عن هايدغر ـ 1 ـ
إن كتاب "الوجود
والزمن" كتابٌ غير مكتمل. وككل كتب الفلسفة، يرجع عدم الاكتمال هذا إلى
أسبابٍ عميقة، أسبابٌ يعرضها هايدغر نفسه في رسالة وجهها في شهر أبريل 1962 إلى
فيلسوف أمريكي، الأب وليام ريتشاردسون.
كانت مسألة الوجود التي تشغل قلب الكتاب تطرح نفسها على هايدغر، كما يقول، منذ أن اكتشف سنة 1907 مقال برينتانو حول أرسطو. وأوحت له بعد ذلك قراءتًه لكتاب "البحوث المنطقية" لهوسرل بطريقة جديدة لمناقشة المسألة الشهيرة: المنهج الفينومينولوجي الذي يريد العودة إلى جوهر الأشياء ذاتها. لكن سرعان ما انحرفت الفينومينولوجيا في اتجاه نزعة مثالية متعالية جديدة، كان هايدغر يرفضها لأنه كان ينوي التفكير في الوجود في زمانيته وفي "تجذره التاريخي". والحال أن هوسرل أدار ظهره للتاريخ والتاريخانية في كتاب "الفلسفة كعلم صارم". هكذا فجأة وجد الفكر الهايدغري، كما ترسخ للمرة الأولى في "الوجود والزمن"، نفسه يدخل نزاعاً.
ولحل هذا النزاع وعرض مسألة الوجود بكل أبعادها، يتعيّن نزع إشكالية كتاب 1927 مما يمكن أن يكون ما زال عالقاً بها من "ميتافيزيقا". ويتعيّن التخلص من التأمل الذي أبرز في الكتاب معنى المشروع الميتافيزيقي نفسه ووسائل "تجاوزه": وستشغل هذه المحاولة بال هايدغر إلى وفاته. لهذا لا وجود لقطيعة في كتابه، بل قدّم منذ عام 1927 تأويلاً أكثر شخصيةً، وضد هوسرلي، لكلمة "فينومينولوجيا".
إن أفضل طريقةٍ للإمساك ثانية بمعنى ذلك التأويل هي إعادته إلى الحدْس العادي الذي يصدر عنه، والذي عدّه هايدغر دوماً المبدأ الذي كان يدور حوله كلُ فكرِه. هذا الحدس، الذي يصوغه في بعض النصوص بمساعدة كلمة "طيّ " pli، هو حدس اختلاف: الاختلاف، غير المحسوس ولكن المطلق، الذي يفصل الوجود عن الموجود، بينما يبدو هذان الأخيران مرتبطين أحدهما بالاخر ارتباطاً وثيقاً، مادام يستحيل أن يكون هناك موجود بلا وجود، ولا وجود بلا موجود.
ليست كلمة "موجود" هي التي تطرح المشكلة. فمجال الموجودات ليس سوى العالم الذي نعيش فيه. الإنسان موجود. ويمكن اعتبار الله نفسه "الموجود الأسمى". فاللاهوت ليس إلا فرعاً من الأنطولوجيا، أو علم الموجود. وبالمقابل، في ما يتعلق بمسألة معرفة بماذا يتميّز وجود الموجود عن الموجود، وخصوصاً لماذا يجب اعتبار هذا التمييز تمييزاً جوهرياً، فإنها تظل مسألةً غامضة.
ما هو الوجود إذاً؟ إن إحباطاً ينتظر القارئ ذا النية الحسنة على الرغم من الأهمية التي يحظى بها الرهان، ذلك أن أعمال هايدغر كلها تؤكد أن من حيث المبدأ لا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال. فالوجود ليس هو ما يدعوه الميتافيزيقيون بالجوهر أو الروح أو المادة. لا يمكن أن نقول عنه شيئاً لأنه بدون محمولات. بل إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بشأنه لن يكون سوى حشو: "الوجود هو ما يوجد". وبعبارة أخرى، لا يمكن إرجاع الوجود إلى مفهوم، ولا يمكن إدراكه بواسطة اللوغوس.
كانت مسألة الوجود التي تشغل قلب الكتاب تطرح نفسها على هايدغر، كما يقول، منذ أن اكتشف سنة 1907 مقال برينتانو حول أرسطو. وأوحت له بعد ذلك قراءتًه لكتاب "البحوث المنطقية" لهوسرل بطريقة جديدة لمناقشة المسألة الشهيرة: المنهج الفينومينولوجي الذي يريد العودة إلى جوهر الأشياء ذاتها. لكن سرعان ما انحرفت الفينومينولوجيا في اتجاه نزعة مثالية متعالية جديدة، كان هايدغر يرفضها لأنه كان ينوي التفكير في الوجود في زمانيته وفي "تجذره التاريخي". والحال أن هوسرل أدار ظهره للتاريخ والتاريخانية في كتاب "الفلسفة كعلم صارم". هكذا فجأة وجد الفكر الهايدغري، كما ترسخ للمرة الأولى في "الوجود والزمن"، نفسه يدخل نزاعاً.
ولحل هذا النزاع وعرض مسألة الوجود بكل أبعادها، يتعيّن نزع إشكالية كتاب 1927 مما يمكن أن يكون ما زال عالقاً بها من "ميتافيزيقا". ويتعيّن التخلص من التأمل الذي أبرز في الكتاب معنى المشروع الميتافيزيقي نفسه ووسائل "تجاوزه": وستشغل هذه المحاولة بال هايدغر إلى وفاته. لهذا لا وجود لقطيعة في كتابه، بل قدّم منذ عام 1927 تأويلاً أكثر شخصيةً، وضد هوسرلي، لكلمة "فينومينولوجيا".
إن أفضل طريقةٍ للإمساك ثانية بمعنى ذلك التأويل هي إعادته إلى الحدْس العادي الذي يصدر عنه، والذي عدّه هايدغر دوماً المبدأ الذي كان يدور حوله كلُ فكرِه. هذا الحدس، الذي يصوغه في بعض النصوص بمساعدة كلمة "طيّ " pli، هو حدس اختلاف: الاختلاف، غير المحسوس ولكن المطلق، الذي يفصل الوجود عن الموجود، بينما يبدو هذان الأخيران مرتبطين أحدهما بالاخر ارتباطاً وثيقاً، مادام يستحيل أن يكون هناك موجود بلا وجود، ولا وجود بلا موجود.
ليست كلمة "موجود" هي التي تطرح المشكلة. فمجال الموجودات ليس سوى العالم الذي نعيش فيه. الإنسان موجود. ويمكن اعتبار الله نفسه "الموجود الأسمى". فاللاهوت ليس إلا فرعاً من الأنطولوجيا، أو علم الموجود. وبالمقابل، في ما يتعلق بمسألة معرفة بماذا يتميّز وجود الموجود عن الموجود، وخصوصاً لماذا يجب اعتبار هذا التمييز تمييزاً جوهرياً، فإنها تظل مسألةً غامضة.
ما هو الوجود إذاً؟ إن إحباطاً ينتظر القارئ ذا النية الحسنة على الرغم من الأهمية التي يحظى بها الرهان، ذلك أن أعمال هايدغر كلها تؤكد أن من حيث المبدأ لا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال. فالوجود ليس هو ما يدعوه الميتافيزيقيون بالجوهر أو الروح أو المادة. لا يمكن أن نقول عنه شيئاً لأنه بدون محمولات. بل إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بشأنه لن يكون سوى حشو: "الوجود هو ما يوجد". وبعبارة أخرى، لا يمكن إرجاع الوجود إلى مفهوم، ولا يمكن إدراكه بواسطة اللوغوس.
تاريخ الفلسفة في
القرن العشرين؛ ( ص 176.)
عن هايدغر ـ 2 ـ
ما هو الوجود إذاً؟
إن إحباطاً ينتظر القارئ ذا النية الحسنة على الرغم من الأهمية التي يحظى بها
الرهان، ذلك أن أعمال هايدغر كلِّها تؤكد أنه من حيث المبدأ لا يمكن الإجابة عن
ذلك السؤال. فالوجود ليس هو ما يدعوه الميتافيزيقيون بالجوهر أو الروح أو المادة.
لا يمكن أن نقول عنه شيئاً لأنه بدون محمولات. بل إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله
بشأنه لن يكون سوى حشو: "الوجود هو ما يوجد". وبعبارة أخرى، لا يمكن
إرجاع الوجود إلى مفهوم، ولا يمكن إدراكه بواسطة اللوغوس.
هذا هو الدافع الذي
جعله [أي الوجود] يفلت من الفلسفة الغربية برمّتها. إن "الفلسفة"
و"الميتافيزيقا" و"الأنطوـ تيوـ لوجيا" كلماتٌ مختلفة تعني
الفشل نفسه، "النسيان" نفسه، "الانتهاك" نفسه للوجود. ذلك أن
جميع الفلاسفة فشلوا بالطريقة ذاتها. ربما وحدَهم ماقبل السقراطيين، الذين يشغلون
طرف السلسلة، ونيتشه في طرفها الآخر، استطاعوا في لحظة خاطفة أن يستشفوا الوجود.
لكنهم أضاعوه في اللحظة نفسها التي استشفّوه فيها، نظراً إلى أن ما قبل السقراطيين
سرعان ما وجدوا أنفسهم أسرى اللوغوس مجدداً، ولأن نيتشه عندما جعل من الحياة أسمى
"قيمة"، سجن نفسه في ما أطلق عليها هايدغر "ميتافيزيقا"
القيم، حتى وإن كان نيتشه يرفض ذلك المصطلح.
يتعيّن هنا أن نأخذ شيئاً بعين الاعتبار: يتبيّن أن اللوغوس، أي نمط التفكير المفهومي والبرهاني الضروري لفهم الموجودات، يكون غير وافٍ بالغرض عندما يتعلق الأمر بالتفكير في ما "يتجاوز" الموجودات (هذا النقد ينضم إلى نقد "مركزية اللوغوس" التي طوّرها في الثلاثينيات فيلسوف آخر مناصر للنازية، لودفيغ كلاغس (1872ـ 1956). والحال أن هذا اللوغوس، الذي ساهم ما قبل السقراطيين في إرساء دعائمه، نجح أفلاطون في إعطائه السيادة المطلقة على الفكر. وباكتشاف "خطأ" أفلاطون تمّ اكتشاف "خطأ" الفلسفة كلها. ذلك أن كل فلسفة هي أفلاطونية، بما فيها فلسفات ماركس ونيتشه وكارناب التي تمثّل "عمليات قلبٍ لها" ما دام أن "قلب" الأفلاطونية يعني عكسها رأساً على عقب ولا يعني الإفلات منها.
يتعيّن هنا أن نأخذ شيئاً بعين الاعتبار: يتبيّن أن اللوغوس، أي نمط التفكير المفهومي والبرهاني الضروري لفهم الموجودات، يكون غير وافٍ بالغرض عندما يتعلق الأمر بالتفكير في ما "يتجاوز" الموجودات (هذا النقد ينضم إلى نقد "مركزية اللوغوس" التي طوّرها في الثلاثينيات فيلسوف آخر مناصر للنازية، لودفيغ كلاغس (1872ـ 1956). والحال أن هذا اللوغوس، الذي ساهم ما قبل السقراطيين في إرساء دعائمه، نجح أفلاطون في إعطائه السيادة المطلقة على الفكر. وباكتشاف "خطأ" أفلاطون تمّ اكتشاف "خطأ" الفلسفة كلها. ذلك أن كل فلسفة هي أفلاطونية، بما فيها فلسفات ماركس ونيتشه وكارناب التي تمثّل "عمليات قلبٍ لها" ما دام أن "قلب" الأفلاطونية يعني عكسها رأساً على عقب ولا يعني الإفلات منها.
إن مثل هذه النظرة
إلى تاريخ الفلسفة، التي تمكّن من إخفاء المادّية باختزالها في مجرد متغيرة
للمثالية، تتسم على الأقل بالتسرّع. لكنها تتميّز بالوضوح، وبأنها تستتبع نتائج لا
تقل وضوحاً.
لكن ماذا يتعيّن على المرء القيام به إن أراد ألا يسقط بدوره في الخطأ الفلسفي بامتياز؟ يتعين عليه بكل بساطة التخلي عن الفلسفة.
هكذا يظل كتاب "الوجود والزمن" ناقصاً بما أن الأمر، كما يشير إلى ذلك تكريم هوسرل، ما زال يتعلق بكتاب فلسفي.
ولن يكتب هايدغر منذ ذلك الحين كتباً بالمعنى الحقيقي للكلمة. وسوف يبيّن عن نخوة طفولية عندما سيرفض لقب "فيلسوف" ويطالب بلقب "مفكر".
لكن ماذا يتعيّن على المرء القيام به إن أراد ألا يسقط بدوره في الخطأ الفلسفي بامتياز؟ يتعين عليه بكل بساطة التخلي عن الفلسفة.
هكذا يظل كتاب "الوجود والزمن" ناقصاً بما أن الأمر، كما يشير إلى ذلك تكريم هوسرل، ما زال يتعلق بكتاب فلسفي.
ولن يكتب هايدغر منذ ذلك الحين كتباً بالمعنى الحقيقي للكلمة. وسوف يبيّن عن نخوة طفولية عندما سيرفض لقب "فيلسوف" ويطالب بلقب "مفكر".
(ص 177)
عن هايدغر ـ 3 ـ
لكن لا يكفي المرءَ
أن يعلن "موت" الفلسفة للبرهنة على أنه وجد بالفعل مخرجاً. فلكي يصبح
هذا "المخرج" واضحاً، ينبغي على "الفكر" نفسِه أن يبتعد بجرأة
عن الإشكالية، العقلانية والإنسانوية، التي ظلت منذ أصولها الإغريقية تميز الخطاب
الفلسفي. والحال أن الأشكال الثلاثة المهيمنة لهذه العقلانية الإنسانوية ستتجسد
غداة الحرب العالمية الأولى في الشكل المسيحي والشكل الماركسي والشكل الليبرالي
والعلماني (الذي هزّه النزاع الذي اجتاح أوروبا مدة أربعين عاماً) والذي يمثّه من
بين آخرين هوسرل وراسل وكاسيرر وفاليري. يبدو الأمر وكأنه حدث مصادفةً، بيد أن هذه
التيارات الفكرية الثلاثة هي التي لن ينفك هايدغر يصارعها منذ عام 1927. [أي عام
صدور كتابه "الوجود والزمن"]
لقد بدا له أن الماركسية تجسد أخطر تهديد. لذلك مقتها إلى درجة أنه اعتمد بعد الحرب العالمية الثانية على انقسام بلده وعلى وجود الجيوش الروسية في برلين ليوحي بأن حرب هتلر لم تكن في العمق سوى حرب ضد الشيوعية. وبعبارةٍ أخرى، يجب القول إن تلك الحرب تبدو بعد مرور الوقت حرباً "خيّرة". ابتعد هايدغر عن الكاثوليكية، التي كانت "عقيدته الأصلية"، منذ عام 1918. ولن يترك أي فرصة تتاح بدون أن يحارب المسيحية عموماً، كما حدث مثلاً في دروسه الصيفية لعام 1935 التي تحمل عنوان "مدخل إلى الميتافيزيقا"، أو في نصّ 1936 الذي خصصه لتوضيح عبارة نيتشه "موت الإله". إذ لم يضف هايدغر سوى القول بأن ما يفرّق بين المسيحية واليهودية أقل أهمية مما يجمع بينهما، وأنه يرفضهما معاً باسم "وثنية جديدة" جرمانية منحدرة أصلاً من حركة "العاصفة والعاطفة".
("العاصفة والعاطفة" حركة سياسية وأدبية ألمانية سادت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ويأتي اسم الحركة من عنوان مسرحية لفريريش ماكسيميليان كلينغز. وقد أراد تقليد تاريخي قومي أو متأثر بالقومية الألمانية أن يجعل من هذه الحركة ثورة الإحساس ضد الطابع المصطنع المجرد لفلسفة الأنوار.)
أما في ما يخص العقلانية الليبرالية، تلك الخاصة بالأنوار والفينومينولوجيا، فقد قطع هايدغر صلته بها نهائياً غداة ظهور "الوجود والزمن". وسيخصص منذئذٍ جزءاً مهماً من أعماله لإدانة ما عدّه الأمبراطورية الشريرة التي تجسدها هذه الأصنام الثلاثة للعقل الحديث التي تتجسد في العلم والتقنية وفكرة التقدم.
يعتقد هوسرل أن أساس العلم هو الفلسفة التي يعدّها كعلم صارم. أما هايدغر، فقد نقل الوظيفة التأسيسية للفلسفة التأسيسية إلى "الفكر"، مع تأكيد عدم قابلية هذا الأخير للقياس مع العلم. ألم يُشِر في عدة مناسبات إلى أن "العلم لا يفكر"؟ هذه العبارة ضد كانطية وضد هوسرلية المستفزة تذكرنا بالأطروحة 6.21 في كتاب "رسالة في المنطق والفلسفة". لكن نيّات المؤلفين مختلفة جداً.
فعندما صرّح فتغنشتاين بأن القضية الرياضية "لا تعبّر عن أي فكر"، كان يقصد فقط فصل الرياضيات عن القاعدة الأفلاطونية التي أقامها عليها فريجه. بينما كان هايدغر يريد أن يكون "مدمّراً". فعندما اتهم العلم بعدم التفكير، كان لا يقصد شيئاً آخر غير سلبه كرامته الفكرية. وللقضاء على التقنية، طابق هايدغر جوهرها وجوهر الميتافيزيقا المتهمة بكونها تجد لذةً في تبعيتها للوغوس أو "المنطق الرياضي" (عبارة قدحية يصف بها هايدغر كل الأبحاث المتحدّرة من فريجه وراسل) دون أدنى انشغال بالبرهان، أي بكل الأشياء التي لا تسير على ما يرام في العالم. كتب هايدغر في سلسلة من الملاحظات حرّرها ردأً على هجومات كارناب: "ليس دمار الأرض سوى نتيجة للميتافيزيقا" التي يظل كارناب سجيناً لها حسب رأيه. وبالنبرة القاطعة نفسها، يقول هايدغر عام 1935 إن "روسيا [كذا] وأميركا تعدّان معاً من الزاوية الميتافيزيقية شيئاً واحداً، أي الجنون الرهيب نفسه للتقنية الجامحة"، الشيء الذي سيسمح له بعد سنة 1945 بألا يحكم لمصلحة أيٍ منم خصمي الرايخ الثالث الذي كان بوسعه وحده أن يوقف "الانحطاط" الروحي لأوروبا.
أما في ما يتعلق بفكرة التقدم، التي تحملها الشيوعية وأسلوب العيش الأميركي معاً، فإن الكثيرين يعتقدون أن لها مكانة صغيرة في أعمال هايدغر. فلما كان من مريدي "الثورة" المحافظة، فإنه يتوقع الخلاص منم الماضي السحيق وليس من المستقبل. ويتصور هذا الأخير كـ "عودة إلى"، عودة إلى أصول الفلسفة (ما قبل السقراطيين) من جهة، وعودة أيضاً إلى الأصول الجرمانية، إلى "نقاء" الأصول التي لم تُمسَسْ والسابقة على عمليات الاختلاط المريبة. وهي عودةٌ أيضاً إلى الأساطير المؤسسة للأرض وللدم. إنها عودة إلى "وطن الوجود" الذي ليس سوى الوطن Heimat بلا زيادة ولا نقصان، عودة إلى الشعب Volk المدرك كحميمية دافئة ومطمئنة، وكأسرة قروية وحامية، وكمخرج في الغابة، وكمسلك في البادية، وككوخ جبلي. وباختصار، إنها عودة إلى الأنموذجات البدائية التي لم تفتأ منذ الرومانسية والإصلاح اللوثري تؤثّث النشيد الجنائزي للروح الألمانية وحنينها إلى الوحدة الضائعة، أو على وجه الدقة، التي لم يتم بلوغها أبداً. هذا دون الحديث عن كراهيته لليهودي الذي يسكنه وهمُ نمط الحياة "الزائفة"، "الشاردة"، وباختصار "المعادية لألمانيا".
لقد بدا له أن الماركسية تجسد أخطر تهديد. لذلك مقتها إلى درجة أنه اعتمد بعد الحرب العالمية الثانية على انقسام بلده وعلى وجود الجيوش الروسية في برلين ليوحي بأن حرب هتلر لم تكن في العمق سوى حرب ضد الشيوعية. وبعبارةٍ أخرى، يجب القول إن تلك الحرب تبدو بعد مرور الوقت حرباً "خيّرة". ابتعد هايدغر عن الكاثوليكية، التي كانت "عقيدته الأصلية"، منذ عام 1918. ولن يترك أي فرصة تتاح بدون أن يحارب المسيحية عموماً، كما حدث مثلاً في دروسه الصيفية لعام 1935 التي تحمل عنوان "مدخل إلى الميتافيزيقا"، أو في نصّ 1936 الذي خصصه لتوضيح عبارة نيتشه "موت الإله". إذ لم يضف هايدغر سوى القول بأن ما يفرّق بين المسيحية واليهودية أقل أهمية مما يجمع بينهما، وأنه يرفضهما معاً باسم "وثنية جديدة" جرمانية منحدرة أصلاً من حركة "العاصفة والعاطفة".
("العاصفة والعاطفة" حركة سياسية وأدبية ألمانية سادت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ويأتي اسم الحركة من عنوان مسرحية لفريريش ماكسيميليان كلينغز. وقد أراد تقليد تاريخي قومي أو متأثر بالقومية الألمانية أن يجعل من هذه الحركة ثورة الإحساس ضد الطابع المصطنع المجرد لفلسفة الأنوار.)
أما في ما يخص العقلانية الليبرالية، تلك الخاصة بالأنوار والفينومينولوجيا، فقد قطع هايدغر صلته بها نهائياً غداة ظهور "الوجود والزمن". وسيخصص منذئذٍ جزءاً مهماً من أعماله لإدانة ما عدّه الأمبراطورية الشريرة التي تجسدها هذه الأصنام الثلاثة للعقل الحديث التي تتجسد في العلم والتقنية وفكرة التقدم.
يعتقد هوسرل أن أساس العلم هو الفلسفة التي يعدّها كعلم صارم. أما هايدغر، فقد نقل الوظيفة التأسيسية للفلسفة التأسيسية إلى "الفكر"، مع تأكيد عدم قابلية هذا الأخير للقياس مع العلم. ألم يُشِر في عدة مناسبات إلى أن "العلم لا يفكر"؟ هذه العبارة ضد كانطية وضد هوسرلية المستفزة تذكرنا بالأطروحة 6.21 في كتاب "رسالة في المنطق والفلسفة". لكن نيّات المؤلفين مختلفة جداً.
فعندما صرّح فتغنشتاين بأن القضية الرياضية "لا تعبّر عن أي فكر"، كان يقصد فقط فصل الرياضيات عن القاعدة الأفلاطونية التي أقامها عليها فريجه. بينما كان هايدغر يريد أن يكون "مدمّراً". فعندما اتهم العلم بعدم التفكير، كان لا يقصد شيئاً آخر غير سلبه كرامته الفكرية. وللقضاء على التقنية، طابق هايدغر جوهرها وجوهر الميتافيزيقا المتهمة بكونها تجد لذةً في تبعيتها للوغوس أو "المنطق الرياضي" (عبارة قدحية يصف بها هايدغر كل الأبحاث المتحدّرة من فريجه وراسل) دون أدنى انشغال بالبرهان، أي بكل الأشياء التي لا تسير على ما يرام في العالم. كتب هايدغر في سلسلة من الملاحظات حرّرها ردأً على هجومات كارناب: "ليس دمار الأرض سوى نتيجة للميتافيزيقا" التي يظل كارناب سجيناً لها حسب رأيه. وبالنبرة القاطعة نفسها، يقول هايدغر عام 1935 إن "روسيا [كذا] وأميركا تعدّان معاً من الزاوية الميتافيزيقية شيئاً واحداً، أي الجنون الرهيب نفسه للتقنية الجامحة"، الشيء الذي سيسمح له بعد سنة 1945 بألا يحكم لمصلحة أيٍ منم خصمي الرايخ الثالث الذي كان بوسعه وحده أن يوقف "الانحطاط" الروحي لأوروبا.
أما في ما يتعلق بفكرة التقدم، التي تحملها الشيوعية وأسلوب العيش الأميركي معاً، فإن الكثيرين يعتقدون أن لها مكانة صغيرة في أعمال هايدغر. فلما كان من مريدي "الثورة" المحافظة، فإنه يتوقع الخلاص منم الماضي السحيق وليس من المستقبل. ويتصور هذا الأخير كـ "عودة إلى"، عودة إلى أصول الفلسفة (ما قبل السقراطيين) من جهة، وعودة أيضاً إلى الأصول الجرمانية، إلى "نقاء" الأصول التي لم تُمسَسْ والسابقة على عمليات الاختلاط المريبة. وهي عودةٌ أيضاً إلى الأساطير المؤسسة للأرض وللدم. إنها عودة إلى "وطن الوجود" الذي ليس سوى الوطن Heimat بلا زيادة ولا نقصان، عودة إلى الشعب Volk المدرك كحميمية دافئة ومطمئنة، وكأسرة قروية وحامية، وكمخرج في الغابة، وكمسلك في البادية، وككوخ جبلي. وباختصار، إنها عودة إلى الأنموذجات البدائية التي لم تفتأ منذ الرومانسية والإصلاح اللوثري تؤثّث النشيد الجنائزي للروح الألمانية وحنينها إلى الوحدة الضائعة، أو على وجه الدقة، التي لم يتم بلوغها أبداً. هذا دون الحديث عن كراهيته لليهودي الذي يسكنه وهمُ نمط الحياة "الزائفة"، "الشاردة"، وباختصار "المعادية لألمانيا".
عن هايدغر ـ 4 ـ
توجد في تارخ الأفكار
الحديثة العهد صفحةٌ لافتة للنظر يمكن عنونتها بما يلي: كيف عمل اليسار الفرنسي
على إنقاذ هايدغر من النسيان عندما أراد الإفلات من قبضة ماركس؟
بدأت الموضة مبكّراً جداً ما دام الفكر الهايدغري كان قد حظي باستقبالٍ جيد في فرنسا في مطلع الثلاثنيات. إذ خصص له جورج غوفيتش جزءاً من كتابه حول "التيارات الحديثة في الفلسفة الألمانية" (1930). أما الشاب ليفيناس، الذي تحمّس عام 1927 لكتاب "الوجود والزمن"، فقد نشر سنة 1932 مقالاً حول "مارتن هايدغر والأنطولوجيا". وحتى وإن كان انخراط هايدغر في الحزب القومي الاشتراكي معروفاً منذ سنة 1933، وقد حدّث ألكسندر كواري زميلَه ليفيناس عن ذلك، فإنه لم يكن بعدُ قد بدأ يتحدث عن التقزز الذي ستثيره الحرب، ثم الكشف عن محارق اليهود. هكذا فقد استسلم سارتر، بدون كثير ترددات، لإغراء جدلية "الوجود" و"العدم" التي اكتشفها في الترجمة الفرنسية (1938) لكتاب "ما هي الميتافيزيقا"؟ التي أنجزها هنري كوربان، مساعد كواري في المدرسة التطبيقية للدرسات العليا، قبل أن يتخصص لاحقاً بالمذهب الشيعي الإيراني.
أسهم نجاح وجودية سارتر بعد التحرير في إعاد أعمال هايدغر إلى الواجهة، وبدأت في الوقت نفسه المواقف السياسية لرئيس جامعة فريبورغ السابق تثقل على سمعته. إذ لما توضحت طبيعته النازية الحقيقية، بدأ سارتر يبتعد عنها، إذ نشر في مجلته "الأزمنة الحديثة" (1946ـ 1947) خمسَ مقالات زودت الملف معظم العناصر الضرورية، قدمت ثلاثُ مقالاتٍ منها (موريس دوغاندياك، وكارل لوفيت، وإريك فايل) عن الفيلسوف حكماً سلبياً. بينما جاهد ألفونس دووالينس وفريدريك دوطوارنيكي من أجل تبرئته. ففُتِح بابُ النقاش منذ ذلك الحين: هل يمكن الفصل بين الفلسفة والسياسة؟ هل يمكن رسم حدود بين الإدانة النظرية للنزعة الإنسانية من جهة، والإعجاب بـ "الثورة" القومية الاشتراكية من جهةٍ أخرى؟ أجاب سارتر بالنفي. فعلى الرغم من أنه قام بزيارة قصيرة لهايدغر عام 1952، تميزت بعدم فهم متبادل، فإنه لم يعد يرجع إلى فكره. كذلك إن رفض الماركسيين فكرَ هايدغر واضح جداً. ولم يبقَ إلا الآخرون، أولئك الذي يرفضون في آن واحد ماركس وسارتر "المتمركس" لسنوات الخمسينيات، والذين ستتطور لديهم تدريجياً مجموعة من المواقف المختلفة والغامضة إلى هذا الحد أو ذاك. (ص 185)
بدأت الموضة مبكّراً جداً ما دام الفكر الهايدغري كان قد حظي باستقبالٍ جيد في فرنسا في مطلع الثلاثنيات. إذ خصص له جورج غوفيتش جزءاً من كتابه حول "التيارات الحديثة في الفلسفة الألمانية" (1930). أما الشاب ليفيناس، الذي تحمّس عام 1927 لكتاب "الوجود والزمن"، فقد نشر سنة 1932 مقالاً حول "مارتن هايدغر والأنطولوجيا". وحتى وإن كان انخراط هايدغر في الحزب القومي الاشتراكي معروفاً منذ سنة 1933، وقد حدّث ألكسندر كواري زميلَه ليفيناس عن ذلك، فإنه لم يكن بعدُ قد بدأ يتحدث عن التقزز الذي ستثيره الحرب، ثم الكشف عن محارق اليهود. هكذا فقد استسلم سارتر، بدون كثير ترددات، لإغراء جدلية "الوجود" و"العدم" التي اكتشفها في الترجمة الفرنسية (1938) لكتاب "ما هي الميتافيزيقا"؟ التي أنجزها هنري كوربان، مساعد كواري في المدرسة التطبيقية للدرسات العليا، قبل أن يتخصص لاحقاً بالمذهب الشيعي الإيراني.
أسهم نجاح وجودية سارتر بعد التحرير في إعاد أعمال هايدغر إلى الواجهة، وبدأت في الوقت نفسه المواقف السياسية لرئيس جامعة فريبورغ السابق تثقل على سمعته. إذ لما توضحت طبيعته النازية الحقيقية، بدأ سارتر يبتعد عنها، إذ نشر في مجلته "الأزمنة الحديثة" (1946ـ 1947) خمسَ مقالات زودت الملف معظم العناصر الضرورية، قدمت ثلاثُ مقالاتٍ منها (موريس دوغاندياك، وكارل لوفيت، وإريك فايل) عن الفيلسوف حكماً سلبياً. بينما جاهد ألفونس دووالينس وفريدريك دوطوارنيكي من أجل تبرئته. ففُتِح بابُ النقاش منذ ذلك الحين: هل يمكن الفصل بين الفلسفة والسياسة؟ هل يمكن رسم حدود بين الإدانة النظرية للنزعة الإنسانية من جهة، والإعجاب بـ "الثورة" القومية الاشتراكية من جهةٍ أخرى؟ أجاب سارتر بالنفي. فعلى الرغم من أنه قام بزيارة قصيرة لهايدغر عام 1952، تميزت بعدم فهم متبادل، فإنه لم يعد يرجع إلى فكره. كذلك إن رفض الماركسيين فكرَ هايدغر واضح جداً. ولم يبقَ إلا الآخرون، أولئك الذي يرفضون في آن واحد ماركس وسارتر "المتمركس" لسنوات الخمسينيات، والذين ستتطور لديهم تدريجياً مجموعة من المواقف المختلفة والغامضة إلى هذا الحد أو ذاك. (ص 185)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق