الأربعاء، 20 ديسمبر 2023

هيدغر والتأويل؛ عادل مصطفى


هيدغر والتأويل

عادل مصطفى



(١) بين هسرل و«هيدجر»

(١-١) نوعان من الفينومينولوجيا

مثلما كان «دلتاي» ينظر إلى الهرمنيوطيقا في أفق مشروعه الخاص بإيجاد نظرية ذات توجه تاريخي لمنهج العلوم الاجتماعية، كذلك كان «هيدجر» يستخدم لفظة «هرمنيوطيقا» في السياق الأكبر لبحثه عن أنطولوجيا أكثر «أساسية»، لقد كان «هيدجر»، شأنه في ذلك شأن «دلتاي»، يبحث عن منهجٍ من شأنه أن يكشف الحياة في ضوء الحياة ذاتها، وفي كتابه «الوجود والزمان» اقتبس «هيدجر»، مؤيدًا ومعضدًا، هدف دلتاي في فهم الحياة من خلال الحياة ذاتها، ومنذ البداية شرع «هيدجر» في البحث عن منهج يتخطى التصورات الغربية عن الوجود ويستقصيها إلى جذورها، شرع «هيدجر» في البحث عن «هرمنيوطيقا» تمكنه من أن يكشف اللثام عن الفروض المسبقة التي تتأسس عليها هذه التصورات، وقد أراد، مثل نيتشه من قبله، أن يضع التراث الميتافيزيقي الغربي كله موضع التساؤل.

وجد «هيدجر» في فينومينولوجيا إدموند هسرل أدواتٍ تصوريةً لم تكن متاحةً لدلتاي أو نيتشه، ووجد فيها منهجًا يمكن أن يسلط الضوء على كينونة الوجود الإنساني بطريقةٍ يمكن للمرء بها أن يكشف النقاب عن الوجود ذاته لا عن مجرد أهوائه وتحيزاته وأيديولوجيته، ذلك أن الفينومينولوجيا قد فتحت عالمًا جديدًا وأتاحت فهم الظواهر فهمًا سابقًا على التصورات الذهنية، على أن هذا العالم الجديد كانت له عند «هيدجر» دلالةٌ مختلفة عن تلك التي كانت عند هسرل، فبينما كان «هسرل» يقارب هذا العالم بغرض كشف عمل الوعي بوصفه ذاتيةً ترانسندنتالية، فقد رأى فيه «هيدجر» الوسط الحيوي للوجود الإنساني التاريخي في العالم، ورأى في تاريخيته وزمانيته مفاتيح لفهم طبيعة الوجود، فالوجود كما يكشف عن نفسه في الخبرة المعاشة يندُّ عن التصور العقلي وعن المقولات اللازمانية للتفكير الذهني المتمركز على الأفكار وحدها. إن الوجود هو السجين المحجوب والمنسي للمقولات السكونية الغربية، والذي كان «هيدجر» يأمل في إطلاق سراحه، فهل نجحت الفينومينولوجيا كنظريةٍ ومنهجٍ في أن تقدم له الوسيلة المناسبة؟

لقد نجحت جزئيًّا، غير أن تأثر «هيدجر» بدلتاي ونيتشه، وكذلك طبيعة نقده للميتافيزيقا الغربية وبخاصة الأنطولوجيا، قد جعلاه متوجسًا غاية التوجس من رغبة «هسرل» في رد كل الظواهر إلى الوعي الإنساني، أي إلى الذات الترانسندنتالية.

 لقد آمن «هيدجر» بأن حقيقة الوجود سابقةٌ على الوعي والمعرفة الإنسانية وأكثر منهما بداءةً وأساسية، بينما كان هسرل يميل إلى اعتبار كل شيءٍ حتى حقيقة الوجود كمعطى من معطيات الوعي، لم يكن مثل هذا الموقف القائم على الذاتية ليقدم الإطار المناسب للنقد الذي كان يدور بخاطر «هيدجر»، ورغم نجاح فينومينولوجيا هسرل في تحقيق مراجعةٍ تنقيحيةٍ طموحٍ للإبستمولوجيا ما تزال ثمارها ملموسةً اليوم في مجالات كثيرة، فهي لم تكن بحد ذاتها الأداة التي يمكن أن يستخدمها «هيدجر» في طرحه الجديد لقضية الوجود.

ومما يحمل دلالةً كبيرةً لتعريف الهرمنيوطيقا أن ذلك الصنف من الفينومينولوجيا الذي أنشأه «هيدجر» في كتابه «الوجود والزمان» يطلق عليه أحيانًا اسم «الفينومينولوجيا التأويلية» Hermeneutic Phenomenology، وهو أكثر من مجرد بحثٍ فرعيٍّ داخل الحقل الذي أسسه هسرل وألمَّ به، فهو يشير إلى صنفين منفصلين تمامًا من الفينومينولوجيا، صحيح أن «هيدجر» قد أخذ الكثير عن هسرل، وأن كثرةً مدهشةً من تصوراته المبكرة تعود إلى أستاذه، غير أنه وضع هذه التصورات في سياقٍ جديد وفي خدمة غرضٍ مختلف، هكذا يكون من الخطأ أن ننظر إلى «المنهج الفينومينولوجي» على أنه مذهبٌ صاغه هسرل واستخدمه «هيدجر» لغايةٍ أخرى، فالحق أن «هيدجر» قد أعاد النظر في مفهوم الفينومينولوجيا ذاته، بحيث أخذت الفينومينولوجيا والمنهج الفينومينولوجي عنده طابعًا مختلفًا اختلافًا جذريًّا.

يتمثل هذا الفرق بإيجاز في كلمة «هرمنيوطيقا» نفسها، فلم يسبق قط لهسرل أن استخدم هذه اللفظة في الإشارة إلى عمله، بينما صرح «هيدجر» في «الوجود والزمان» بأن الأبعاد الأصيلة لأي منهج فينومينولوجي تجعله هرمنيوطيقيًّا بالضرورة، لقد كان مشروعه في «الوجود والزمان» هو «تأويل للدازاين (الآنية)» a Hermeneutic of Dasein،١ إن اختيار «هيدجر» لكلمة «هرمنيوطيقا» (وهي كلمة مشحونة بالدلالات، من جذورها اليونانية إلى استعمالها الحديث في فقه اللغة واللاهوت) لتومئ إلى التحيز ضد العلم والذي يقف على النقيض الواضح من موقف هسرل، وتنسحب الخصلة نفسها على «الهرمنيوطيقا الفلسفية» لهانز جيورج جادامر وتضفي على اللفظة نفسها نبرةً عالية من العداء للنزعة العلمية (المتطرفة/التعالمية) Antiscientism.

هذان الموقفان المتضادان تجاه العلم يمكن أن يكشفا الفروق بين هسرل و«هيدجر»، تلك الفروق التي ترتبت فيما يبدو على التنشئة الرياضية للأول والتنشئة اللاهوتية للثاني، أراد هسرل للفلسفة أن تكون «علمًا صارمًا»؛ تجريبيةً عُليا، أما «هيدجر» فكان يرى أن كل ما بالوجود من صرامةٍ لا يمكن أن يجعل من المعرفة العلمية غايةً نهائية، لقد تجلت الميول العلمية لهسرل في سعيه إلى «معرفة ضرورية» Apodictic Knowledge، وفي ضروب «الرد» Reduction التي قال بها، وفي رغبة في استقصاء كل مرئيٍّ وكل متصورٍ من خلال «الرد الماهوي» Eidetic Reduction أما «هيدجر» فلم يأت في كتاباته أي ذكرٍ للمعرفة الضرورية أو الردود الترانسندنتالية أو بنية الأنا، وازداد بعد «الوجود والزمان» اتجاهه إلى إعادة تفسير الفلاسفة السابقين — كانت، نيتشه، هيجل — وإعادة تفسير شعر ريلكه وتراكل وهلدرلين، لقد صار تفكيره أكثر «تأويليةً» بالمعنى التقليدي، أي مرتكزًا على تأويل النصوص، وبينما ظل هسرل علميًّا بالدرجة الأساس (وهو ما ينعكس في الأهمية التي يحظى بها في علوم اليوم) فقد أصبحت الفلسفة عند «هيدجر» تاريخيةً، إعادة اكتشافٍ مبدعةً للماضي، شكلًا من التأويل، وحتى لو لم ينعت «هيدجر» تحليله للدازاين باسم «هرمنيوطيقا»، فإن اتجاهاته الأخيرة تجعله جديرًا بلقب «فيلسوف تأويلي» بلا جدال.

وتتجلى الفروق بين هذين الصنفين من الفينومينولوجيا في مسألةٍ أخرى، هي «التاريخية» Historicality، لقد ألمح «هسرل» إلى تاريخية الوعي وقدم وصفًا فينومينولوجيًّا للوعي الداخلي بالزمن، إلا أن تَوْقَه إلى «المعرفة الضرورية» قد أدى به إلى أن يترجم «الزمانية» مرةً أخرى إلى المصطلحات السكونية المثولية للعلم، وهو في صميمه إنكارٌ لزمانية الوجود نفسه وإثباتٌ لعالم الأفكار ورفعه فوق تيار التغير، هذا ما جعل «هيدجر» يصرح عام ١٩٦٢م بأن فينومينولوجيا هسرل قد «طورت نمطًا وضعه ديكارت وكانْت وفخته، وموقفًا تَبْقَى تاريخيةُ الفكر غريبةً عليه كل الغرابة»، كان «هيدجر» يحس في نفس الوقت بأن تحليله في «الوجود والزمان» كان متمسكًا بشدة وعن حق بمبدأ الفينومينولوجيا، غير أن الفينومينولوجيا لا يجب أن تؤول للوعي، فمن الممكن أيضًا أن تكون وسيلةً لكشف الوجود بكل وقائعيته Facticity وتاريخيته.٢

(١-٢) الفينومينولوجيا بوصفها تأويلًا

في القسم الخاص من «الوجود والزمان» الموسوم باسم «المنهج الفينومينولوجي» في البحث يشير «هيدجر» صراحة إلى منهجه على أنه «هرمنيوطيقا»، وإذا جاز للسائل أن يسأل «ماذا يقدم ذلك للفينومينولوجيا؟» فإن هناك سؤالًا آخر على نفس الدرجة من الأهمية لدراستنا الحالية: «ماذا يقدم ذلك للهرمنيوطيقا؟» غير أنه من الضروري قبل أن نتناول هذا السؤال أن نعرض لتعريف (أو إعادة تعريف) «هيدجر» للفينومينولوجيا.

يعود «هيدجر» إلى الجذرين اليونانيين للكلمة: Logos, Phainomenon، فيقول إن Phainomenon تعني «ذلك الذي يُظهر نفسه، الظاهر، المنكشف»، وإن pha شبيهة بكلمة Phos اليونانية التي تعني الضوء، التألق، ذلك الذي فيه يمكن لشيءٍ ما أن يظهر، أن يصبح مرئيًّا، «فينومينا» Phenomena إذن تعني: «مجموع ما هو عرضةٌ لضوء النهار، أو يمكن أن يُسلَّط عليه الضوء، ذلك الذي جعله اليونانيون مكافئًا ببساطة لما هو كائن.»

غير أن هذا الانكشاف أو هذا الصنف من إظهار الشيء «كما هو» يجب ألا نفهمه على أنه شكلٌ ثانوي من الإشارة، مثلما يحدث عندما «يبدو شيءٌ ما على أنه شيءٌ آخر»، ولا هو شبيه بعرضٍ لشيءٍ ما، أي يشير إلى ظاهرة أخرى أكثر أولية، بل هو إظهارٌ لشيءٍ ما كما هو، في ظاهره، في تجليه.

وأما اللاحقة Ology فتعود بالطبع إلى الكلمة اليونانية «لوجوس» Logos، واللوجوس، كما يخبرنا «هيدجر»، هو ذلك الذي يتم توصيله في فعل الكلام، من ذلك يتبين أن المعنى الأعمق لكلمة لوجوس هو «ترك الشيء يظهر»، ومن ثم فإن للوجوس وظيفةً كشفيةً، فهو يشير إلى الظواهر، ويدع الشيء يظهر على أنه ذلك الشيء.

غير أن هذه الوظيفة ليست وظيفةً حرةً بل هي مسألة كشفٍ أو إماطة لثام، فهي تُخرج من التحجب إلى وضح النهار، العقل لا يُسْقِط معنًى على الظاهرة، وإنما وجه الأمر أن ما يظهر هو تجلٍّ أنطولوجي للشيء نفسه، صحيح أننا من خلال النزعة الدوجماطيقية يمكننا أن نفرض على الشيء أن يُرى على الوجه المرغوب فحسب، ولكن ترك الشيء يظهر على ما هو عليه يغدو مسألة تَعَلُّمٍ، علينا أن نتعلم كيف نتيح للشيء أن يفعل ذلك، واللوجوس (الكلام) في الحقيقة ليس قوةً يمنحها لغة مستخدم اللغة، بل قوة تمنحها له اللغة، وسيلة للرضوخ لما انكشف وظهر من خلال اللغة.

نخلص من ذلك إلى أن المركب «فينومينولوجيا» يعني: «أن نترك الأشياء تظهر على ما هي عليه دون أن نُقحم عليها مقولاتنا الخاصة»، الاتجاه هنا هو عكس الاتجاه الذي اعتدنا عليه: ليس نحن من يشير إلى الأشياء، بل الأشياء هي التي تكشف لنا عن نفسها، ولسنا نومئ بذلك إلى شيءٍ من النزعة الإحيائية Anrmism٣ البدائية، بل نهيب بالقارئ أن يتبين أن ماهية الفهم الحقيقي هي الاسترشاد بقوة الشيء على أن يُظهر نفسه، وهذا بالضبط ما كان يقصد إليه هسرل حين نادى بالعودة «إلى الأشياء ذاتها»، الفينومينولوجيا هي وسيلة للاسترشاد بالظواهر من خلال منفذٍ ينتمي إليها بشكلٍ صادق أصيل.

مثل هذا المنهج هو ذو أهمية كبرى للنظرية التأويلية، حيث إنه يتضمن أن التأويل لا يتأسس على الوعي الإنساني والمقولات الإنسانية بل على انكشاف الشيء الذي نقابله، الواقع الذي يصادفنا، غير أن اهتمام «هيدجر» كان مُنصبًّا على الميتافيزيقا وعلى مسألة الوجود، فهل بإمكان مثل هذا المنهج أن يضع نهايةً للذاتية وللطابع التأملي النظري للميتافيزيقا؟ هل يمكن أن يُطبَّق على مسألة الوجود؟ هذه مهمةٌ صعبةٌ بلا ريب، ويزيدها تعقيدًا حقيقة أن الوجود ليس ظاهرةً على الإطلاق بل هو شيءٌ أكثر إحاطةً وشمولًا وروغانًا، ومن المحال أن يصبح «موضوعًا» لنا؛ إذ نحن أنفسنا «وجود» في الفعل نفسه الذي نشكل به أي موضوعٍ بوصفه موضوعًا.

غير أن «هيدجر» في «الوجود والزمان» يعثر على نوع من المنفذ في حقيقة أن المرء لديه مع وجوده فهمٌ معين لما يكونه امتلاء الوجود، إنه ليس فهمًا ثابتًا بل فهم يتكون تاريخيًّا، متراكمًا في خبرة مواجهة الظواهر، بذلك ربما يمكن للوجود أن يُستنطق بواسطة تحليلٍ للطريقة التي يحدث بها الظهور، الأنطولوجيا ينبغي أن تصبح فينومينولوجيا، يجب أن تلتفت الأنطولوجيا إلى عمليات الفهم والتأويل التي تظهر من خلالها الأشياء، يجب أن تُخرج إلى النور تلك البنية الخفية للوجود في العالم.٤

(٢) طبيعة الفهم

(٢-١) هيدجر يتجاوز دلتاي

«الفهم» Verstehen عند «هيدجر» مصطلح خاص يعني غير ما تعنيه الكلمة الإنجليزية Understanding في الاستعمال الدارج، ويعني غير ما يعنيه المصطلح نفسه عند دلتاي، فالكلمة الإنجليزية Understanding توحي بالتعاطف، أي القدرة على الشعور بشيءٍ مما يشعر به شخصٌ آخر، ونحن حين نتحدث عن «نظرة متفهمة» فإنما نعني أكثر من مجرد النظرة الموضوعية، نعني شيئًا أشبه بالمشاركة في الأمر الذي نفهمه، وليس ما يمنع أن يكون لفلانٍ معرفةٌ واسعةٌ وتفهمٌ ضئيل، ذلك أن الفهم فيما يبدو يبلغ ما هو جوهري في الشيء ويلمسه، وفي بعض الاستعمالات يبلغ ما هو شخصي، لقد كان الفهم عند شلايرماخر يرتكز على مبدئه عن تماثل العوالم الداخلية بحيث إن المرء ليهتز في تجاوبٍ مع المتحدث عندما يفهمه، فالفهم يتضمن كلا اللحظتين: المقارنة والاستشفافية، أما عند دلتاي فالفهم يسير إلى ذلك المستوى الأعمق من الإدراك والذي يتم عندما نفهم لوحةً أو قصيدةً أو حقيقةً (اجتماعية أو اقتصادية أو سيكولوجية) كشيءٍ أكثر من مجرد معلومةٍ من المعلومات أو بيانٍ من البيانات، عندما نفهمها ﮐ«تعبيرٍ» عن «الوقائع الباطنة»، أو تعبيرٍ عن «الحياة» ذاتها في نهاية المطاف.

أما الفهم عند «هيدجر»، فهو تصورٌ بعيدٌ كل البعد عن التصورات السابقة، الفهم عند «هيدجر» هو قدرة المرء على إدراك ممكنات وُجودِه ضمن سياق العالم الحياتي الذي وُجد فيه. الفهم ليس موهبةً خاصة أو قدرةً معينة على الشعور بموقف شخصٍ آخر، ولا هو القدرة على إدراك معنى أحد تعبيرات الحياة على مستوى أعمق. «الفهم ليس شيئًا نمتلكه بل هو شيء «نكونه»!» الفهم شكلٌ من أشكال «الوجود في العالم»، أو عنصرٌ مكونٌ من عناصر «الوجود في العالم»، الفهم هو الأساس لكل تفسير، وهو متأصلٌ ومصاحبٌ لوجود المرء وقائمٌ في كل فعلٍ من أفعال التأويل.

الفهم إذن أمرٌ أساسيٌّ من الوجهة الأنطولوجية وسابقٌ على كل فعلٍ من أفعال الوجود، وللفهم جانبٌ ثانٍ يتمثل في حقيقة أن الفهم دائمًا يتعلق بالمستقبل، وهذه هي السمة الإسقاطية للفهم، على أن الإسقاط يجب أن يقوم على أساس، كما أن الفهم يرتبط بموقف المرء، غير أن ماهية الفهم تكمن لا في مجرد فهم موقف المرء بل في كشف الإمكانيات الملموسة للوجود داخل الأفق الخاص بموقع المرء في العالم، ويطلق «هيدجر» على هذا الجانب من الفهم مصطلح Existentiality (Existenzialitat).

وللفهم، كما يراه «هيدجر»، سمة هامة أخرى، هي أنه يعمل دائمًا داخل مجموعة من العلاقات المؤولة من الأصل، داخل «كلٍّ علائقي» Bewandtnisganzheit ولهذه الملاحظة متضمنات واسعة النطاق بالنسبة للهرمنيوطيقا، وبخاصة حين نصلها بأنطولوجيا «هيدجر»، لقد سبق لدلتاي أن أكد أن المعنى هو دائمًا مسألة إشارةٍ إلى سياقٍ من العلاقات، وهو مثالٌ للمبدأ المعروف القائل بأن الفهم دائمًا يعمل داخل «دائرة تأويلية» Hermeneutic Circle وليس بالتقدم المنتظم من أجزاء بسيطة ومكتفية بذاتها إلى «الكل» المكون من هذه الأجزاء، غير أن هرمنيوطيقا «هيدجر» الفينومينولوجية تتقدم خطوةً أبعد؛ فتستكشف متضمنات «الدائرة التأويلية» بالنسبة لبنية كل فهم وتأويل وجودي إنساني، وعلينا بالطبع ألا نتصور الفهم كشيءٍ ميتافيزيقي يتجاوز الوجود الحاسَّ للإنسان، بل كشيءٍ غير منفصلٍ عنه. إن «هيدجر» لا ينفي وجهة نظر دلتاي ذات التوجه الخبروي بقدر ما يضعها في سياق أنطولوجي، ويتجلى ذلك في حقيقة أن الفهم لا ينفصل عن المِزاج، وأن الفهم لا يمكن تخيله بدون «عالم» أو «معنًى»، والنقطة المحورية هنا هي أن «الفهم عند «هيدجر» أصبح أنطولوجيًّا»، ولعل نظرةً فاحصةً إلى مفهوم «العالم» عند «هيدجر» أن توضح ذلك، وهو ما سنحاوله في قسمٍ لاحقٍ، بعد أن نعرض لمفهوم «هيدجر» الثوري الإبداعي عن انتفاء ثنائيةً الذات والموضوع.

(٢-٢) انتفاء ثنائية الذات/الموضوع

كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن «هيدجر» لا يحاول فك خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردد في إزاحتها بضربةٍ قاضيةٍ (مثلما قطع الإسكندر عقدة جورديان) يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به هي مشكلةٌ زائفةٌ لا تستحق عناء لحظةٍ واحدةٍ من التفكير! لماذا؟ لأن «الآنية» باعتبارها «وجودًا في العالم» موجودةٌ دائمًا في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إلى «هيدجر» وهو يقول في «الوجود والزمان»: «إن الآنية، في اتجاهها إلى الموجودات وإدراكها لها، لا تحتاج إلى مغادرة مجالها الداخلي الذي نتصورها حبيسةً فيه، وإنما هي بحسب طبيعة وجودها الأولية موجودةٌ دائمًا «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي تلتقي به في عالمٍ تم اكتشافه بالفعل … ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوعٍ بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما تظل الآنية العارفة، في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما تدركه والإبقاء عليه، دائمًا في الخارج بوصفها آنية.» إنها إذن ليست بحاجة لما نسميه ﺑ «العلو»، أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنها على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي تصادفها في هذا العالم، كما أنها دائمًا «بالداخل» باعتبارها «وجودًا في العالم» يهتم بالأشياء وينشغل بأمرها، وصفوة القول أن المعرفة ليست هي التي تمكننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل، بحيث لا تعدو أن تكون «تحولًا» لهذه العلاقة نفسها:

«في فعل المعرفة تكتسب الآنية موقف وجود جديد من العالم الذي سبق اكتشافه في الآنية»، كما أن المعرفة لا تخلق علاقة «تبادل» بين الذات والعالم، ولا هذه العلاقة تنشأ من تأثير العالم على الذات. إن المعرفة حال من أحوال الآنية يقوم على أساس الوجود في العالم، ولا جدال في أن هذا أسلوب جديد في التفكير، ولسنا مبالغين إذا استعرنا لغة كانت وقلنا إنها ثورة كوبرنيقية أذهلت بعض معاصري «هيدجر» وملأت صدور البعض الآخر بالنشوة والحماس.٥

(٣) العالم وعلاقتنا بالأشياء الموجودة في العالم

يُعوزنا فواتٌ لندرك

وغيابٌ لنرى.

إذا غاب الشيء برز حجمه، وتجلت قيمته، مما يجعل الطرح أيسر طريقةٍ لقياس قدر الأشياء، اخلع هذا الشيء من مستقره وانظر حجم الفجوة التي كان يملؤها، امح، في الخاطر، عمل هذا الفنان أو ذاك، وانظر كم يعاني التراث الفني بافتقاده، اطرح هذا الشخص في الظن أو في الحقيقة، وانظر كم يعتري المجلس في غيابه من وهن الفاقة أو من ذبول الشوق.

من الأهمية بمكان أن نلتفت إلى أن مصطلح «العالم» عند «هيدجر» لا يعني البيئة التي نعيش فيها بالمعنى الموضوع للبيئة، أي العالم كما يبدو للنظرة العلمية، بل هو أقرب إلى ما يمكن أن نسميه عالمنا الشخصي، فالعالم عند «هيدجر» ليس جملة جميع الموجودات بل تلك الجملة من الموجودات التي يجد الكائن الإنساني نفسه دائمًا مغمورًا بها منغمسًا فيها من الأصل ومحاطًا بظاهرها كما ينكشف خلال فهمٍ مسبقٍ دائمًا وشاملٍ ومحيط.

إن تصور العالم كشيءٍ منفصل عن النفس، لهو تصورٌ مناقضٌ تمامًا لتصور «هيدجر»؛ لأن مثل هذا التصور يسلم منذ البداية بذلك الانفصال عينه بين الذات/الموضوع الذي ينشأ هو نفسه داخل السياق العلائقي المسمى بالعالم، إن العالم سابقٌ على أي انفصال بين النفس والعالم بالمعنى الموضوعي، إنه سابق على كل «موضوعية»، كل تنظير، وهو من ثم سابقٌ أيضًا على الذاتية ما دام كلٌّ من الموضوعية والذاتية متصورًا داخل مخطط الذات/الموضوع.

من المحال أن نصف العالم عن طريق تعداد الكائنات بداخله، فمن شأن هذه العملية أن تجعل العالم يفلت منا، ذلك أن العالم هو بالضبط ذلك الذي نفترضه مسبقًا في كل فعلٍ من أفعال معرفة الكائنات، فكل كيانٍ (كائن) في العالم إنما يُفهم بوصفه كيانًا في ضوء «عالم»، عالمٍ هو دائمًا هناك بالفعل، هناك من الأصل، والكيانات التي تشكل العالم المادي للإنسان ليست عالمًا بحد ذاتها بل في عالم. «وحده الإنسان من لديه عالم.» والعالم هو شيءٌ شاملٌ محيطٌ وقريبٌ لصيقٌ بالإنسان في الوقت نفسه بحيث يند عن الملاحظة، إنه غير مرئي بحد ذاته، غير أن المرء لا يمكن أن يرى أي شيء حق رؤيته بدونه! فالعالم حاضر على الدوام، إنه محيط خفي يُسلم به المرء ويفترضه مسبقًا في كل أمر، غير أنه «شفاف» يفلت من كل محاولة لفهمه كموضوعٍ أو شيء.

هكذا يكون مجالٌ، عالمٌ، جديدٌ قد انفتح للاستكشاف، إن مقاربته لن تكون سهلة، فلا الوصف الإمبيريقي للكيانات بداخله ولا حتى التفسير الأنطولوجي لوجودها الفردي بحد ذاته سوف يقابل ظاهرة العالم، العالم هو شيء يُحس بجانب الكائنات التي تظهر في العالم، غير أن الفهم يجب أن يكون خلال العالم، فالعالم أساس كل فهم، العالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الآنية (الدازاين).

ويناظر شفافية العالم شفافية أشياء معينةٍ في العالم يرتبط بها وجود المرء في حياته اليومية، فالأدوات التي يستعملها كل يوم، وحركات جسمه التي يؤديها دون تفكير، كل هذه تغدو شفافةً لا يتلفت إليها المرء ولا يلحظها إلا إذا حدث تصدعٌ ما أو تعطل. عند نقطة التعطل يمكننا أن نلاحظ حقيقة هامة: هي أن ««معنى» هذه الأشياء يكمن في علاقتها ببناءٍ كلي من المعاني والمقاصد المتعالقة.» إبان التعطل، وللحظةٍ وجيزةٍ فقط، يُضاء معنى الأشياء ويبزغ من العالم بشكلٍ مباشر.

إن الفرق كبيرٌ والبَوْن جِدُّ بعيد بين مثل هذا الفهم لشيءٍ من الأشياء وبين الفهم الذهني المجرد! ويضرب «هيدجر» في «الوجود والزمان» مثلًا قريبًا وهو المطرقة (الشاكوش)، فالمطرقة الموجودة التي لا تتحلى بأكثر من الحضور هي شيء يمكن وزنه وتمكن كتابة بيان بخصائصه، وتمكن مقارنته بغيره من المطارق، إلا أن المطرقة المكسورة هي التي تكشف للتو واللحظة ماذا تكونه المطرقة، وإن هذه الخبرة لتومئ إلى مبدأ هرمنيوطيقي: هو أن وجود شيءٍ من الأشياء ينكشف لا للنظرة التحليلية التأملية بل في اللحظة التي يميط فيها اللثام عن نفسه فجأةً في السياق الوظيفي الكامل للعالم، وبنفس الطريقة فإن طبيعة الفهم يمكن إدراكها على أفضل نحوٍ، لا من خلال بيانٍ تحليلي بمواصفاته ولا في فورة أدائه الوظيفي الصحيح، بل حين يتعطل ويصطدم بحائط منيع، «ربما عند افتقاد الشيء يتعين على الفهم أن يحوزه».

ويضرب «هيدجر» مثالًا آخر وهو يقدم لنا في هذا المثال تحليلًا لأداة معينة هي العلامة (مثل علامات المرور أو لافتات الطرق أو الأعلام … إلخ)، وأهم ما يميز العلامة هو أنها توضح النسق الكلي للأداة توضيحًا تامًّا، فعلامة المرور مثلًا توضح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور … إلخ، فإذا كانت الأداة العادية (كالقلم مثلًا) غير لافتةٍ للأنظار، نتيجة انصراف الكاتب مثلًا إلى الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا إلى طبيعة هذا القلم كأداة، فإن «أداة العلامة» على العكس من ذلك تشد الانتباه إلى طابع الإحالة الذي توضحه أشد التوضيح، إن العلامات المحددة تحيل إلى «العالم المحيط» الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه، وأهم خاصيةٍ تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام، والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لتزيد على هذا فتوضح العالم المحيط الذي يُوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط.

هل عرفنا الآن ما هو العالم؟ هل توصلنا إلى الطابع النوعي الذي يميزه؟ حين نحدد الأداة عن طريق الإحالة فإنما نريد بهذا أن نعين الحالة التي استقرت عليها، الغرض الذي جُعلت له، ونحن لا ننظر إلى «الموجود في متناول اليد» إلا من جهة هذه الحالة التي جُعل لها ودخلت في صميم تركيبه، فليست هناك أداةٌ قائمة بمفردها مستقلة بذاتها، إنها موجودة على الدوام في إطار نسقٍ أو سياقٍ أداتي كلي، ويكفي أن ننظر إلى الأداة في شمولها لنعرف لأي شيء جُعلت، وعلى أي وضع استقرت (مثال ذلك: الآلة-الورشة)، وهذا بدوره يحيلنا إلى الآنية؛ لأن حال الأداة يعبر عما تريده لها الآنية أو تريد بها، أي إن الغرض الذي جُعلت له الأداة أصلًا هو إرادة الآنية بها.٦

أشرنا — آنفًا إلى أن افتقاد الشيء يوقعه في الفهم! هذه الظاهرة، ظاهرة العطل التي تضيء لحظيًّا وجود الأداة بما هي أداة، تشير كما شهدنا الآن إلى غموض «العالم» الذي نعيش فيه وتخفيه، هذا العالم هو أكثر من مجرد مجال العمليات العقلية الإدراكية قبل الشعورية، إنه المجال الذي نصادف فيه المقاومات والممكنات الحقيقية في بنية الوجود، فتقوم هذه المقاومات والممكنات بتشكيل فهمنا، وهو المجال الذي تتأصل فيه زمانية الوجود وتاريخيته، والمكان الذي يترجم فيه الوجود نفسه إلى معنًى وفهم وتفسير، إنه، باختصار، مجال عملية التأويل، أي العملية التي يتحول فيها الوجود إلى موضوع لغوي.

وكما ذكرنا آنفًا فإن الفهم يعمل في نسيج من العلاقات، وقد نحت «هيدجر» مصطلح «معنى» (أو بالأحرى التحلي بالمعنى) Meaningfulness (Bedeutsamkeit) كاسم للأساس الأنطولوجي اللازم لفهم هذا النسيج من العلاقات، فالمعنى، بما هو كذلك، يقدم الإمكان الأنطولوجي بأن تحتمل الكلمات دلالة معينة، وبذلك يقدم الأساس الذي تقوم عليه اللغة، إن النقطة التي يطرحها «هيدجر» هنا هي أن المعنى هو شيءٌ أعمق من النسق المنطقي للغة، إنه قائم على شيءٍ سابقٍ على اللغة ومطمور في العالم — ذلك هو الكل العلائقي — فمهما تكن كثرة الكلمات التي تشكل المعنى أو تصوغه فإن الكلمات تشير إلى ما يتجاوز نسقها الخاص، إلى معنًى كامن أصلًا في الكل العلائقي للعالم، المعنى إذن ليس شيئًا يمنحه شخصٌ ما لموضوعٍ ما، بل هو ما يمنحه الموضوع للشخص من خلال إمداده بالإمكان الأنطولوجي للكلمات واللغة.

يجب أن ننظر إلى الفهم كشيءٍ مُدمجٍ في هذا السياق وإلى التأويل على أنه، ببساطة، إظهار الفهم والتصريح به، التأويل إذن ليس مسألة إلصاق قيمةٍ بموضوعٍ عارٍ؛ لأن ما نواجهه ينشأ كشيءٍ نراه أصلًا في علاقةٍ معينة، وحتى في عملية الفهم فإن الأشياء في العالم يُنظر إليها «على أنها» هذا الشيء أو ذاك، وما التأويل سوى التصريح بتعبيرة «على أنها» هذه، إن أساس الفهم سابقٌ على كل عبارةٍ تتحدث عن موضوع، يعبر «هيدجر» عن ذلك بشكلٍ محكمٍ في قوله: «كل رؤية بسيطة قبل-حملية (سابقة على أي إسناد) Prepredicative للعالم المحجوب لما هو «في متناول اليد» هي بحد ذاتها رؤيةٌ فاهمةٌ مؤولةٌ من الأصل.»

عندما يصبح الفهم صريحًا كتأويل، كلغةٍ، فإن ثمة عاملًا إضافيًّا خارجًا عن الذات يعمل عمله ويمارس تأثيره، ذلك أن «اللغة تضمر داخلها منذ البداية مَنْحًى من الفكر كاملًا مكتملًا»، وتنطوي على «طريقةٍ في النظر إلى الأشياء تامة التكوين مكتملة المعالم.» إن الفهم والمعنى كليهما هما أساس اللغة والتأويل. وفي أعماله المتأخرة يؤكد «هيدجر» بدرجةٍ أكبر تلك الصلة بين اللغة والوجود، حتى ليصبح الوجود ذاته لغويًّا: في كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا»، على سبيل المثال، يقول «هيدجر»: «إن الكلمات واللغة ليست لفائف تُعَبَّأ بها الأشياء لكي يتبادلها أولئك الذين يكتبون أو يتحدثون، إنما في الكلمات واللغة تدخل الأشياء إلى الوجود للمرة الأولى وتوجد وتكون.» هذا هو المعنى الذي ينبغي أن نفهم عليه قول «هيدجر» المأثور «اللغة هي بيت الوجود» The Language is The House of Being.٧

هكذا يتبين أن للفهم «بنية مسبقة» pre-structure معينة تفعل فعلها في كل تأويل، ويتجلى هذا بوضوح شديد في تحليل «هيدجر» للبُنى المسبقة الثلاث للفهم.

(٣-١) استحالة التأويل بدون فروض مسبقة

بهذا التوكيد على البنية المسبقة للفهم يتجاوز «هيدجر» النموذج القديم للموقف التفسيري — نموذج الذات والموضوع — ويثير في الحقيقة تساؤلات وشكوكًا خطيرةً حول صواب هذا النموذج الذي يصف التأويل وفقًا لعلاقة الذات-الموضوع، كذلك يلقي ظلالًا من الشك حول ما يمكن أن يعنيه «التأويل الموضوعي» أو التأويل «بدون فروض مسبقة»، يطرح «هيدجر» هذه المسألة بوضوح ويقول بصريح العبارة: «التأويل ليس على الإطلاق فهمًا بلا فروضٍ مسبقة لشيءٍ ما معطى مقدمًا.»

إن محاولة الوصول إلى تأويلٍ مبرَّأٍ من أي تحيزٍ أو فرضٍ مسبق هي محاولةٌ عابثةٌ لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم، إن ما يظهر من «الشيء» أو «الموضوع» Object هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمرٌ يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية، ومن السذاجة أن نفترض أن ما هو «هناك حقًّا» هو أمرٌ «واضحٌ بذاته»، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيءٌ يقوم على حشدٍ غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يشيّده المؤوّل الذي يظنّ نفسه «موضوعيًّا» وبريئًا من الفروض المسبقة، لقد أماط «هيدجر» اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسّة في كلِّ تأويلٍ ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم.

يعني ذلك في التفسير الأدبي مثلًا أن أَنْزَهَ المفسِّرين لنصٍّ من الشعر الغنائي يطوي جوانحه، في حقيقة الأمر، على فروضٍ مسبقةٍ بَدْئِيَّة، بل إنه في مقارنته لنصٍّ من النصوص يكون قد سلم تسليمًا بأنه صنفٌ معين من النصوص، صنفٌ غنائي مثلًا، ويكون قد هيَّأ نفسه في الوضع الذي يراه ملائمًا لمقاربة مثل هذا النصّ. إن لقاءه بالعمل ليس لقاءً قائمًا في سياقٍ ما خارج الزمان والمكان، وخارج أفقه الخاص من الخبرات والاهتمامات، بل هو لقاءٌ في زمانٍ معين ومكانٍ محدَّد، هناك مثلًا سببٌ وراء التفاته إلى هذا النص دون غيره، هكذا يتبين أنّ مقاربته للنص محفوفةٌ بالتساؤلات والريب وليست انفتاحًا محضًا قائمًا في فراغ.

من الواجب إذن أن نتذكر أن البنية المسبقة للفهم ليست صفةً تخص الوعي في مواجهة عالمٍ مُعطًى من الأصل؛ ولذا فإن هذه الطريقة من النظر من شأنها أن ترتد بنا إلى نفس النموذج الثنائي في التأويل — نموذج «الذات/الموضوع» — الذي تجاوزه تحليل «هيدجر» وتخطاه، بل إن البنية المسبقة تقوم في سياق العالم، ذلك العالم الذي يشمل الذات والموضوع بداءة، إن وصف «هيدجر» للفهم والتأويل هو وصفٌ يضع الفهم والتأويل في موضعٍ سابق على قسمة الذات والموضوع، فهو يشرح كيف تظهر الأشياء ذاتها وتتكشف من خلال المعنى والفهم والتأويل، وهو يشرح ما يمكن أن نسميه البناء الأنطولوجي للفهم.

يترتب على ذلك أن الهرمنيوطيقا بوصفها نظرية الفهم هي في حقيقة الأمر نظريةٌ في التَّكَشُّف الأنطولوجي، وما دام الوجود الإنساني هو نفسه عملية تكشف أنطولوجي فإن «هيدجر» يأبى علينا أن ننظر إلى مشكلة التأويل بمعزلٍ عن الوجود الإنساني، الهرمنيوطيقا عند «هيدجر» إذن هي نظرية أساسية في كيف يبزغ الفهم في الوجود الإنساني، وإن تحليله ليربط بين الهرمنيوطيقا والأنطولوجيا الوجودية، وبين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا، ويرمي إلى تأسيس الهرمنيوطيقا لا على الذاتية بل على «وقائعية» العالم وعلى «تاريخية» الفهم.

(٣-٢) الطبيعة الاشتقاقية للعبارات

ثمة نتيجة أخرى لما نحن نصدده، وهي نتيجة ذات أهمية هرمنيوطيقية، تتجلى في تناول «هيدجر» للعبارات التقريرية المنطقية، وبالتالي للمنطق نفسه، العبارة Statement (Aussage) عند «هيدجر» ليست شكلًا أساسيًّا للتفسير، وإنما هي ترتكز على عمليات فهمٍ وتأويلٍ أكثر أساسية قائمة في «الفهم المسبق» Pre-Understanding وبدون هذه العمليات فإن العبارات لن يكون لها معنى.

يقدم «هيدجر» مثالًا: «المطرقة (تكون) ثقيلة» The Hammer is heavy، ويقول إنه في العبارة نفسها ثمة طريقة مرسومة سلفًا تعمل عملها — تلك هي الطريقة المنطقية — فمن قبل أي تأويلٍ أو تحليلٍ ظاهرٍ فإن الموقف قد تم تشييده في حدودٍ منطقية لكي يلائم بنية عبارة، لقد تم بالفعل تأويل المطرقة على أنها شيءٌ ذو خصائص (الثقل في حالتنا هذه)، إن بناء جملة العبارة، بما فيها من فاعل Subject، ورابطة Copulative، ونعتٍ إسنادي Predicate adjective، قد وضعت المطرقة بالفعل قبالة المرء على أنها موضوع Object، على أنها شيء معين يمتلك خصائص.

غير أن العمليات الأساسية لتأويل العالم لا تقوم في تقريرات منطقية وعبارات نظرية، فالكلمات في الأغلب تكون غائبة، كما هو الحال عندما يجرب المرء مطرقة ثم يتركها جانبًا دون كلام، فهذا فعل تأويلٍ ولكنه ليس عبارة، يقول «هيدجر» إن المطرقة في الأصل هي أداة «في متناول اليد»، وعندما تصبح موضوعًا لعبارة فإن تشييد العبارة نفسه يحمل معه تحولًا في الحالة الأصلية، تحولًا من «بالمطرقة» إلى «عن المطرقة»، تحولًا من الاندماج والاستعمال إلى الإسناد والإشارة، وهكذا يبرز الحضور الشيئي وتختفي الحقيقة والماهية.

إن إبراز المطرقة كشيء هو في الوقت نفسه إخفاءٌ لها كأداة، فنحن في السياق الوجودي الأصلي نقارب المطرقة لا بوصفها موضوعًا بل بوصفها أداة، فتختفي «المطرقة-الشيء» في طي وظيفة «المطرقة-الأداة»، ذلك هو المعنى الهرمنيوطيقي الوجودي للمطرقة، أما عندما نعزل المطرقة عن وظيفتها، عن السياق العلائقي الكلي المعاش، هنالك نكون قد انتقلنا من موقف الفهم المسبق إلى موقف الإشارة الموضوعية، نكون قد نفينا المطرقة من عالم المعنى ونطاق «تناول اليد» ووضعنا ظاهرة المطرقة أمامنا كمجرد شيءٍ ننظر إليه ونتملاه.

يدعونا «هيدجر» إلى التمسك باللحظة الوجودية الهرمنيوطية وعدم التخلي عنها لمصلحة التنظير الخالص والأحكام المحضة الراكدة عند المستوى الضحل للوقائع الحاضرة الموضوعية، تهيب بنا هذه اللحظة الوجودية الهرمنيوطيقية أن ندرك ونميز أن جميع العبارات هي في حقيقة الأمر مشتقّة من، ومتجذرة في، المستوى الأكثر بداءة للتأويل، وأن العبارات لا يمكن أن تحمل معنى بمعزل عن جذورها في الوجود.

ولعلنا ندرك أهمية هذا التمييز إذا نظرنا إلى الطريقة التي تُعالَج بها اللغة اليوم في «علوم» اللغة، فهناك قصورٌ في جميع تعريفات اللغة التي تبقى عند مستوى العبارات والمنطق ولا تتجاوزه، أو التي تنظر إلى اللغة على أنها مجرد تناول واعٍ للعبارات والأفكار، ذلك أن الأساس الحقيقي للغة هو ظاهرة الكلام-النطق، حيث يُجلب شيءٌ ما إلى النور، هذه هي الوظيفة الهرمنيوطيقية للغة، وحين يبدأ المرء من الكلام يكون قد عاد إلى الحدث الذي تقوم فيه الكلمة بوظيفة الكلمة، يكون قد عاد إلى السياق الحي للغة، يقول جيرهارد إيبلنج مرددًا وجهة نظر «هيدجر»: «إن للكلمة نفسها وظيفةً هرمنيوطيقية.» والحق أن الوظيفة الهرمنيوطيقية الأولية للغة تأخذ موقعًا مركزيًّا في فكر «هيدجر» المتأخر وفي التأويل الثيولوجي الجديد، تعني هذه النظرة إلى اللغة أن الفهم — على حد تعبير «إبيلنج» — ليس فهمًا للغة، بل فهمًا من خلال «اللغة»، وهي نظرةٌ ذات أهميةٍ ثيولوجية هائلة؛ لأنها تلفت انتباهنا مرة ثانية إلى الكلام المنطوق وتؤكد على وظيفة النطق.

إن اللغة بوصفها نطقًا لا تعود حشدًا موضوعيًّا من الكلمات التي يتناولها المرء على أنها أشياء، بل تأخذ مكانها في عالمٍ ما هو «في متناول اليد»، وبوسع اللغة، بطبيعة الحال أن تنتقل إلى النطاق الموضوعي وتصبح مجرد شيءٍ ماثلٍ أمام المرء، إلا أن اللغة من الوجهة الجوهرية هي شيءٌ يجده الإنسان «في متناول يده»، شفافًا، سياقيًّا.

على أن اللغة بوصفها كلامًا منطوقًا ليست تعبيرًا عن «واقع داخلي» ما، ولا ينبغي أن نأخذها هذا المأخذ، بل هي موقف يأتي إلى العلن في كلمات، حتى الحديث الشعري ليس نقلًا لواقعٍ داخلي محض بل مشاركة في عالم، وهو بوصفه كشفًا لا للمتحدث بل للوجود في العالم، فهو ليس ظاهرةً ذاتية ولا ظاهرةً موضوعية، بل هو الاثنان معًا، ذلك أن العالم سابقٌ عليهما ومحيطٌ بهما.

(٤) إسهامات «هيدجر» المتأخرة في نظرية التأويل

بكتابه «الوجود والزمان» ترك «هيدجر» أثرًا حاسمًا على نظرية التأويل، ونقل الهرمنيوطيقا نقلةً كبرى ووضع مسألة الفهم في سياقٍ جديد تمامًا، ولو لم يكتب «هيدجر» شيئًا بعد «الوجود والزمان» لما اختلفت مكانته ولا تأثرت أهميته في مجال التأويل، لقد صارت الهرمنيوطيقا عند «هيدجر» طريقة وجودٍ وتخطت الحدود التي فرضها عليها دلتاي حين تصورها على أنها الشكل التاريخي للفهم كمقابلٍ للشكل العلمي، لقد مضى «هيدجر» قُدمًا ليعلن أن كل فهمٍ هو فهم زماني، قصدي، تاريخي، وأن الفهم ليس عمليةً عقلية بل عملية وجودية، ليس دراسة عملياتٍ شعورية ولا شعورية، بل هو انكشاف الحقيقة للإنسان وانبلاجها وتجليها، لقد كان المرء في السابق يفترض ببساطة تعريفًا مسبقًا لما هو حق وواقع ثم يتساءل كيف أتت عمليات الذهن بهذا الواقع إلى النور، ثم جاء «هيدجر» ليسبر الفهم إلى عمقٍ أبعد ويشير إلى فعل تأسيس الواقع، كشف الواقع، ذلك الفعل الذي صنع التعريف المسبق وحققه، من الهموم الكبرى ﻟ «هيدجر» المتأخر محاولة العودة إلى ما وراء هذا الحدث — تأسيس الواقع — الذي يقوم عليه اليوم الوجود نفسه ويُصاغ ويتجسد.

يقول «هيدجر» إن «كل شاعر عظيم يكتب قصيدةً واحدة ثم يتوسع فيها وينوع عليها ويأخذ منها»، وما دام الفكر الأصيل شعريًّا بالضرورة فإن كل مفكر عظيم يصدع بفكرةٍ واحدة ثم يبقى طيلة عمره يستقصيها دون أن يستنفدها، وهذا المبدأ ينسحب على «هيدجر» نفسه، لقد كتب «الوجود والزمان» ثم طفق يستقصيه وينوِّع عليه، إن جميع أعمال «هيدجر» المتأخرة هي إضافاتٌ وشروحٌ وهوامش ملحقةٌ ﺑ «الوجود والزمان»، وإكمال لنفس المسعى إلى الوجود، وتعميق وتجذير لتلك الاستبصارات الخصبة التي انطوت عليها رائعته الكبرى، لقد أصبح «هيدجر»، ربما، أكثر الفلاسفة شاعريةً وتأويليةً منذ أفلاطون، غير أن اللحن الأساسي في تفكيره لم يتغير قط بل توسع وتنوع وامتد، ونحن حين نلتفت إلى تركيز «هيدجر» على الفهم كمحور لفلسفته، يمكننا أن ندرك لماذا صار منشغلًا في كتاباته المتأخرة بموضوع «التفكير»، ولماذا يعرِّف التفكير بوصفه استجابيةً لا بوصفه تلاعبًا بالأفكار، وقد كان من الشائع تمييز «تَحَوُّلٍ» أو «منعطف» في فكر «هيدجر»، غير أننا حين نستعرض فكره بمنظور اليوم نجده متجانسًا لا تحول فيه ولا انقلاب، ويظل كتاب «الوجود والزمان» هو التربة التي نما فيها فكره اللاحق، لقد كان «هيدجر» منذ البداية إلى النهاية معنيًّا بالعملية التأويلية التي يمكن للوجود بواسطتها أن يخرج إلى النور، وقد كان مدخله إلى ذلك في «الوجود والزمان» هو فينومينولوجيا الآنية (الدازاين)، وفي الأعمال اللاحقة صار مدخله استكشاف العدم، ولفظة «الوجود» نفسها، والمفاهيم اليونانية والحديثة للوجود والحقيقة، والتفكير، واللغة، صحيح أنه صار أكثر شاعرية وغموضًا ونبوئية في كتاباته المتأخرة، إلا أن كشف الوجود وإظهاره بقي هو موضوعه الدائم.

في كتابات «هيدجر» المتأخرة أخذ الطابع التأويلي لتفكيره أبعادًا جديدة، غير أنه صار أكثر تأويلية لا أقل، بل صار تأويليًّا بمعنى الاهتمام بتأويل النصوص، وفيما ظلت تيمته الرئيسية هي كيف تم نسيان الوجود وتم فهمه والتعبير عنه في حدود سكونية وماهوية، فإن موضوع التأويل قد تحول من وصفٍ عام للحياة اليومية للإنسان في اتصاله بالوجود إلى الميتافيزيقيا والشعر، وتزايد اهتمام «هيدجر» بتأويل النصوص وبخاصة الشذور القديمة بحيث جعل التأويل جزءًا من طريقته في التفلسف، ونحن قلما نجد في تاريخ الفلسفة الغربية من يضارعه في ذلك، وحتى لو لم يكن «هيدجر» قد قدم في «الوجود والزمان» إسهامه الفلسفي الحاسم في نظرية الفهم، لبقي رغم ذلك هو الأكثر تأويلية في تاريخ الفلسفة الغربية.

ولعل السبب وراء هذا التطور هو الطبيعة الهرمنيوطيقية الصميمة لكل محاولة للتعامل مع «الوجود»، إذا تم ذلك في سياق عملية الفهم التي تخرج بها الأشياء إلى النور، وتغدو المحاولة أكثر هرمنيوطيقة إذا شئنا أن نمضي وراء «نص» الفكر الغربي إلى الأسئلة التي أنتجت ذلك التراث، ثم تأتي محاولة استخلاص المعنى الخفي للنص وعدم القناعة باستكشاف النسق الكلي وفقًا لادعاءاته الخاصة، هذا ما يحاول «هيدجر» أن يفعله فيما هو يقدم في الوقت نفسه وجهة نظره الخاصة في الموقف الهرمنيوطيقي الصحيح للإنسان بالنسبة للوجود وبالنسبة للتراث.

(٥) نقد «هيدجر» لفكر «الحضور»، ومذهب الذات، والتقنية

في كتابه «الوجود والزمان» كان «هيدجر» قد ألمح إلى اتجاه نقده اللاحق لفكر «الحضور»، وذلك في شرحه للطبيعة الاشتقاقية للعبارات؛ إذ تنزع إلى عرض الأشياء بطريقة لا تهدف إلا لجعلها محط الأنظار لا أكثر، وقد أوضح «هيدجر» إذاك كيف أن تصور الشيء، داخل البنية المسبقة للفهم، كان يميل على نحوٍ خفيٍّ إلى الخضوع لمتطلبات الفكر المنطقي والتصوري، وكيف أن المطرقة مثلًا قد انتُزعت من سياقها الحي ووُضعت في العالم التجريدي للتفكير الحضوري، وفي كتاباته المتأخرة يقوم «هيدجر» بمراجعة الفكر الغربي ويبين كيف انتهى المطاف بهذا الفكر إلى أن يعرِّف التفكير، والوجود، والحقيقة، في حدودٍ «حضوريةٍ» صميمة.

في معرض تناوله ﻟ «مذهب أفلاطون في الحقيقة» يلتفت «هيدجر» إلى أسطورة الكهف الشهيرة: تومئ الأسطورة ككلٍّ إلى أن الحقيقة هي الانكشاف أو اللاتحجب؛ لأن ثمة شخصًا يتسلق خارجًا من الكهف إلى النور ثم يعود ثانية إلى الكهف، إلا أن مفهوم الحقيقة على أنها «تطابق» Correspondence يعود فيطغى على تصورها الدينامي كانكشافٍ أو لا تحجب، لتصبح الحقيقة هي الرؤية الصحيحة ويصبح التفكير هو مسألة وضع فكرة أمام عين العقل، أي يصبح التفكير هو التناول الصحيح للأفكار.

بهذه النظرة إلى التفكير وإلى الحقيقة أُعد المسرح لتطور كل الميتافيزيقا الغربية، لمقاربة الحياة مقاربةً نظرية-أيديولوجية، في ضوء الأفكار وفي حدود الأفكار. وبخضوع كل شيء لتصور الأفكار وبخاصة فكرة «العقل»، فقد أُسدل النسيان على المفهوم المبكر للحقيقة بوصفها تَكَشُّفًا أو «لاتَحَجُّب» (أليثيا)، ولم يعد الإنسان الغربي يحس بالوجود كشيءٍ متدفق أبدًا ما ينفك ينبثق وينسرب من قبضته، بل يحسه على هيئة حضورٍ سكوني لفكرةٍ ما، وأصبح «الصدق» Truth هو صحة إدراكٍ أو صحة عبارة، يعني ذلك أن التفكير الهادف إلى الحقيقة قد تأسس لا على الوجود بل على إدراك فكرة، والوجود قد تم تصوره لا كخبرة حية بل كفكرة، كحضورٍ دائم لازماني.٨

على هذه الصخرة أقام الغرب ميتافيزيقاه ولاهوته، ومنذ زمن مبكر، وفي محاضراته غير المنشورة عن «أوغسطين والأفلاطونية الجديدة» عام ١٩٢١م، تتبع «هيدجر» الصراع الواضح في «الاعترافات» الكتاب العاشر، بين المسيحية النابعة من الخبرة المعاشة والتي تتحقق لا في «معرفة» الله بل «الحياة في الله»، وبين المسيحية المغتبطة بالله بوصفه الخير الأسمى (فكرة Fruitio Dei) وهذا التصور الأخير الأكثر سكونية وحضورية للوجود والخبرة بالله يعود بشكل مباشر إلى مذهب الأفلاطونية الجديدة، وحين تُخْتَزَل الخبرة بالله إلى غبطة وسعادة به بوصفه «السلام» الذي ينهي حيرة القلب ويُسكن اضطرابه فإنه يخرج بذلك من تدفق الحياة التاريخية الوقائعية وتخمد حيويته كإلهٍ للخبرة المعاشة، يخرج من عالم الحياة والزمان والمتناول، يصبح مجرد حضورٍ للتأمل والغبطة، يصبح وجودًا أزليًّا خارج الزمان والمكان والتاريخ.

وفي محاضرة ألقاها سنة ١٩٣٨م بعنوان «تأسيس الصورة الحديثة عن العالم من خلال الميتافيزيقا» يتعقب «هيدجر» تأثير هذا التناول العام للحقيقة والتفكير حين اتحد بالنظرة الديكارتية، ذلك أنه مع ديكارت اتخذ التفكير الغربي منعطفًا فاصلًا آخر، فالحقيقة عند ديكارت هي أكثر من مجرد التوافق بين العارف والمعروف، إنها «اليقين العقلي للذات بهذا التوافق.» ترتب على ذلك أن الذات الإنسانية صارت هي النقطة المرجعية النهائية لتقرير وضع كل شيء يُرى، يعني ذلك أن كل موجود هو ما هو وفقًا لثنائية «الذات/الموضوع» أو الوعي وموضوعات الوعي، لم يعد يُنظر للشيء المعروف ككيانٍ مستقل أنطولوجيًّا يكشف نفسه كما هو، أي «ينكشف» و«يسفر» لنا عن وجهه على حقيقته الخاصة ووجوده الخاص، بل أصبح الشيء المعروف يُرى على أنه «موضوع» object، أي على أنه شيءٌ ما تقدمه الذات الواعية لنفسها، هكذا صار وضع العالم مربوطًا بالذاتية الإنسانية ربطًا محكمًا، صار متمركزًا على الذات الإنسانية، وصارت الفلسفة متمركزة على الوعي الإنساني، وقد أطلق «هيدجر» على هذه الحالة اسم «مذهب الذات الحديث» Modern Subjectism Subjekutat.

و«مذهب الذات» Subjectism مصطلح أوسع نطاقًا من «الذاتية» Subjectivity؛ لأنه يعني أن العالم يُقاس وفقًا لتقدير الإنسان، والعالم بحسب هذه الوجهة من الرأي لا يتحلى بالمعنى إلا بالنسبة للإنسان، ذلك الكائن الذي مهمته أن يسود العالم ويسيطر عليه، ولمذهب الذات نتائج كثيرة وعواقب جمة، أولها أنه يضفي على العلوم أهميةً قصوى، فالعلوم هي التي تساعد الإنسان على التحكم في العالم، ولكن ما دام الإنسان في مذهب الذات لا يدرك هدفًا أو معنًى بمعزلٍ عن يقينه العقلي الخاص، فإنه يصبح حبيس دائرة عالمه الخاص الذي يسقطه من ذاته على الخارج، هكذا تغدو الأعمال الفنية مجرد ضروبٍ من «مَوْضَعَة» Objectifications الذاتية، أو «تعبيرات» عن الخبرة البشرية، والثقافة تصبح مجرد مَوْضَعَة جماعية لما تقدره الذوات الإنسانية، أو إسقاطًا للنشاط الإنساني المحض، ولا يعود النشاط الإنساني الثقافي ولا الفردي استجابة لفعل الله (أو الوجود) فكل شيء من هذا المنظور متوقف على الإنسان، وحتى الله يُعاد تعريفه في نهاية المطاف بوصفه «اللانهائي، اللامشروط، المطلق»، وتنتزع الألوهة من العالم، وتُرد علاقة الإنسان بالله إلى مجرد «خبرته الدينية» الخاصة، وبينما المفهوم القديم عن «الغبطة بالله» Fruitio Dei يربأ به عن تغيرات الحياة اليومية وتقلباتها، فإن مذهب الذات يجعل الله إسقاطًا من جانب الإنسان ويجعل العلاقة بالله إحساسًا بشريًّا بالاعتمادية.

وحتى «فلسفة القيم» الحديثة لا تعدو أن تكون نتيجة أخرى لميتافيزيقا مذهب الذات، فالقيم هي بدائل مؤقتة قُصد بها أن تزود «الأشياء» (ما دامت قيمتها الآن متوقفة على الذات) بالمعنى الذي فقدته حين دخلت في إطار مذهب الذات، لقد فُقد الإحساس بقداسة الأشياء وانخفضت مكانة الأشياء إلى مجرد فائدتها للإنسان، وحين يُقيِّض الإنسان القيم للأشياء يكون قد اقترب كثيرًا، من الوجهة الفلسفية، من النظر إلى القيم ذاتها على أنها أشياء، عندئذٍ تكون القيمة هي شيءٌ ما يلقيه المرء، كأنه طبقةٌ من الطلاء، على الأشياء في عالمه، ويصبح العلم والمذهب الإنساني هما الشعارَيْن المميزَيْن لعصرٍ أصبح الإنسان فيه بحقٍّ مركز جميع الأشياء ومقياسها.

في مثل هذا الإطار لا يمكن للتفكير إلا أن يكون «حضوريًّا»، أي عرض فكرةٍ أمام العقل، ولا يمكن للحقيقة إلا أن تكون «تطابقًا» Correspondence بين ما في الأذهان وما في الأعيان، هذا الحضور لا يمكن في حقيقة الأمر أن يكون انكشافًا ذاتيًّا للشيء ما دام الشيء واقعًا في القبضة المسيطرة لفعل «المَوْضَعَة» Objectification الذي تقوم به الذات، ومن ثم فقد أصبحت الأنساق الميتافيزيقية الكبرى، كما يقول «هيدجر»، تعبيراتٍ عن الإرادة، سواء اتخذت هذه الإرادة صورة «العقل» (كانت)، أو «الحرية» (فِخته)، أو «الحب» (شيلنج)، أو «الروح المطلق» (هيجل)، أو «إرادة القوة» (نيتشه).

لا تعرف إرادة القوة القائمة على مذهب الذات أيَّ قيمةٍ نهائية، ولا تعرف غير التعطش الدائم لمزيدٍ من القوة، ويتجلى هذا في عصرنا الحاضر في التكالب المسعور على السيطرة التكنولوجية، غير أن تأثير التفكير التكنولوجي هو أكثر شمولًا وخفاءً من ذلك؛ لأننا شيئًا فشيئًا صرنا نعتبر التفكير نفسه مسألة سيطرةٍ وسيادة، لقد أصبح التفكير تكنولوجيًّا يتشكل وفقًا لما تقتضيه المفاهيم والأفكار التي تمنحنا سيطرة على الأشياء وعلى الخبرة، لم يعد الفكر مسألة استجابةٍ مفتوحةٍ للعالم بل أصبح محاولات محمومةً للسيطرة عليه، لم يعد راعيًا حصيفًا وحارسًا أمينًا لثروات الأرض، بل أصبح يستهلك العالم ويستنفد ثرواته في محاولة إعادة تشكيله وفقًا لأغراض الإنسان، لم تعد للنهر، على سبيل المثال، قيمةٌ داخلية، وصار الإنسان يغير مجراه بما يخدم مصالحه، فيبني السدود الضخمة، ويلقي النفايات السامة في النهر ولا يراعي حرمته، لقد فرت الآلهة وصارت الأرض تُستهلك بلا هوادة، وهذه، فيما يرى «هيدجر»، هي النهاية المأساوية لتطور التفكير من أفلاطون، مرورًا بديكارت ونيتشه، ووصولًا إلى عصرنا الحالي.

والهرمنيوطيقا، بوصفها نظرية الفهم والتفسير، تتأثر بشكلٍ مباشر بهذه الاعتبارات، ذلك أنه حين يتم تناول المشكلة التأويلية داخل إطار التفكير التكنولوجي، يكون المطلوب من التأويل هو أن يقدم الوسائل الكفيلة بالسيطرة التصورية على الشيء، وعندما يُعرف التفكير على أنه التلاعب بالأفكار والمفاهيم فإنه لا يعود تفكيرًا إبداعيًّا خالقًا بل تلاعبًا واختراعًا، وعندما يكمن مذهب الذات في قاعدة الموقف التأويلي وأساسه فإن ما يجري تأويله لن يكون سوى مجرد «موضعة» Objectification، مجرد إسقاطٍ لدواخل الذات على الخارج، وها هنا يكون مفهوم الحقيقة، كتطابقٍ، مفهومًا ملائمًا منطقيًّا لهذا الطرح، وتصبح الحقيقة مجرد «صواب» عبارة أو «صحة» فكرة.

ثمة إذن فرق هائل يمس نظرية التأويل حين يتم النظر إلى التفكير على أنه تناول أفكار؛ لأن التأويل نفسه عندئذٍ لا يعود تناولًا لمادةٍ مجهولة يجب أن تخرج إلى النور بل يصبح توضيحًا وتقييمًا لمعطياتٍ معلومةٍ سلفًا، هنالك تنحصر مهمة التأويل لا في «إظهار» الشيء وإماطة اللثام عنه بل في تحقيق الثواب والصحة من بين العديد من التأويلات الممكنة، من شأن هذه الفروض المسبقة أن تُبقي المرء دائمًا في الضوء الواضح لما هو معروف سلفًا بدلًا من أن تعبر به الفجوة بين الضوء والظلام، واللغة لا يمكن تصورها في هذا الإطار إلا كنسق من العلامات يتم تطبيقها على مجموعة معلومة سلفًا من الأشياء.

يرى «هيدجر» أن كل هذه المجموعة من التعريفات — تعريف اللغة، والحقيقة، والتفكير — وتصور الفهم والتأويل القائم عليها، تمثل تجسيدًا موضوعيًّا لمذهب «أفلاطون» في «الحقيقة»، وما الفكر الغربي، وبخاصة الميتافيزيقا، منذ أفلاطون سوى «النص» Text الخاص بهذا التجسيد، وقد أخذ «هيدجر» على عاتقه تأويل هذا النص وذلك بأن يذهب فيما وراءه، إنه ليجد في كانت وهيجل ونيتشه إلماعات من الطرح اليوناني القديم للحقيقة كإظهارٍ وكشفٍ ولا تَحَجُّب، غير أنها سرعان ما تخفت وتنطفئ ليسود التصور الجديد لها كتوافقٍ وتطابقٍ وصحةٍ أفكار، منذ البداية إذن عرف «هيدجر» مهمته الفلسفية كمهمةٍ تأويليةٍ بالدرجة الأساس، غير أنه تأويلٌ لا يعني مجرد الصحة والتوافق، بل يحمل النبرة العميقة القديمة: جلب معنى خفي مخبوء، إخراج ما هو مجهول إلى النور، وحي وبوح، كشف وإظهار، رفع حجاب وإماطة لثام، بذلك حين يقوم «هيدجر» بتأويل كانت فإنه لا يقول لنا ماذا يقصد كانت فحسب؛ لأن الاكتفاء بما يقوله المؤلف هو بمثابة التوقف عند النقطة عينها التي ينبغي أن يبدأ منها التأويل الحقيقي، إنما هو يسأل: ماذا لم يقله النص؟ إنه يسأل: لماذا قام كانت بمراجعاتٍ وتنقيحاتٍ معينة فيما بين الطبعة الأولى والطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص»؟ ويمضي فيما وراء النص ليسأل: «ماذا لم يقله المؤلف ولم يكن بمقدوره أن يقوله، على أنه جلي في النص بوصفه المحرك الداخلي الصميم؟ ذلك أن النص المنتهي والنهائي ليس هو الموضوع الوحيد للتأويل، بل موضوع التأويل هو ذلك العُرام الداخلي والجهاد الباطن الذي كان يعتمل أثناء خلق النص.

يثير هذا الحديث مسألتين مألوفتين في التراث الهرمنيوطيقي:

  • (١)

مسألة التعدي على النص أو التجرؤ عليه.

  • (٢)

مسألة فهم الكاتب فهمًا أفضل من فهمه هو لنفسه.

حين نتصور الحقيقة كشيءٍ ما يبزغ ثم يتوارى بالحجاب، وحين يضع الفعل الهرمنيوطيقي المفسِّر على حدود الفراغ الخالق الذي ينبثق منه العمل، عندئذٍ يجب أن يكون التأويل متفتحًا لما لم يُقل بعد، ذلك أن «العدم»، في مفهوم «هيدجر»، هو الخلفية الخلاقة لكل إبداعٍ إيجابي، إلا أن هذا العدم لا يحمل معنًى إلا في سياق الوجود وفي إيجابية الوجود، وحين يتم النظر إلى العمل الفني لا كموضعةٍ أو إسقاطٍ للذاتية الإنسانية بل كانكشافٍ للوجود أو كنافذةٍ إلى العالم المقدس، تكون مواجهة العمل الفني أقرب إلى استلام هدية أو نيل هبة وليس عملية إدراك ذاتٍ لذاتيتها.

إن تأويل العمل العظيم ليس تمرسًا بالقديم ولا هو محاولة أخذ حياة الإغريق كنموذج للحياة الحقة كما هو شائع ومألوف عند دعاة المذهب الإنساني، بل التأويل هو إعادة معايشة لحظة الانكشاف الأصلية واستعادتها، إنه يحاول التخلص من رواسب سوء الفهم المتراكمة عبر السنين (شغف «هيدجر» بصقل الكلمات حتى يشع بريقها الأصلي مرة ثانية) ويأخذ موقفًا وسطًا بين ما قيل وما لم يُقل، غير أنه ليس مجرد عودة إلى الماضي بل هو لحظةٌ جديدةٌ من الكشف، فأن تبعث كانْط كما كان بالضبط إنما هو استعادةٌ حمقاء، وإنما ينبغي على كل تأويل أن يشن هجومًا على الصيغ الظاهرة في النص، فالخوف من المضي فيما وراء ظاهر النص هو ضربٌ من عبادة الأوثان وضربٌ من السذاجة التاريخية في الوقت نفسه.»٩

هل المرء — إذن — يفهم المؤلف حقًّا أفضل مما يفهم المؤلف نفسه؟ بالطبع لا، فالمؤلف كان في الدائرة الكاملة من الاعتبارات التي ألهمت تأليفه، إن المرء لا يفهم المؤلف فهمًا أفضل بل فهمًا مختلفًا، وفي حواره الشهير مع الياباني يقول «هيدجر» إن هدفه هو أن «يتدبر الفكر اليوناني بطريقةٍ يونانيةٍ أكثر عمقًا»، وحين يُسأل هل يعني ذلك أن يفهم اليونان أكثر مما فهموا أنفسهم يقول كلا بل إنه يفوقهم — هنا — في أنه لن يكتفي بما قيل وفُكِّر فيه بل سيمضي إلى ما لم يُفكر ولم يُقل، يريد «هيدجر» أن يخترق الستار الخلفي للتفكير اليوناني في بزوغه الأول؛ فقد يكمن في الفراغ الخلاق واللاوجود القابع وراء انبثاقه الإيجابي مفتاحٌ لصنفٍ آخر من التفكير وفهم آخر للوجود والحقيقة واللغة، وحتى يتم ذلك ستبقى الأشياء مجرد «موضوعات» Objects، وسيبقى العالم لعبة الإنسان أو دميته، ليس ما يلزمنا هو مزيد من التقدم والإيغال في فكر الحضور وإنما تلزمنا خطوة إلى الخلف نتملص بها من التفكير الذهني أو التفسيري الصرف، ونلج إلى التفكير التأملي الكشفي.

(٦) على الطريق إلى الفكر

في حواره الشهير مع الياباني يذهب «هيدجر» إلى أن الإنسان يقف في «علاقة هرمنيوطيقية» يكون فيها هو «حامل الرسالة» وهو المفصح عن الوجود، فالإنسان هو ذلك الكائن الذي يعبر الفجوة بين خفاء الوجود وتجليه، بين تحجب الوجود وانكشافه، بين العدم (بتعبير آخر) والوجود، والإنسان إذ يتكلم إنما «يؤول» الوجود، والتفكير الحق في تعريف «هيدجر» ليس تناولًا وتلاعبًا بما تم انكشافه، بل كشفًا لما خفي واحتجب، على أن النص الذي يقوله مفكرٌ أو شاعرٌ كبير ينطوي دائمًا على الكثير من الأشياء التي تظل محتجبةً غير مقولة، ومن ثم فإن الحوار الفكري مع النص من شأنه أن يثمر مزيدًا من الكشف ويؤدي إلى مزيد من الإفضاء، ويصبح هذا تأويلًا بالمعنى التقليدي للكلمة، غير أن هذا الفعل التأويلي الثانوي يجب أن يرتد باستمرارٍ إلى إعادةٍ وديةٍ متعاطفةٍ للكشف الأصلي، ويجب أن يتلبث دائمًا على الحدود فيما بين المحتجب والمنكشف.

كيف يمضي الحوار الخلاق مع النص؟

في كتاباته المتأخرة كان «هيدجر» أميل إلى أن موقف الإنسان ينبغي أن يكون نوعًا من السلبية المنفتحة القانتة في إصغاء تامٍّ لصوت الوجود، إلا أنه في عملٍ من أعماله المبكرة، هو «مدخلٌ إلى الميتافيزيقا» يقدم عرضًا ذا أهمية هرمنيوطيقية حول طبيعة التساؤل الخلاق، وهو عرضٌ يضم معًا عددًا من العناصر الهامة في فكر «هيدجر» اللاحق.

التساؤل، عند «هيدجر»، هو طريقةٌ للإنسان في الجدل مع الوجود وحثه على أن يسفر عن وجهه، التساؤل الذي يبقى عند مستوى وجود الموجودات ولا يتجاوزها إلى أساس هذا الوجود وخلفيته، إنما هو تساؤل زائف، أو هو ليس تساؤلًا حقيقيًّا بل تلاعبًا أو حسابًا أو شرحًا، يقول «هيدجر» «إننا نعاني منذ زمن طويل من شلل السؤال وذهاب كل شغف به، لقد أضعنا السؤال بوصفه عنصرًا أساسيًّا من عناصر الوجود التاريخي».

إن جوهر وجود الإنسان في العالم هو بالتحديد تلك العملية التأويلية للتساؤل، إنه نوع من السؤال من شأنه أن يصل إلى الوجود المحتجب ويميط عنه اللثام ويجعل منه حدوثًا تاريخيًّا عينيًّا، السؤال إذن هو ما يجعل الوجود تاريخيًّا، وفي الفقرة التالية من كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» تتضح العلاقة المتبادلة بين الوجود والتاريخ والذاتية Selfhood:

  • (١)

تحديد ماهية الإنسان ليست جوابًا على الإطلاق، وإنما هي، جوهريًّا، سؤال.

  • (٢)

 توجيه هذا السؤال هو شيءٌ تاريخي بمعنى أن هذا السؤال يخلق التاريخ خلقًا أول.

  • (٣)

لا يحدث التاريخ، ومعه وجود الإنسان، إلا حيث يكشف الوجود عن نفسه في عملية السؤال.

  • (٤)

لا يعي الإنسان نفسه إلا ككائنٍ تاريخي متسائل، ولا يكون ذاتًّا إلا بوصفه كائنًا تاريخيًّا متسائلًا، فذاتية الإنسان تعني هذا: إن عليه أن يحوِّل الوجود الذي يكشف له عن نفسه إلى تاريخٍ ويحمل نفسه على الوقوف فيه.

في كتاباته المتأخرة يتحول اهتمام «هيدجر» من تساؤل الإنسان إلى ضرورة الانفتاح اليقظ على الوجود، ما يزال الوجود في هذه الكتابات تاريخيًّا غير أن حدوثه يعد هبةً من جانب الوجود لا نتاجًا لبحث الإنسان وفهمه.

غير أننا يجب أن نأخذ حذرنا من تصور أي نقطة تحوُّل أو انتقال جذري هنا؛ لأن «هيدجر» في حقيقة الأمر لا يناقض موقفه الأول بل يكمله، إنه يحاول في أعماله المتأخرة أن يؤكد موقفه غير المتمركز على الذات، ولهذا السبب فهو يحول الصورة من إظهار الإنسان متسائلًا مجادلًا للوجود إلى إظهار الإنسان على أنه «راعي الوجود»، غير أنه حتى بوصفه راعيًا للوجود فإن رعايته تتمثل في هيئة «تفكير» و«بناء شعري»، وهذان كلاهما فعلان من جانب الإنسان (وإن يكونا استجابةً للوجود) ويحتفظان بطابعهما التاريخي.

الانفتاح على الحقيقة، الانتظار اليقظ، الإصغاء لنداء الوجود؛ ﻟ «لا تَحَجُّب» «الحقيقة كهديةٍ من جانب الوجود لا كثمرةٍ لبحث الإنسان: هذا هو القانون الأول للفكر وليس قواعد المنطق»، وقد سبق أن ألمعنا في الفصل الخاص بمعنى الهرمنيوطيقا إلى أن «هيدجر» يرى صلة وثيقة بين طبيعة الهرمنيوطيقا وطبيعة هرمس رسول الآلهة في الميثولوجيا اليونانية، فالرسالة التي يحملها هرمس ليست رسالةً عادية، إنه يحمل الخبر الصاعق والنبأ الجلل، التأويل في أسمى معانيه هو أن تكون قادرًا على فهم هذه الأنباء المقدورة، بل أن تفهم قدرية الأنباء، أن تؤوِّل هو أن تصغي أولًا، أن تفهم الشيء الذي أسفر عن نفسه، أن تفتح كيانك كله لعملية «التجلي»، ألا تفعل بقدر ما تنفعل، أن تتلقى ولا تنخذل أمام سفور الحقيقة، تمامًا مثلما يفعل الشعراء في لحظة الإلهام كما يقول أفلاطون في محاورة أيون، هكذا يعود بنا «هيدجر» إلى لحظة أكثر بداءة، لحظة سابقة على أي استدلال أو إعمال ذهن، سابقة على أشكال فكرنا الحاضرة، إن مشروع «هيدجر» التأويلي ينطوي على محاولة لاستعادة فهم الوجود واسترداد الوعي به، والذي يرى «هيدجر» أننا قد فقدناه في الأزمنة الحديثة، فإذا توجب على المرء أن يبحث عن الثقل الخفي للألفاظ القديمة فلكي يمضي فيما وراء الوضوح الذاتي في التفكير الحديث، ولكي يفلت من حدود النظرة الحديثة للعالم، فالهرمنيوطيقا هي ذلك المجال المعني بفك رموز الأقوال التي تنتمي إلى أزمنةٍ وأمكنة ولغات أخرى، دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو أو تصنيفاته الذهنية.

(٦-١) اللغة والكلام

معجزة من بعيد أو حلمًا

جلبتُه إلى طرف بلادي،

وانتظرتُ حتى تجد ربة القدر المظلمة

في نبعها اسمًا تضفيه عليه

عندئذٍ أمكنني أن أقبض عليها بقوة،

وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في عظامي …

وقديمًا حركني الشوق إلى رحلة طيبة

ومعي جوهرة ثرية ورقيقة،

فتشت «ربة القدر» طويلًا ثم جاءتني بالخبر:

«لا شيء هنا يرقد في الأعماق».

هنالك أفلتت من بين يدي،

وما كسبت بلدي الكنز أبدًا …

فتعلمت وقلبي محزونٌ هذا الزهد:

إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء.١٠

الكلمة، ستيفان جئورجه

تتحدث هذه القصيدة عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بشكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته «الاسم»، نعمةً منها وهدية، فهي تبحث في أعماق نبعها عن اسمٍ لكل شيء ولكل خبرة، والكلمة هي التي تُظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار (وهي الآن تزدهر وتسطع نافذةً في العظام)، ومهما يكن ثراء الخبرة وعُرامها فلا ضمان لفهمها ودوامها وتوصيلها للآخرين إذا لم يقيض لها الكلمات التي تترجمها وتفضي به وتنميها، وحين لا يجد المرء كلمةً تترجم خبرته (لا تجد ربة القدر اسمًا لجوهرة الشاعر) فلا جدوى للخبرة ولا قيمة، وربما لا وجود لها على الإطلاق! الأسماء إذن هي التي تُحضر الأشياء وتمدها بالوجود والثبات، وهي التي تسبغ المعنى على الخبرة وتجعل الخبرة «تصبح ذاتها» على حد تعبير بول ريكور.

الوجود لغة، أو هو لغوي في بنيته وصميمه، و«ليست الكلمات واللغة قواقع تختزن فيها الأشياء ببساطة من أجل تجارة الحديث والكتابة، في الكلمة وحدها، في اللغة وحدها، تصبح الأشياء وتكون.»١١ اللغة هي تَلَفُّظ الوجود ونطقه، إن الوجود نفسه يفكر بنا، أو هو يتعقل ذاته من خلال لغتنا نفسها؛ فليس التفكير مجرد تعبير يستدرج الفكرة إلى شبكة اللغة، بل هو نطقٌ بلسان حال الوجود، أو هو على الأصح تعبيرٌ عن كلمة الوجود غير المنطوق! وهذا هو السبب في أن «هيدجر» يختم رسالته عن النزعة الإنسانية بقوله «إنما اللغة لغة الوجود، كما أن السحب سحب السماء!»١٢

في كتابه «الوجود والزمان» وضع «هيدجر» اللغة في سياق جديد، وذلك حين قام بتحليل الوجود في العالم بوصفه فهمًا وتأويلًا، واللغة هي تَلَفُّظ الفهم الوجودي، وهي وثيقة الصلة بالفهم بحيث يصبح التفكير المنطقي والتلاعب التصوري بموضوعات العالم أمرًا ثانويًّا واشتقاقيًّا بالمقارنة باللغة في السياق الحي للتلفظ الأولي للفهم، ومنذ «الوجود والزمان» أدرج «هيدجر» المنطق والقضايا تحت تصنيف الفكر الحضوري بينما جعل اللغة، في جوهرها الحقيقي كتلفظ بدئيٍّ للفهم التاريخي الموقفي، شيئًا ينتمي إلى ماهية الإنسان وطريقة وجوده، ومن هذه الزاوية أمكن ﻟ «هيدجر» أن يهاجم النظريات التي ترى اللغة مجرد أداة للاتصال والتواصل.

يحتل موضوع اللغة موقعًا حاسمًا في كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» الذي يكرسه «هيدجر» لبحث السؤال «ما هو الوجود؟» ويعود فيه إلى شذرةٍ من بارمينيدس وجد فيها الإقرار بأن الوجود لا ينفصل عن فهم الوجود، فالوجود والفهم شيءٌ واحد، مثلما أن الوعي وموضوعه شيءٌ واحدٌ عند بارمينيدس، يعني ذلك أنه «ثمة وجود فقط عندما يكون هناك ظهور، لا تَحَجُّب، انكشاف»، ومثلما أنه لا يمكن أن يكون هناك وجودٌ بدون فهم، ولا فهم بدون وجود، كذلك لا يمكن أن يكون هناك وجود بدون لغة، ولا لغة بدون وجود.

يتساءل «هيدجر»: هب الإنسان لم تكن لديه معرفة مسبقة بالوجود، لم يكن لديه معنًى غامض للوجود، فهل كان ذلك سيؤدي إلى نقصان لغتنا لاسم وفعل (فعل الكينونة) ليس إلا؟ ويجيب «هيدجر»: كلا، بل لن تكون هناك لغةٌ على الإطلاق، ولن يتسنى لأي وجود، بما هو كذلك، أن يكشف عن نفسه في كلمات، ولن يعود بالإمكان استحضاره أو الحديث عنه في كلمات، ذلك أن الحديث عن الوجود، بوصفه وجودًا، لا بد أن يتضمن فهمه مقدمًا كوجود، أي فهم وجوده.

ومن الجهة الأخرى، لو لم تكن ماهيتنا تتضمن القدرة على اللغة، لكان كل وجود منغلقًا أمامنا، بما فيه وجودنا نفسه، فبدون اللغة لما أمكن للإنسان أن يكون، وما أمكن أن يوجد بأي أسلوب يمكن أن نتخيله، و«هيدجر» يقول في ذلك بصريح العبارة: «أن تكون إنسانًا هو أن تتكلم.» يقول «هيدجر» إنه لوهمٌ عظيم إذن أن نظن أن الإنسان قد اخترع اللغة! فالإنسان لم يخترع اللغة، تمامًا مثلما أنه لم يخترع الفهم ولا الزمان ولا الوجود نفسه، «هل يُعقل أن يكون الإنسان قد اخترع تلك القوة التي تغمره والتي بفضلها وحدها يمكنه أن يوجد كإنسان؟» وحتى الفعل الإنشائي للتسمية، تسمية الأشياء، هو استجابة من جانب الإنسان لوجود الموجودات.

في كتابات «هيدجر» التي أعقبت «مدخل إلى الميتافيزيقا» يزداد توكيده على استجابة الإنسان لنداء الوجود، في «رسالة في النزعة الإنسانية» مثلًا يقول «هيدجر» إن الشأن الوحيد للفكر هو أن يحوِّل إلى شكلٍ منطوق مجيء الوجود، الذي يكمن وفي كمونه ينتظر الإنسان، والوجود بطبيعة الحال يسفر عن وجهه في اللغة، هذا الحضور للوجود في اللغة تترجمه Geschick (لفظة المصير، القدر)، هذه القدرية التي يتسم بها قول الوجود هي القانون الأول للتفكير، أما مسألة التاريخ فلم تكن جديدة؛ لأن «هيدجر» في «مدخل إلى الميتافيزيقا» كان قد وصف اللغة بأنها آلية الوجود الإنساني التي تمكن الإنسان من أن يصير تاريخيًّا، بل أن يؤسس التاريخ في حقيقة الأمر، وكان قد وصف الفهم والكلام بأنهما فعلان تاريخيان بصفة خاصة يدخل من خلالهما الوجود إلى الزمن ويحدث، ليس هناك من فرقٍ بين ما قبل «مدخل إلى الميتافيزيقا» وما بعده إلا في النبرة: فلم يعد الإنسان مجادلًا للوجود بقدر ما أصبح متفتحًا للوجود، مصغيًا لنداء الوجود، حتى «التساؤل» لم يتخلَّ عنه «هيدجر» رغم ذلك؛ لأن التساؤل هو بالضبط وضع التصورات الحضورية موضع الشك، لقد ظل التساؤل منهجًا أساسيًّا لتفكير «هيدجر»، ولم يقصد «هيدجر» من تغيير نبرته إلا الإشارة بقوةٍ أكبر إلى أولوية الوجود وصدارته.

أما متضمنات ذلك بالنسبة للغة فهي أن نعكس الاتجاه المتعارف عليه للكلام، فلا نقول إن الإنسان يتكلم، بل نقول إن اللغة ذاتها تتكلم، «فاللغة»، في جوهرها وصميمها، ليست تعبيرًا ولا هي نشاط للإنسان؛ «اللغة تتكلم»، الكلمات ترن في الصمت، ومن خلالها تتردد حقائق عالم المرء، «هذا الرنين في الصمت ليس من الإنسان، العكس هو الصحيح، الإنسان، في حقيقته وجوهره، من اللغة»، وفعل الكلام هو ما يميز الإنسان بالتحديد، غير أن الكلام هو في ذاته فعلٌ تقوم به اللغة، ما يتجلى في اللغة ليس شيئًا إنسانيًّا بل عالم … الوجود نفسه.

يقول «هيدجر» إننا نجد الماهية الصميمة للغة في الكلام، وبخاصة في «القول» Dassagen، أن تقول هو أن تكشف. بذلك يمكن للصمت أحيانًا أن «يقول» أكثر مما تقوله الكلمات، وبإمكاننا أن نقول، بطريقة أخرى، إن اللغة ليست «تعبيرًا» للإنسان بل هي «ظهور» للوجود، وإن التفكير لا يعبر عن الإنسان بل يترك الوجود يحدث كواقعةٍ لغوية، في ترك الحدوث هذا يكمن مصير الإنسان، ومصير الحقيقة أيضًا، وأخيرًا مصير الوجود.

يُعد تحول «هيدجر» في اتجاه التوكيد الزائد على الصبغة اللغوية لطريقة الإنسان في الوجود وتصريحه بأن الوجود يقود الإنسان ويناديه (ومن ثم فالوجود في حقيقة الأمر هو الذي يُظهر نفسه وليس الإنسان)، يُعد هذا التحول ذا أهمية هائلة بالنسبة لنظرية الفهم، فهو يجعل ماهية اللغة هي وظيفتها التأويلية في جعل الشيء يفصح عن نفسه، يعني ذلك أن يصبح مبحث التأويل تمردًا على التحليل المحض والتفسير الصرف من أجل الوصول إلى حوار فكري مع ما يظهر في النص، لم يعد الفهم مسألة تساؤل يريد أن يكون مفتوحًا وغير دوجماوي فحسب بل أصبح أيضًا مسألة تعلم لكيف ينتظر المرء ويترقب وكيف يعثر على الموضع الذي سيكشف فيه وجود النص عن نفسه ويسفر عن وجهه، إن اللغة نفسها هرمنيوطيقية في جوهرها وصميمها، وهي أشد ما تكون هرمنيوطيقية في الشعر العظيم؛ لأن الشاعر، كما يقول «هيدجر» في «ماهية الشعر»، هو الرسول ما بين الآلهة والإنسان.

هكذا وحَّد «هيدجر» بين ماهية الوجود والتفكير والإنسان والشعر والفلسفة وبين الوظيفة الهرمنيوطيقية للقول، وهكذا جعل فلسفته الخاصة هرمنيوطيقية بالدرجة الأساس وجعل موضوعاته الكبرى واقعة في صميم نطاق الهرمنيوطيقا، وقد نجح بالطبع في تحويل سياق الهرمنيوطيقا بأسره بعيدًا عن التصور القديم لها كمبحث فيلولوجي خاص بتأويل النص، لم يأبه «هيدجر» بكثير من المفاهيم السابقة: قسمة الذات/الموضوع، الموضوعية، معايير التحقق، النص بوصفه تعبيرًا عن الحياة؛ كل هذه مسائل غير واردة في منهج «هيدجر»، لقد عرَّف الهرمنيوطيقا على أنها التعامل مع اللحظة التي ينبلج فيها المعنى، إنه فهمٌ هائل الاتساع، على حد تعبير ريكور؛ لأنه لا ينحصر بالضرورة في عملية فهم نص من النصوص، وقد أدى هذا التعريف إلى تغيير جارف في بنية هذا المبحث ومعالمه، ليُعاد تعريف فعل التأويل نفسه ويُوضع في إطار أنطولوجي.

في كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا» يقوم «هيدجر» بشرح «أنشودة في الإنسان» من مسرحية «أنتيجونا» لسوفوكليس، في محاولة منه للتعرف على التصور الإغريقي الأول عن الإنسان كما تعبر عنه القصيدة، يقول «هيدجر»:

«يقع تأويلنا في ثلاث مراحل، وفي كل مرحلة منها سوف ننظر إلى القصيدة كلها من زاوية مختلفة:

  • في المرحلة الأولى سوف نقدم المعنى الباطن للقصيدة، ذلك المعنى الذي يمسك صرح الألفاظ ويحفظه ويعلو فوقه.
  • وفي المرحلة الثانية سوف نتفقد التتابع الكامل للفقرات الشعرية Strophes  وردودها Antistrophes، ونحدد المنطقة التي تكشفها القصيدة وتبينها وتضيئها.
  • وفي المرحلة الثالثة نحاول أن نتخذ موقفنا في مركز القصيدة، بحيث يمكننا الاطلاع على حكمها فيما يكونه الإنسان وفقًا لهذا الخطاب الشعري.»

من الواضح أن «هيدجر» لا يأخذ منهجًا شكليًّا Formalist؛ لأن الشكلية لا تتفق مع مقاصده ولا مع السؤال الذي يطرحه، ومن المثير أن إجراءه هنا يستبق مدخله «الطوبولوجي» اللاحق الذي يجعل فيه غاية الشرح هو تحديد «الموضع» Topos الذي تتحدث منه القصيدة، موضع تلك المساحة مع الوجود التي تضيئها الفقرة الشعرية؛ وعلى ذلك فإن المرحلة الأولى لا تبدأ في الحقيقة تسلسليًّا، بل تبدأ بسعيٍ للعثور على المعنى الذي يمسك صرح الألفاظ كله و«يرتفع فوقه»، فالشيء الذي تقوله القصيدة يقف داخل معنًى غير مصرح به تصريحًا كاملًا، ذلك المعنى الذي يحيط بالنص من أسفله وأعلاه، هذا المعنى المحيط … هذا «الجشطلت» الذي يفوق مجموع أجزائه، هو المبدأ الذي يحكم القصيدة ويجلو أجزاءها، إنه «الحقيقة» التي في القصيدة، «الوجود» الذي يتكشف ويأتي إلى النور، «روح القصيدة» إن جاز للمرء أن يقول. فقط في ضوء هذا المعنى يستطيع «هيدجر» أن ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي أن ينتقل من فقرةٍ شعرية Strophe إلى ردها Antistrophe والعكس، خلال القصيدة، لكي يحدد المنطقة التي تكشفها القصيدة وتسلط عليها الضوء.

في المرحلة الثالثة، نحاول أن نقف في مركز القصيدة، أي في الحد الفاصل بين التَّحَجُّب من جهة وبين الانكشاف الذي أتاحه الفعل الإبداعي للشاعر، فعل التسمية، من جهة أخرى، وأن ننظر مرةً أخرى بتمعنٍ فيما تمت تسميته، يعني ذلك بطبيعة الحال أن نتخطى القصيدة إلى ما لم تقله القصيدة:

«لو أننا قنعنا بما تقوله القصيدة بصورةٍ مباشرة، لبلغ التفسير (التأويل) نهايته (مع المرحلة الثانية)، غير أن التأويل هنا في حقيقة الأمر يكون قد بدأ لتوه، فالتأويل الحق يجب أن يكشف ما لا يمثل في الألفاظ ولكنه يُشار إليه رغم ذلك (ما يُقال دون أن يُلفظ)، وعلى المفسر لكي يحقق ذلك أن يستخدم العنف! عليه أن يبحث عن الشيء الجوهري حيث لم يتبقَّ شيءٌ يمكن أن يجده التفسير العلمي الذي يصم باللاعلم كل ما يتجاوز حدوده.»

إن العملية التأويلية في جوهرها تتمثل لا في الإيضاح العلمي لما هو مصرح به في النص، بل في التفكير الإبداعي الذي يسلط الضوء على المعنى المضمر لا الصريح، الباطن لا الظاهر.١٣

في تناوله للشاعر الألماني «جورج تراكل» Georg Trakl يقول «هيدجر» إن دراسته لتراكل ليست بيوجرافية ولا اجتماعية ولا سيكولوجية، بل هي نظر في «المكان» Ort الذي «يُشعِر» منه تراكل، المكان الذي يكشفه شعره ويسلط عليه الضوء، ذلك أن كل شاعر عظيم إنما يتحدث من داخل «قصيدة» شاملة وحيدة لا تُقال أبدًا ولا تتم، ومهمة الحوار الفكري مع الشاعر هي العثور على ذلك المكان من الوجود الذي يمثل أساس القصيدة، «فقط من موضع القصيدة» غير المقولة «يمكن للقصيدة المفردة أن تضيء وترن»، يعترف «هيدجر» أن هناك خطرًا لا يُستهان به أن يؤدي هذا الحوار الفكري مع القصيدة إلى خلط يُغَشِّي على ما تقوله القصيدة بدلًا من أن يتركها تقول ما لديها بتلقائية وبساطة، ويقول إن شرح القصيدة الشاملة التي أشرنا إليها لا يمكن، على أية حال، أن يكون بديلًا عن الاستماع الحقيقي للقصائد، فهل تخلى «هيدجر» بذلك عن مبدئه الأول القائل باستخدام العنف مع النص؟ الحق أن «هيدجر» منذ البداية يريد أن يترك النص يتحدث بصوته ويبوح بحقيقته، أما مسألة «استخدام العنف» فهي أساسًا رد فعل تجاه النقاد الذين يقصرون مهمة التفسير على ظاهر النص (النقاد «الظاهرية» إن صح التعبير)، يريد «هيدجر» أن يؤكد مرة ثانية ضرورة تجاوز النص في نهاية المطاف وإعادة السؤال الذي يطرحه النص والانشغال بما كان يشغل النص!

وفضلًا عن ذلك، فإن عملية الشرح — في كل خطوة — يبدو أنها تمضي وراء النص إلى جذور كل كلمة، إلى إعادةٍ لكل بيت أو أبيات مرةً ومرات، والاستماع أكثر وأكثر إلى البيت نفسه، توضح هذه الإعادات أن وظيفة الشرح هي أن تترك البيت يتكلم لا أن تفرض عليه ما ليس فيه أو أن تحاول أن تتكلم أفضل منه، إن الفكرة ذاتها — فكرة كشف «موضع» القصيدة — هي محاولة ﻟ «تمهيد المسرح» للقصيدة لا لأخذ مكانها على المسرح، ومثلما يدعو «النقد الجديد» New Criticism فإن القصيدة نفسها هي كل ما يهم وليس الخلفية البيوجرافية، وإن «الخلفية» الحقيقية للقصيدة ليست حياة المؤلف بل «الموضوع» Subject matter الذي تتناوله القصيدة.

يتفق «هيدجر» مع «النقد الجديد» إذن في التوكيد على «الاستقلال الأنطولوجي» للقصيدة، وفي عبثية (ولا مشروعية) إعادة الصياغة، وينشأ الاختلاف بينهما في أن النقد الجديد يجد صعوبة كبيرة في تقبل «الفروض المسبقة» Presuppositions كخطوةٍ في المسعى الجدلي إلى «الحقيقة» التي تحملها القصيدة وتكشف عنها، فالنقد الجديد مأخوذٌ ﺑ «الموضوعية العلمية» ومتقيدٌ بقيودها، ويجعل من النص «موضوعًا» object ومن الشرح تناولًا علميًّا ﻟ «معطيات» النص ولا شيء غير معطيات النص، أما أسلوب «هيدجر» في الشرح فيختلف جذريًّا عن أي «تحليل» موضوعي للمعطيات الصلبة (الماثلة في النص بدون أدنى خلاف)، غير أن وشائج القربى بين «هيدجر» والنقد الجديد ونقاط اتفاقهما المكينة من وراء الاختلافات الأسلوبية الخارجية، لتومئ إلى أن هرمنيوطيقا «هيدجر» يمكن أن تقدم الأساس والقاعدة لبعثٍ جديدٍ وصيغة جديدة أكثر حيوية للنقد الجديد.

(٧) نظرية هرمنيوطيقية في الفن

في عام ١٩٣٦م ألقى «هيدجر» ثلاث محاضرات في الفن تحمل عنوان «الأصل في العمل الفني» The Origin of the Work of Art لم تُنشر حتى عام ١٩٥٠م عندما ضمنها كتابه «متاهات» (مسالك في الغابة) Holzwege، في هذه المحاضرات الثلاث يجد القارئ مذهب «هيدجر» في طبيعة الفن في أكمل عرضٍ وأقومه، حقيقة الأمر أن هذه المحاضرات تنقل إلى نطاق الفن تلك التصورات الهرمنيوطيقية اﻟ «هيدجرية» عن الحقيقة والوجود، وعن اللغة بوصفها حديثًا وقولًا كما بينا آنفًا، فالعمل الفني العظيم يتكلم، وهو إذ يفعل ذلك إنما يستقدم «عالَمًا» World ويأتي به ويستحضره، هذا «الكلام»، شأنه شأن كل «قول» حقيقي، يكشف الحقيقة ويحجبها في الوقت نفسه، «إن الجمال هو طريقةٌ للحقيقة، بوصفها لا تَحَجُّبًا، في المثول»، فالشاعر مثلًا يسمي «المقدس» (يقيض له اسمًا) وبذلك يستقدمه إلى الظهور ويحمله على المثول في «شكل» Form، و«هيدجر» يرد جميع الفنون إلى الشعر ويراها «شعرية» (بالمعنى الواسع للشعر المستمد من أصل الكلمة اليوناني التي تعني الإبداع والإنشاء والخلق)، إنها شعرية في صميمها وجوهرها، وهي طريقة لكشف النقاب عن وجود الموجودات وتحويل الحقيقة إلى حدث تاريخي عياني ملموس.

يقوم هذا الموقف الاستطيقي على التوتر الداخلي بين «الأرض»، بوصفها الأساس الخلاق للأشياء، وبين «العالم». الأرض عند «هيدجر» تمثل الأم الخصبة والمصدر البدائي والأساس الأولي لكل شيء. والعمل الفني، بوصفه حدثًا تتكشف فيه الحقيقة وتميط لثامها، يمثل الإمساك بهذا التوتر الخلاق واحتباسه في «شكل»، إنه يكشف للإنسان التوتر الباطن بين «الأرض» و«العالم» ويأتي به إلى نطاق الموجودات ككل، المعبد اليوناني، على سبيل المثال، الرابض في الوادي، يخلق فضاءً مفتوحًا في الوجود، يخلق فضاءه الحي الخاص، وهو في جمال شكله الفني يترك مواده البنائية تشع في بهائها، لقد صب هذه المواد في «شكل» من شأنه أن يُظهرها ويبرزها ويجعلها تتلألأ وتضيء، إن المعبد لا يحاكي شيئًا ولا ينسخ أي شيء، إنه، ببساطة، يُفرغ لذاته وينحت من نفسه «عالمًا» يُحس فيه وجود الآلهة وجلال حضرتها، وإذا كانت مادية المواد تختفي في «الموضوعات النفعية» أو «الأدوات» كلما نجحت في أداء وظيفتها كأدوات، فإن العمل الفني لا يفتح «عالمًا» إلا من خلال إظهار مادية المواد على التحديد: «الحجر يبقى حجرًا، والمعدن يضيء ويضوِّئ، والألوان تشع كألوان، والأنغام تأتي صوتًا حقيقيًّا، والكلمة تتحدث»، ولئن كان كلٌّ من المَثَّال والبنَّاء يَستخدم في إنتاجه الصخر أو الحجارة، إلا أن الأول منهما لا يريد للحجارة أن تختفي في طوايا عمله الفني، بل هو يريد لها أن تفصح عن كل ما تنطوي عليه من دلالات جمالية، وعلى العكس من ذلك، نجد البنَّاء يستخدم الحجارة، وكأنما هو يستهلكها؛ لأنه لا يريد لها سوى أن تصبح عنصرًا صلبًا يندمج في بناءٍ متين، دون أن يكون له وجوده المستقل.

وكذلك الحال بالنسبة إلى المصور، فإنه يستعين بمجموعةٍ من الألوان، ولكنه لا «يستهلك» هذه الأصباغ اللونية، بل هو يريد أن يصل بها إلى أعلى درجةٍ من درجات نصوعها، ولا يختلف حال الشاعر عن حال غيره من الفنانين: فهو أيضًا يستعين بالكلمات أو الألفاظ، ولكنه لا يتكلم كأولئك الذين يتكلمون أو يكتبون في الحياة العادية المبتذلة، فإن هؤلاء «يستهلكون» الألفاظ بالضرورة، بينما الشاعر يستخدم «اللفظ» لكي يخلق منه «قولًا»؛ أعني أنه لا يستعين بالكلمات كمجرد أدوات، بل هو يُبرز كل ما في الكلمة من عمقٍ وكثافةٍ ودلالة. «العمل الفني» إذن ليس مجرد «مُنتج صناعي» نحكم عليه بالنظر إلى مدى تلاؤم صورته مع مادته، وإنما هو، على حد تعبير «هيدجر»، كائنٌ متفتحٌ يخفق تحت وقع وجوده باعتباره عملًا مبدعًا.١٤

إن العمل الفني لا يريد أن يطمس الأرض في صنعته ويخفي أرضيتها، بل يريد أن يترك الأرض أرضًا! فالأرض ليست مجرد شيءٍ جُعل للسير عليه كما أن الشجرة ليست مجرد شيءٍ واقف على الطريق، فالأرض هي ذلك الشيء الذي يكشف عن نفسه في إشعاع المعدن ورنين النغم ثم يخفيها مرة ثانية، إنها تلقائية وموصولة، «وعلى الأرض وفيها يؤسس الإنسان التاريخي سكناه في العالم»، وفي الفن نجد أن تشييد عمل فني من «خامة» الأرض يخلق «عالمًا»، فالعمل الفني يمسك الأرض نفسها ويحتفظ بها في انفتاح «عالم»، فتشييد الأرض وعرض العالم هما، من وجهة نظر «هيدجر»، السمتان الأساسيتان للعمل الفني.

ماهية الفن — إذن — تكمن لا في مجرد الصنعة والحرفية، بل في الكشف والإظهار، فكون الشيء عملًا فنيًّا يعني أنه يفتح عالمًا، وتأويل العمل الفني يعني التحرك داخل الفضاء المفتوح الذي خلقه العمل واستقدمه إلى النور، والحقيقة في الفن ليست مسألة محاكاة أو اتفاق سطحي مع شيءٍ معطى سلفًا (أي الرأي التقليدي في الحقيقة بوصفها الصوابية Correctness) إنها تسلط الضوء على «الأرض» بحيث يكون بوسع المرء أن يراها، وعظمة الفن، بتعبير آخر، ينبغي أن تتحدد وفقًا لوظيفته الهرمنيوطيقية، وهكذا يمكننا القول بأن ما طرحه «هيدجر» في مقاله هو «نظرية هرمنيوطيقية في الفن».١٥

خلاصة

تَبَيَّنَ مما سبق أن إسهام «هيدجر» في النظرية التأويلية هو إسهامٌ متعدد الجوانب حقًّا، في «الوجود والزمان» أعاد «هيدجر» صياغة تصور الفهم ذاته في سياقٍ جديدٍ تمامًا، وبذلك يكون «هيدجر» قد أحدث تغييرًا في الطابع الأساسي لأي نظريةٍ لاحقة في التأويل، لقد أعاد تعريف كلمة «هرمنيوطيقا» نفسها، فجعلها مماثلةً للفينومينولوجيا كما رآها وللوظيفة الأولية للكلمات في إحداث الفهم، وفي أعماله المتأخرة اتخذ «هيدجر» تأويل النصوص منهجًا خاصًّا به في التفلسف، معلنًا نفسه فيلسوفًا «هرمنيوطيقيًّا» بالمعنى التقليدي للكلمة، غير أن المعنى الأعمق للكلمة عند «هيدجر» هو عملية الكشف والإظهار التي بها ينكشف الوجود ويأتي إلى النور، وبهذه الطريقة الهرمنيوطيقية الصميمة قام «هيدجر» بمعالجة موضوعات اللغة والأعمال الفنية والفلسفة والفهم الوجودي نفسه.

لقد تجاوز «هيدجر» مفهوم «دلتاي» العريض عن الهرمنيوطيقا كأساسٍ منهجي لجميع العلوم الإنسانية، فالهرمنيوطيقا عند «هيدجر» تشير إلى واقعة الفهم بما هو كذلك، لا إلى المنهج التاريخي في التأويل كمقابلٍ للمنهج العلمي، فقد تخلى «هيدجر» عن ثنائية التاريخي-العلمي التي نذر لها دلتاي حياته بأكملها، واعتبر أن كل فهمٍ هو شيءٌ متأصل في الطبيعة التاريخية للفهم الوجودي، وبذلك مهد «هيدجر» الطريق لتلميذه جادامر وتأويليته الفلسفية.

 

١  الدازاين Daein تعبيرٌ ألماني يعني حرفيًّا «الوجود هناك»، وقد استخدمه «هيدجر» للتعبير عن الوجود الإنساني المتعين، وهو وجودٌ مدمجٌ في علاقةٍ وجدانية بالأشخاص والأشياء المحيطة، أي ﺑ «عالم المرء»، ومن هنا يطلق عليه «هيدجر» أيضًا «الوجود في العالم» لتوكيد الوحدة التامة بين الإنسان والعالم، وانتفاء الفصل الديكارتي بين الذات والموضوع، بين عالم داخلي مكتفٍ بذاته وعالم خارجي منفصل، ذلك الفصل الذي لم يورث الميتافيزيقا غير مشاكل كبرى تتعلق بتفسير العلاقة الواضحة بين هذين الكيانين المنفصلين.

٢  Richard E. Palmer, Hermeneutics, pp. 124–127.

٣  النزعة الإحيائية Animism هي نزعة إلى اعتبار جميع الأجسام كأنها حية وذات مقاصد، وهي حالة عقلية لدى الشعوب البدائية التي تؤمن بوجود أرواحٍ لدى الموجودات الطبيعية كلها (لالاند، الجزء الأول ص٧٢).

٤  Hirmeneutics, pp. 128-129.

٥  مارتن «هيدجر»، نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم ودراسة د. عبد الغفار مكاوي دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٧م، ص٥٧-٥٨.

٦  مارتن «هيدجر»، الوجود والزمان، عن كتاب «نداء الحقيقة» ترجمة ودراسة وتعليق د. عبد الغفار مكاوي، ص٦٣-٦٤.

٧  Hermeneutics, p. 135.

٨  Hermeneutics, pp. 142-143.

٩  Ibid., pp. 142–148.

١٠  ترجمة الدكتور عبدالغفار مكاوي (عن كتابه «نداء الحقيقة»).

١١  ماركوري جرين، «هيدجر»، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٧٣م، ص١١٠، وليلحظ القارئ أن هذه العبارة ﻟ «هيدجر» قد سبق ورودها عن الترجمة الإنجليزية بكتاب بالمر الكلاسيكي عن الهرمنيوطيقا.

١٢  زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ١٩٦٨م، ص٤٤٨.

١٣  Palmer, Hermeneutics, pp. 157-158.

١٤  زكريا إبراهيم، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، مكتبة مصر، القاهرة، ١٩٦٦م، ص٢٦٧.

١٥  Hermeneutics, pp. 159–161.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق