الخميس، 16 يوليو 2020

هوسرل؛ نص من كتاب "أزمة العلوم الأوروبية".



الحافز الفلسفي الحق المختفي وراء خُلفِ هيوم.
 زعزعة النزعة الموضوعية:
 (قراءة هوسّرل لـ جون لوك وباركلي وهيوم)

لنتوقّف لحظة. لماذا يمثل كتاب هيوم رسالة في الطبيعة البشرية (الذي ليس كتابُ بحثٍ في الفهم البشري سوى تبسيطٍ رديء له) حدثاً تاريخياً بهذه الأهمية؟ ماذا حدث هناك؟
تطلّبت جذريةُ ديكارت في التحرر من الافتراضات المسبقة بهدف إرجاع المعرفة العلمية الحقة إلى ينابيع صلاحيتها الأخيرة وتأسيسها انطلاقاً من هذه الينابيع تأسيساً مطلقاً تأملاتٍ متجهةً نحو الذات، تطلّبت الرجوعَ إلى الأنا العارف في محايثته. لم يكن من الممكن أن يتملّص المرءُ من ضرورةِ هذا المطلب، حتى إذا لم يستسغ تسلسل أفكار ديكارت في نظريته عن المعرفة. لكن هل كان لا يزال من الممكن، بعد الهجومات الريبية، بلوغُ هدفِه المتمثل في تأسيس العقلانية الفلسفية تأسيساً مطلقاً؟ يدلّ الاندفاع الهائل للاكتشافات المتلاحقة في الرياضيات وعلم الطبيعة مسبقاً على إمكانية ذلك. وهكذا كان كلُّ من يساهم في هذه العلوم من خلال البحث أو الدراسة متيقّناً مسبقاً من أنّ حقيقتها ومنهجها يتوفران على طابع نهائي ونموذجي.
والآن تُبرِز النزعة الريبية التجريبية ما كان كامناً دون بسطٍ في الاعتبار الأساسي الديكارتي، وهو أنّ معرفة العالم بأسرها، قبل العلمية والعلمية، هي لغزٌ ضخم. كان من السهل موافقة ديكارت عند رجوعه إلى الأنا القطعي على تأويله كنفس وعلى فهم البداهة الأصلية كبداهة "للإدراك الداخلي". هل هناك بعد ذلك ما هو أكثر إقناعاً من الكيفية التي صور بها لوك، من خلال الصفحة البيضاء، واقعَ النفس المنعزلةِ والتاريخيةَ التي تجري داخلياً في النفس، أيّ النشأةَ النفسية الداخلية، والكيفية التي أضفى بها على هذا الواقع صفات طبيعية؟
لكن هل كان من الممكن بعد ذلك تجنب "مثالية" بركلي وهيوم، وأخيراً الريبية في كل خُلفِها؟
يا لها من مفارقة! لا شيء كان يمكن أن يشلّ قوة العلوم الدقيقة ـ التي نمت بسرعة والتي لا يمكت التطاول على إنجازاتها الخاصة ـ وأن يعطل الاعتقاد في حقيقتها. ومع ذلك، بمجرد ما أُخذ بعين الاعتبار أنها إنجاز لوعي ذواتٍ عارفة تحولت بداهتُها ووضوحُها إلى خُلْفٍ غيرِ مفهوم. إن قول ديكارت بأن الحساسية المحايثة تنتج صوراً للعالم لم يصدم أحداً؛ لكن هذه الحساسية تنتج حسب بركلي العالم الجسمي ذاته، وحسب هيوم تنتج النفسُ كلّها "بانطباعاتها" و"أفكارها"، بقواها وقوانين التداعي المنتمية لها (الموازية لقانون الجاذبية!) التي تم تفكيرها في تماثلٍ مع القوى والقوانين الفيزيائية، العالمَ كله، العالمَ ذاته وليس فقط مجرد صورة، لكن هذا المنتوج هو بالطبع مجرد وهم، إنه مجرد تمثل تم اختلاقه داخلياً، وهو فضفاض تماماً في الحقيقة. وهذا ينطبق على عالم العلوم العقليةكما ينطبق على عالم التجربة المبهمة (أي التجربة غير العلمية ـ هامش المترجم).

ألا نحسّ هنا، رغم الخُلف الذي يكمن في غرابة الافتراضات المسبقة، بحقيقة خفية لا يمكن تجنبها؛ ألا تتجلى هنا كيفية جديدة تماماً للحكم على موضوعية العالم وكل معنى وجوده، وفي تعالق مع ذلك على معنى وجود العلوم الموضوعية، حكماً لا يمس مشروعيتها الخاصة، بل ادعاءها الفلسفي والميتافيزيقي: ادعاء الحقيقة المطلقة؟
الآن أصبح أخيراً من الممكن والضروري إدراك ـ وهو الأمر الذي بقي خارج الاعتبار تماماً في هذه العلوم ـ أن حياة الوعي هي حياةٌ منجِزة، منجِزة لمعنى الوجود، سواءٌ بكليفية سليمة أو رديئة؛ أولاً كحياة حسية حدسية، ومن باب أولى كحياة علمية. لم يتعمق ديكارت في أن العالم العلمي مفكَّر لأفعال تفكير علمية مثلما أنّ العالم الحسي اليومي مفكَّر لأفعال تفكير حسية، ولم ينتبه للدور [أي قياس الدور المنطقي] الذي وقع فيه عندما افترض سلفاً، في دليله على وجود الإله، إمكانية نتائج تتعالى على الأنا، في حين أنّ هذا الدليل هو الذي كان ينبغي أن يرسّس هذه الإمكانية. لقد كان ديكارت بعيداً تماماً عن إدراك أن العالم ذاته بأكمله يمكن أن يكون مفكَّراً ناشئاً عن التأليف الشامل لأفعال التفكير المتعددة المنسابة، وأن الإنجاز العقلي لأفعال التفكير العلمية التي تنبني عليها، والذي هو من درجةٍ أعلى، يمكن أن يكون مؤسِّساً للعالَم العلمي. لكن ألم يقربنا بركلي وهيوم من هذه الفكرة ـ على افتراض أن خُلف هذه النزعة التجريبية لا يكمن إلا في اقتناع معين يُعتقد أنه تلقائي تم بفعله إبعاد العقل المحايث منذ البدء؟
بفعل إعادة إحياء المشكل الأساسي الديكارتي وتجذيره من بركلي وهيوم، لق تمّ، من منظور عرضنا النقدي،  زعزعة النزعة الموضوعية "الدوغماتية" من الأعماق: ليس فقط النزعة الموضوعية الترييضية التي كان المعاصرون مولعين بها، والتي تنسب في الحقيقة للعالم ذاته وجوداً في ذاته رياضياً ـ عقلياً (نصوره، إن جاز التعبير، دائماً بكيفية أفضلَ في نظرياتنا الكاملة كثيراً أو قليلاً)، بل النزعة الموضوعية عموماً التي سيطرت على مرّ آلاف السنين.

(هوسّرل؛ أزمة العلوم الأوروبية؛ 158ـ 161)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق