الثلاثاء، 17 أغسطس 2021

فرضية العالَم الجديد (من تقديم إميل خوري لكتاب "العالم" لديكارت)

 


  


فرضية العالم الجديد

من مقدمة إميل خوري لترجمته كتاب "العالَم" لديكارت.

 

لم تكن فرضية العلم الجديد إلا من قبيل الابتعاد قليلاً عن جفاف المعالجة الفلسفية، أما مسألة الحقيقة فلم تكن البتة، بنظر ديكارت، موضع نقاش. بمعنى أن سائر الآراء والمعتقدات والمبادئ والقواعد التي يعرضها في الفرضية المذكورة بصورة اختراعات أو تخيلات، ليست في النهاية، سوى نظريته الفيزيائية نفسها بعد صياغتها في قالب روائي.

هكذا يمهد ديكارت، لهذه الفرضية في نهاية الفصل الخامس من كتاب العالم: "يبقى عليّ هنا أن أضيف بعض الحجج لأجعل آرائي أكثر قابليةً للتصديق. ولكن لكي يكون هذا المقال على طوله، أقل إملالاً بالنسبة لكم، فسأغلّف جزءاً منه بقصة مختلَقة، آمل من خلالها ألا تكف الحقيقة عن الظهور بما فيه الكفاية، وألا تكون أقل استساغةً للنظر مما لو عرضتها عاريةً تماماً.

ومن ثَمّ يشرع ديكارت في عرض نظريته، فيتخيّل أن الله يخلق في فضاءٍ خياليّ، عالماً كل ميزته أن لا شيء فيه مجهول أو غامض. من أجل هذا كانت أولى فرضياته أن تعرف مادة هذا العالم "بدهياً من كل الناس"؛ الأمر الذي قاده إلى أن ينزع عنها كل الصفات والصور الحسّية ـ باعتبارها معارف مكتسبة ـ، ويجعلها امتداداً معقولاً صرفاً. وهذا لا يتنافى مع تجزئة هذا الامتداد إلى ما لا يتناهى من الأجزاء الضخمة أو الصغيرة، المتحركة أو الثابتة، دون أن يكون هناك أدنى خلاء بين جزأين.

وابتداءً من اللحظة التي يخلق اللهُ فيها هذه المادة، يخضعها "للقوانين العادية للطبيعة" التي أنشأها وجعل "طبيعة هذا العالم الجديد تفعل تبعاً لها" وهي ثلاثة قوانين أو قواعد:

أولها: قانون قصور المادة[1]، ويكمن في محافظة أي جسم على حالته "(من حجم وهيئة وحركة..)؛ إذا لم يضطره عام خارجي (صدمةٌ أو نار..) إلى تغييرها:

"إن كل جزء من المادة، بمفرده، يستمر دائماً على الحالة نفسها ما دام التقاؤه بغيره لا يجبره على تغييرها".

ثانيهما: قانون حفظ الحركة[2]، وهو مكمل للقانون السابق، لكنه يقصر اهتمامه على حركة الجسم دون غيرها من الصفات (كالحجم والهيئة..) وقوام اهذا القانون أنه إذا دفِع جسمٌ إلى تغيير حركته، سواءٌ إلى زيادة أو إلى نقصان، فإنه يدفع معه بالضرورة جسماً آخر إلى تغيير حركته كذلك، بحيث أن ما يربحه الأول يخسره الثاني، أو العكس. وبذلك تحافظ الموجودات على كمية الحركة نفسها التي أوجدها الله في الكون مع خلقه. يقول ديكارت ما حرفيته: "عندما يدفع جسمٌ جسماً آخر، لا يسعه أن يعطيَه أية حركة إلا ويخسر في الوقت نفسه ما يعادلها من حركته الذاتية؛ ولا ينتزع منه حركةً إلا ويضاف ما يعادلها إلى حركته الذاتية"، وعلة ذلك أنه ".. لما كنا قد افترضنا أن الله قد وضع كمّية معيّنة من الحركات في كل المادة عامة، منذ اللحظة التي خلقها فيها، فمن الواجب إما الاعتراف بأنه يحفظ دائماً المقدار نفسه من الحركات وإما إنكار أنه يفعل دائماً بالطريقة نفسها".

ثالثها: قانون الحركة المستقيمة، وقوامه أن الجسم المتحرك ـ أو المادة بشكلٍ عام ـ يميل لمتابعة حركته في خطٍ مستقيم، رغم أن ما نختبره يظهر لنا غير ذلك (غالباً ما تكون الحركات منحنية). يقول ديكارت: "عندما يتحرك جسم ما ـ فمع أن حركته تتم في الأغلب في خطٍ منحنٍ، ومع أنه من المحال أن تتم أية حركة لا تكون بطريقة م دائرية، كما قيل أعلاه ـ فإن كل جزء من أجزاء هذا الجسم ينزع دائماً إلى متابعة حركته في خطٍ مستقيم". ويشرح ديكارت ذلك بان النزوع الأصلي إلى التحرك، الذي تمتلكه الأجسام (أو أجزاؤها) يختلف دائماً عن حركتها ـ لعواملَ سنأتي على ذكرها في ما بعد: "وهكذا فإن فعل هذه الأجزاء أي الميل الذي لديها إلى التحرك، يختلف عن حركتها.

".. فمثلاً.. عندما نجعل حجراً يدور في مقلاع، فإنه لا يمضي في خطٍ مستقيم تماماً حالما يخرج من المقلاع فحسب، بل إنه بالإضافة إلى ذلك، وأثناء كل الوقت الذي يكون فيه في المقلاع، يضغط على وسطه ويجعل الحبل يمتد، مظهراً بذلك بكل تأكيد أنه ينزع دائماً إلى المضيّ في خطٍ مستقيم وأنه لا يمضي في خطٍ دائريٍّ إلا بالإكراه".

وحيث أنه قد تم عرض هذه القوانين، لنرَ الآن أي أساسٍ اعتمده لها ديكارت: أهو الحربة الإلهية المطلقة التي خلقتها من عدم ـ والتي كان بإمكانها ألا تخلقها البتّة أو أن تخلق مكانها قوانين أخرى مناقضة لها تماماً ـ والتي لا بد من الإقرار بإمكان تدخلها المباشر في أيّ وقتٍ لإيقاف عمل هذا القانون أو تغيير ذاك ـ لأن من يستطيع أن يخلق من عدم يمكنه أن يعدم من وجود ت مع ما يترتب على ذلك من تشكيك في مصداقية العلم وقيمه؟

أم الثبات الإلهي الذي يعني سيادتها المطلقة في كل زمان ومكان معما يلزم عن ذلك من إقرار بالمصداقية الدائمة التي لها وللعلم الذي تمثّل (العلم الطبيعي)، ومن نفي لإمكانية أيّ تعدٍّ على سيادتها أو تدخّل في عملها أنّى كان، حتى ولو أتى هذا التدخّل من الله نفسه علّتها؟

الواقع أن لديكارت أقوالاً متضاربة حول هذا الموضوع، ساهمت في إحداث لغط كبير لا يزال مستمراً عند الدارسين حتى أيامنا هذه، أي بعد مضيّ نيّف وثلاثة قرون على رحيل الفيلسوف.

فهل ينبغي اعتبار القوانين الطبيعية ممكنة وحادثة، طالما أن الله قد "أنشأها وفرضها على الطبيعة كما خلق سائر الأشياء، أي باعتباره علة فاعلة وكلّية". وهنا، يدرج الدارسون ما يعتبرونه اعتقاداً ديكارتياً: "بمنطق مخلوق" وبعالم محض ممكن، كان الله "من الحرية بحيث لا يجعل فيه كل الخطوط التي تصل مركز الدائرة بمحيطها متساوية". أي "بالاختصار"، كما يشرح بيلافال، الاعتقاد بعالم "لا يعقله منطقنا.. وتكون بذلك قوانينُنا الفيزيائية ممكنة إمكاناً مطلقاً".

أم هل ينبغي النظر إليها باعتبارها ضرورية وقديمة بما أنه تستند إلى "المتانة والثبات الكائنين في الله" أي بما أنها تنتج بجلاءٍ من أن الله ثابت، ومن أنه لما كان يفعل دائماً بالطريقة نفسها فهو يحدث دائماً النتيجة نفسها".

وبالفعل، لا مناص هنا من الرجوع إلى الرسالة التي بعث بها ديكارت إلى الأب مرسين بتاريخ 27 أيار 1630، والتي اعتمدها سائر من درسوا ديكارت واعتقدوا بأنه يقول "بمنطق مخلوق" وبقوانينَ طبيعية حادثة وممكنة ـ وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ليبنتس من القدماء وبيلافال Belaval من المحدثين؛ يقول ديكارت:

"تسألني بأي جنس من السببية أنشأ الله الحقائق الأزلية. فأجيبك بأنه قد أنشأها بنفس جنس السببية التي بها خلق كل الأشياء، كعلةٍ فاعلة وكلّية. إذ من الأكيد أنه خالق لماهية المخلوقاتكما هو خالق لوجودها: والحال أن هذه الماهية ليست شيئاً آخر غير هذه الحقائق الأزلية، التي لا أتصورها أبداً صادرة عن الله صدور الأشعة عن الشمس، ولكني أعرف أن الله هو خالق كل الأشياء، وإن هذه الحقائق هي شيءٌ ما، وبالتالي إن الله خالقُها..

"تسألني كذلك من الذي أجبر الله على خلق هذه الحقائق؟ وأقول إنه كان من الحرية بحيث لا يجعل كل الخطوط التي تصل مركزالدائرة بمحيطها متساويةً وبحيث لا يخلق العالم كذلك. ومن الأكيد أن هذه الحقائق ليست بالضرورة مرتبطة بماهية الله أكثر من المخلوقات الأخرى.."

وهنا تناقض يبرز صريحاً تاماً مطلقاً، بين رأيين لا مجال البتّة لأية عملية توفيقٍ بينهما: رأي يقول بأن الله كان قادراً على خلق عالم مختلف اختلافاً مطلقاً، عالم لا يكون للدائرة فيه أشعة متساوية.. أو حتى إنه كان قادراً على عدم خلق شيءٍ البتة؛ ورأي آخر يقول بأنه ليس قادراً على ذلك، ل لعجزٍ فيه، ولكن لأنه يفعل دائماً بالطريقة نفسها ويحدث دائماً النتيجة نفسَها.

ويكفي لإثبات التناقض بين هذين الرأيين أن ننطلق من الرأي الثاني لنظهر امتناع الوصول إلى النتيجة التي أثبتها الرأي الأول (خلق عالم مختلف ـ عدم خلق العالم).

طبقاً للرأي الثاني، لا يغير[3] الله الفعل الذي أدى إلى خلق العالم الحالي، بحقائقه وقوانينه المعروفة، لأنه يفعل دائماً بالطريقة نفسها، ولا يغيّر نتيجة هذا الفعل ـ التي هي العالم الحالي بحقائقه وقوانينه المعروفة إياها ـ لأن الفعل نفسه "يحدِث دائماً النتيجة نفسها".

هذه النتيجة التي توصّلنا إليها، انطلاقاً من الرأي الثاني، والتي تثبت امتناع التوصل إلى ما ذُكِر في الراي الأول، سيعود ديكارت في ما بعد إلى إيرادها بصورة شبه حرفية: ".. لا يسعنا أن نشكك، لو أن الله خلق عدة عوالم، بأن هذهالحقائق ستكون فيها صحيحة بمقدار صحتها في هذا العالم".

لذا، كان مقضيّاً ـ لإنقاذ السستام الديكارتي من التناقض  تعلى أحد هذين الرايين بالزوال لمصلحة الآخر. فأي هذين الرأيين كان الضحية إذاً؟

الواقع أننا لا نلقى جواباً صريحاً على هذا السؤال لكن إبقاء ديكارت على النظرية المؤيدة للرأي الأول (نظرية الخلق الحرّ) ضمن الإطار الخطابي التراسلي ذي الطابع الجدالي، وتطويره بالمقابل، في سائر مؤلفاته الأكاديمية المهمة (العالَم، التأملات، مبادئ الفلسفة)، لنظرية معيّنة تتفق مع الرأي الثاني (ثبات القوانين) ـ وأعني بها نظرية الخلق المستمر ـ لهو أكبر دليل على انتصار هذا الرأي في لمذهب الديكارتي. حتة إذا ما اضطُر في ما بعد، في بحثه الشامل "مبادئ الفلسفة"، إلى التطرق لمسألة الحرية والقدرة الإلهيتين لم يعد إلى نظرية الخلق الحرّ، بل نادى بمبدأ الترتيب الإلهي المسبق لكل شيء  تولا يخفى تشديد هذا المبدأ على ناحيتين اثنتيه: العلم الإلهي المطلق والحتمية الكونية الأزلية.

فما هي نظرية الخلق المستمر تلك، التي سادت مؤلفات ديكارت الأكاديمية المهمة، والتي شكلت المرتكز النظري لمسألة ثبات القوانين؟

لقد جاء أول تعبير عن هذه النظرية في كتاب "العالَم" على الشكل التالي :"اعلموا إذاً، أولاً، إنني "بالطبيعة" لا أفهم قط آلهةً ما، أو أي نوعٍ آخر من القوى الخيالية، ولكني أستخدم هذه الكلمة لأدلّ على المادة نفسها من حيث إنني أنظر إليها مع كلالصفات التي نعتها بها، مفهومةً كلها مجتمعة، وتحت شرط كون الله يستمر في حفظها بالطريقة نفسها التي بها خلقها".[i]

وفي اعتقادي أن هذه النظرية ينبغي أن تفهَم على ضوء مفهوميّ "الأزلي" و"ثبات الفعل الإلهي"، فالأزلي لا يعني ما كان بلا بداية فحسب، بل ما كان بلا زمان كذلك، أي ما كان مستمراً بغض النظر عن الزمان. ففي الأزلي، لا يقال "كان" و"سيكون"، نظراً لتساوي الماضي والمستقبل بالحاضر، لأن الأزلي هو في حاضر دائم، لذلك لا يستقيم معنى "الفعل الأزلي إذا لم يكن يشير إلى حضورٍ دائم، إلى استمرارية. وهكذا يغدو الخلق ـ الذي هو الفعل الإلهي الأزلي بنظر ديكارت ـ شيئاً مستمراً[4].

هذا هو جوهر نظرية الخلق المستمر التي تشكل المرتكز الميتافيزيقي لقيمة العلم.

إلا أنّ هذه هذه النظرية، التي جسدت قمة الثبات في الفعل الإلهي ـ منبع القوانينالطبيعية وضامن ثباتها واستمراريتها، وبالتالي ضامن يقينية العلم واستقلاليته ـ عبر محافظتها على استمرارية هذا الفعل وعدم تغيره أو انتقاله من حال إلىحال (لأنه عُدَّ متغيّراً)؛ أقول إن هذه النظرية ـ إذا نظِر إليها في ضوء انعكاسها على مسألة الحرية الإنسانية، وتحديد مبلغ المساهمة الإلهية في حوادث الطبيعة ـ يمكن أن تؤدي إلى اتجاهين ت أو مبالغتين على حدّ تعبير بيلافال ـ في فهم الديكارتية: "هناك مبالغتان ممكنتان للديكارتية: الله يفعل كل شيء، والله لا يفعل سوى المحافظة على القوة التي أعطاها للمخلوقات".

والواقع أن جذور الاتجاه الأول ـ الذي لا يعدّ بتاتاً في مصلحة العلم ـ تعود بصورة أساسية، لا إلى نظرية الخلق المستمر كما عرِفت في كتاب "العالم"، بل إلى التطوير الذي أحدثه ديكارت عليها في "التأملات"، عبر شرحها بنظرية الزمان وانعدام قدرة الإنسان وسائر المخلوقات على الانتقال بوجودها من لحظةٍ إلى أخرى:

"إن زمان حياتي كله يمكن أن ينقسم أجزاءً لا نهاية لها، كل واحدٍ منها يعتمد بأي حال على الأجزاء الأخرى؛ ويترتب على ذلك كله أنه لا يلزم من أني كنت موجوداً في الزمان الماضي القريب أن أكون موجوداً الآن، ما لم توجد في هذه اللحظة علةٌ توجدني أو "تخلقني مرة ثانية" إن صحّ هذا القول، أي تحفظ عليّ وجودي. والواقع أن من الأمور الواضحة البيّنة للغاية عند كل من يمعنون النظر في طبيعة الزمان، أن حفظ جوهرٍ ما، في كل لحظة من لحظات مدته، يحتاج إلى عين القدرة وإلى عين الفعل اللازمين لإحداثة أو لخلقه من جديد إذا لم يكن موجوداً..". (كتاب التأملات)

وهذا الاتجاه الأول في فهم الديكارتية، يقابله اتجاه ثانٍ ـ في اعتقادي أنه الصحيح ـ يرد التغيرات التي نلاحظها في أجزاء الطبيعة، لا إلى الفع الإلهي باعتباره واحداً وثابتاً، بل إلى الطبيعة وقوانينها: ".. من كون الله فقط يستمر في حفظ (المادة بالطريقة نفسها التي بها خلقها)، يتبع بالضرورة وجوب وجود عدة تغيرات في أجزائها أنسبها للطبيعة، لما كان غير ممكن، كما يبدو لي، أن تُنسَب بصورة خاصة لفعل الله، لأنه لا يتغيّر البتة؛ أم االقواعد التي تتم هذه التغيرات وفقاً لها، فأسميها قوانين الطبيعة.." (كتاب العالم)

والحقيقة أن هذا الاتجاه الذي يجد جذوره في فرضية العالم الجديد، ينتهي إلى إغفال أي دور فعلي لله ـ بعد عملية الخلق ـ في الطبيعة. فالله يخلق المادة ويقسمها أجزاءً متعددة، مختلفة الأحجام والأشكال والحركات.

".. ويخوّلها بعد ذلك أن تتابع حركتها تبعاً للقوانين العادية للطبيعة. لأن الله قد أنشأ هذه القوانين على وجه شديد الروعة، حتى لو افترضنا[5] أن الله لم يخلق أي شيء غير ما ذكرت وأنه لم يضع فيه أي نظام أو نسبة بل ركب منه الخواء الأكثر اختلاطاً وتشوّشاً الذي يستطيع الشعراء وصفَه: فإن هذه القوانين كافيةٌ لتجعل أجزاء هذا الخواء تتميّز من تلقاء نفسها وتترتب فيما بينها في نظام جيد بحيث يكون لها صورة عالم شديد الكمال يمكننا أن نرى فيه لا الضوء فحسب، بل أيضاً كل الأشياء الأخرى، سواءٌ العامة أو الخاصة، التي تظهر في هذا العالم الحقيقي".

وقد عبّر باسكال عن هذا الاتجاه بروعةٍ حين قال عبارته الشهيرة: "لا أستطيع أن أسامح ديكارت، فلقد أراد فعلاً، في فلسفته، أن يتخلى عن الله، إلا أنه لم يمسك عن جعله يعطي العالم الدفعة الأولى لجعله يتحرك، وبعد ذلك لم يجد ما يفعلها بالله".

وعلى أيّ حال، إن إله الفيزياء الديكارتية ليس هو "إله سفر التكوين" على حد تعبير بيلافال، ولا هو بالتأكيد إله المسيحيين، إله الحب والعزاء، الذي يملأ قلوب خاصته فيشعرهم بشقائهم وبرحمته اللامتناهية، كما يقول باسكال، "إن إله المسيحيين ليس خالق الحقائق الهندسية ونظام العناصر فحسب.."

إن إله ديكارت ـ إله الفيزياء ـ هو نفسه الذي يقودنا إلى النفق الذي يصل علم الطبيعة الديكارتي بالمادية: "إن هذا الإله المعرفي، إذ يترك الطبيعة لنفسها تحت شروط خلق الكون والمحافظة على كمية المادة والحركة عينها، يدع لحركة الأجزاء أن تقسم العمل الكلي وأن تنظم الخواء رويداً رويداً. تلك هي الطريق المفتوحة إلى المادية".

لذا كان من المشروع بالنسبة لماركس القول إن ديكارت أعطى المادة في فيزيائه "قوةً خلاقة تلقائية واعتبر الحركة الميكانيكية فعلها الحيوي" وجعل منها (أي من هذه المادة) "الجوهر الوحيد والعلّة الوحيدة للكينونة والمعرفة".

ويبدو أن مقالة ماركس هذه في "وحدانية الجوهر المادي" على غرابة نسبتها إلى ديكارت ـ المعروف بثنائيته ـ تعد تجاوزاً خطيراً من قبل ماركس، خصوصاً وأنه قصرها على الفيزياء لدى ديكارت ـ بعدما فصلها عن الميتافيزيقا[6] ـ ، وهو إضافةً إلى ذلك لا يعتبر رائداً لهذا الرأي بل مريدٌ فيه لباسكال الذي لاحظ ـ كما سبق وذكرنا ـ أن ديكارت بعدما جعل إلهه يعطي الدفعة الأولى لحركة العالم، لم يجد ما يفعله به. فأتى ماركس وطرحه جانباً.

 

(إميل خوري؛ كتاب العالم لديكارت؛ صص 27ـ 36)

 

 

 



[1] Principe d’inertie: والواقع أن التسمية الآن لا تقتصر على القانون الأول، بل إنها تطلق على القانونين الأول والثالث بعد جمعهما معاً. والجدير بالذكر أن ديكارت نفسه لم يعطِ أية تسمية لقوانينه.

[2] ويعتَبر هذا القانون في أساس الأخطاء، التي وقعت فيها الفيزياء الديكارتية، والمتجسدة خصوصاً في قوانين اصطدام الأجسام التي عرضها في كتابه "مبادئ الفلسفة"

[3] لم أشأ القول "لا يستطيع" أن يغيّر.. لأن ديكارت لم يقل ذلك وإن كان يعنيه.

[4] المعروف أن هذا الشرح هو من إرث الميتافزيقيات القروسطية. والحقيقة إن ديكارت لم يذكره أبداً بصورة مباشرة. لكن ربما لم يكن في ذهنه عند تقديم النظرية سواه.

[5] في "مبادئ الفلسفة" سوف يتخلى عن هذا الافتراض ليذهب ـ محاولة منه للاقتراب من الرواية الدينية ـ إلى أن الله يخلق العالم من البداية منظّماً. إلا أن هذا الافتراض لن يؤثر على القراءة التي يقدمها الاتجاه الأخير للنظرية، حيث إن الطبيعة وقوانينها هي التي تنهض بعملية السيرورة في ما بعد.

[6] ماركس لا يغفل الدور العظيم الذي لعبته الديكارتية في الفلسفات المثالية الحديثة والمعاصرة، لكنه يرد هذا الدور بشكلٍ رئيسيّ إلى الميتافيزيقا لدى ديكارت، معبراً عن اعتقاده بوجود انفصال تام في المذهب الديكارتي بينها وبين الفيزياء. فإذا كانت المثاليات الحديثة والمعاصرة وجدت في الميتافيزيقا الديكارتية أساساً لها فإن "المادية الميكانيكية الفرنسية ارتبطت بالفيزياء عند ديكارت دون الميتافيزيقا"



[i] هل من تأثر بنظرية الخلق الدائم عند ابن عربي؟

ثانياً، ينعدم العالم ثم ينوجد، إذا انعدم الفعل الإلهي ثم انوجد. وبما أن الفعل الإلهي دائم الوجود، فيجب ألا ينعدم الوجود، بل يجب أن يكون دائم الوجود. فكيف يتم التغير إذاً؟ (هامش لي)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق