إله قيد الإنجاز
في محاضرةٍ شيّقةٍ لـ سبرول (أستاذ فلسفة
وعالم لاهوت) عن هيغل، يقول فيها بأن إيمانويل كانط قد صنع جداراً بين الأرض وبين
السماء غيرَ قابلٍ للاختراق.. أو لا يمكن للعقل أن يخترقه.
لا يمكن للعقل أن يعرف شيئاً عن عالم
السماء أو عن العالم الإلهي.
هذا ما توصل إليه كانط في تحليله لبنية
العقل المحض.
وجد هيغل نفسَه أمام هذه المعضلة، فقام
بتهديم هذا الجدار وأنزل الله إلى الأرض.
لم يعد الله مفارقاً وقابعاً خلف جدار كانط
الذي يعزله عن كل محاولات العقل على الفهم.
لقد أصبح الله محايثاً للطبيعة وللتاريخ،
بل أصبح الله هو التاريخ، أو هو العقل الذي يتمظهر في سيرورة التاريخ.
وهو عقلٌ جدلي يتجاوز نفسه باستمرار، أو هو
يسعى نحو ذاته باستمرار. وهو لن يصبح ذاتَه بشكلٍ كليّ إلا في نهاية التاريخ ونهاية
الجدل.. وهي فكرة قابلة للنقاش على أيّ حال. (أنا لست مقتنعاً بفكرة النهايات هذه
منذ أرسطو وحتى هيغل)
أذكر في هذه المناسبة عبارةً فرنسية تختزل
فكرة هيغل عن الألوهية.
كان أستاذنا جورج زيناتي يحدثنا عن
عبارتين فرنسيتين متشابهتين، لكن معناهما مختلف أشدّ الاختلاف، بل إن إحدى هاتين
العبارتين يعتبرهما الكثيرون نوعاً من الخطأ اللغوي.
العبارة الأولى تقول:
Dieu n'a rien
du tout fait.
أما العبارة الثانية فتقول:
Dieu n'a rien
de tout fait.
العبارة الأولى تعني أن الله لم يفعل أو لم
يصنع شيئاً على الإطلاق.
قد نختلف أو نتفق على مضمون العبارة، لكنها
واضحة من الناحية اللغوية، وأظن بأنها تعبر عن فكرة أرسطو عن الإله الذي لم يصنع
شيئاً، فالعالم قديم غير مخلوق.
أما العبارة الثانية والتي يعتبر كثيرون
بأنها ليست إلا خطأً لغوياً، فإنما هي عبارة هيغلية تقول: "ليس لدى الله شيءٌ
ناجز".
le tout fait.
بالفرنسية تعني: الجاهز أو الناجز.
ويمكن الذهاب أبعد من ذلك بالقول: ليس في
الله شيء ناجز.
إنه هذه السيرورة للعقل في التاريخ، أو هذا
العقل المبثوث في الكون والمحايث لهذا الكون.
إنه نهاية الطريق والغاية.
وبذلك يدخل هيغل ضمن فلاسفة وحدة الوجود:
الله هو العالم. أو هو عقل العالم وقانونه.
20 أيلول 2017.
تعليقات:
أحمد
حريري:
الله كما هو متداول بين الناس وفي الأديان
هو صناعة بشرية يتطور مفهومه عبر التاريخ وفقا للمصالح المعقدة والمتنوعة للبشر .
كريم
عبد:
ليس الله سوى الانسان الذي يسعى لأن يكون
" إلها". وتطور فكرة الخالق إسما وصنعا ومعنى ... تلازمت مع تطور الذات
الإنسانية. لذلك لن يتوقف البحث في فكرة الألوهة مادام الانسان عاجزا عن الجواب
اليقيني عن سؤال الما بعد.
لنقل أن الله أو الخالق هو الأمل الإنساني
الذي يسعى لكسر جدار " الزوال ". الانسان لا يكتفي بأن يكون قبرا في
المكان ، ولا سلالة ممتدة في الزمان. الإنسان يريد أن يبقى ذاتا ممتدة في هذا
الزمان، وإذا أمكن في زمان يتخيله خارج هذا الزمان. زمان ذاتي تتصل فيه الذات
بالذات .
جمال
نعيم:
تحليل جميل لما يقوله هيغل. لكنّه،
بالأحرى، تأليه للإنسان وللفعل البشري وتأليه للطبيعة، ويشكل إحدى تنويعات القول
بوحدة الوجود بحيث يكون الله حالًّا في الطبيعة أو محايثًا لها أو ثاويًا فيها أو
جزءًا أساسيًّا فيها أو هو، كما يقول سبينوزا، الطبيعة الطابعة في الطبيعة. وبلغة
العلم الحديث هو مجموعة القوانين الفاعلة في الطبيعة، لكن أن تكون الطبيعة عقلانية
أو أن يكون التاريخ البشري عقلانيًّا أو يمكن، رغم كل مآسيه وكوارثه، فهمه بشكلٍ
عقلانيٍّ، فهذا لا يعني أن ليس هناك من إله وراء ذلك. وهذه الفكرة ليست جديدة،
فالكتب السماوية تتحدث عن مراحل خلق الطبيعة في أيّام أو في أطوار. فالطبيعة ليست
شيئًا ناجزًا واكتمل منذ البدء. وقد تحدث أرسطو من قبل عن حركة الكون باتجاه
الكمال، كما تحدث صدر الدين الشيرازي عن الحركة الجوهريّة التي لا تطال الأعراض
فقط أو تطال الجوهر أيضًا وتنقلنا من كمالٍ الى كمالٍ أرفع منه. أرى أنّ كل هذه
التحليلات الفلسفية لا تخلِّصنا من دائرة الشك واللايقين واللأدرية. وقد كان كنط،
الى حدٍ كبيرٍ، مصيبًا عندما قال إنّ الميتافيزيقا الكلاسيكية التي تبحث في الله
والكون والنفس تتهاوى أمام محكمة العقل ليفسح مجالًا للإيمان. فلو اطلعنا على
أفكار السابقين واللاحقين من الحكمة المشرقية الى الفلسفة اليونانيّة الى فلسفة
القرون الوسطى والفلسفة الحديثة والمعاصرة مرورًا بفلسفة الاشراق والتصوف، فإنّ
الفكرة التي يعطونها عن الله ليست ما يبحث عنه العقل البشري وليست ممّا يصمد أمام
النقد العلمي، فدائمًا هناك شيء أعمق نبحث عنه. لذا، أدعوك دائمًا يا صديقي الى
العودة الى القرآن الكريم، فإنّ فيه أفهومًا عن الله هو الأرقى والأكمل. يكفي
المرء أن يقرأ آية الكرسي. وكل ما تبقى هو محاولات طفولية لبشرية تائهة لا تعرف
الى الله طريقًا، ولسوف يؤدي الى نوعٍ من العبث لا يحتمله الانسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق