الجمعة، 8 يناير 2021

تعقيب على موقف كارل بوبر من الاستقراء؛ يمنى الخولي (من كتاب: "فلسفة كارل بوبر")

 



تعقيب على موقف كارل بوبر من الاستقراء

يمنى الخولي (من كتاب "فلسفة كارل بوبر")

 

(١) المنهج لا يميز العلم

(١) بعد كل هذا، لم يعد أمامنا أي مجال كيما نناقش: هل المنهج الاستقرائي يصلح كمعيار لتمييز العلم أم لا؛ فليس هناك أصلًا شيءٌ اسمه الاستقراء ولا المنهج الاستقرائي، وإذا كانت الملاحظة لها فعلًا دور في التوصُّل إلى نظريات العلم، فليس هذا الدور — على أحسن الفروض — إلا دور محرك الإلهام، والذي قد يقوم به صفاء ضوء القمر أو حلم نوم هادئ،١ أو هو — على أسوأ الفروض — دور العرقلة والإرباك والتقييد.

أوَلَم نر الملاحظة تعرقل إنسكمندر، فتمنع نظريته من الوصول إلى موقف أقرب من الصدق كان يمكن أن تصل إليه، دور الملاحظة — والذي هو دور جوهري وأساسي وهام — يأتي بعد التوصل إلى النظرية، وليس كمقدمة إليها كما يدَّعي الاستقرائيون.

وطالما أن الاستقراء خرافة، فيستحيل إذن أن يميز المعرفة من أية زاوية، وإذا كان قد استمد سلطانه الزائف في تمييز المعرفة العلمية لأنه يؤصِّلها؛ أي يرجع أصولها إلى الملاحظة الحسية، فتكون بذلك مختلفة عن المعرفة الفلسفية التي ترجع أصولها إلى التأمل، أو أية معرفة أخرى لا استقرائية، فإن بوبر لا يدري لماذا نبحث عن أصل المعرفة، ولا فيما يعنينا هذا الأصل. في فصل المعرفة موضوعية، رفض بوبر تعيين أي مصدر محدد للمعرفة، ورحَّب بكل المصادر طالما نتائجها قابلة للنقد، أصل النظرية لا يهم، وإلا كنا نكرِّر الخطيئة الأرستقراطية، التي تبحث في الأصل والنسب وتغفل تقييم الشخص ذاته، المهم هو قوتها الشارحة وصمودها أمام اختبارات النقد … أما أصلها، من أين أتت وكيف أتت؟ فهو «سؤال شخصي»٢ للعالم، لا يهم إلا مترجمًا يكتب السيرة الذاتية للرجل الذي توصل إلى النظرية،٣ أو عالمًا سيكولوجيًّا تجريبيًّا يدرس ظاهرة الإبداع العلمي.

وقد اختلف بعض الباحثين مع بوبر في هذا، مثلًا ج. س. كيرك، يرفض موافقة بوبر أن أصل النظرية غير ذي أهمية، ويؤكد أن له دورًا في تاريخ العلم وفي فلسفة العلم؛ لأن سيرة حياة واضع النظرية، هي بوضوح متعلقة بالتطور التاريخي للنظرية، وفلسفة العلم تستخدم بالفعل أمثلة تاريخية،٤ لتوضح مثلًا أن كل النظريات العلمية فروض مؤقتة، ولعل كيرك مصيب هنا؛ فقد اضطر بوبر نفسه، في فصل الاستقراء خرافة — مثلًا — إلى الرجوع لأصل النظريات العلمية؛ ليثبت أنه ليس استقراء.

ولكن مهما كانت النظرة إلى أصل النظرية، فإنه على أية حال لا يميزها أبدًا.

ثم إن آيات فشل الاستقراء — أو الأصل الاستقرائي بالذات — كمعيار للتمييز واضحة وضوح الشمس، ففضلًا عن أنه أصاب النظرية العلمية ذاتها — التي يميزها — باللاعقلانية وسائر نتائج مشكلة الاستقراء، فإن أبسط ما لا ينبغي بداهة أن يختلط بالعلم التجريبي، كعلم التنجيم مثلًا، يمكن تأصيل نظرياته استقرائيًّا؛ إذ يمكن الإتيان بكمٍّ هائل من الأدلة الاستقرائية القائمة على الملاحظة وخرائط البروج السماوية، والتراجم والسير الذاتية،٥ يمكن مثلًا الإتيان بألف شخص وُلِدُوا في سبتمبر، ويتميزون بالحساسية الفائقة، لنعمم ذلك استقرائيًّا في قانون تجريبي علمي أصيل: كل مَنْ وُلدَ في سبتمبر، يتميز بالحساسية الفائقة، وبالمثل أيضًا علم الفراسة Phrenology، يمكن الإتيان بألف شخص، يتميزون بالجبهة العريضة والذكاء الحاد … ذلك لأنها علوم زائفة، تدَّعي أنها تتبع منهجًا تجريبيًّا زائفًا زيف الاستقراء.

النتيجة الحتمية الضرورية، لكل ما جاء في هذا الباب، هي استحالة أن يكون المنهج الاستقرائي معيارًا لتمييز المعرفة العلمية.

(٢) والحق أن هذه النتيجة — رغم بداهتها — إنجاز ضخم وعظيم، تكمن عظمته في الشجاعة الأدبية والأصالة الفكرية اللتين انطوى عليهما، كيف يفكر بوبر أصلًا في حسم القول في رفض فكرة شائعة شيوع الإيمان، «الاستقراء معيار العلم» تكاد تكون الفكرة الوحيدة في فلسفة العلم التي تدخل في معتقدات رجل الشارع، فهو يجزم بأن العلم التجريبي عظيم؛ فقط لأن العالم يقتصر على تسجيل ما تبوح به التجربة — استقرائيًّا — من أسرار الطبيعة.

بل وأكثر من هذا، فالإيمان بالاستقراء — كمعيار للعلم — قد تطاوَلَ إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ بحيث يمكن اعتبار الثانية نتيجة للأولى، وليس هذا تعبيرًا مجازيًّا بل تقرير لواقعة، هي أن الإمام محمد باقر الصدر، وهو زعيم شيعي من علماء النجف الأشراف، يتمتع بمنزلة دينية وعلمية وقومية فائقة، وقد أخرج دراسة وافية شاملة محيطة بالاستقراء كمنهج للعلم الطبيعي، محددًا أسسه المنطقية وجوانبه الميثودولوجية، كي يتبع هذه الأسس بدقة في استدلال استقرائي ينتهي إلى وجود الله،٦ وكأن الاستدلال الاستقرائي هو الاستدلال الذي ما بعده استدلال — تمامًا كما أن العلم الطبيعي هو العلم الذي ما بعده علم — فيوطد هذه النتيجة العظمى الجليلة، تُرى ما موقف الإمام الصدر، لو أنه اطلع على أبحاث بوبر وتبين أن الاستقراء محض خرافة.

(٣) وأكثر من هذا، فقد حاول بوبر أن يوضح كيف يمارس العالم عمله، فوضع جدلًا ما يمكن أن نسميه بالكاد منهجًا للعلم: مشكلة، محاولة حلها، استبعاد الخطأ

لكن هذا المنهج لم يدع إطلاقًا أية خاصة لتمييز العلم؛ فهو منهج البحث العلمي، بمعنى منهج محاولة حل المشاكل العلمية، لكنه لا يختلف في جوهره عن منهج أية محاولة أخرى لحل أية مشكلة أخرى، لقد كانت نظرية منهجية، أكدت رأيه في أن النظرية العلمية آتية تقريبًا من نفس الطريق الذي أتت منه النظرية الميتافيزيقية، أو أية نظرية أخرى، من هذه الوجهة لا تمييز إذن، التميز والاختلاف فقط في الأساليب الفنية التي نتعامل بها مع النظرية العلمية على أساس الخصائص المنطقية لبنيتها.

لكن هل حقًّا المنهج بمعنى الإجراءات الفعلية والخطوات الواقعية التي يُجْرِي بها العلم أبحاثه، لا يمكنه أن يدمغ هذه الأبحاث بالسمة العلمية؟

في هذا يقول جان فوراستيه Jean Fourastie:

«إن للمنهج العلمي مدى يمتد من العالم إلى الإنسان المتوسط، ومن الميكانيكا الموجبة إلى الأحداث المبتذلة للحياة اليومية، فليس هناك مجالان منفصلان: مجال العلم ومجال الحياة، والنهج العلمي ليس تقنية خاصة بذوي الاختصاص كما يختص خبراء التأمين بنظام الاحتمالات، والقضاة بالقانون، وعلماء الآثار المصرية بالهيروغليف، بل هو أحد الوسائل المعطاة لكل إنسان، وأكثر هذه الوسائل سهولة وضمانًا لمعرفة العالم الذي انتظم فيه الإنسان؛ الكون والأرض والنباتات والحيوان والأشخاص.

ودائرة العلم ليست مقتصرة على علم الفلك والكيمياء الذرية أو الفيزياء الكمية، إنما على أسرار المادة والكون وغوامض الحياة العميقة، بل يشمل كل الواقع الملموس، والمنهج التجريبي لا ينطبق إذن على وصف الكواكب والإلكترون أو سيانور البوتاسيوم وتفسيرها ومعرفتها فحسب، بل ينطبق كذلك على كل وقائع وأحداث الحياة اليومية لكل إنسان حي.»٧،٨

واضح أن جان فوراستيه هنا، يعني نفس ما عناه بوبر حين قال: إن الصياغة «م١  ح ح  أ أ  م٢» تصف النشاط العلمي كما تصف سائر الأنشطة ولا فارق البتة، وهذا هو الرأي السديد؛ لأن العلماء ليسوا فصيلة آتية من كوكب آخر، كما يراهم مثلًا عالم الرياضة والتناسليات الإنجليزي كارل بيرسون Karl Person (١٨٥٧–١٩٣٦م)؛ إذ يعطي كتابه قواعد العلم The Grammar of Science انطباعًا بأن العلماء قوم غرباء، يمارسون نشاطًا غريبًا هو الاستقراء، المتلخِّص في جمع الحقائق وتبويبها بمنتهى الآلية، وهذا بالطبع خطأ، «العلماء مجموعة عادية من البشر، لهم طبائع عدة، بعضهم ذوو صنعة، وبعضهم موسيقيون أو شعراء أو متصوفة، بعضهم يستلقط الأخطاء، وبعضهم يكتشف الحقائق، وبعضهم يبني الأنساق، فليس هناك تكوين محدد اسمه العقلية العلمية، ولا شيء محدد اسمه المنهج العلمي.»٩

أما رأي كارل بيرسون السطحي الساذج، فقد أثار ثائرة العالم الأمريكي الكبير جيمس كونانت James Conant (١٨٩٣م–؟) الذي أكد ما أكده بوبر من أن منهج العلم لا هو الاستقراء، ولا هو خاص به كي يميزه، فيقول: «لا يوجد شيء واحد يشار إليه وحده فيقال: هذا هو المنهج العلمي ولا شيء سواه، إن العلوم الطبيعية المختلفة لا تُكتشف عن طريقة يقال إنها واحدة وحيدة.»١٠ وحينما يضطر كونانت جدلًا لرسم صورة عامة لمنهج العلم — كما اضطر بوبر لرسمها جدلًا — يطرحها في ست خطوات:

  • (١)

يصادف الرجل مشكلة يتعرف بها، ويحدد أغراضه فيها.

  • (٢)

يجمع كل الحقائق المتصلة بموضوعها.

  • (٣)

صياغة فرض مؤقت تمهيدي يكون أساسًا للعمل.

  • (٤)

يستخرج من هذا الفرض استنتاجات لو صحت لصح الفرض الذي خرجت منه.

  • (٥)

يكشف عن صحة هذه الاستنتاجات بالتجربة الفعلية.

  • (٦)

وبناءً على ما تخرجه التجربة، يقبل الفرض أو يعدله أو يرفضه.١١

تمامًا طبقًا لما قاله بوبر في خطوات المنهج، بل وقد عقَّب عليه تعقيبًا بوبريًّا إذ قال كونانت: «وماذا في هذا المنهج من جديد، إنه منهجنا طوال الحياة، وإن كان هذا هو المنهج العلمي، فنحن إذن علماء طوال الحياة ونحن لا ندري كما قال أحد أشخاص رواية كوميدية لموليير، حين عرف ما النثر بعد جهل «إذن أنا كنت أقول النثر طوال حياتي ولا أدري».»١٢

أجل، فقد أصاب كونانت، كما سبق أن أصاب بوبر من قبل، إن المنهج العلمي بمعنى مسار إجراءاته، وأسلوب العمل الفعلي فيه لا يميزه، بل يميز الإنسان العاقل في شتى مناشطه، بل ويميز الحياة على كوكب الأرض.

منهج العلم ليس خاصًّا به كي يميزه، إنه ليس معيارًا للمعرفة العلمية.

(٤) غير أن موافقة بوبر على هذه الدعوى الكلية التي انتهى إليها الباب، لا تمنع من مناقشة فصوله في الكثير الجم من الأفكار التي أفْضَت إلى هذه النتيجة.

فلنناقش موضوعية المعرفة بشتى جوانبها، وننتقل إلى مناقشة موقف بوبر من الاستقراء لننتهي بتقييم نظريته في منهج العلم.١٣

(٢) تعقيب على المعرفة الموضوعية

(١) أول ما ينبغي أن يقال لبوبر حول موضوعية المعرفة هو أنه من التهور الفلسفي أن نطلق ببساطة على البحوث الإبستمولوجية — منذ أرسطو حتى رسل — الحكم بأنها غير ملائمة وليست في مكانها السديد فقط؛ لأنها تحسب حساب الاعتقاد، هذا حكم جزافي واسع وخطير، وليس من السهل تقبله، لا من بوبر ولا من أي فيلسوف آخر، بل وليس من السهل حتى أن ندعه يقوله.

فقبل كل شيء هل يمكن حقًّا أن تقطع المعرفة كل صلة بينها وبين الذوات قطعًا باتًّا — كما يريد بوبر — كي تكون موضوعية، في حين أن المفهوم الحديث للموضوعية، والذي يستعمله بوبر نفسه، هو مفهوم أو مصطلح البين-ذاتية inter-subjectivity.

ومن الناحية الأخرى، فليس الانشغال بالاعتقاد في المعرفة هو الإثم المعرفي البين؛ فالاعتقاد ليس مجرد عملية بيولوجية تدور داخل ذهن معين في العالم، ولا ينبغي أن نلتفت إليها في العالم الموضوعي العالم ٣، كلا، في العالم ٢، ولا ينبغي أن نلتفت إليها في العالم الموضوعي، ولأكثر من سببٍ يمكن على سبيل الاختصار حصرها بين سببين:

  • أولًا: النظرية قبل أن تخرج إلى العالم ٣، لا بد أن تكون اعتقادًا في ذهن العالم أو الفيلسوف أو المفكر الذي قال بها.
  • ثانيًا: أهم العوامل التي تجعل المثقف العادي يهتم بالعالم ٣، هو أنه يعينه على تكوين اعتقاداته؛ فشخصية الإنسان هي مجموعة اعتقاداته، وهي الهدف النهائي للبحوث الفلسفية، فالفلسفة — فيما يراها بوبر نفسه — مجرد بحث نقدي في معتقدات الإنسان العادي.١٤

الاعتقاد إذن هو نقطة البدء ونقطة النهاية للبحوث الفلسفية.

وفضلًا عن هذا، نجد أن الفارق الذي أقامه بوبر فيصلًا حاسمًا بين المعرفة الموضوعية وبين الاعتقادات الذاتية، لا يصلح في واقع الأمر لأن يفرق بينهما، فهذا الفارق هو القابلية للنقد، والمعرفة طالما صيغت في لغة، فقد خرجت عن حدود الذات وأصبحت موضوعية — أي أصبحت بين-ذاتية — ووجب أن تدق لها أجراس المنطق والفلسفة والعلم فقط لأنها أصبحت قابلة للنقد بين الذوات، أي بين الباحثين، لكن بوبر أتى في موضع آخر ليخبرنا بأن هذا النقد للمحاولات المعرفية من الأفضل أن يكون ذاتيًّا.١٥

وأن نكتشف مواطن الخطأ في نظرياتنا خير من أن يكتشفها الآخرون؛ ومن ثم يمكن أن نقول لبوبر: إن المعرفة الذاتية؛ أي الاعتقادات، هي طبعًا قابلة للنقد الذاتي الذي حبذه هو نفسه، فلا يصبح النقد، أو القابلية له، مبررًا لكل هذه التفرقة الحاسمة.

ومما يؤكد هذا أكثر أن العالم النفساني أنطوني ستور Anthony Storr قد توصَّل — ودون أن يقرأ أعمال بوبر — إلى الاستنتاج التالي: «حينما نلج موقفًا جديدًا في الحياة، ويواجهنا شخص جديد، فإننا نصطحب معنا الانحيازات المكتسبة من الماضي، ومن خبراتنا السالفة مع الناس، ونسلط هذه الانحيازات على الشخص الجديد، والحق أن محاولة التعرف على شخص ما، هي إلى حد كبير سحب إسقاطات وطرد ستار دخان مما نتخيله، وإبدال ذلك بحقيقة حاله فعلًا.»١٦ أي إن التعرف على شخص جديد محاولة نستبعد منها الخطأ فنجد أمامنا موقفًا جديدًا بمشاكل جديدة، مما يعني انطباق الصياغة التي وضعها بوبر لوصف المعرفة الموضوعية:

«م١  ح ح  أ أ  م٢» على المواقف النفسية، وقد اتخذ بريان ماجي — أبرز شراح بوبر — من هذا معوانًا لكي يؤكد على عمومية تلك الصياغة وانطباقها على كل عمليات التطور وعلى كل عمليات التعلم، حتى العملية النفسية التي يتعارف بها البشر فيما بينهم، أي إن بريان ماجي قد رأى في تلك النتيجة التي توصل إليها العالم النفساني أنطواني ستور كسبًا لبوبر، يزيد من نطاق نظريته، لكنه هنا خسارة له؛ إذ يؤكد أن الفارق بين المعرفة الموضوعية وبين الاعتقادات السيكولوجية ليس بهذا الحسم القاطع.

ويمكن أن نجادل بوبر أكثر من ذلك، فنقول: إنه هو نفسه كثيرًا ما يستعمل — وهو بصدد إثبات دعاوى موضوعية صرفة — اصطلاحات مثل: اعتقاد، أعتقد أن، … فلماذا يدعو إلى الاستئصال التام لشأفة الاعتقاد وكأنه نبتة غريبة في حديقة التفلسف المعرفي.

دعوى بوبر إلى موضوعية المعرفة واستقلالها عن أي ذات أصوب، وتركيز الجهود على المحتوى الموضوعي يفيد هذا المحتوى أكثر، كل ذلك رائع، وقد سبق أن أكد وايتهد على ضرورة استبعاد الذات العارفة من الدخول كمتغير في معادلة الطبيعة وما بين الأشياء من علاقات١٧ وموضوعية بوبر بلا شك أقوى وأشمل، وهي الجديرة بالأخذ دون سواها من النظريات المعرفية، لكن الذي لا يمكن الأخذ به أبدًا هو الحكم على الفلسفة بعمرها الطويل وعمالقتها العظام، الذين نحني الهامَ إجلالًا وتكرمة لهم، بأنها غير ملائمة، لا تعرف ما هو مبحثها، وينبغي أن نزيلها هكذا بجرة قلم، هذا أسلوب نقد كلي، رفض كيان مهيب ثري بمبدأ واحد، بوبر أول من يعيب هذا الأسلوب كما عابه على الوضعية في رفضها للميتافيزيقا بمبدأ واحد، كما عاب على الماركسية رفضها للوضع القائم بأسره مرة واحدة …

(٢) أما عن نظرية الصدق التي يأخذ بها بوبر، أي التناظر، فهي الموقف الشائع شبه المعتمد، فهذه النظرية تبدو وكأنها النغمة المسيطرة على سيمفونية الفلسفة والاستثناءات البسيطة كنظرية الترابط أو الاتساق Theory of Coherence أو الالتجاء إلى التحقق الحسي بوصفه معيارًا للحقيقة، أو النظرية البراجماتية التي ترى الصدق في المنفعة، أو الاتجاه الصوفي الحدسي أو الديني، أو ما عدا ذلك من معايير مثل السلطة authority أو معيار الاتفاق الاجتماعي، أو اليقين الباطن، أو حتى المعيار المركب الذي يرى أن الدليل الوحيد الكافي على الحقيقة، ينبغي أن يكون مركبًا من كل هذه النظريات والمعايير المتعددة،١٨ كل هذه النظريات بمثابة نغمات نشاز، والسؤدد الأعظم إنما هو لنظرية التطابق، منذ أن قال بها أفلاطون في محاورة السفسطائي مرورًا بالعصور الوسطى شرقًا وغربًا، فالحقيقة عند الإسلاميين هي تطابق «تناظر» ما في الأذهان مع ما في الأعيان، وهي كذلك عند اللاهوتيين في الغرب حتى قال بها رسل،١٩ خصوصًا في الفصل الثاني عشر من كتابه «مشكلات الفلسفة» فهذا الفصل يدور حول الصدق والكذب Truth and Falsehood يشرح رسل فيه أن الصدق هو تناظر الاعتقاد — الذي يغضب بوبر — أو الحكم مع الواقعة، هي إذن الموقف الشائع، وليكن ألفرد تارسكي — كما يرى بوبر — هو الذي أخرجها في أفضل صورة، وخلصها من الدوران المنطقي، فهي على أية حال نظرية منطقية، والمنطق بحكم الطبيعة الصارمة لا يحتمل الكثير من القيل والقال.

(٣) أما عن نظرية بوبر في العوالم الثلاثة، فهي من أمتع إبداعاته، حتى لقد أخرج عنها العالم البيولوجي سير جون إكسلس John Eccles كتابًا قيِّمًا هو: «مواجهة الحقيقة، مغامرة فلسفية بذهن عالم» حيث بحثها بالتفصيل، وأثراها بتبيان العلاقة بينها وبين فسيولوجي الأعضاء، وبوبر لا يزال يُخْرِج أعمالًا عنها وعن تطبيقاتها في حل مشاكل فلسفية كثيرة، خصوصًا العقل والمادة.

هذه النظرية خصبة للغاية، فهي تساعد على توضيح لماذا استعصى على الحل ذلك النزاع القديم حول ما إذا كانت الأخلاقيات والجماليات وسائر المقاييس المعيارية ذاتية أم هي موضوعية، حلَّت المشكلة ببساطة، وأصبحت هذه الأشياء من مكونات العالم ٣، كما أنها تزودنا بتحليلات لمشكلة أهم، هي مشكلة التغير الاجتماعي؛ إذ سيصبح هذا التغير بسبب الخاصة الموضوعية لمخلوقات الإنسان في العالم ٣، وللعلاقات التبادلية بينه وبينها، والتي تنمي تلك العلاقات، وتجعل له ولها تاريخًا.٢٠

والأهم أن هذه النظرية — فوق كل هذا — خسارة مبينة للوضعيين والتجريبيين المتطرفين الذين يرون في المثل وسائر النظريات الميتافيزيقية تشبيهات مجازية وتحليقات خيالية تخلو من المعنى، ومحاولة من الفلاسفة لتغطية جهلهم وعجزهم عن تفسير الحقائق، بوبر يوفِّر أدنى عناء أو اختلاف في الرأي، حين يناظرها ويقارنها بالنظريات الميتافيزيقية العتيدة، كالمُثُل الأفلاطونية والروح الهيجلي، لقد درج الوضعيون على إدانة كل من ينشغل بالمباحث الميتافيزيقية بالجهل والرجعية والتأخر، فماذا عساهم أن يقولوا في بوبر — العالم وفيلسوف العلم: إنه شاهد من أهلهم.

(٤) أما عن الصياغة «م١  ح ح  أ أ  م٢» فهي ذات قيمة كبيرة لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار النتائج الجمة التي ترتبت عليها، لكن يبدو أن بوبر قد قفز بها قفزًا جزافيًّا، وأنه عمَّم إياها تعميمات شديدة تجافي الواقع، فهي محاولة لقولبة الأنشطة، كي ننظر إليها نظرة كلية عامة، أي نظرة فلسفية، ورغم أنها مبهمة، فمن الصعوبة بمكان الاقتناع بأن أسلوب الأميبا في الحصول على طعامها، هو نفس أسلوب وصول آينشتين إلى نظريته، لقد عاد بوبر ليقول: إن النقد وممارسة التصحيح الذاتي هو الذي يميز آينشتين عن الأميبا، التي لا تستطيعه فلا تستطيع حذف الخطأ، والخطأ يعني هلاك محاولتها وهلاكها، معنى ذلك أن نشاط الأميبا تختفي منه الخطوة «أ أ: استبعاد الخطأ» فلا بد أن يتبع ذلك منطقيًّا اختفاء الخطوة «م٢»، وهذا فعلًا ما يؤيده الواقع، فحياة الأميبا ليست فيها أية مشاكل جديدة أو مواقف جديدة، إنها تحيا الآن، تمامًا كما كانت تحيا منذ ملايين السنين، لكن باختفاء «أ أ» و«م٢» ماذا بقي إذن من الصياغة؟ وبالتالي، كيف يمكن أن تسير حياة الأميبا في حلقات؟ على هذا ينتفي انطباق الصياغة على الأميبا وسائر الصور الدنيا من الحياة.

وقد يقال: إن هذه الصياغة تنظيم لنظرية داروين، وإن بوبر يقصد بها حلقات الحياة التي أفضت إلى الأميبا، من هذه الوجهة: لا اعتراض، الاعتراض على قوله المحدد من أن منهج الأميبا في حل مشاكل حياتها، هو عينه نفس منهج الوصول إلى النسبية، وعلى قول بوبر: «آينشتين قد يخطئ، تمامًا كما أن الأميبا قد تخطئ.»٢١ لقد أخطأ بوبر وهو يضع آينشتين مع الأميبا في نفس الفئة، فئة ما صدقات نظريته، خطأ منطقيًّا وأدبيًّا.

(٥) أما بخصوص عقلانيته النقدية، فقد تجنَّى بوبر كثيرًا على العقلانية الكلاسيكية، غير صحيح أنها فلسفة تسلطية، وكون ديكارت يجعل العقل ووضوحه وتميزه معيارًا، كما يجعل التسلطيون الكتاب المقدس وفلسفة أرسطو معيارًا، فهذا لا يعني تطابقًا بينهما، السبب بسيط هو أن الكتاب المقدس — أو فلسفة أرسطو — محدود المعالم، بل محدود الصفحات والكلمات والعبارات والأفكار، يرسم أطرًا راسخة لمحتوى الفكر، يلتزم بها المفكر التزامًا، فيقصر جهوده على استنباط ما يلزم عنها وكشف العلاقات بينها، وما هكذا العقل ولا حتى الحس، فالمجال أمامه مفتوح وله حرية الحركة وحرية الخلق والإبداع، كل ما في الأمر أن العقل هو الفيصل، تمامًا كما أن النقد هو الفيصل في العقلانية البوبرية، فهل نجاري بوبر فنقول: إنه هو الآخر تسلطي وليس عقلانيًّا، وقد وضع سلطة النقد بدلًا من سلطة الكتاب المقدس وأرسطو؟ إننا لا نقول هذا؛ أولًا لأن النقد عملية دينامية متحركة متطورة، باكتشافها لمواطن الخطأ تدفع إلى الأمام في شكل الحلقات «م١  ح ح  أ أ  م٢»، وثانيًا — وهو الأهم: إننا لو فعلنا هذا لأصبحنا مكررين لنفس الخطأ الذي ارتكبه بوبر وننقده الآن.

زَعْم بوبر أن العقلانية تسلطية، يماثل الزعم بأن الوضعية المنطقية ما هي إلا مثالية ميتافيزيقية متطرفة، أمثال هذه الانتقادات الدائرية تضر الفلسفة أكثر مما تفيدها ألف مرة، فهي تجعلها كائنًا رخوًا أو عالمًا مفككًا كل شيء فيه جائز.

الخطأ الحقيقي للعقلانية الكلاسيكية — بشقَّيْها التجريبي والعقلي — هو اعتبارها الحقيقة بينة واليقين سهل المنال، ولكن حتى في هذا الخطأ لا نستطيع أن نلومها، لا بد أن نلتمس لهم العذر تقديرًا للظروف المعرفية للعصر الذي نشأ فيه الاتجاه بشقيه؛ فقد كان عصرًا يسلم بداهة بأن اليقين هو الهدف المنشود، وإلا فعمَّا نبحث؟ عن الشك أم الجهل، لقد رأينا — إبان الحديث عن مشكلة الاستقراء — أن الحتمية ظلت من بديهيات العلم التجريبي، منذ عرف طريقه إلى النور مع عصر النهضة، وقد بلغ الإيمان بها ذروته في القرن الماضي، الذي ننفصل عنه ببضع عشرات من السنين فحسب، حيث كان المبدأ المُسَلَّم به، حيث لا حتمية لا علم، والحتمية واليقين صنوان،٢٢ أما اعتبارهما من مخلفات عصور الجهالة، وأن حساب الاحتمال هو المنطق الملائم لطبيعة المعرفة العلمية، فإن هذا من أحدث ما توصل إليه العلم في قرننا العشرين، وهو من سمات الفلسفة المعرفية المعاصرة، فليس من العدل أن نحاسب مراحل فلسفية سابقة على هذا المطلب اليقيني.

إن العقلانية النقدية أصوب — بلا شك — من أية عقلانية، أو من أية نظرة إبستمولوجية أخرى؛ فأولًا: ليس هناك نقد جامع شامل يفند كل محاولة للبحث عن اليقين القاطع يمكن أن نعثر عليه في كتابات أي فيلسوف من الفلاسفة المعاصرين،٢٣ أكثر من المذهب الذي يجعل البحث عن الخطأ والنقد لحمة سداها العقلانية، وثانيًا هي عقلانية لا تحصر نفسها في حدود معطيات الحواس، ولا تطلق نفسها مع عنان العقل الخالص، ثم إن النقد يجمع خير ما في الطرفين، فضلًا عما له من طاقة غير منكورة لحذف الخطأ، والاقتراب من الحقيقة، أي لدفع عجلة التقدم، لكن هذا لا يعني أن العقلانية الكلاسيكية — خصوصًا عقلانية ديكارت — بكل هذا القبح الذي صوَّره بوبر.

ومن الملاحَظ أننا عرضنا الآن ثلاثة أطوار للعقلانية:

  • العقلانية التجريبية «بيكون».
  • العقلانية العقلية «ديكارت».
  • العقلانية النقدية «بوبر».

أفلا يبدو للوهلة الأولى، أن هذا ليس إلا تطبيقًا للروح الهيجلية في أطوارها الثلاثة، فقد بدأت بالعقلانية التجريبية، وهي أبسط الأنواع وأكثرها سطحية «الروح في ذاتها»، ومن المعروف أن البحث الفلسفي، قد درج على اعتبار الإبستمولوجية العقلية نقيض الإبستمولوجية التجريبية، فالعقلانية العقلية إذن هي الروح لذاتها أتت بعدهما العقلانية النقدية، لتجمع خير ما فيهما وتتجاوزهما بما هو الأفضل، إنها إذن الروح المطلق تكشف عن نفسها في الحركة الجدلية.٢٤

(٣) تعقيب على موقف بوبر من الاستقراء

(١) قبل أن نناقش موقف بوبر من الاستقراء، نناقش أولًا نقده لهيوم، والفحوى الأساسي لهذا النقد، أي القالب الذي صُبَّت فيه جزئياته، لا يخرج كثيرًا عن تصنيف معروف لمنطق هيوم، هو إدراجه تحت النزعة النفسية، التي تنكر استقلال المنطق عن الحياة والنفس، وتحاول رد كل شيء وكل الحقائق وكل العلوم إلى الحياة النفسية ومكوناتها، وهذا اتجاه قديم يعود إلى بروتاجوراس حين قال: إن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا، وسار فيه ميشيل دي مونتني M. DeMontaigne (١٥٣٢–١٥٩٢م)، داعية الشك المذهبي بغية توطيد الدين والعلم المنزل، ثم ديفيد هيوم، ولعله أشد أقطاب النزعة النفسية تطرفًا؛ إذ أخرج عمله الأول باسم «رسالة في الطبيعة البشرية» رغم أنها في المنطق والمعرفة «وهي تسمية واضحة الدلالة على أن العقل البشري لا ينفصل في رأيه عن الطبيعة البشرية، بل إن العقل على نحو ما معبر عن الطبيعة وثمرة لها.»٢٥ إذن الحكم بأن هيوم ضائع جملة وتفصيلًا في غمار هذه النزعة النفسية، ليس من كشف بوبر بل هو معروف منذ أكثر من مائتي عام، الجديد الذي أتى به بوبر هو الجزئيات التي أكد بها هذا الحكم، ثم الشواهد من العلم الحديث، التي تؤكد أن هيوم على خطأ، وأن أبحاثه غير ذات قيمة، حتى بالنسبة للنزعة النفسية.

(٢) أما عن حل بوبر للمشكلة، فهو اعتمد كثيرًا على براعته المنطقية، فاستخدامها في صب المشكلة على صورة نخرج منها بمنطق للعلم لا أثر فيه لاستقراء البتة، وربما كانت هذه الفكرة في ذهن بوبر قبل أن يحاول حل المشكلة، إنها افتراضه الحدسي ونزوعه الفلسفي المسبق الذي كان في ذهنه ففسر على ضوئه الملاحظات الفلسفية، إن جاز لنا أن نستخدم مصطلحاته، لقد زعم بوبر أنه سيعيد صياغة النظرية كي تصبح موضوعية، غير أن «الموضوعية» لم تكن هدفه الحقيقي من إعادة الصياغة، بل كان هدفه هو أن يطرح التساؤل حول ما إذا كان هناك استقراء فعلًا أم لا؛ وذلك كي يجيب بلا فيخلصنا من الاستقراء ومن مشكلته معًا، إنه حل ينطبق عليه المثل الدارج «حل العقدة بالمنشار» أي تخلص منها نهائيًّا، «وبأسلوب لا يسمح لها بأن تقوم.»٢٦

لذلك لا جدوى من مناقشة الحل في حد ذاته، بل ينبغي أن نناقش الفكرة الأساسية والتي لا يعدو هذا الحل سوى أن يكون ظلًّا لها، بل وفلسفة بوبر المنهجية بأسرها ظلًّا لها، أي فكرة خرافية الاستقراء.

هل يمكن أن نوافق بوبر على أن الواقع لا يحوي شيئًا اسمه الاستقراء البتة؟

(٣) قامت الدنيا وقعدت بسبب هذه الدعوة من بوبر، خصوصًا في الثلاثينيات والعشرينيات من هذا القرن، وأثارت ردود أفعال لا حصر لها، غالبيتها إما منبعثة من الإيمان الدوجماطيقي بالاستقراء الذي لا يطيق أدنى تشكيك فيه، مثل ردود استراوسون ورايشنباخ، وإما منبعثة من الثورة على شخص بوبر؛ لأنه أوتي من الجرأة حدًّا بحيث يشكك في فكرة بمثل هذا الرسوخ كردود جيوفري وأرنوك.

وأَقْيَم المناقشات في هذا الصدد هي مناقشة ب. بيرنايز، التي تتلخَّص في أن دعوى بوبر صادقة في حدود العلم البحت فقط،٢٧ إذ يجب التمييز بين فرعين: العلوم الوصفية والعلوم البحتة، العلوم الوصفية تسير بلا مشاكل، أي بغير التزام بتقديم عالم جديد من المفاهيم والمقولات، والعلوم التجريبية الوصفية تبدأ من الملاحظات، فهي جمع وترتيب للخبرات؛ ذلك لأننا نستطيع الإقرار بالوظيفة الإبستمولوجية الأساسية للمدركات في العلوم التجريبية الوصفية، بغير الوقوع في النزعة السيكولوجية Psychologism طالما لا نشير إلى المدركات بوصفها حقائق، بل نشير إلى استعمالاتها.٢٨

أي يرى بيرنايز أن الاستقراء بمعناه الحرفي، أي جمع الوقائع التجريبية وتعميمها، هو منهج العلوم الوصفية، دون العلوم البحتة، وأنه ليست هناك مشاكل منطقية مثل الوقوع في النزعة السيكولوجية، تجعل بوبر ينفي الاستقراء عن العلوم الوصفية تفاديًا لها.

وشبيه بهذا نقد ح. س. كيرك، وخلاصته أن بوبر تجاهل المرحلة التمهيدية الأساسية من إجراء الملاحظات (يمكن القول: إن المرحلة التمهيدية تناظر العلوم الوصفية) وهي — في نظر كيرك — تشييد بناء معقد من الخبرات، تخرج منه الحدوس والنظريات الكلية بطريقة استقرائية إلى حد ما، تجاهلها بوبر وركز فقط على المرحلة الثانية، التي يخرج منها ذلك الحدس البديهي الذي قوَّض بوبر به الاستقراء، «ولكن تجاهله للمرحلة التمهيدية الاستقرائية، والتي هي حيوية للتنظير العلمي، تجعله لم يطوق بالفعل مشكلة الاستقراء كما تصور.»٢٩

لكن لا بيرنايز ولا كيرك أصابا، ذلك أن بوبر لم ينكر الدور الأساسي الاستقرائي للملاحظات تفاديًا للنزعة السيكولوجية كما تصور بيرنانز، بل نكرها إقرارًا لحقيقة الأمر التي أثبتتها البحوث السيكولوجية، من أسبقية التوقع على الملاحظة الحسية؛ لذلك فهو لم يتجاهلها ويقفز مباشرة إلى الفرض كما تصور كيرك، بل فقط سبق الفرض عليها، يستحيل أن يتجاهل بوبر دور الخبرة؛ لأنه فيلسوف العلم التجريبي، وهو يعلق عليها الاختبار الذي يحدد مصير النظرية، فقط لا يجعل لها الدور الاستقرائي، مرة أخرى وأخيرة نقول لبيرنايز وكيرك ورايشنباخ وأمثالهم: إن العلوم الوصفية لم تنبعث من محض ركام هائل من وقائع، بل انبعثت من نزوعات عقلية، من افتراضات مسبقة، خلقها العقل خلقًا مثلًا تشريح الحشرة، سبقه افتراض التماثل بين سائر أفراد جنسها، بحيث إن تشريح واحدة، يصلح نموذجًا معبرًا عن تشريح جنسها.

ومن أين أتينا بهذا الافتراض، من نزوع العقل الإنساني نحو افتراض التماثل، خرجنا به إلى عالم التشريح، وأوضحت نتائج اختباره أنه ملائم، وما به من أخطاء صححناها، والنتيجة أن لدينا الآن فكرة علمية عن تشريح هذه الحشرة، ونحن عالمون أن المستقبل يحمل تطويرًا وتمكينًا أكثر لأدوات التشريح، ونحن في انتظار هذا المستقبل لنحصل على صورة أدق لتشريح هذه الحشرة، أي صورة أقرب إلى الصدق.

الاستقراء خرافة في العلوم البحتة، وهو أيضًا خرافة في العلوم الوصفية، وفي كل علم وكل مجال الفارق بينهما — الذي غاب عن بيرنايز وكيرك — هو أن العلوم الوصفية تلجأ إلى التجريب في النتائج المباشرة والسطحية للفروض العامة، أما في العلوم البحتة فنلجأ إلى التجريب في النتائج البعيدة المستنبطة استنباطًا منطقيًّا ورياضيًّا من الفروض الصورية، وفي كلا العلمين التعديل في الوصول إلى الفروض — وكل علم محض فروض — على العقل الخلاق، وتقوم التجارب بدور الاختبار، ولا وقائع مستقرأة البتة.

وليس من المجدي الاستمرار أكثر في مثل هذه المناقشات.٣٠ ومن يدرس أعمال بوبر بإتقان ونزاهة، لا بد حتمًا أن ينتهي في النهاية إلى التحرج من التفوه بلفظ الاستقراء، هل كانت البشرية في حاجة إلى انتظار بوبر كي تتيقن من خرافية الاستقراء؟ إن هذا لأمر غريب حقًّا، كيف قفز إلى الأذهان تصور كل هذه القوى الخلاقة لمحض وقائع الحس للحيوان حواس أقوى — أحيانًا أكثر من مائة مرة — من حواس الإنسان، فلماذا لم يستقرئ الوقائع بدقة، ويبني علومًا ولو حتى وصفية فقط؟ الجواب بديهي: لأنه يفتقر إلى العقل المبدع الخلاق الذي يطرح الفروض التي تمكنه من الدخول المنهجي المنظم لعالم الوقائع الحسية، دخولًا يخرج منه بنتيجة قد تكون تصحيحًا لافتراضه المسبق، وقد تكون الإبقاء المؤقت عليه، وينطلق من هذه النتيجة إلى جولة جديدة …

للحيوان لغة تواصل: وبالقطع أقصى استخدام لها هو الإشارة إلى وقائع الاستقراء، فلماذا لم يخرج من هذه الوقائع بقانون علمي واحد، هذا بينما نجد نموذجًا صارخًا، هو العالم الطبيعي فرانسس هوبر Francios Huber٣١ فقد ترك تجارب وأبحاث علمية جديرة بالإعجاب حقًّا، على الرغم من كفاف بصره؛ إذ كان يتصور هذه التجارب ثم يعهد بتنفيذها إلى خادمه، الذي كان خالي الذهن من أية فكرة علمية.

فكان هوبر إذن الذهن المدبر الذي ينشئ التجارب ويديرها، لكنه كان مضطرًّا لاستعارة حواس شخص غيره، وكان الخادم يقوم بعمل الحواس المنفعلة التي تطيع العقل لتحقيق التجربة المنشأة تبعًا لفكرة سابقة،٣٢ أوَليس في هذا الدليل الساطع على استحالة أن يكون استقراء وقائع الحس هو المنطلق الذي انبثق منه هذا البناء العلمي الشامخ.

كلا، ليس للاستقراء أي دور في حياة الإنسان؛ لأن الإنسان لم يكن أبدًا في أي طور من أطواره — حتى أشدها بدائية — محض آلة تستقرئ وقائع الحس فتعممها.

(٤) يقول فرانك رامزي:٣٣ «حقًّا أن أحدًا إذا لم يكتسب العادة الاستقرائية، فلن نستطيع أن نثبت له أنه على خطأ، غير أننا لا نجد شيئًا معينًا في هذا؛ لأن أحدًا إذا تشكك في ذاكرته أو في إدراكه الحسي، فإننا لا نستطيع أن نثبت له أنهما جديران بالتصديق، البحث عن إثبات شيء كهذا، هو الصراخ توسلًا للقمر، والمثل تمامًا صحيح بالنسبة للاستقراء.»٣٤ لقد قال رامزي تمامًا عكس ما ينبغي أن يقال، وهو أن أحدًا إذا اكتسب العادة الاستقرائية — جدلًا — فإننا بالقطع مستطيعون أن نثبت له أنه على خطأ، وأن هذه العادة لا تعطيه أكثر من قصور أسس العلم العقلانية، وقد حصر رسل أوجه القصور هذه في ثلاثة عناصر رئيسية:

  • (١)

الشك في صحة الاستقراء.

  • (٢)

صعوبة استنتاج ما لا يقع في تجربتنا، قياسًا على ما قد وقع فيها «مشكلة الاستقراء».

  • (٣)

حتى بفرض إمكانية هذا الاستنتاج، فإنه بالضرورة ذو طابع مجرد، يعطي قدرًا من المعلومات، أقل مما يبدو أنه معطيه لو استُخْدِمَت اللغة العادية.٣٥

 

[راسل وبوبر]:

وبمناقشة هذه العناصر انتهى رسل إلى أنها لم تُحَل، وغير قابلة للحل تقريبًا، وقد سَدَّ رسل الطريق على أية محاولة للحل بأن قال: «لقد استشاط الفلاسفة غضبًا، وابتكروا نقضًا لآراء هيوم وقد قبل هذا النقد بسبب غموضه البالغ، والحق أن الفلاسفة قد حرصوا زمنًا طويلًا على أن يكونوا غير مفهومين، ولو لم يفعلوا لاستطاع كل امرئ أن يتبين خطأهم على الرد على هيوم، وأنه من السهل أن نبتكر ميتافيزيقا نخلص منها إلى سلامة الاستقراء، وقد فعل ذلك كثيرون لكنهم لم يقدموا أي مبرر للإيمان بميتافيزيقاهم إلا كونها ميتافيزيقا ممتعة.»٣٦ غير أن بوبر لم يبرر الموقف بميتافيزيقا ممتعة، كما فعل وايتهد مثلًا، بل بحذف الوجهين الأول والثاني من أوجه قصور الأسس العقلانية للعلم، أما الوجه الثالث فسيعالجه باب التكذيب، وبعد كل هذا يصرون على مجادلة بوبر، والتشبث بخرافة الاستقراء.

(٥) والحق أن الاستقراء من أعجب الخرافات قاطبة التي هيمنت على عقول البشر، البشر وهي الأعجب لأنها حلت بأكثر الميادين عقلانية؛ فلسفة العلم! ولا بد أن نطرح التساؤل الآتي: كيف ولماذا هيمنت أتفه الخرافات؛ الاستقراء، على أعظم الميادين؛ فلسفة العلم؟

من أبرز الدراسات التي أُجْرِيَت لتبرير الاستقراء؛ دراسة جول لاشيليه٣٧ (١٨٣٢–١٩١٨م) وهي رسالة للدكتوراه بعنوان «في أساس الاستقراء» سنة ١٨٧١م انتهى منها إلى أن إمكان الاستقراء يقوم على أساس مبدأ مزدوج، هو مبدأ العلل الفاعلة ومبدأ العلل الغائية، والأول يقول: إن الظواهر تكون سلاسل، فيها وجود السابق يعين وجود اللاحق، والثاني يقول: إن هذه السلاسل تكون بدورها نظمًا Systems فيها فكرة الكل تعين أو تحدد وجود الأجزاء، ومبدأ العلل الفاعلة متصل بالحتمية الفيزيقية، ومبدأ الغائية متصل بالفسيولوجيا،٣٨ ولكن لما كنا قد تيقنا — في العلم الحديث — من أن فكرة الغائية وفكرة الحتمية خرافتان، وجب أن نتيقن أكثر من أن الاستقراء خرافة.

ورغم أننا استخلصنا من رأي جول لاشيليه تعضيدًا لبوبر، فإن هذا الرأي ليس سليمًا تمامًا؛ فالباحثون لم يتمسكوا بخرافة الاستقراء على أساس العِلية والغائية، بل على أساس تاريخي محض، مؤاده أنهم أرادوا العزوف عن التجريد والتفكير النظري العقيم الذي ساد حتى القرن السادس عشر، وأرادوا الانقلاب على أسلوب التفكير الذي يبدأ من التسليم بمقدمة كلية، ثم استخدام العقل الخالص في الأقيسة الأرسطية التي تستنبط منها ما يلزم عنها، وكأن الوجود لا يحوي إلا محتويات الكتب والصحائف، وليس في طبيعة متأججة حية، وكيف يكون الانقلاب؟ يكون بالسير في الطريق العكسي تمامًا، حتى قيل: إن «البدء بالملاحظة كان الأساس العام للثورة على المنطق القديم.»٣٩ إنه رد الفعل المساوي في المقدار والمعاكس في الاتجاه، والذي جعل تطرُّف العصر الوسيط في المنهج العقلي الخالص — أي الاستنباط — يتمخض عنه تطرف العصر الحديث في المنهج التجريبي الخالص — أي الاستقراء — الملاحظة ثم التعميم، فأصبح استقراء وقائع التجريب هو نقطة البدء والطريق إلى كل كسب معرفي جديد.٤٠

ولما كان التجريب هو سر تقدم العلم ولا جدال … أعمت الرغبة في الثورة على منطق أرسطو بصيرة الباحثين، فراحوا يؤكدون أن الملاحظة هي نقطة البدء في البحث، وأساس مساره حتى نصل إلى نتيجة، غير مبالين بما أوضحه هيوم، وحينما نشأت فلسفة العلم الطبيعي تسلمت أسسها من تراث الفكر الإبستمولوجي التجريبي، ولما كان تراثًا مثقلًا بهذا، شاع فيها الخطأ الكبير، خطأ اعتبار الاستقراء مرادفًا للمنهج التجريبي، ومقابلًا تمامًا للاستنباط، منهج العلوم الصورية، حقًّا أن فلسفة العلم الطبيعي، بتطورها الحالي تسلم بأن الاستقراء ليس هو المنهج المتبع في العوم البحتة، وأن منهجها هو المنهج الفرضي الاستنباطي، غير أن هذه النظرة لم تصف بعد، وما زالت الأشباح الاستقرائية تحل بمنطقة أو بأخرى من فلسفة العلم مثل العلوم الوصفية أو التمهيدية أو المراحل التاريخية السابقة للعلوم البحتة، أو بخطوة أو بأخرى من خطوات المنهج الفرضي الاستنباطي.

ولكي نستأصل شأفة الاستقراء تمامًا، لا بد من الانتباه إلى أن ما نعنيه به هو: منهج البدء بالملاحظة، والمصطلح — شأن معظم المصطلحات الفلسفية — ليس قاطعًا جامعًا مانعًا، بل وإن «البحث عن معنى لمصطلح «الاستقراء» كان ملهاة فلسفية لأكثر من مائة عام، وكان صمويل نايل Sammuel Niel يرى أن الاستقراء محصورٌ في عملية اختبار الحدس الافتراضي العلمي المسبق، وهذا نفس ما عناه بيرس حين قال: إنه يسمي عملية اختبار الفروض بواسطة التجارب؛ بالاستقراء.»٤١،٤٢ وبالطبع فإن هذا هو نفس ما يعنيه بوبر تمامًا باللااستقراء، وبأن الاستقراء خرافة، إن ما يجب أن نرفضه الآن هو اعتبار قوانين العلم أو قوانين البناء المعرفي في أية مرحلة من مراحله، محض تعميمات للخبرة، وهذا الرفض أصبح الآن محصلة منطقية ضرورية، بناءً على الآتي:

  • (أ)

أثبت بوبر الاستحالة التامة للبدء بالملاحظة ثم تعميمها، بل أكد العكس تمامًا، أن الفرض سابق على الملاحظة التجريبية؛ ومن ثم ليس مستقرأً منها إطلاقًا.

  • (ب)

ثم أكد أن الباحث يبحث في الوقائع التجريبية عن النفي لا الإثبات؛ ونظرًا للاتماثل المنطقي بين النفي والإثبات، نجد المنزلة المنطقية لهذا تُناقض تمامًا المنزلة المنطقية للاستقراء.

(٦) تقريبًا لا يوجد أحد من المفكرين النابهين، إلا وأحس بقصور خرافة الاستقراء، وقد أعطانا بوبر أمثلة كثيرة في نهاية فصل الاستقراء خرافة، ويمكن أن نطرح أمثلة أكثر، ويكفي أن العالم التجريبي الحاصل على جائزة نوبل؛ سير بيتر ميدوار، قد أكد أن «الاستقراء الذي انشغل به هيوم، لا بد أن يكون محض خرافة.»٤٣ ويؤكد الفنان الشاعر والعالم الرياضي والباحث الفلسفي النابه ج. برونوفسكي J. Bronoviskt (١٩٠٨م–؟) هذا؛ إذ يقول: «ما زال يسود نظرياتهم — أي نظريات فلاسفة العلم — الاعتقاد بأن العلم جمع تراكمي للوقائع، وأن التعميم ينمو بذاته من تكديس أمثلة منفردة في مجال واحد ضيق، وهم يظنون أن العالم يقتنع بأن الضوء يصل إلى العين في كميات متلاحقة؛ لأن هذا العالِم يُجري تجربة ويكررها لكي يتأكد، ولكن هذا للأسف الشديد ليس على الإطلاق ما يفعله العالم، إنه بالفعل قد يكرِّر التجربة مرتين أو ثلاثًا، إذا كانت نتيجتها تصدمه بغرابتها، ومخالفتها لما هو متوقع.»٤٤ أي هناك توقع سالف، ننتظر على أساسه نتيجة التجربة، ويؤكد برونوفسكي الموقف أكثر بأن ينفي عن التكرار أية شبهة استقرائية.٤٥

ويؤكد د. عبد الرحمن بدوي في «مدخل جديد للفلسفة» أن عصب المنهج التجريبي هو الفكرة،٤٦ وأن الفكرة تكون بالنسبة للمجرب نوعًا من الاستباق Anticipation، وأنه إذا ما نبتت الفكرة يمكن فقط أن نقرِّر كيف ينبغي إخضاعها لتعليمات محددة وقواعد منطقية دقيقة، ليس في وسع أي مجرب أن ينحرف عنها، لكن ظهورها كان تلقائيًّا تمامًا، وطبيعتها فردية٤٧ لا استقرائية، ثم عاد دكتور عبد الرحمن بدوي في «مناهج البحث العلمي» ليؤكد ذلك قائلًا: «إن الباحث يجب أن يكون لديه فكرة سابقة يحاول بها أن يحدد المضمون الذي يستخلص من الوقائع المشاهدة، أما أن يكون خاليًا من كل فكرة سابقة، فهذا ما لا يمكن أن يؤديَ به إطلاقًا إلى وضع أي فرض.»٤٨

ويقول ول ديورانت — ذو العقلية الموسوعية الجبارة: «هل طريقة بيكون الاستقرائية صحيحة؟ وهل هي أكثر الوسائل التي استخدمها العلم فائدة؟ والجواب: كلا، لم يستخدم العلم جميع المعلومات بطريقة بيكون المعقدة، ولكن العلم استخدم وحصل على أفضل النتائج من الطريقة الأسهل، وهي الافتراض والاستدلال والتجربة.»٤٩

ولنأخذ مثالًا أشد سطوعًا، واحدًا من أئمة الدراسات المنهجية في العصر الذهبي للاستقراء، ألا وهو كلود برنار؛ فقد أكد أن الفكرة سابقة على إجراء التجارب، فهي تتولد من الحدس أو العاطفة أو العقل، ثم تأتي لتتقدم بالخطوة التجريبية الأولى؛ إذ نصمم التجربة على أساسها لنختبرها.٥٠

وأخيرًا، فإن أقْيَم الدراسات العربية التي خرجت على أساس من إدراك قصور الاستقراء، واستحالة أن يكون منهجًا للعلم، دراسة الدكتور ياسين خليل «منطق المعرفة العلمية» فقد رأى دكتور ياسين أن فكرة الاستقراء غير مُرْضِيَة إطلاقًا خصوصًا بالنسبة للعلوم الدقيقة، وأن الشروط التي يجب توافرها في الفرضية الميثودولوجية المناسبة لا تتوافر في فكرة الاستقراء.٥١

وهو يناقش أولًا: ما المقصود بالاستقراء، أو بأن العبارة مشتقة من التجربة بواسطة الاستقراء؟ ويرى أنه لو كان المقصود هو أن الأفكار والمبادئ العلمية مجردات توصلنا إليها بالتجريد والتعميم، وأن الاستقراء طريقة نهتدي بها للوصول إلى الأفكار والمبادئ، فإن الدكتور ياسين يعترض على ذلك بأنه سيؤدي إلى الاعتقاد بوجود طريقة ثابتة تتألف من خطوات تبدأ بمشاهدة الوقائع لتصل بعد اجتياز مراحل معينة إلى الأفكار والمبادئ العامة كما أوضح الجزء الخاص بخطوات الاستقراء، وإذا عبرنا عن العملية بأجمعها بمنحنى بياني، فإن هذا المنحنى سيكون التعبير التام عن الفكرة، ولا يوجد أي منحنى آخر غيره، ولكننا في العلم قد نصل إلى أفكار مختلفة، على الرغم من صلتها جميعًا بالواقع، وقد تختلف النظريات العلمية في الأفكار والمبادئ والفرضيات، ولكنها تتفق في النتائج، وفي تعليل الظواهر، وهذا يدل على قصور الاستقراء، ومن ناحية أخرى على إمكانية استحداث أفكار ومبادئ كثيرة دون الالتزام بمنهج واحد أو بمنحنى واحد،٥٢ هذا نفس ما يعنيه بوبر باستحالة تحديد خطوات صارمة لمنهج محدد.

وقد أوضح الدكتور ياسين خليل أن الاستقراء يرجع في أساسه إلى التجريبيين المتطرفين الذين بدأوا في الوقت الذي انتهى فيه العالم من صياغة نظريته، ليدَّعوا سلفًا أن الطريقة التي اتبعها هي مبدأ ارتضوه مسبقًا أي الاستقراء، في حين أن الأمر ليس كذلك.

ولإثبات أن الأمر ليس كذلك، أكد الدكتور ياسين أولًا أن المفاهيم العلمية لا تتقيد في تشكيلها بالاستقراء، وأنها من خلق العقل، في سبيل فهم أوسع لوقائع العالم الخارجي، وأن المفاهيم والمبادئ العلمية ذات طبيعة استدلالية وليست استقرائية، وأكد ثانيًا أن العالم قد يستند إلى عدد قليل جدًّا من المشاهدات أو تجربة واحدة، يكون بها عددٌ كبير من الأفكار والفرضيات التي قد تكون مختلفة، ولا يمكن تصور العالِم وقد انهمك باستقراء الحالات الجزئية لينتقل بخطوات منطقية نحو بناء نظرية عامة؛ لأن هذا العمل لا يحقق غاية العلم مطلقًا وهي الاقتصار على أقل عدد ممكن من المبادئ لتفسير العالم، ولكل هذا كان الاستقراء غير ممكن من الوجهتين العملية والمنطقية.٥٣

وبعدُ يؤكد د. ياسين على قوة الرياضة، وقدرة المناهج الاستنباطية على التعامل الأمثل مع النظرية العلمية — كما أكد بوبر على أن منهج العلم استنباطي — وأن تقدم العلوم إنما يعتمد على هذا، وليس على تجميع وقائع مستقرأة.

تكفي هذه الأمثلة، فلن ننتهي من عملية المسح التأريخي للمفكرين الذين أحسوا بخرافية الاستقراء، أو على الأقل قصوره، من الناحية الأخرى، نجد رأي بوبر ليس في حاجة إلى تعضيد، كل ما في الأمر أن بوبر ليس أول من نوَّه إلى خرافية الاستقراء، لكن هو أول من أيقنوا هذا، فخصَّصوا لإثباته مساحة كبيرة من أبحاثهم، هو أول من قاله بحسم قاطع ووضوح ناصع؛ لأنه أول من استطاع التحرُّر بالمعنى المطلق التام من هذا الوثن الكاذب، ونرجو أن يكون الأخير، كي يُغْلَق تمامًا ملف خرافة الاستقراء كاسم وكمسمى.

(٤) تعقيب على نظرية بوبر المنهجية

(١) رأينا ول ديورانت يرفض الاستقراء، ويقول بمنهج مشابه لمنهج بوبر، وقد أعطى مثالًا مصداقًا لما يقوله بوبر، وهو دارون؛ فقد استنبط من نظرية مالتوس عن السكان، تطبيقها على جميع الأجسام الحية، مما سيؤدي إلى صراع على وسائل الطعام والغذاء من أجل التعايش، يكون البقاء فيه للأصلح، وبعد ذلك اتجه إلى الطبيعة وأجرى بحوثه التي استمرَّت عشرين عامًا، ويعطي ديورانت مثالًا آخر: آينشتين، فقد أخذ عن نيوتن الافتراض بأن الضوء يسير في خطوط منحنية وليست مستقيمة، واستدلَّ بذلك على النتيجة أن النجم الذي يبدو على أساس نظرية الخطوط المستقيمة بأنه في مكان بعيد في السماء، يكون في الحقيقة بعيدًا قليلًا إلى جانب ذلك المكان، ثم أجرى التجربة والملاحظة ليفحص النتيجة.٥٤

ثم يوضح ديورانت أن بيكون نفسه قد توقَّع الاستغناء عن طريقته، وأن مزاولة العلم بطريقة «علمية» ستؤدي إلى اكتشاف وسائل أفضل في البحث من طريقته التي توصل إليها خلال فترات راحته وابتعاده قليلًا عن مشاغل السياسة.٥٥

ولنأخذ مثالًا أوقع من ديورانت، مثالًا من المعسكر المخالف تمامًا لبوبر، أي الوضعية المنطقية؛ فقد أكد الوضعي المنطقي كارل همبل أن الفرض يسبق الرجوع إلى الوقائع، وأن هناك إجابة تجريبية عن المشكلة يضمرها الباحث في صورة تخمين أو فرض، وهي التي تحدِّد أنواع المعطيات التجريبية التي ينبغي جمعها، وهذه المعطيات قد تؤيد الإجابة التمهيدية — أي الفرض — وقد تفنده،٥٦ بل وقد بلغت بوبرية همبل إلى أن انتهى قائلًا: ليست هناك إذن قواعد استقرائية عامة يمكن تطبيقها، تلك القواعد التي يمكن بواسطتها أن نستنتج الفروض والنظريات من المعطيات التجريبية يحتاج الانتقال من المعطى إلى النظرية إلى خيال مبدع؛ فالفروض والنظريات العلمية لا تستنتج من المعطيات الملاحظة، ولكن تخترع الفروض لتفسيرها.٥٧

ليس هذا فحسب، بل وينصح همبل العالِم الشابَّ بنفس ما نصحه به بوبر، أي بضرورة الإلمام بموقف المشكلة ومعرفة كل ما قيل، أو تصادم سبق؛ مخافة أن يُضيع جهدًا في نظرية وُضِعَت من قبل، أو تصادم نظريات مأخوذًا بها في الموقف العلمي، وبعد أن يعيب همبل ما في الاستقراء من آلية، لا يبدو معها أي مبرر لأن تبقى مشكلة علمية واحدة بغير حل، ما دام استقراء وقائعها ممكنًا، ويؤكد على أهمية عنصر الخيال، يطرح احتمال أن يؤثر عنصر الخيال على موضوعية العلم، ويوضح أن الاختبار النقدي هو الذي يضمن الموضوعية،٥٨ فيذهب إلى نفس ما ذهب إليه بوبر من أن منهج العلم هو أسلوب الاختبار، أي هو المنهج الاستنباطي، والذي يزيده همبل هو توضيح أن هذه الصورة المنهجية إنما تسري أيضًا على العلم الرياضي،٥٩ فهو أيضًا تحتاج في حل مشاكله إلى خيال خلاق كي يطرح الفرض، ثم يختبره، وبعد، فقد أكد همبل صراحة على تأثره الشديد بنظرية بوبر المنهجية، وبكتابه «منطق الكشف العلمي».

(٢) ليس من الضروري أن نلجأ إلى النظريات المنهجية، التي تُطابق نظرية بوبر كي تعضده؛ إذ إن المُسَلَّم به اليوم هو استحالة أن يكون الاستقراء هو المنهج للعلوم الطبيعية البحتة الآن، ومن المُسَلَّم به أيضًا أن المنهج هو المنهج الفرضي الاستنباطي،٦٠ وهو منهج تماثل صورته العامة الصورة العامة لمنهج بوبر.

والمنهج الفرضي الاستنباطي Hypothetico Deductive Method.

يبدأ بفرضٍ صوريٍّ عام، يستحيل أن يشتق من الخبرة أو أن يخضع هو نفسه لتحقيق المباشر، فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط، كي يستنبط منطقيًّا ورياضيًّا النتائج الجزئية التي تلزم عنه، وهنا يلجأ الباحث إلى التجريب، فيقابل بين هذه النتائج وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها ثم التسليم المؤقت بالفرض، وإن لم تتفق تم تعديله أو الاستغناء عنه والالتجاء إلى غيره، مع ملاحظة أن مصدر هذا الفرض الصوري لا يعنينا، قد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية أو من الوقائع التجريبية، أو من عبقريته الخلاقة التي هي أساسية بالنسبة لأي مصدر، تحديد المصدر المعين مستحيل.

والجدير بالذكر أن الباحثين يؤكدون أن هذا هو منهج العلوم البحتة في كل مراحلها، فيبذلون جهودًا شبيهة بجهود بوبر ليثبتوا أن هذا هو المنهج الذي اتبعه نيوتن وليس الاستقراء كما تصور.٦١

وأهم ما يميز هذا المنهج أن عموده الفقري هو استخدام اللغة الرياضية ومعادلاتها، بل وإن الاستدلال الرياضي أهم فيه من وقائع التجريب الملاحظة؛ إذ إن الفرض فيه لا يحكم وقائع، بل قوانين وعلاقاتها ببعضها.

ونظرًا لأن النظرية المنهجية التقليدية، كانت تقوم على التقابل بين الاستقراء والاستنباط تقابل العلوم الطبيعية مع العلوم الصورية، كان علينا الآن أن نودع هذه النظرية التقليدية وإلى غير رجعة.

١  من المعروف أن العالم كيكوليه Kekule كان جالسًا ذات أمسية بجوار المدفأة يفكر في شكل تصويري لجزيء البنزين، ثم غَالَبَه النعاس فرأى في حلمه ألسنة اللهب في المدفأة تتراقص وتتلوى كالأفعى، حتى شكلت حلقات سداسية، فهب من نومه فرحًا، إذ كان قد توصل إلى كشفه العلمي الشهير، وهو تصوير جزيء البنزين بالحلقة المسدسة.

٢  كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، ص١٦٤.

٣  K. P. C. and R. p. 140.

٤  G. S. Kirk, Popper on Science and persocratic, p. 323.

٥  K. P., C. and R. p. 34.

٦  انظر: محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، مرجع مذكور.

٧  جان فوراستيه، معايير الفكر العلمي، ترجمة فايز كم نقش، مكتبة الفكر الجامعي، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، سنة ١٩٦٩م، ص٨، ٩.

٨  هذا الكتاب بصفة عامة لا ينم عن علم غزير لجان فوراستيه، ولا عن ثقافة واسعة، وهو ينم أساسًا عن انبهار بالعلم.

٩  Peter Meadawar, Hypothesis and Imagination, in the Philosophy of Karl Popper, P. A. Schilpp (ed.), volume one, p. 275.

١٠  جيمس كونانت، مواقف حاسمة في تاريخ العلم، ترجمة أحمد زكي، دار المعارف بمصر، القاهرة، الطبعة الثانية، أكتوبر، سنة ١٩٦٣م، ص٧٧.

١١  المرجع السابق، ص٨٤-٨٥.

١٢  المرجع السابق، ص٨٥.

١٣  لقد أغفلنا الفصل الأول «المنهج الاستقرائي»؛ لأن بوبر قد أشبعه تعقيبًا طوال الباب، خصوصًا في الفصل الرابع «الاستقراء خرافة»، ولم يدع مجالًا كي نقول المزيد، ثم إنه أصلًا لا يستحق تعقيبًا أكثر من كلمة واحدة: هو خرافة.

١٤  K. P., O. K., p. 32.

١٥  K. P., C. and R. p. 26.

١٦  Bryan Magee, Karl Popper, pp. 61-62.

١٧  بدوي عبد الفتاح، وايتهد وفلسفته للعلوم الطبيعية، ص٦٩.

١٨  هنتر ميد الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص١٧٠.

١٩  See: Bertrand Russell Problems of Philosophy, pp. 69–75.

٢٠  Bryan Magee, p. 57.

٢١  K. P., O. K., p. 265.

٢٢  الحتمية هي الوجه الأنطولوجي، واليقين هو الوجه الإبستمولوجي لنفس العملة الزائفة، انظر في تفصيل هذا كتابنا المذكور «العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية» الهيئة العامة للكتاب، سنة ١٩٨٧م.

٢٣  The Encyclopedia of Philosophy, Volume, 6. p. 399.

٢٤  من الواضح أن بوبر لن يرضى كثيرًا عن هذه الملاحظة، نظرًا لعدائه الفلسفي الشديد لهيجل.

٢٥  بول موي، المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، بغير سنة للنشر، ص٨–١٠.

٢٦  G. J. Warmock, review of (Logic of Scientific Discovery), Mind; New Series, 69, 1960, 2, p. 101.

٢٧  لا يختلف اثنان الآن على أن الاستقراء ليس هو المنهج المتبع في العلوم البحتة، الاختلاف على بوبر ينصب أساسًا على العلوم الوصفية.

٢٨  P. Berneys Reflections in Popper’s Epistemology, in The Critical Approach to Science and Philosophy, ed. By Mario Bunge.

٢٩  G. S. Kirk, Popper on Science and Presocratic, Mind, op. cit., p. 321–324.

٣٠  أنوِّه بهذا إلى المناقشة الآتية: Arnold Levison, Popper, H me and The Traditional Problem of Induction, in The Philosophy of Karl Popper, ed. By P. A. schilpp vol. I, pp. 322–331.
وهي عبارة عن تفصيلات وتعقيدات وإسهابات كثيرة تهدف إلى تبيان أن بوبر لم يحل مشكلة الاستقراء كما تصور، غير أن المقال لم يثبت هذا، ولم يبين إلا السفسطة والدورانات المنطقية وسوء فهم بوبر.

٣١  عالم طبيعي فرنسي عاش في القرن التاسع عشر.

٣٢  كلود برنار، مدخل دراسة الطب التجريبي، ترجمة د. يوسف مراد وحمد الله سلطان، ص٢٣.

٣٣  رامزي (١٩٠٣–١٩٣٠م) عبقرية منطقية ورياضية فذة، ولكنه للأسف الشديد رحل في ريعان شبابه المبكر، قبل أن يحقق شيئًا من الكثير الذي كان يمكن أن يحققه لا سيما في فلسفة الرياضة البحتة وأسسها المنطقية.

٣٤  النص مأخوذ من: Jerold Katz, The Problem of Induction and its Solutions, pp: 16-17.

٣٥  برتراند رسل، النظرة العلمية، ترجمة د. عثمان نوية، مراجعة د. إبراهيم حلمي عبد الرحمن، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، سنة ١٩٥٦م، ص٦٣–٧١.

٣٦  المرجع السابق.

٣٧  جول لاشيليه ينتمي لحركة سادت الفلسفة الفرنسية إبان النصف الثاني من القرن الماضي تُعرف باسم حركة نقد العلم، انظر في تفصيل هذه الحركة الفصل الرابع من كتابنا «الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية».

٣٨  د. عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات، الكويت، سنة ١٩٧٥م، ص١٠٢–١٠٤.

٣٩  زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، ص٤٤.

٤٠  من ناحية أخرى نلاحظ المواجهة بين رجال الدين والعلماء التي صحبت نشأة العلم، فقد كانت السلطة المعرفية في هذه المرحلة المبكرة من العصر الحديث لرجال الدين، ليس لأنهم مبدعون أو يفترضون الفروض، ولكن فقط لأنهم أقدر الناس طرًّا على قراءة كتاب الله المقدس؛ لذا بدا من العيب الجلي الخاسر أن ينازعهم العلماء بإبداع إنساني، وفروض من خلق العقل الفاني المحدود، ولكي يكون العلماء على مستوى المواجهة مع رجال الدين راحوا يؤكدون أنهم أيضًا لا يبدعون ولا يفترضون، ولكنهم فقط أقدر الناس طُرًّا على قراءة كتاب آخر لا يقل دلالة على عظمة الله، ألا وهو كتاب الطبيعة المجيد، على هذا نفهم الأقوال التي شاعت في الأوساط العلمية آنذاك من قبيل الاقتصار على قراءة كتاب الطبيعة، والتحذير من مغبة الفروض؛ ولذلك أيضًا اقترنت نشأة العلم الحديث ونجاحه وتقدمه بتأكيد الخرافة الاستقرائية، وأن منهج العلم محض ملاحظات خالصة ثم تعميمها.

٤١  Peter Meadwar, Hypothecis and Imagination, in The Philosophy of Karl Popper, Vol. I, p. 276.

٤٢  يمكن ملاحظة تشابه كبير، بل تماثل بين نظرية بوبر المعرفية والمنهجية، وبين نظرية تشارلز بيرس Ch. Pierce (١٨٣٨–١٩١٤م)، بحيث يمكن القول: إن بيرس رائد مهد لبوبر، وإن لم يكن بوبر قد صرح بهذا، لكن بيرس سبق بوبر بأن رأى العالِم لا يبدأ عمله من الصفر، وأن الذهن ليس صفحة بيضاء، ولا هو مزوَّد بمبادئ فطرية عقلية كما يرى المثاليون، بل مزود بحصيلة الخبرة السابقة والعلم القائم بل وتجارب الحياة اليومية الكلية، وما يمكن أن نسميَه معتقدات غريزية طالما أنها نتيجة لتكيفات بيولوجية واجتماعية مصاغة بطريقة غير تأملية خلال مسار الحياة، وأمثلة بيرس على ذلك كثيرة، منها الاعتقاد بأن ثمة عنصرًا أو نظامًا أو ترتيبًا للطبيعة، والاعتقاد بأن عالم الأشياء والحوادث يوجد بشكل مستقل عن تجربة أي فرد أو مجموعة من الأفراد (= الواقعية الحديثة)، وهذه المعتدات هي أساس نظريته المعروفة باسم نظرية الحس المشترك النقدية Critical Commonsensism، وتشكل هذه المعتقدات الخلفية المعرفية للباحث، التي تمارس تأثيرها كجزء لا يتجزأ من السياق الذي تحدث فيه التجربة الجديدة، وتمامًا كما فعل بوبر، أكد بيرس على دور الخيال كوسيلة وحيدة لوضع الفرض، وأكد أن كل تطورات العلم إنما تعود إلى خيال العلماء الواسع، وليس إلى تجميع وقائع الطبيعة، ويرى بعض الباحثين أن بيرس أول من أضاف عنصر الخيال إلى الدراسات المنطقية، وبعد أن يتوصل الخيال إلى الفرض — والفرض هو أول خطوات البحث العلمي — يشرع العالم في اختبار هذا الفرض، باستنباط ما يلزم عنه ومقابلة هذه الاستنباطات بالوقائع الملاحظة، هذا بالإضافة إلى أن بيرس يرى أن تطور العلوم — ومنها علم مناهج للبحث — إنما يتم بواسطة التصحيح الذاتي Self-Correcting، تمامًا كما رأى بوبر.
انظر في هذا: حامد كامل خليل، الأسس المنطقية لفلسفة تشارلز ساندرز بيرس، رسالة دكتوراه غير منشورة، بإشراف د. يحيى هويدي، كلية الآداب، جامعة القاهرة، سنة ١٩٧٧م، وفضلًا عن كل هذا يمكن ملاحظة تأثر بوبر ببيرس من أوجه أخرى، منها مثلًا أن بيرس أمام البراجماتية وبوبر حقًّا ليس براجماتيًّا على وجه الإطلاق، لكنه ينحو منحى عمليًّا إلى حد ما، إذ يرى أن كل سلوك موجه ولحل مشكلة، وهو يرى أيضًا أن بيرس من عمالقة الفلسفة المعاصرة؛ لأنه من أوائل المنشقين عن عقيدة الحتمية.
See: K. P., O. K. p. 212.

٤٣  Peter Meadwar, Hypoldesis and Imagination, p. 270.

٤٤  ج. برونوفسكي، وحدة الإنسان، ترجمة د. فؤاد زكريا، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة ١٩٧٥م، ص٦٠.

٤٥  بصفة عامة نجد برونوفسكي شديد الإعجاب بفلسفة بوبر العلمية، وبنظريته المنهجية، وهو مشبع بفلسفة بوبر بأسرها، فقد عقد فصلًا في دراسته القيمة الممتعة «وحدة الإنسان: ص٧٣–١٠٨» غرضه توضيح أن الأدب نوع من المعرفة «نستخدم فيه الخيال بقدر ما يستخدم في العلم.» (المرجع السابق، ص٨٠) أي إنه من دعاة الدعوى البوبرية، بوحدة المنهج، وتعدد مصادر المعرفة، وأن التعويل في الخلق على الخيال.

٤٦  د. عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، ص٩٧.

٤٧  المرجع السابق، ص٩٨.

٤٨  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٣٠.

٤٩  ول ديورانت، قصة الفلسفة، ص١٧٧-١٧٨ (من الترجمة العربية).

٥٠  كلود برنار، مدخل لدراسة الطب التجريبي، ص٢٦–٣٢.

٥١  د. ياسين خليل، منطق المعرفة العلمية، ص١٧٠.

٥٢  المرجع السابق، ص١٦٨.

٥٣  المرجع السابق، ص١٧٠–١٧٦.

٥٤  ول ديورانت، قصة الفلسفة، ص١٧٧-١٧٨.

٥٥  المرجع السابق، ص١٧٨.

٥٦  كارل همبل، فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة د. محمد جلال موسى، ص١٦-١٧.

٥٧  المرجع السابق، ص٢١.

٥٨  المرجع السابق، ص٢٣.

٥٩  انظر: المرجع السابق، ص٢٤-٢٥.

٦٠  See for example: R. B. Braithwait Scientific Explanation, A study for the Function of Theory, Probability and Law in Science, Horper and Brothers, New York. 1960.
and also: S. Stebbine, A Modern Introduction to Logic, Asia. Publishing House, London, 1960.

٦١  انظر في هذا على سبيل المثال: L. W. H. Hull, History and Philosophy of Science, Longman: Green and Co, Ltd, fourth impression, 1965. London, pp. 164–179.
وأيضًا: د. ياسين خليل، منطق المعرفة العلمية، ص٢١٠، نقلًا عن إثباتات لآينشتين نفسه.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق