برتراند راسل: الإرادة العامة عند روسّو.
.. أصل إلى
نظرية الإرادة العامة، وهي نظريةٌ مهمة وغامضةٌ معاً. فالإرادة العامة ليست
مطابقةً لإرادة الأغلبية، وليست هي كذلك إرادة، جميع المواطنين. ويبدو أن روسو قد
تصوّرها كإرادة منتميةٍ إلى الكيان السياسي من حيث هو كذلك. وإذا أخذنا نظرة هوبز
في أن المجتمع المدني شخصٌ لتحتّم علينا افتراض كونه مزوّداً بصفات لاشخصية بما
فيها الإرادة، بيد أننا تواجهنا ثمّتئذٍ مشكلةُ الحسم بصدد المظاهر الدالة على هذه
الإرادة. وهنا يتركنا روسو في الظلام، فهو يذكر لنا أن الإرادة العامة هي دائماً
على صواب، وهي تنحو دائماً نحو المصلحة العامة، ولكن لا يترتّب على هذا أن مداولات
الناس صحيحة على حدٍ سواء، ذلك أن ثمة في كثير من الأحيان قدراً كبيراً من
الاختلاف بين إرادة الكل وبين الإرادة العامة. فكيف لنا إذاً، أن نعرف ما تكونه
الإرادة العامة؟ هنالك في الفصل نفسه نوع من الإجابة عن سؤالنا هذا:
"عندما
يجري الشعب مداولاته وقد تزوّد بمعلومات مناسبة، إذا لم يكن ثمّة اتصال بين
المواطنين كلٌّ منهم والآخر، فإن المجموع الكبير للخلافات الصغيرة يعطي دائماً
الإرادة العامة، ويكون القرار دائماً قراراً صالحاً".
وتصوّر
الأمر في ذهن روسو يبدو على هذا لانحو: إن الرأي السياسي لكلٍ تحكمه مصلحته
الذاتيه، بيد أن المصلحة الذاتية تتألف من قسمين، أحدهما يخص الفرد، بينما الآخر
يشترك فيه كل أعضاء الجماعة، فإذا لم يكن للمواطنين أي فرصة، لكي يساوم كلٌّ منهم
الآخر مساومات صارخة يتحقّق بها تبادل النفع، لانتفت مصالحهم الفردية لتعارضها،
ولنجمت عن ذلك نتيجةٌ تمثِّل المصلحة المشتركة لهم، هذه النتيجة هي الإرادة
العامة. وربما يجمل بنا أن نمثّل تصوّر روسّو بالجاذبية الأرضية. فكل جزيء في
الأرض يجذب كل جزيء آخر في الكون نحو ذاته. فالهواء فوقنا يجذبنا إلى أعلى بينما
الأرض تحتنا تجذبنا إلى أسفل. بيد أن كل هذه الانجذابات "الذاتية" يلغي
كلٌّ منها الآخر بقدر ما تكون متعارضة، وما يتبقّى انجذابٌ ناتج نحو مركز الأرض.
ويمكن بخيالنا أن نتصوّر فعل الأرض معتبرة كجماعة، والتعبير عن هذا الفعل هو الإرادة
العامة.
ولَئن
نقول إن الإرادة العامة دائماً على صواب، يعني فقط القول بأنها ما دامت تمثّل ما
هو مشترك بين المصالح الذاتية لمواطنين مختلفين، فيتحتّم ان تمثل أوسع إشباع جماعي
ممكن للمصلحة الذاتية للجماعة. هذا التفسير للمعنى الذي يقصده "روسو"
يبدو متفقاً مع كلامه بدرجة أفضل من اتفاقه مع أي معنى كان في الوسع أن يخطلا لي.
هامش:
"في كثيرٍ من الأحيان يكون هنالك فارقٌ كبير بين إرادة الكل والإرادة العامة،
فالأخيرة تعتبر فقط المصلحة المشتركة، والأولى تتطلع إلى المصلحة الخاصة، وهي لا
تعدو أن تكون مجموع الإرادات الجزئية؛ ولكن استبعد من هذه الإرادات نفسها ما عساه
يجعلها يكاد يحطم بعضُها بعضاً، وستبقى الإرادة العامة خلاصة الفوارق".
(راسل؛ تاريخ الفلسفة الغربية (الحديثة)؛ 207)
العقد الاجتماعي:
يقول روسو بأن "كلاً منا يضع شخصه وكل قوته مع الآخرين تحت
التوجيه الأسمى للإرادة العامة وفيد قدرتها التعاونية، نستقبل كل عضوٍ كجزء لا
يتجزأ من الكل".
.. ويتضمّن العقد الاجتماعي أن من يرفض أن يطيع الإرادة العامة سيجبَر
على ذلك. "وهذا لا يعني أقلَّ من أنّ إرادته ستجبر على أن تكون حرة".
هذا التصوّر "أن تجبر لأن تكون حرة" هو تصور ميتافيزيقي
للغاية. فالإرادة العامة في زمن غاليليو كانت بالتأكيد إرادةً مناقضةً لإرادة
كوبرنيكوس، فهل أجبر غاليليو، أن يكون حراً حين أجبره التحقيق أن يعترف علناً
بالخطأ؟ وهل "يجبر المجرم أن يكون حراً" حين يزجّ به في السجن؟
.. [هنا] ينسى روسو نزعته الرومانسية ويتحدّث مثلما يتحدث شرطيّ
سوفسطائي.
وهيغل الذي يدين بالكثير لروسو جاراه في إساءة استخدامه لكلمة
"حرية"، وعرفها باعتبارها حق طاعة الشرطة، أو شيئاً ليس مختلفاً كثيراً
عن هذا. (205)
..
وقد أصبح العقد الاجتماعي، إنجيلاً لمعظم قادة الثورة الفرنسية، ولكن من دون شك،
كان مصيره مصير سائر الأناجيل، فلم يُقرَأ بعناية، وفهمه معظم تلاميذه فهماً أقل.
وقد أعاد هذا الكتاب عادة التجريدات الميتافيزيقية إلى أصحاب النظريات عن
الديموقراطية، وبنظريته في الإرادة العامة جعل من الممكن
التوحيد بين القائد وشعبه توحيداً صوفياً، لم يكن في حاجةٍ إلى تأكيدٍ من جهازٍ
أرضي، من قبيل صندوق الاقتراع. ويمكن لقسط كبيرٍ من فلسفته أن يناسب هيغل في جفاعه
عن الأوتوقراطية (حكم الفرد المطلق) البروسية. هامش: يختار هيغل لإطرائه إطراءً
خاصاً التمييز بين الإرادة العامة وبين إرادة الكل. فهو يقول: "كان في وسع
روسو أن يسهم إسهاماً أسلم نحو نظرية الدولة، لو أنه جعل هذا التمييز نصب عينيه
على الدوم". (المنطق، قسم: 163)
وليم كلي رايت، عن روسو: العقل والعاطفة:
لقد تباهى كل الفلاسفة، تقريباً، منذ بيكون بتفوّق العقل على العواطف،
ولاذوا إلى تقدم الفنون والعلم الذي لا يعوقه شيء من أجل تحرير الإنسان وتقدمه.
أما روسو فقد نظر، على العكس، إلى شرور العصور على أنها ثمار حضارة مصطنعة، وفي
مقالاته .. يثني على حياة الإنسان البدائي، كما يتخيلها بصورة رومانسية، عندما كان
الجميع متساوين، وقبل أن يحط تأسيس الملكية الخاصة من وضع بعض الناس إلى حالةٍ من
الفقر والعبودية،ويفسد آخرين عن طريق حياة مصطنعة من الترف والتكاسل. (وليم رايت؛
238)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق