الخميس، 28 ديسمبر 2023

كمال الصليبي؛ من كتاب "الموارنة، صورة تاريخية"

 



الموارنة

كمال الصليبي

file:///C:/Users/acc/AppData/Local/Temp/7ea52449-5175-4a10-b302-5bdf16634597_history09491.zip.597/history09491%20%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%86%D8%A9%20%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9%20%D8%AA%D8%A3%D9%84%D9%8A%D9%81.pdf

 

 الطبيعة الواحدة والطبيعتان

في غضون القرن الرابع للميلاد، اتخذت الأمبراطورية الرومانية لنفسها عاصمةً جديدةً في القسطنطينية، المدعوّةِ سابقاً بيزنطيا، ثم نبذت الوثنيّة نهائيّاً واعتنقت المسيحية. فأصبح الأباطرة الرومان حماة الدين المسيحي. وكان للكنيسة المسيحية في الأساس أربعة مركز بطريركيّة أنشأها الرسل، وهي رومية والإسكندريّة وإنطاكية والقدس، فأضيف إليها عام 381 بطريركية القسطنطينية. كان ذلك في عهد الأمبراطور ثيودوسيوس الأول، المعروف بالكبير. وما إن توفّي ثيودوسيوس هذا عام 395 حتى انقسمت الأمبراطوريّة الرومانية بين ولدية هونوريوس وأركاديوس، فتبوّأ الأوّل [هونوريوس] عرش الأمبراطورية في رومية، وتبوّأ الثاني [أركاديوس] في القسطنطينية. وعام 476 سقطت رومية في الغرب، فاجتاحت قبائلُ الفرنجة مقاطعة غاليا (وهي اليوم فرنسا)، وفرق أخرى من الغوط مقاطعة إيباريا (وهي اليوم أسبانيا والبرتغال)، وقبائل الفندال مقاطعة إفريقيا. واستمرّت الدولة الرومانية في القسطنطينية، حيث تبوّأ العرشَ عام 527 الأمبراطور يوستنيانوس الأول [الذي سيقفل مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529]. فجَدَّ هذا الأمبراطور النشيط في إرجاع الأمبراطورية إلى سابق مجدها وتمكّن، مع السنين، من استعادة جميع المقاطعات التي كانت لرومية في الجزء الغربي من حوض البحر المتوسط ما عدا غاليا. وهكذا اجتمعت المراكز البطريركية الخمسة تحت حكم يوستنيانوس كما كانت في أيام ثيودوسيوس الكبير، فتعزّز شأن المسيحية برعايته، وبدت الأمبراطورية الرومانية كأنها تشمل العالم المسيحي بأسره. (12)

غير أنّ إنجازات يوستنيانوس لم يُكتَب لها الدوام. فما إن توفّي هذا الأمبراطور الكبير عام 565 حتى عادت الأوضاع في الدولة الرومانية إلى التدهور. فاجتاحت إيطاليا القبائلُ اللومبارديّة، وسقطت إيباريا من جديد في أيدي الغوط. وفي الشرق تجدّدت الحرب بين الدولة الرومانية والدولة الساسانية في بلاد فارس، فانهارت قوى الرومان أمام الفرس. (12)

وما إن حلّ القرن السابع حتى اجتاح هؤلاء [الفرس] سوريّا ومصر، وأخذوا الصليب المقدّس من القدس ونقلوه إلى عاصمتهم المدائن، على نهر دجلة. وعام 610 وصلت جيوشهم إلى أقصى غرب الأناضول، مهدّدة القسطنطينية. وفي ذلك العام نفسه دُعِيَ القائد الكبير هرقل من إفريقيا إلى القسطنطينية ليتبوّأ العرش، فسارع إلى اتخاذا التدابير اللازمة لردّ الفرس عن القسطنينية. وعمد هرقل بعد ذلك إلى استرجاع بلاد الأناضول وسوريا منهم، فاستمرت الحروب بينهم حتى عام 628.

وكان من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى انهيار سوريا ومصر أمام الفرس بعد وفاة الأمبراطور يوستنيانوس ذلك الانقسام الذي طرأ في عهده على الكنيسة المسيحية في هذين القطرين. ففي عام 537، السنة العاشرة من مُلكِه، انقسمت كنيسة الإسكندرية بين القائلين بالطبيعة الواحدة في المسيح (أي إن المسيح هو الله بشكل إنسان) والقائلين بالطبيعتين (أيّ إن المسيح هو الله وإنسان في آن واحد)، فانتخبت كل فئة بطريركاً(13) خاصاً بها. وعام 557 أو 558 تم انقسام مماثلٌ في كنيسة إنطاكية. وكانت الدولة الرومانية قد اعتنقت مذهب الطبيعتين بعدما أقرّ هذا المذهب في المجمع الرابع الخلقيدوني، وهو المجمع ذاته الذي حكم ضد مذهب الطبيعة الواحدة. فدُعي القائلون بالطبيعتين في سوريا ومصر "ملكانيّين" أو "ملكيّين" من كلمة "ملكا" في السريانية، بمعنى ملك، نسبةً إلى أمبراطور القسطنطينية، حامي المذهب الخلقيدوني. أما القائلون بالطبيعة الواحدة، فالمصريّون منهم درجت تسميتهم بالأقباط، من الكلمة اليونانية لمصر egyptos، والسوريون أطلِق عليهم اسم السريان، من سوريا، أو اليعاقبة، نسبةً إلى يعقوب البرادعي، أحد كبار دعاة مذهب الطبيعة الواحدة ومنظّم الكنيسة القائلة به. وجدير بالذكر أنّ هذا الانقسام في كنيستيّ الإسكندريّة وأنطاكية عكس في وقتِه نقمةً شعبيّةً واسعة النطاق، في مصر وسوريا، ضد الحكم الروماني. لذلك أطلق الأقباط واليعاقبة على مواطنيهم الذين بقُوا على المذهب الخلقيدوني اسم الملكية، إشارةً إلى تبعيّتهم للدولة الرومانية وخنوعهم لها. وكان من مظاهر حقد الأقباط واليعاقبة على الدولة الرومانية أنّ الفريقين وقفا جانباً عندما أقدم الفرس على اجتياح سوريا ومصر، ولم يشتركا في الدفاع عنهما. (14)

وتنبّه الأمبراطور هرقل، خلال حروبه مع الفرس، إلى خطورة الانقسام الكنسي في سوريا ومصر وما ينجم عن هذا الانقسام من إحراجٍ للدولة الرومانية وللقضية المسيحية الكبرى، فسعى إلى استمالة اليعاقبة والأقباط والحدّ من نقمتهم بالتنازل بعض الشيء عن الموقف الخلقيدوني بشأن الطبيعتين في المسيح. وبناءً على اقتراح سركيس الأول، بطريرك القسطنطينية، وبموافقة هونوريوس الأول، بابا رومية، دعا الأمبراطور إلى تفسيرٍ جديد للمبدأ الخلقيدوني يجعل للمسيح طبيعيتين يصدر عنهما فعلٌ واحد. وحثّ الأمبراطور جميع المسيحيين على القبول بهذا التفسير والكفّ عن الجدل حول الطبيعة والطبيعتين. وأصدر عام 638 مرسوماً يجبر المؤمنين على القبول بالتفسير الجديد ويوضح أنّ الفعل الواحد في المسيح إنما يصدر عن مشيئةٍ واحدة. غير أنّ مرسوم هرقل لم يحلّ المشكلة، بل زادها تعقيداً. (15) ذلك أنّ القائلين بالطبيعة الواحدة والقائلين بالطبيعتين رفضوا الحلّ الوسط.

أما الذين قبلوا به، فأصبحوا فئةً ثالثةً في الكنيسة ما لبثت أن دخلت طرفاً ثالثاً في الجدل.

كان القصد من المجيء بفكرة المشيئة الواحدة إعادة وحدة الكنيسة المسيحية في وجه الخطر الفارسي المجوسي. لذلك لا يجوز أن تسمّى هذه الفكرة أول أمرها بدعة. فالبدعة تقصد الفتنة، والفتنة تقود إلى الانقسام. أما فكرة المشيئة الواحدة، فكان القصد منها إخماد الفتنة والرجوع عن الانقسام. لذلك لقيت الفكرة التي جاء بها بطريرك القسطنطينية قبولاً عند بابا روميةوغيره من الأحبار. ولذلك أيضاً تجاوبت مع الفكرة فئاتٌ شعبية في مختلف أنحاء الأمبراطورية تحمست لمساندة الأمبراطور هرقل في كفاحه البطولي ضد الفرس المجوس باسم المسيحية.

غير أنّ بعض الأحبار المتحمّسين للمذهب الخلقيدوني شاؤوا أن يرفضوا الفكرة الجديدة رفضاً باتّاً وأن يقاوموها بضراوة، ولو سبّب ذلك إحراجاً شديداً للأمبراطور. وكان من جملة الذين آثروا التمسّك بالدقّة اللاهوتيّة في أحرج الأوقات، ولم يعتبروا أن للضرورة أحكاماً، الراهب صفرونيوس الذي نصّب عام 633 بطريركاً على القدس. وفيما استمرّ صفرونيوس يعاند هرقل، تغلّب العرب على عسكر الأمبراطوريّة في معركة اليرموك عام 636. وقام صفرونيوس نفسه، عقب هذه المعركة، بتسليم مدينة القدس إلى الفاتحين.

أما أجداد الموارنة، فكانوا من أنصار هرقل الذين اعترفوا بأحكام الضرورة، فآثروا الدفاع عن كيان المسيحية والسعي لإعادة وحدة الكنيسة على الدقة اللاهوتيّة. (17)

 

دير ورهبان وذهبٌ وفضّة:

جلّ ما يعرفه التاريخ عن الموارنة هو أنهم نشأوا كطائفة أصلاً في وادي العاصي، وأن نسبتهم هي إلى مار مارون، من أولياء القرن الرابع.. (21)

ولما كان معظم هؤلاء الموارنة الأوائل، على الأرجح، من الفلاحين البسطاء، لم يعرهم المؤرخون المعاصرون اهتماماص، فنسي أمرهم... ومن المرجح أن الموارنة لم يصبحوا طائفة مستقلّة، لها كيانها الكنسي الخاص، قبل القرن السابع. [أيام هرقل] ففي غضون ذلك القرن العاصف، ظهر الإسلام وأنزل العربُ بالحكم الروماني ـ المسيحي في سوريا، ومصر ضربةً قاضية. فتضعضعت أحوال المسيحية في هذين القطرين، وانقطعت الصلات المنتظمة بين بطاركة القسطنطينية وبطاركة أنطاكية والقدس والإسكندري من الملكية كما انقطعت بين هذه الكنائس الثلاث وكنيسة رومية... ولربما في تلك الفترة العصيبة التي تلت الفتح العربي لسوريا ومصر أن التفّ أبناء قرى وادي العاصي حول رهبان دير مار مارون متأملين قيادتهم، وتكوّنت بذلك نواة الكنيسة المارونية. (22)

بقي رهبان دير مار مارون متمسّكين بمذهب المشيئة الواحدة [في مقابل الطبيعة الواحدة والطبيعتين المختلفتين]، على الأقل في شكله البدائي.. ظنّاً منهم أنه المذهب الصحيح المقبول به من القسطنطينية ورومية. أما في القسطنطينية ورومية، فاتضح مع الزمن أنّ مذهب المشيئة الواحدة الذي جيء به أصلاً كحلٍّ وسط لإعادة وحدة الكنيسة في سوريا ومصر لم يعد نافعاً لهذه الغاية بعد خروج كلا القطرين، بسبب الفتح العربي، عن سلطة القسطنطينية. (23)

انعقد المجمع السادس في القسطنطينية عام 680، فحرّم القول بالمشيئة الواحدة وأقرّ القول بالمشيئتين. أما في وادي العاصي، حيث لم يتّضح موقف الكنيسة المسكونية من هذه القضية، فاستمرّ القول بالمشيئة الواحدة بين الشعب الماروني، على شكلٍ ما على الأقل، قروناً طويلة. (24)

[الرومان كادوا يقضون على الموارنة]

يتضح من الأخبار المرويّة عن مصادر متأخرة أن يوستنيانوس الثاني المعروف بالأخرم، الذي تبوّأ عرش القسطنطينية عام 685، أرسل بعد الاتفاق الذي تمّ بينه وبين الخليفة عبد الملك بن مروان في العام الأول من ملكه عسكراً إلى سوريا، (25) فخرّبوا دير مار مارون وشتتوا رهبانه، ولجأ عدد من هؤلاء، وعلى رأسهم يوحنا مارون السرومي، إلى جبل لبنان. ويوحنّا مارون هذا، على ما يُروى، هو أوّل بطاركة الموارنة، وقد توفي في كفرحي، في بلاد البترون، عام 707.

ومما لا شكّ فيه أنّ الموارنة أخذوا يستقرّون في لبنان منذ زمن مبكر. غير أنهم بقوا منتشرين في وادي العاصي حتى القرن العاشر. وقد ذكر المسعودي الذي توفي عام 956، أنّ أكثر الموارنة في أيامه كانوا "في جبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها كحماة وشيزر ومعرّة النعمان".

إلا أنّ أمرَهم في وادي العاصي لم يدم طويلاً على ما يظهر. ففي 963 تبوّأ عرش القسطنطينية الأمبراطور نقفور الثاني المدعو نقفور فوقا، ثم تبعه عام 969 يوحنا الأول المعروف بالشمشقيق. وكانت الدولة العباسية في ذلك الوقت قد حلّ بها الضعف والانحلال، فجدّ نقفور فوقا، ومن بعد الشمشقيق، في استرجاع (26) سوريا من المسلمين وضمّها من جديد إلى أمبراطورية القسطنطينية.. وتوفّق الاثنان في حملاتهم/ فعادت معظم الأنحاء السورية تحت حكم الروم مدّة قرنٍ كامل. وفي هذه الأثناء اختفى الموارنة من وادي العاصي أو كادوا، ولم يبقَ لهم موطن خارج جبل لبنان إلا حلب التي لم يوفّق الروم في أخذها. ولعل موارنة الوادي هربوا من جور الروم، فلحق بعضهم بأبناء الطائفة المقيمين في جبل لبنان، ولجأ البعض الآخر إلى حلب.. (27)

 

من الواضح أن الجزء الشمالي من جبل لبنان أصبح الموطن الأساسي للموارنة ومركز كنيستهم الدائم ابتداءً بالقرن العاشر. (27)

 

شعبٌ صلبٌ غيور على كيانه

انقطع الموارنة بعد لجوئهم إلى جبل لبنان عن العالم الخارجي، تتطبّعوا بوعورة بيئتهم الجديدة، فأصبحوا شعباً صلباً، متراصّ الصفوف، شديد البأس، غيوراً على كيانه ودينه، ماهراً في القتال. واستمرّت الكنيسة المارونية تقوم بمهمات القيادة، فبقيت قريبة من الشعب، ترشده في الأمور الروحية والزمنية وتؤمّن له مستودعاً لخبرته. كان بطاركة الطائفة ومطارنتها يعيشون إلى جانب الشعب ببساطة ووداعة، يشاركونه أفراحه وأحزانه دون ترفّع أو تكبّر. (29)

وحدث بعد نزوح الموارنة عن وادي العاصي أنّ الخلفاء الفاطميّين في مصر تمكّنوا من طرد الروم من سوريا، أو بلاد الشام كما دعاها العرب، فعادت هذه البلاد تحت سيطرة المسلمين. وفي عام 1058 دخل آل سلجوق (29) الأتراك بلاد العراق بالاتفاق مع الخليفة العباسي، فتلقبوا بالسلاطين واتخذوا بغداد مركزاً لدولتهم. ثم جردوا الحملات على بلاد الشام، فأخرجوا آخر الفاطميين منها عام 1070. وعلى إثر طرد الروم من بلاد الشام في غضون القرن الحادي عشر، تعرّض المسيحيّن هناك، على يد الفاطميّين والسلاجقة، لموجةٍ من الاضطهاد لعلّها كانت الأولى من نوعها منذ الفتح الإسلامي.

وفي هذه الأثناء كان الانشقاق تمّ بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة رومية. وكانت العلاقات بين الكنيستين توتّرت منذ القرن التاسع بسبب إصرار رومية على زعامتها للكنيسة المسكونية ورفض القسطنطينية الاعتراف بهذه الزعام إلى الحدّ المطلوب. وجاءت حركة الإصلاح التي قام بها رهبان كلوني في القرن العاشر تقوّي مركز الباباويّة في الغرب، فزادت رغبة في فرض زعامتها على القسطنطينية حتى اضطُرّ بطاركة القسطنطينية، عام 1054، أن يلجأوا إلى الانفصال. وكانت الكنيسة المارونية، ولا بدّ، على علم بالخلاف المتزايد بين القسطنطينية ورومية. ولمّا كانت قد عانت (30) اضطهاداً على يد كنيسة القسطنطينية لتمسّكها بمذهب المشيئة الواحدة، كان من الطبيعي أن تميل في تأييدها إلى كنيسة رومية. وربما كان الموارنة يعتقدون أنهم بتمسّكهم بمذهب المشيئة الواحدة إنما يمثلون وجهة نظر رومية التي ترفضها القسطنطينية.

وظهر الضعف في دولة الروم في السنوات التي تلت الانفصال، فانهزمت جيوشها بقيادة الأمبراطور رومانوس أمام السلاجقة في معركة ملاذكرت، في بلاد أرمينيا، عام 1071. وسارع الأتراك على الأثر إلى اجتياح بلاد الأناضول. وما حلّ عام 1081 حتى كانت هذه البلاد قد أُلحِقت بدار الإسلام. واضطر أباطرة القسطنطينية إلى طلب النجدة من الغرب، فلبّت كنيسة رومية النداء ودعت الملوك وأمراء الفرنجة إلى تنظيم حملةٍ عسكريّة على نطاقٍ واسع يكون هدفها نجدة ملوك الروم ضد السلاجقة واستعادة الأماكن المقدسة في بلاد الشام من أيدي المسلمين. وعام 1096 بدأت جيوش الفرنجة تتحرك نحو القسطنيطينية، فساعدت الروم على استرجاع الجزء الغربي من بلاد الأناضول من السلاجقة. (31)

ودخلت بعد ذلك بلاد الشام، فاحتلّت أنطاكية والرها، ثمّ توجّهت جنوباً نحو القدس. وفي ربيع 1099 وصل الفرنجة إلى عرقا  قرب طرابلس، فنزلت وفود الموارنة لاستقبالهم هناك يوم عيد الفصح في 10 نيسان. وهكذا تمّ اللقاء بين الموارنة والفرنجة، فتصادق الفريقان واستمرت علاقات الودّ بينهما طول مدة وجود الفرنجة في بلاد المشرق.

واحتلّ الفرنجة القدس في صيف ذلك العام. ثمّ تحوّل فريقٌ منهم شمالاً، فأخذ جبيل عام 1102، وطرابلس عام 1109. وتأسست في طرابلس إمارة فرنجية امتدت تخومُها من فتوح كسروان جنوباً إلى بلاد اللاذقيّة شمالاً، ومن مشارف وادي العاصي شرقاً إلى البحر غرباً، فشملت معظم المناطق المارونية من جبل لبنان. وعلى الأثر انتعشت الطائفة المارونية هناك، فأخذ الغيورون من أبنائها ينشئون الكنائس والأديرة في مختلف القرى. وكذلك أخذ الموارنة يدقّون النواقيس " من نحاس (32) بدل الخشب للصلاة والقداس". وكانت الدول الإسلامية تمنع رعاياها المسحيين من استعمال الأجراس النحاسيّة وتجبرهم على الاستعاضة عنها بنواقيسَ خشبية.

وأثبت النجاح العسكري الذي أحرزه الفرنجة في بلاد الشرق بما لا يقبل الشك تفوّق الغرب على بيزنطيا كقوّةٍ ضامنة للمسيحية، فاقتنع بطاركة الموارنة، على ما يبدو، بضرورة تقرب كنيستهم من رومية. ويقال إنّ أوّل من سعى إلى هذا التقرّب البطريرك يوسف الجرجسي الذي كان مقيماً عام 1099 في دير سيدة يانوح، في جبّة المنيطرة، فأرسل من يمثّله مع الوفد الفرنجي الذي ذهب إلى رومية ليزف إلى البابا بشرى احتلال القدس، وعاد هذا إلى البطريرك من رومية بتاجٍ وعصا. وتقول المصادر المتأخرة أيضاً أنّ أساقفة الموارنة أقسموا الطاعة لرومية في لقاءٍ تمّ بينهم وبين ممثّل للبابا غريغوريوس الحالاتي (1130 ـ 1141). وربما كان ذلك عام 1139، عندما أرسل الباب إينوشنتيوس الثاني قاصداً (33) إلى بلاد المشرق لينظر في بعض المشاكل الكنسية القائمة هناك. غير أنّ اللقاء بين الكنيسة المارونية ورومية لم يكمل قبل عام 1180. ففي ذلك العام، أو بعده بقليل، اجتمع رؤساء الموارنة بإيمريكوس، بطريرك أنطاكيا اللاتيني، وأعلنوا أمامه قبولهم الكامل بإيمان الكنيسة الرومانية ودخولهم في طاعتها. (34)

[العلاقة مع روما: انشقاق داخل الطائفة المارونية]

[حدث خلاف داخل الطائفة المارونية بين مؤيد للعلاقة مع روما ومعارض لها] وبلغ الانشقاق ذروته عام 1282، عندما شغر الكرسي البطريركي بوفاة البطريرك دانيال الحدشيتي. فسعى الفرنجة إلى انتخاب أرميا الدملصاوي خلفاً له، وأرسلوه فرو انتخابه إلى رومية ليأتي بالتثبيت. واستقرّ أرميا المدلصاوي في حالات، في حمى أمراء جبيل الجَنَويّة الذين سعَوا في تنصيبه. أما الموارنة المعارضون للاتحاد فرفضوا الاعتراف به كرئيس للطائفة، وقاموا بانتخاب منافسٍ له هو لوقا البنهراني. واتخذ البطريرك لوقا مركزاً حصيناً له في الحدث وأخذا يناوئ الفرنجة الذين دعموا منافسه.

وحدث في العام التالي (1283)، في أيار، أنّ فرقاً من التركمان أغارت على جبّة بشرّي بأمر من دولة المماليك، فأخذت إهدن وهدمت قلعتها في حزيران، ثم سارت في القتل والنهب من قريةٍ إلى قرية حتى وصلت إلى الحدث في 22 آب، فحاصرت القرية وملكت قلعتها (39) وأخذت البطريرك لوقا البنهراني أسيراً.. (40) [يكون المماليك بذلك قد أدوا خدمةً لروما وحلفائها من الموارنة اللبنانيين]

وانتهى أمر البطريرك لوقا البنهراني بأخذ المماليك للحدث، فاستمر أرميا الدملصاوي بطريركاً على الكنيسة المارونية دون منازع حتى وفاته عام 1297.

ولعلّ الموارنة المنشقّين عادوا إلى طاعة البطريرك بعد الكارثة التي حلّت بجبّة بشرّي عام 1283، فوقفوا صفاً واحداً مع الفرنجة في وجه الخطر الداهم. غير أنّ أمر الفرنجة في بلاد الشام لم يعش طويلاً بعد ذلك. فلم تمضِ ست سنوات على سقوط الحدث حتى انقضّ المماليك على طرابلس، فأخذوها في 27 نيسان 1289. (41)

[...] وعاد الموارنة، بعد خروج الفرنجة من بلاد الشام، إلى الانقطاع عن العالم المسيحي في الخارج. غير أنّ كنيستهم استمرّت متمسّكة بإيمانها الكاثوليكي وباتحادها مبدئياً مع رومية.

وكان البطاركة الموارنة، فور انتخابهم، يسعَون إلى التثبيت البابوي عن طريق المرسلين الفرنسيسكان وغيرهم، فيتأخر وصول التثبيت، بسبب صعوبة المواصلات، سنين طويلة. ويبدو أن الموارنة لم يتعرّضوا أول الأمر إلى أيّ اضطهاد من المماليك. ذلك أنّ هؤلاء ركّزوا اهتمامَهم في البدء على اضطهاد النصيريّة والشيعة الإسماعيلية والاثني عشرية في منطقتيّ الضنّية وكسروان، فلم يلتفتوا إلى الموارنة. (42)

[الانتقام من الموارنة]

وحدث عام 1365 أنّ فرنجة قبرص أغاروا على الإسكندرية فنهبوها وأعملوا في أهلها السيف. وأحدثت هذه الغارة ردة فعلٍ ضدّ الطوائف المسيحية في مختلف الأنحاء المصريّة والشامية، فتعرّضت هذه الطوائف على الأثر إلى اضطهادات عنيفة. وكان الموارنة في جملة من اضطُهِد، فقبض المماليك على عدد من أساقفتهم واقتادوهم إلى السجن في دمشق. وهرب البطريرك جبرائيل الحجولاوي من أمام الاضطهاد واستتر في قريته حجولا. إلا أنّ المماليك تمكّنوا آخر الأمر من القبض عليه فأحضروه إلى طرابلس وأحرقوه عند جامع طيلان، خارج المدينة، في أول نيسان 1367. (43)

وانكسرت شوكة البطريركية المارونية بمقتل جبرائيل الحجولاوي وأصبح خلفاؤه في دير سيدة ميفوق تحت رحمة دولة المماليك في طرابلس. وضعفت سطوة الأساقفة على الطائفة، فحلّ مكانهم في الزعامة مقدَّمو القرى وأصبحت لهم الكلمة النافذة. وكان المقدمون على علاقة حسنة بحكام طرابلس.. (44)

[تكريس روما كرسي الموارنة]

دعا البابا أوجانيوس الرابع إلى مجمع مسكوني للنظر في إمكان إنهاء الانشقاق بين الكنيسة الشرقية ورومية. وانعقد المجمع عام 1493 في مدينة فلورنسا، في إيطاليا. وكان بطريرك الموارنة ذلك الوقت يوحنا الجاجي، فاستدعى الأخ جوان، رئيس الرهبان الفرنسيسكان في بيروت، وطلب منه أن يذهب مندوباً عنه إلى المجمع وأن يعود إليه بالتثبيت. وفشل مجمع فلورنسا في إنهاء الانشقاق .واتضح للبابا أوجانيوس ثبوت الكنيسة المارونية وحدها، من بين البيع الشرقية، في طاعة رومية، فسرّ لذلك واعترف بالبطريرك الماروني، للمرة الأولى، بطريركا على الكرسي الأنطاكي. وكان أسلافه يثبتون البطاركة الموارنة في رئاسة طائفتهم ولا يذكرون اسماً لكرسيّهم. (44)

 

عندما افتتح السلطان سليم الأول بلاد الشام خصّ الأمير عساف التركماني بالعناي وخفض المال المترتب عليه، فانتعشت كسروان على الأثر وأصبحت أكثر المناطق اللبنانية ازدهاراً، وأخذ الموارنة النازحون من الشمال [المناطق التابعة لطرابلس] يستقرون فيها. وارتاح الأمراء العسّافيون إلى نزوح الموارنة إلى منطقتهم، إذ كان الموارنة النازحون فلاحين ودَعاء يعمرون البلاد بنشاطهم ولا يعرقلون مساعي الحكام. وكان الشيعة، سكان كسروان الأصليون، يقاومون آل عساف ويعصونهم، فمال هؤلاء عنهم وأخذوا يحيطون أنفسهم بمدبرين وأعوان من الموارنة. (53)

عطف الأمراء العسافيون على الموارنة واعتنوا بهم كما لم يفعل حاكمٌ من قبل. ولم يكن حكم آل عساف من النوع ذاته الذي عهده الموانة عند حكام طرابلس. ذلك أن نواب طرابلس المماليك، ومن بعدهم الولاة وملتزمو السنجقية في العهد العثماني، كانوا يمثلون حكماً إسلامياً قائماً على الشرع يضع مصلحة الإسلام والمسلمين، مبدئيّاً، فوق كل مصلحة. أما آل عسّاف، فكانوا مسلمين سنيين من ناحية الدين، إلا أنّ حكمهم كان قائماً على عرف إقطاعي وتقاليد محلّية بعيدة كل البعد عن الشرع. وكانت مصالحهم كأمراء مصالح إقليمية لا تمتّ إلى العصبية الدينية بصلة. وهذا ما فسح المجال لدخول الموارنة كعنصر فعّال في الإمارة العسّافية.

والتقت مصالح الطائفة المارونية ومصالح آل عسّاف مادياً ومعنوياً، فنشأت بين الفريقين وحدة حال لم يأنس لها المسلمون وممثلو الدولة العثمانية في طرابلس ودمشق. (56)

 

يبدو أنّ فخر الدين جدّ منذ وقتٍ مبكر في تقوية مركزه في المناطق الدرزية، فأخذ يشجع أنصاره الموارنة على النزوح إلى هذه المناطق. وكان شديد الاهتمام بإنتاج الحرير، فساعد نزوح الموارنة إلى المناطق الدرزية على تقوية هذا الإنتاج.. (62)

وكان اهتمام رومية بالموارنة، في هذه الأثناء، قد ازداد على إثر الإصلاح الذي أدخِل على الكنيسة الكاثوليكية في أواسط القرن السادس عشر، فأخذ أحبار رومية يعينون كاردينالاً خاصاً من كرادلة الكنيسة لرعاية شؤون الطائفة المارونية. وعام 1585 أنشأ البابا غريغوريوس الثالث عشر في رومية مدرسة خاصة لتدريب الكهنة الموارنة. (63)

 

[فقط البطريرك الماروني يثبت من روما]

يبدو أنّ الامتيازات التي نعم بها الموارنة في حمى الأمراء أثارت حسد الطوائف المسيحية الأخرى في بلاد الشام. إذ كانت الدولة العثمانية تفرض على رؤساء جميع هذه الطوائف طلب التثبيت، عند انتخابهم، من الآستانة، فيصبحون بذلك تابعين إدارياً للدوفة وفقاً لنظمها الملّية. أما البطريرك الماروني، فبقي مستقلاً عن الدولة، إذ كان التثبيت يأتيه فقط من رومية. (80)

[الموارنة يحتضنون الروم الكاثوليك المضطهدين]

في القرن الثامن عشر سمحت الدولة العثمانية للطائفة الملكية الأرثوذوكسية في الكرسي الأنطاكي باضطهاد الروم الكاثوليك المنشقّين عنها كما سمحت للكنيسة الأرمنية الغريغورية باضطهاد الأرمن الكاثوليك، فلجأ عددٌ كبير من المضطهَدين إلى جبل لبنان حيث حظُوا بحماية البطريركية المارونية والأمراء الشهابيّين. ويبدو أن الروم الأرثوذوكس في منطقة الكورة نقموا على البطاركة الموارنة لاهتمامهم بأمر الروم الكاثوليك وأخذوا يحرّضون ولاة طرابلس ضدّهم، فلم يوفّقوا في ذلك إذ كانت صلة الموارنة بالولاة، عن طريق آل الخازن، أقوى من صلة أهل الكورة بهم. (80)

القائمقاميّات وثورة الفلاحين

في 1798 نزلت الجيوش الفرنسية مصر بقيادة نابليون بونابرت وبدأت زحفها في العام التالي على بلاد الشام، فانشغلت الدولة العثمانية بها، كما انشغل بها أحمد الجزار. وما إن تمكّن العثمانيون، بمساعدة بريطانيا، من إخراج الفرنسيين من مصر حتى قامت هناك دولة محمد علي باشا، فتوازنت القوى في بلاد المشرق بين الدولة العثمانية والدولة العلوية في مصر. وتمكّن الأمير بشير الثاني، الذي خلف الأمير يوسف عام 1788، من استغلال هذا الوضع لتقوية الإمارة اللبنانية من جديد. وكان آل جنبلاط وغيرهم من كبار زعماء الدروز قد تعاونوا مع الجزار ضده في أول عهده. فلما توفي عام 1804، جدّ بشير في تحطيم الزعامات الدرزية والقضاء على أربابها. وكان المسيحيون في جبل لبنان عموماً، والموارنة بشكلٍ خاص، يؤيّدون الأمير في سياسته هذه، فزادت نقمة الدروز عليهم. وكانت سيطرة الأمراء الشهابيين قد امتدّت، منذ عهد الأمير يوسف، إلى المناطق المارونية في ولاية طرابلس ضمن بلاد الإمارة في عهد الأمير بشير. فأصبح الدروز في بلاد الإمارة أقلّية ضئيلة تواجه أكثريّة مارونية ساحقة، مما أضاف، ولا شك، إلى شعورهم القلق والنقمة.

واستمر الحال على ذلك حتى احتلت جيوش محمد علي بلاد الشام عام 1834، بالتعاون مع الأمير بشير، ثم أجبرت على الخروج منها عام 1840 بعد أن تدخلت الدول الكبرى في الأمر، فأرغم الأمير بشير على التخلي عن الإمارة وأرسِلَ إلى المنفى. وقامت في العام التالي أولى الصدامات في مجال القضاء على الإمارة الشهابية ووضع جبل لبنان تحت الحكم العثماني المباشر. وما إن تمّ ذلك في أوائل 1842 حتى هبّ الموارنة، كنيسة وشعباً، يطالبون بعودة الشهابيّين إلى الحكم. فرفض العثمانيون ذلك رفضاً باتاً، متذرعين بعداء الدروز المعلن للأسرة الشهابية. وكانت بريطانيا، بسبب التنافس السياسي بينها وبين فرنسا في بلاد المشرق، تدعم موقف الدروز وتسهّل على الدولة العثمانية فرض سياستها في جبل لبنان.

إلا أنّ الحكم العثماني المباشر في البلاد لم يدم سنةً كاملة. فقد رفض الموارنة التعاون مع الحاكم العثماني، ووضع عليه الزعماء الدروز شروطاً لم يتمكن من قبولها. فعدل العثمانيون عن التجربة وقرروا، بموافقة الدول الكبرى، تقسيم جبل لبنان قائمقاميتين، واحدة مسيحية تضم مناطق بشرّي والكورة والبترون وجبيل وكسروان والمتن، والثانية درزية تضم مناطق الجرد والغرب والشوف. وجاء هذا التقسيم، إلى حدٍّ ما، موافقاً لمصالح الزعماء الإقطاعيّين الدروز، إذ أتاح لهم السيطرة على مناطقهم والتصرّف بها كما يشاؤون. ولم يلحق بالدروز من التقسيم حيث [حيفٌ] يذكر، إذ لم يكن لهم في القائمقامية المسيحية إلا جالية صغيرة في المتن. أما الموارنة، فكانوا منتشرين في جميع أنحاء جبل لبنان، بما فيها المناطق الدرزية حيث فاق عددهم عدد الدروز. (85)

ووضع التقسيم الموارنة وغيرَهم من المسيحيين في القائمقامية الدرزية تحت رحمة زعماء الإقطاع الدروز، فنقموا على هذا الترتيب وأخذوا يطالبون بتعديلات تضمن لهم مصالحَهم. ودعمت الكنيسة المارونية موقف أبنائها في القائمقاميةالدرزية وأخذت تشجعهم على النهوض في وه الزعماء الدروز. وكان من الطبيعي أن يرى الدروز في ذلك تحدّياً طائفياً لهم، فهبّوا لنصرة زعمائهم وتكرّرت الاصطدامات الدامية بينهم وبين الموارنة وغيرهم من المسيحيين في المناطق المختلطة.

 وحاول آل الخازن وآل حبيش في هذه الأثناء، التمثل بالزعماء الدروز واستغلال ضعف حكم القائمقامين لتقوية سيطرتهم الإقطاعية على كسروان، فأخذ الفلاحون ينتظمون لمقاومتهم بتشجيع من الكنيسة. وكان البطاركة الموارنة، منذ عهد البطريرك يوسف حبيش (1823 ـ 1845)، قد جعلوا مقرّهم الشتوي في دير سيدة بكركي، في كسروان، فصار بإمكانهم متابعة الأحداث في هذه المنطقة، وفي المناطق الدرزية إلى الجنوب، عن كثب. وما إن حلّ عام 1858 حتى ثار الفلاحون في كسروان على آل الخازن وآل حبيش وأطاحوا بالسيطرة الإقطاعية على منطقتهم. وتشجع المسيحيون في القائمقامية الدرزية من نجاح ثورة الفلاحين في كسروان، فراحو يستعدون لثورة مماثلة في مناطقهم. وكان لا بدّ من أن تتّخذ الثورةُ في هذه المناطق طابعاً طائفياً. ففيما استعدّ الموارنة، بتشجيع من أرباب كنيستهم والتعاون مع الطوائف المسيحية الأخرى، لخلع نير الإقطاعية الدرزية، أخذ الدروز يلتفّون حول زعمائهم الإقطاعيّين ويحتاطون للأمر بالاتفاق مع السلطات العثمانية المحلّية. وفي أواخر الربيع من عام 1860، باغت الدروزُ المسيحيّين المقيمين في مناطقهم، فانقضوا عليهم بالتعاون مع الحاميات العثمانية وأهلكوا منهم أعداداً كبيرة.

(87)

وليس هناك من شكٍّ في أنّ الكنيسة المارونية كانت مسؤولة نوعاً ما عن الكارثة التي حلّت بالطائفة وبسائر المسيحيّين في المناطق الدرزية عام 1860. ذلك أنّ المذابح التي تعرّض لها المسيحيون على أيدي الدروز في ذلك العام كانت إلى حدٍّ كبير ردة فعلٍ لسياسة التحدي التي اتبعها الموارنة تجاه الإقطاعية الدرزية بتشجيع من أرباب الكنيسة. على أنّ تحدّي الموارنة وكنيستهم لمصالح الإقطاع كان يمثّل وجهة نظرٍ أكثر تجاوباً وتلاؤماً مع متطلّبات العصر وأكثر تطلّعاً إلى المستقبل من وجهة نظر الزعامات الدرزية. ففيما كانت هذه الزعامات تصرّ على الإبقاء على تقاليد وحقوق إقطاعية موروثة تعرقل نموّ البلاد وتمنع إعادة وحدتها السياسية، كان الموارنة يشدّدون على ضرورة إلغاء نظام القائمقاميّتين والاستعاضة عنه بنظام أكثر فعاليّة يعيد وحدة الكيان اللبناني، ويضع حداً لنفوذ الأسر الإقطاعية، بما فيها الأسر المارونية، ويؤمّن مصالح الطبقة الوسطى الناشة في مختلف أنحاء الجبل، وعلى الأخص في كسروان والمناطق الدرزية المنتجة للحرير. وكانت فرنسا تدعم موقف الموارنة من الخارج، إلا أنّمساندة بريطانيا للإقطاعية الدرزية وإصرار الدولة العثمانية على إبقاء نظام القائمقاميتين حال، حتى 1860، دون إحداث أيّ تغيير يتلاءم مع المطالب المارونية. (88)

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق