الإسلام في تاريخ العرب
(1)
محمد الحجيري
إذا كانت الأديان تشكّل أحد المكوّنات الثقافيّة في
تاريخ الشعوب والحضارات، فإن طبيعة العلاقة بين الدين الإسلامي وتاريخ العرب ربما
يفوق أهمّيةً أيَّ علاقةٍ بين أمّة من الأمم وبين المعتقدات الدينيّة المنتشرة
فيها.
وربما ندرك الأهميّة التي يكتسبها الإسلام في تاريخ
العرب، إذا حاولنا أن نتخيّل هذا التاريخ
خالياً من هذا الرجل الذي جاء بديانة الإسلام!
لكن هذا لا يعني بأن تاريخ العرب قد بدأ مع الإسلام، بل
المقصود بأن الإسلام شكّل مفصلاً مهماً في هذا التاريخ، كما شكّل نقلةً نوعيّةً أو
انقلاباً كبيراً في مساره، ويمكن تلمُّس
هذه التحولات الكبيرة في تاريخ العرب على عدّة مستويات، سنتوقّف عند بعضها،
كالمستوى العقيدي والمعرفي والأخلاقي والسياسي..
وللتعرّف على أهميّة التحوّلات التي تمّت على هذه
المستويات لا بدّ من المقارنة بين ما كان سائداً قبل مجيئ الإسلام وبين واقع العرب
بعد انتشار وسيادة الدين الجديد.
لكنّي لا أظنّ بأن التعرّف على أوضاع العرب في تلك
الفترة من الأمور السهلة، أو بأن معارفنا عنها هي معرفةٌ علميّة أو متفّقٌ عليها،
بخاصةٍ إذا عرفنا بأن ما وصلَنا عنها يعود بمجمله إلى ما كتبه المسلمون ، وهم
الذين أقاموا دولتهم على أنقاض الحالة السابقة التي تراجعت لتفسح المجال لهذه
القيادة الجديدة التي فرضت زعامتها الدينيّة والسياسيّة كبديلٍ لكلّ ما كان
سائداً من قبلُ، ولتفرض نمطاً لم يكن
للعرب عهدٌ به قبل ذلك، فما كان قبل هذه السيادة للنبيّ محمّد هو
"الجاهليّة".
و"الجاهليّة" مصطلح فرضه المسلمون المنتصرون
على الحقبة التي سبقت سيطرتَهم وبناءَهم دولتَهم التي توسّعت واستمرّت لقرونٍ
طويلة والتي قضت بشكلٍ كامل على الوضع السابق في شبه الجزيرة العربيّة. ولم يُتح
للمناوئين للسلطة الجديدة من فرصةٍ لرواية حكايتهم عن تلك الفترة.
في كلّ الأحوال فإن كلمة "الجاهليّة" ليست
محايدةً، والقائلون بها يعتبرون بأن الوضع السابق على سيادة الإسلام بمجمله هو
وضعٌ سيّئ.
ويرجع معنى الجاهلية إلى الأصل اللغوي «جهل»
الذي يعني الخفّة وخلاف الطمأنينة من جهة، وما هو نقيض العلم من جهة أخرى.
وفي ذلك نقرأ قول الفرزدق:
أحلامُنا تَزِن الجبالَ رزانةً وتَخالُنا جنّاً إذا ما نجهلُ
وفي المعنى الثاني يقول الشاعر عبد الملك
الحارثي:
سلي إن جهلتِ الناسَ عنّا وعنهم فليس
سواءً عالمٌ وجهولُ
ويحدّد الراغب الأصفهاني مدلولَ الجهلِ في
ثلاثة أضرب: «الأول وهو
خلوّ النفس من العلم، وهذا هو الأصل، والثاني اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه،
والثالث فعل الشر بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء أعتقدَ فيه اعتقاداً صحيحاً أو
فاسداً».
وفي هذا الرأي نجد أن المدلولين الأول والثاني لهما البُعد
المعرفي، بينما المدلول الثالث له البُعد الأخلاقي. ويمكن إضافةُ بُعدٍ آخر ليس
أقل أهميّة في الوعي الإسلامي، وهو البُعد العقيدي، ويقول د.جواد علي في ذلك بأن
الجاهليّة كما فهمها البعض تعني "الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية
والتعبد لغير الله". مع
إشارته إلى أنّ هذا الاستخدام ليس وقفاً على المسلمين فقط فقد " سبق للنصارى أن
أطلقوا على العصور التي سبقت المسيح والنصرانية "الجاهلية"، أي
"أيام الجاهلية"، أو "زمان الجاهلية"، استهجاناً لأمر تلك
الأيام، وازدراءً بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجهالة الناس إذ
ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم، في نظر النصرانية، عن العلم، وعن ملكوت الله."
وما بين الحال التي كانت في "الجاهليّة"، وما
صارت عليه بعد الإسلام، يمكن المقارنة بين المستويات التي تمّت الإشارة إليها
أعلاه، مقارنةً سريعةً في ما يتعلّق بالمستوى المعرفي والمستوى الاجتماعي
والأخلاقي، ثم محاولة التدقيق أكثر في ما يتعلّق بالناحيتين العقيديّة والسياسيّة
كمقدّمة للتحليل والاستنتاج.
أولاً: ـ في ما يتعلّق بالمستوى المعرفي، لا يمكن القول
بأن الانتقال من حال الجهل إلى المعرفة يمكن أن يتمّ بقرار بين ليلةٍ وضحاها. ومن
المتّفق عليه بأن النهضة العلميّة والمعرفيّة بشكلٍ عام لم تؤتِ أُكلَها وتصل إلى
مدياتها القصوى إلا في القرن الثاني عشر الميلادي، وبعد أن كان التمهيد الحقيقي
لها مع بداية العصرالعباسي، وبالتحديد مع المأمون الذي شجّع على حركة الترجمة،
وبالتحديد كتب أرسطو، فأينعت الثمار مع علماء وفلاسفة أمثال ابن سينا في الطب وابن
الهيثم في الطبيعيات والبيروني والغزالي وابن رشد وغيرهم الكثيرون..
إذاً القول بأن ما قبل الإسلام جهالة ثم ما بعد الإسلام
علمٌ لا يستقيم مع طبيعة الأمور.
صحيحٌ إن الإسلام يحضّ على العلم وطلبه ولو كان في الصين،
لكن الظروف الموضوعيّة التي ساهمت وسمحت بوصول العرب والمسلمين إلى هذا المستوى من
التقدم العلمي والازدهار الحضاري، يجب البحث عن بداياتها (الظروف الموضوعيّة)
الحقيقيّة في تحوّل العرب من قبائل متجاورة إلى كيان سياسي موحّد على مساحات
مترامية الأطراف. هذه البداية الأولى. يليها القرار السياسي الذي اتخذته الدولة
العباسيّة. مع التنويه بأنه إذا كان الإسلام قد حضّ على العلم، فهذا الأمر ليس
موقفاً حصريّاً، بل هو موقفٌ إنسانيّ عام، وإن كان يواجه الكثير من العراقيل من
الأديان أو من القيّمين على تلك الأديان في الكثير من الحالات.
ثانياً: ـ في ما يتعلّق بالأخلاق وبالعادات الاجتماعيّة
التي كانت سائدة قبل مجيئ الإسلام، فقد حارب الإسلام بعض العادات والقيم، منها ما
يتعلّق بوضعيّة المرأة ووأد البنات.. كما انحاز إلى الفئات المهمّشة والفقراء
(خاصةً قبل فتح مكّة)، وحارب العصبيّة القبليّة ليستبدل بها عصبيّة الاعتقاد، فـ
"إنما المؤمنون إخوة" (الحجرات). لكن الكثير من القيَم والعادات التي
حاربها الإسلام، استمرّت في الواقع بنسبةٍ أو بأخرى، منذ تلك الأيام وحتى يومنا
هذا. والمثال ألأبرز على هذا الأمر هو العصبيّة القبليّة التي ظهرت بوضوح في ظلّ
الدولة الأمويّة. لكنّ الأهم من هذا، هو أن الإسلام في المجال الأخلاقي والقيمي،
لم يكن انقلاباً على الواقع السابق بقدر ما كان استمراراً له، مع محاربته لبعض
الشوائب، لأن القيَم العربيّة كانت من القيَم السامية التي جعلت النبيّ يقول بأنه
ما جاء إلا ليُتمّم مكارم الأخلاق..
لقد كان الرسول خلاصةً لتحفّز المجتمع الذي ينتمي إليه،
ذلك المجتمع الذي عبّر عن نفسه من خلال شخصيّة الرسول في سعيه (المجتمع) لتحقيق
وجوده بين الأمم، وفي ذلك يقول الأستاذ ميشيل عفلق عن المجتمع العربي بأنه "الأمة التي حشدت
كلّ قواها فأنجبت محمّداً"، والذي عاد بدوره فأعاد صياغتها من جديد فكانت
"الأمّةَ التي حشد محمّدٌ كلَّ قواهُ فأنجبها".
ثالثاً:أما موضوع المعتقدات الدينيّة التي كانت سائدة مع
مجيئ الإسلام فقد كانت منطقةُ شبهِ الجزيرة العربية تمور بالمعتقدات الدينيّة
وطرائق العبادة: من الدهريّة إلى عبادة الأوثان والأصنام والصابئة واليهوديّة
والمسيحيّة والحنيفيّة وغيرها..
في هذا المجال يمكن سوق بعض الملاحظات والتساؤلات
السريعة حول بعض القضايا التي تحتاج إلى المتابعة والتقصّي أكثر مما هو متاح في
هذه العجالة: ما هي طبيعة المسيحيّة التي كانت سائدة في المنطقة في تلك الفترة،
وما هي معتقداتها الأساسيّة؟
وما يبرّر طرح هذا التساؤل هو كثرة الانشقاقات في
الكنيسة المسيحيّة بدءاً من القرن الرابع، وتكفير الكنيسة للكثير من تلك الفرق
واضطهاد أتباعها، مثل الآريوسيّة مثلاً.. وبالتالي فإن وجود تلك الفرق لم يعد
سهلاً في المناطق الخاضعة لنفوذ الأمبراطوريّة البيزنطيّة.. ومن المتوقّع وجود
الكثير من أتباعها في شبه الجزيرة العربيّة كونها خارج نطاق تلك الأمبراطوريّة.
وهل الخطاب القرآني الموجّه إلى النصارى، كان موجّهاً
إلى فئةٍ واحدةٍ منهم أم إلى أكثرَ من فئةٍ؟ والسبب في طرح هذا التساؤل هو احتمال
وجود أكثر من فرقة مسيحيّة في شبه الجزيرة العربيّة، إضافةً إلى الفرق المسيحيّة
التي كانت موجودة في بلاد الشام الخاضعة لسلطة الأمبراطوريّة البيزنطيّة، والتي من
المرجّح أن يكون النبيّ محمّد قد تعرّف على طروحاتها من خلال رحلاته التجاريّة بين
الحجاز والشام.
الملاحظة أو التساؤل الأخير في هذا المجال تتعلّق بغياب
أو ندرة الحديث عن المانويّة، بالرغم من أن المانويّة هي من المعتقدات التي تأسّست
في العراق في القرن الثالث الميلادي على
يد ماني بن فاتك (أعدمه الملك بهرام بن هرمز بن سابور سية 276م)، وبالرغم من أنها
تعرضت للاضطهاد في الأمبراطوريّة الفارسيّة، إلا أنها انتشرت في المنطقة، وقد
اعتنقها القدّيس أوغسطين لمدّة عشر سنوات. (القدّيس أوغسطين عاش في القرن الرابع
الميلادي في شمال إفريقيا (354ـ 430م)).
الملفت للانتباه في موضوع ماني على ما تذكره المراجع هو
قوله بأنه "الفارقليط" الذي بشّر به المسيح، وبأنه آخر الأنبياء. وكان
يفرض على أتباعه العُشرَ في الأموال كلَّها، وبالصيام سبعة أيام كلَّ شهرٍ، وبالصلاة
أربع مرّاتٍ في اليوم، وبالتطهّر بالماء الجاري، أو بالرمل عند الضرورة، قبل
الصلاة، وترك الكذب والقتل والسرقة والزنى والبخل والسحر وعبادة الأوثان ...
إذا استثنينا الدهريين من بين الفرق التي تعج بها
المنطقة العربيّة في تلك الفترة، يبدو لنا بأن موضوع الاعتقاد بوجود إلهٍ خالقٍ
لهذا الكون، لم يكن موضِع خلاف، فبالرغم من كلّ التباينات في التفاصيل، إلا أن
موضوع الاعتقاد بخالق واحد كان يحظى بشبه إجماع لدى جميع تلك الفرق، بمن فيهم
"عبَدَة الأصنام" الذين كانوا يقولون: "ما نعبُدُهُمْ إلاّ
لِيُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفى" (الزمّر؛ 3).
أما الذين يطلِقُ عليهم المسلمون تسمية
"الكفّار" أو "المشركين"، فإنهم كانوا يعتقدون بإلهٍ خالق
استناداً إلى العديد من الآيات القرآنيّة، فنرى القرآن يتحدّث عنهم بقوله: " وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه" (العنكبوت؛ 61).
وتتابع الآيات القرآنية في نفس السياق بالقول: "وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ
مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ". (العنكبوت؛ 63)
"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم" (الزخرف؛ 9).
"وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُون" (الزخرف؛ 87)
بالرغم من كلّ هذه الاعتقادات التي كانت منتشرةً
ومعروفةً في المنطقة، يبدو أن سكانّها كانوا في حالة تململ وتوقٍ إلى نسقٍ
اعتقاديّ واجتماعي متكامل، يتجاوز الكثير من السخافات، ويحققون من خلاله هوّيتهم
المتمايزة وانتماءهم ووحدتهم. وفي هذا الإطار يمكن فهم المحاولات العديدة التي
انتشرت في المنطقة العربيّة، ربما كان من أهمّها محاولة مسلمة الحنفي، الذي يصفه
المسلمون بـ"مسيلمة الكذّاب" بسبب الصراع الذي نشب بينهم، والذي انتهى
باستئصاله، وهو مصير الكثير من الحالات المشابهة، والتي يمكن أن نتحفّظ على كثيرٍ
مما وصلنا عنهم، لأن المنتصر هو من يكتب التاريخ..
وفي هذا السياق يمكن توقّع الأثر الذي تركته الرحلات
التجاريّة التي كان الرسول يقوم بها إلى بلاد الشام، مروراً بمناطق نفوذ
الأمبراطورية الفارسيّة في العراق، وصولاً إلى مناطق الدولة البيزنطيّة في الشام،
والتي ربما حفّزت لديه حلم المشروع السياسي الموحِّد للعرب في كيان سياسيّ واحد.
فإذا كان الفرس يعيشون في كنف دولةٍ أمبراطوريّة تمثّلهم، وكذلك الروم، فلماذا
يكون العرب محرومين من كيان سياسيٍّ واحد يجمعهم ويجعل منهم قوّةً في منطقتهم،
بينما هم يعيشون بين ولاءٍ للروم أو ولاءٍ للفرس، ويتخاصمون مستقوين على بعضهم
بولاءات قبليّة ضيّقة؟
هذه الشموليّة في الرؤية ربما لا تسمح بها حياة الألفة
مع الواقع، إن كانت في مكان بعيد عن تخوم الأمبراطوريتين، أو كانت داخل نطاق
إحداهُما كحالةٍ تابعة.. بينما قد تكون ممكنةً لشخصيّة بمستوى محمّد، المفكّر
المتأمّل، المقارِن بين ما يراه في عالم الآخرين وبين واقع الجماعة التي ينتمي
إليها..
وتنقل لنا كتبُ السيرة ملامحَ هذا الطموح السياسي عند
محمّد منذ بداية دعوته وقبل هجرته إلى يثرب، فهو يقول "لزعماء قريش عندما
ذهبوا يشتكون منه إلى عمّه أبي طالب، قبيل وفاة هذا الأخير: "كلمةٌ واحدةٌ
تُعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم" (كلمة "لا إله إلا
الله" : اعتناق الإسلام." (عن محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي،
ص 58).
وأنا أظنّ أن الأكثر أهميّة على مستوى المشروع السياسي
هو ما يترتّب على الجزء الثاني من العبارة: وهو الاعتراف بأن "محمّداً رسول
الله"، لأن الإيمان بالله وبأنه الخالق، لم يكن أمراً جديداً .. وهذا ماسبقت
الإشارة إليه أعلاه..
الاعتراف بنبوّة محمّد يترتّب عليها زعامةُ القوم
والعودةُ إليه في كلّ التفاصيل الحياتيّة.
تذكر المصادر "أنّ أبا جهل بن هشام [..] قال
لجماعةٍ من قريش [...] ليلة الهجرة إلى المدينة: "إنّ محمّداً يزعم أنكم إن
بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم.." . ويروي المفسّرون بصدد قولِه
تعالى: (وقل أللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء) (آل
عمران، 26) أن رسول الله حين افتتح مكّة وعَد أمّته مُلكَ فارس والروم.."
(المرجع نفسه، ص 58).
خلاصة القول في موضوع الاعتقاد هو أن ما جاء به الإسلام
لم يكن جديداً كلّ الجِدّة، المهمّ على ما يبدو هو في توحيد الجماعة خلف زعيمٍ
واحد وصياغةٍ موحَّدة ومتكاملة للعقيدة وفي توحيد الطقوس والقيَم.. وباختصار
الانتقال بالجماعة إلى مستوىً جديدٍ من التماسك والوحدة وشعور جديد وواضح بالهوّية.
هذا على الأقل ما ترتّب على العهد الجديد الذي جاء به
الإسلام، والذي ستترتّب عليه نتائج خطيرة على مستقبل العرب: تحقُّقُ الوحدةِ
السياسيّة للعرب وتحوُّلُهم إلى قوّة أساسيّة في المنطقة يحسب لها حساب.. ستحارب
أمبراطوريتين عريقتين في المنطقة في وقت واحد وتحقّق عليهما الانتصارات.. وهذه
الدولة المترامية الأطراف، هي الشرط الذي جعل إقامةَ حضارة زاهيةٍ استمرّت لقرون
أمراً ممكناً..
هذا الانقلاب السياسي الخطير الذي جعله الإسلام أمراً
ممكناً هو ما سيكون موضوع حديثٍ لاحق.. وكيف تعامل مسيحيو المنطقة مع هذا الحدث..
ودورهُم في تأسيس الازدهار العلمي والفلسفي في العصور التالية..
وإذا كان الإسلام قد وحّد العرب قديماً وجعل منهم قوّة
ودولةً أضاءت حضارتُها مصابيحَ المعرفةِ لقرونٍ طوال، أخذت من الحضارات السابقة،
ثم قدّمت للغرب اللاتيني الذي كان على أعتاب بناءِ حضارته بعد عصورٍ من الظلام..
الإسلام الذي قام بكلّ هذه الأدوار في السابق، أو على
الأقل جعل من القيام بتلك الأدوار أمراً ممكناً، هل هو الأداة الصالحة في هذا
العصر لتوحيد المجتمع العربي، أو أن يكون المرجع الصالح لإقامة النظام السياسي
المعاصر في هذه المجتمعات؟
وللحديث تتمّة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق