصبة لكنها محصورة بالجبال. يؤمن معيشته عن طريق
الصيد والزراعة، وهو محترمٌ جداً في عشيرته. يقول الكهنة بمبدأ الأرض المنبسطة،
لكن شيخ العشيرة يعلم أن هناك أراضيَ خصبة بعيدة وراء الأفق. زار هذه الأراض في
رحلات صيدٍ بعيدة المدى محاولاً مطاردة الأسماك المهاجرة، والابتعاد عن المخزون
المستهلك القريب من أرضه الأصلية. يزداد عدد السكان ببطء، وتصبح الأراضي القابلة
للزراعة أندر. يندلع القتال بين العشائر ويقتل العديد في عمليات الانتقام والثأر.
بمعرفته بالأرض الخصبة غير المأهولة وراء الأفق، يشرع شيخ العشيرة في محاولة إنقاذ
عائلته بالإبحار إلى هناك.
يشرف على عائلته وهي تبني نسخة كبيرة من
قارب صيد قادرٍ على نقلهم مع الممتلكات التي يحتاجون إليها للبدء بحياة جديدة في
تلك الألاض البعيدة. عندما يصبح القارب جاهزاً يصبح الأمر مسألة وقتٍ ققط كي يغادر
من دون أن يثير الريبة. ينتظر حدوث عاصفةٍ، ثم ينقل حيواناتِه ونباتاته ومياهه
وغذاءه وعائلته إلى سفينته ويبحر.
وبينما يكون المشهد مألوفاً له، فإن ركاب
القارب يشهدون منظراً مدهشاً مع مغادرتهم أرضهم: تغوص الأراضي المزروعة أولاً تحت
الماء، تتبعها الغابات المرتفعة، وأخيراً تختفي قمم الجبال.
بالنسبة إلى إولئك الذين ترعرعوا على فكرة
أرضٍ منبسطة، هناك استنتاج وحيد لا مفرّ منه: لقد طافت الأرض. في أي اتجاه ينظرون
يرَوْن المياه تحيط بهم. بمعرفة أنه لا إمكان للعودة إلى الوضع السابق في موطنهم،
يسمح شيخ العشيرة لهذه الفكرة بأن تترسّخ في أذهانهم، كي يؤكد استحالة العودة. بعد
الإبحار لعدّة أسابيع، يعلم شيخ العشيرة أنه لا بد قريب من اليابسة، ويطلق الحمام
الذي جلبه معه. على الرغم من أن كثيرين الآن يعتقدون أن الحمام يعرف طريقه عن طريق
"رؤية" الحقل المغناطيسي، بيد أن البحّارة القدامى عرفوا فائدته في
اكتشاف الشاطئ. أخيراً يغادر أحدها في الاتجاه الذي يشير إلى اليابسة.
يغيّر منحاه وبينما يقترب ن اليابسة، ما
الذي يراه ركّاب السفينة؟ في البداية تظهر أعالي الجبال فقط، ثم الأراضي المنخفضة.
مياه الطوفان تتنحسر! لقد نجَوْا. يهبطون إلى الشاطئ. يمضي شيخ العشيرة إلى قبره
مع سرّه، وتصبح قصّتُه قصة تدخّل إلهي.
أسطورة الطوفان الكبير شائعة جداً لكن لا
وجود لدليل جيولوجي على طوفانٍ عالمي في أيّ وقتٍ مضى من التاريخ. من المعقول تصوّر
أن يحدث السيناريو المذكور سابقاً عدة مرات في ظروفٍ مختلفة حيث أجبرت الضغوط
السكانية البعض على القيام بهجراتٍ بعيدة في المحيط، وحمل الشهود الذين كانوا
يؤمنون بأرضٍ مسطحة قصة الطوفان معهم.
التخمين السابق حول شيوع قصص الطوفان
الكبير ليس من دون عيوب. لدى القبائل الأمريكية المحلية المحصورة باليابسة مثل
الهوبي قصة حول الطوفان الكبير، وربما لم يبحر أيٌّ من الهوبي بعيداً عن اليابسة.
مع ذلك ربما نشأت القصة في مكان آخر وحُفِظت في تقاليدهم.
(جون إدوارد هوث؛ ترجمة د. سعد الدين خرفان؛ عالم المعرفة عدد 441
أكتوبر 2016)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق