الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

روافد في فلسفة كانط؛ لببنتز؛ محمود زيدان




[روافد في فلسفة كانط]
ـ كانط وليبنتز:

لا نزاع في تأثر كانط بنيوتن في نظرياته الطبيعية، وقد أشرنا من قبلُ إلى قراءة كانط لنيوتن قراءة فاحصة أيامَ كان طالباً في الجامعة، وقد كان كانط ينظر إلى مذهب نيوتن على أنه مذهبٌ متكامل وصادق، ولم يمنع ذلك من توجيه كانط كثيراً من الاعتراضات على هذا المذهب، مما سوف نذكره في حينه. ننتقل إلى علاقة كانط بليبنتز.
يمكن أن نجعل عام 1765 نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى في معرفة كانط لليبنتز؛ لم يكن يعرف كانط عن ليبنتز حتى هذه السنة غير أنه صاحب المونادولوجيا، والإلهيات، وبعض رسائله القصيرة الأخرى، بل لقد عرف كانط هذه الكتب من خلال تعاليم وولف وباومجارتن، ونحن نعلم أن كتاب ميتافيزيقا لباومجارتن كان مرجع كانط الرئيسي عن ليبنتز حين كان طالباً وحين حاضر في الجامعة بعدئذٍ؛ لم تكن هذه الكتب كل كتب ليبنتز؛ ومن ثَمّ كانت معرفة كانط بليبنتز حينئذٍ ناقصة. لكنا نعرف أن مقالات جديدة عن العقل الإنساني نشرت عام 1765، كما نشرت في نفس السنة مراسلات ليبنتز مع كلارك، ونعلم أن كانط قرأهما حال نشرهما. فاستطاع كانط أن يستكمل معرفته عن ليبنتز؛ لم عدل هذه المعرفة الجديدة من فكرة كانط الأولى عن ليبنتز بقدر ما ملأت فجوات في معرفته السابقة. يمكننا الإشارة إلى الخطوط الرئيسية لفلسفة ليبنتز كما رآها كانط حين استكملها في ما يلي:
ما له فاعليةٌ موجود. وما لا فاعليةَ له لا وجود له. وم ثّم ليست المادة في ماهيتها امتداداً وحركة، لأن الأجسام تتحرك وتسكن، ونريد مبدأً يدوم في المادة حين لا تتحرك. إن المادة في ماهيتها قوة، والقوة ميل الجسم للحركة أو الاستمرار فيها؛ الامتداد والحركة يفترضان ابتداءً وجود القوّة، لا العكس. لا نتحدث عن كمية ثابتة للحركة وإنما عن كمية ثابتة للقوة؛ لا نتحد عن قانون حفظ الحركة وإنما عن قانون حفظ القوة أو الطاقة. ما عالم الامتداد إلا مظهراً حسّياً للقوى.
الأجسام متعددة ومن ثّمّ تتعدد القوى، عدد القوى لامتناهٍ كلٌ منها جوهرٌ بسيط لا ينقسم، لاممتد، لامادّي. تسمّى هذه القوى مونادات، ليس الموناد ذرةً مادية ولا نقطةً رياضية، وإنما هو ذرّةٌ ميتافيزيقية. كيف نكتشفها؟ بالانتباه إلى النفس الإنسانية التي هي موناد من بين المونادات. وما يصدق على النفس يصدق على سائر المونادات.
الإحساس والتصوّر والاستعداد للفعل خواص للموناد، وتوجد المونادات بدرجات متفاوتة. تكاد درجة الإحساس تنعدم في النبات، وتوجد هذه الخواص في الحيوان بدرجةٍ معيّنة، في الحيوان إدراك حسّي وذاكرة، وترتفع درجات الشعور في النفس الإنسانية ونسميه حينئذٍ الفكر الواعي، وهو المعرفة الاستبطانية لأحوالنا الداخلية أو شعورنا بذواتنا.
في ما يختص بالمعرفة، ينبغي أن تقوم المعرفة على تصورات وقضايا ضرورية كلّية.
الأفكار الحسّية والقضايا التجريبية القائمة على استقراء تعوزها الضرورة والكلّية؛ لكنا نملك تصوراتٍ ومبادئَ كلّية ضرورية، إنها فطرية فينا ولا تُشتَقّ من الخبرة الحسّية. كان يكون أنكار المبادئ الفطرية موقفاً وجيهاً لو كان الفكر والشعور شيئاً واحداً، لكنهما مختلفان؛ لدينا أفكارٌ لا نشعر بها دائماً ـ تلك ما يمكننا تسميتها التصورات والمبادئ الفطرية. إنها استعدادات ووجودُها بالقوة، نبدأ نشعر بها حين تثيرها الحواس تثير الحواسُ التصوراتِ الفطريةَ لكنها لا تخلقُها ،تبرّرها وتؤكدها ولكنها لا تبرهن على يقينها، الخبرة الحسّية ضرورية إذاً لتثير النفس. بالنفس على هذا النحو مقولات كالوجود والجوهر والوحدة والهوية والعلّية والإدراك الحسي والكم. يمكن تفسير المبادئ القائمة على هذه المقولات تفسيراً منطقياً بحتاًن فمثلاً ترد العلاقة العلّية إلى علاقة بين أساس ground وما يعتمد عليه [أو الأثر] consequent. ويرد الجوهر إلى ما يكون دائماً موضوعاً [حاملاً للصفات] ولن يكون محمولاً [أي صفةً]. ويمكن بل يجب أن يكون معيار صدق هذه المبادئ الفطرية قانون عدم التناقض فهو أعلى المبادئ.
الإدراك الحسّي والعقل الخالص وظائف للموناد، أي إن كل موناد حاصل عليهما، وإنما بدرجات متفاوتة كما قلنا. هما من نوعٍ واحد ولكنهما في العقل الشاعر ـ على درجات متفاوتة من حيث الوضوح والتميّز. يتضمّن الإدراك الحسّي أفكاراً غامضة ملتبسة. وأفكار العقل الخالض واضحةٌ متميّزة. بالإدراك الحسّي لا نعرف الأِشياء في ماهيتها أي كمونادات، وإنما ندركها ظواهر مكانية وفي غموض والتباس، لكنا بالعقل نعرف حقائق الأشياء أي عالم المونادات.
نتصوّر المكان على انه تحديد لوجود الأشياء معاً أو متتابعة، ليس المكان مطلقاً إذاً وإنما هو نسبيٌّ بالقياس إلى الأشياء. تصدر أفكار المكان عن العقل ذاته فهي من أفكار العقل الخالص لكنها تشير إلى عالم ممتدّ.
يمكننا بفضل تصوراتنا ومبادئنا الفطرية أن نبرهن على وجود الله وأن نتحدث عن صفاته وأن نبرهن على خلود النفس الإنسانية، دون التجاء سابقٍ إلى الإيمان. 

(محمود فهمي زيدان؛ كنط وفلسفته النقدية؛ 31)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق