السبت، 14 سبتمبر 2019

الفلسفة والعلم. نقاش: جمال نعيم، إيلي نجم.




إن كل فلسفةٍ تريد أن تكون علميّةً ليست فلسفة.
(جورج زيناتي)


تعليقات:
ـ إيلي نجم:
في "رسالة في النزعة الإنسانيّة" ، يقول هايدغر : "... فإنّ الفلسفة مضطرة باستمرار إلى أن تبرّر وجودها بمواجهة العلوم. وهي تعلن أنّ ذلك يتأتى لها... حين ترقى بذاتها إلى مصفّ العلم. غير أنّ هذا الجهد هو تخلّ عن ماهيّة الفكر. فالفلسفة يطاردها الخوف من فقدان اعتبارها وصلاحيّتها إن لم تكن علمًا. وهذا يوازي انتقاصًا يماثل اللاعلميّة.... إنّنا نحكم على الفكر بمقاسٍ لا يلائمه. ومثَل هذا الحكم كمثَل الإجراء الذي يسعى إلى تقدير ماهيّة السمك وطاقاته على قَدْرِ أهليّته على العيش على الجافّ من الأرض... "

ـ محمد الحجيري:
 النتائج التي تتوصل إليها العلوم، وإن كانت غير ثابتة وقابلة لاكتشاف قصور أو خطإٍ فيها، فإنها في عصر واحد تصل إلى اتفاق كل الآراء حولها.
الموضوعات الفلسفية غير قابلة للتحقق التجريبي، ولا لإجماع حول نظرية ما في عصرٍ ما، مثل موضوع حرية الإرادة أو غيرها من الموضوعات الفلسفية: ماهية العدالة، الجمال..
أقتبس من زيناتي:
إن الصفة الخاصة لكل علمٍ هي التقدم المستمر في حين أن الفلسفة هي عودةٌ دائمة إلى الأسئلة عينها. إن مسألةً علمية قوبلت بالاحتجاج في فترةٍ زمنية معيّنة تجد في أغلب الأحيان رداً دقيقاً في زمنٍ لاحق، لكننا غير متأكدين من أن مسألة فلسفية طُرحت في زمن أفلاطون قد تجاوزها الزمن.

ـ إيلي نجم:
علمًا، علمًا أنّ لهوسّرل، مؤسّس المنهج الفينومينولوجيّ وأستاذ هايدغر، كتاب بعنوان : "الفلسفة بما كانت علمًا صارمًا".

محمد الحجيري:
نعم، ملاحظتك في مكانها. وقد كان هذا همّاً أساسياً عند هوسرل عمل من أجله وقتاً طويلاً: كيف نجعل من الفلسفة علماً؟
اللافت أن هوسرل على ما يبدو لم يقتنع بما قاله كانط عن عدم مشروعية هذا الطموح. إضافةً إلى أن البذور التي نثرها هوسرل أنبتت في ما بعد غالبية التيارات الفلسفية التأويلية التي تبتعد عن مفهوم الحقيقة الواحدة، التي يجب أن تكون من سمات العلم.
مع الإشارة إلى أن طموح تحويل الفلسفة إلى علم قد بدأ مع ديكارت الذي حاول أن يجعل منها علماً يشبه العلوم الرياضية، وكان يحسب أن ما ينقصه فقط هو نقطة انطلاق يقينية التي وجدها في الكوجيتو..
لكن..

جمال نعيم:
هذه الجملة القصيرة تختزن مضامين لا تنضب وتُحيل إلى تاريخٍ بأكمله:
١-ليست الفلسفة علمًا بأيِّ حالٍ من الأحوال. لم تكن كذلك في الماضي. وليست هي كذلك الآن.
٢-ليست الفلسفة أمًّا للعلوم ولا أبًا لها. هذا الشعور بالامتيازات والتفوّق هو مجرَّد وهمٍ كبيرٍ عاشته الفلسفة.
٣-ليس من علاقةٍ للفلسفة بالصح والغلط. فالأفهوم الفلسفي ليس بقضيّة، ومع ذلك يتمتَّع بالمعنى على عكس ما تذهب إليه الوضعيّة المنطقيّة.
٤-ليست الفلسفة خادمةً للاهوت كما ذهب إلى ذلك القدِّيس أنسلم وليست تابعةً للعلم كما ذهب إلى ذلك أوغيست كونت.
٥-طموح ديكارت ومن بعده هوسرل إلى إصلاح العلوم وجعل الفلسفة علمًا صارمًا انتهى إلى الفشل ولم يؤدِّ إلى فلسفةٍ تتمتّع بأساسات بديهيّة مطلقةٍ متفقٍ عليها.
٦-طموح ديكارت ومن بعده هوسرل لم يكن تحويل الفلسفة إلى علم وضعي، بل إلى جعلها علمًا يتمتّع بأساساتٍ مطلقة وجدها هوسرل في تأسيسها وتأسيس العلم على الأنا المحض المطلق.
٧-العلم، في نظر كنط، قائمٌ وليس به حاجةٌ إلى الفلسفة ليقوم، لكن بالفلسفة حاجةٌ لتسويغ ما هو قائم.
٨-تبدأ الفلسفة قبل العلم فتمهِّد له، أو تبدأ بعد العلم فتفتح آفاقًا جديدةً. العلم الفيزيائي النيوتني قائم. ولكنّ كنط طرح السؤال التالي: كيف يمكن للأحكام التَّأليفيّة قبليًّا أن تكون؟ أي كيف لي أن أقول مثلًا: المعادن تتمدّد بالحرارة؟ هذا السؤال هو فلسفي وليس من مهام العلم.
٩-تنشغل الفلسفة بالتّأسيس. مثلًا تأسيس الأخلاق. علامَ تقوم الأخلاق؟ هذا السؤال لا يمكن أن يكون علميًّا بأيِّ حالٍ من الأحوال.
١٠-تنهمُّ الفلسفة بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته وإن كان لا يستطيع الإجابة عنها. لكنّه يسعى بلا كللٍ ولا مللٍ للإجابة تحقيقًا لراحته: لماذا هناك شيءٌ بدلاً من لا شيء؟
كيف يمكن لما هو ذاتيّ أن يقوِّمَ ما هو موضوعيّ؟
كيف يمكن للفرد أن يقاوم؟ (فوكو).
١١-تطرح الفلسفة مشكلاتٍ خاصَّةً بها ولا تطرح مشكلات العلم. فهي اختصاصٌ قائمٌ بذاته، له مشكلاته وحقوله ومناهجه وإنتاجاته الخاصة به. ولا تقوم الفلسفة إلا بذلك.
١٢-تتميَّز الفلسفة من كلٍّ من العلم والمنطق والفن بحسب ما ذهب إلى ذلك جيل دولوز. لكنّ هذا، في رأيه، لا يمنع من إقامة علاقات وروابط بين الفلسفة والعلم أو الفنون.
١٣-دعا دولوز إلى فلسفةٍ للحدث. فسؤال الماهيّة لا يقول لنا حقيقة الشيء إذ هناك أسئلة أهم تتعلق بالأحداث والظروف. فسؤال ما هي الحقيقة مثلًا؟ ليس هو الأساس، إذ هناك أسئلة أخرى أهم: منْ القائل بذلك؟ في أي حالةٍ يقول ذلك؟ متى؟ في أيِّ ظروف؟ إلى ما هناك من أسئلة لا تشير إلى الماهية. مثلًا : تولي الفيلسوف للسلطة:
منْ القائل؟ متى قال بذلك؟ لماذا قال بذلك؟ في أيّ حالةٍ وفي أيِّ ظروفٍ؟
١٤-ستبقى الفلسفة ولن تموت لأنّها تطرح مشكلاتٍ جديدة خاصّة بها أو تعيد طرح مشكلاتٍ قائمة بشكلٍ مختلف.
١٥-الفلسفة طريقة معيَّنة ومختلفة في التّفكير. لذا لا يمكن أن تكون علمًا بأيِّ حالٍ من الأحوال.
١٦- الفلسفة تعايش لسساتيم بدلًا من سيادة سستامٍ بعينه.

محمد الحجيري:
جزيل الشكر يا دكتور جمال على هذا التعليق الغني.
نفهم من خلال التعليق ما كان أشار إليه الصديق طلال جابر.
نأمل أن توضح أكثر المقصود بـ"التسويغ".
الحديث عن طموح ديكارت وهوسرل حول علمية الفلسفة بالطبع لا علاقة له بالعلم الوضعي، لكن أظن له علاقة بالرياضيات، وبالتحديد عند ديكارت. الرياضيات التي تنطلق من بديهيات ثم تستنبط منها نتائج يقينية. لذلك كان يبحث عن أساس يقيني ليقيم عليه فلسفته، وهو ما وجده في الكوجيتو.
أما عن كون الفلسفة أماً للعلوم، فأتفق معك بمعنى ما بأن الفلسفة كانت فلسفة والعلم علماً، لكن رغم هذا التمايز، فقد كانت العلوم بكاملها تنتمي إلى دائرة الفلسفة ثم بدأت بالاستقلال بعد ذلك وهو ما يذهب إليه التأريخ الكلاسيكي للعلوم. لكن هناك ملاحظة أجدها أهم من ذلك؛ لقد كانت العلوم تنطلق من أفكار فلسفية وتحاول أن تصل إلى نتائج انطلاقاً من تلك الأفكار (الفلسفية) المؤسِّسة: القول بالعناصر الأربعة، أدى إلى محاولة فهم الأمزجة البشرية انطلاقاً من تلك العناصر وامتزاجها.
مبدأ سقوط الأجسام تم تفسيره انطلاقاً من أفكار فلسفية حول طبائع الأجسام: التراب والماء والهواء والنار. تفسير الحركة كان يتم انطلاقاً من أفكار فلسفة أرسطو.
لقد كتب محسن المحمدي مقالة جميلة عن الموضوع يتعلق بفيزياء أرسطو وارتباطها بأفكاره الفلسفية. وقد استمر الأمر على هذا المنوال إلى العصر الحديث حيث تبدو دعوة ديكارت واضحة إلى التخلص من سلطة القدماء (وربما ينطبق ذلك بالدرجة الأولى على أرسطو، إن قصد ذلك ديكارت أم لم يقصد).
لقد تخلصت العلوم من المسلمات الفلسفية مع سيادة المنهج التجريبيي، وهو حديث في الغرب رغم أنه لم يكن كذلك عند العرب..

جمال نعيم:
 التسويغ، بمعنى ما الأساس الذي تقوم عليه ولا يبدو في العلم. فالعلم عند كنط قائم ولا حاجة به إلى الفلسفة ليقوم. لكنّ أسئلةَ الفلسفة من نوعٍ آخر. لذا طرح ديكارت وكنط وهوسرل مسألة الأساس اليقيني الذي يقوم عليه العلم. وجدها ديكارت في الكوجيتو لكن مع ضمانة الله الذي لا يخدع. وهذا ما أزعج كنط وهوسرل.
على صورة الرّياضيّات من حيث اليقين، من حيث العلم القائم على أسس يقينيّة. ولقد وجدها هوسرل في الأنا المحض المطلق من دون الاستعانة بأي ضمانة ميتافيزيقية.
على شاكلة الرياضيّات في البرهنة: هذا ما حاوله سبينوزا في الإطيقا.
ما تتفضل به من تأثير للأفكار الفلسفيّة على العلم وحتى من تأثير الأفكار العلميّة الحديثة على الفلسفة حيث لم يعد ممكنًا للفلسفة أن تتغافل عمّا يجري في العلوم والفنون: هذا صحيح وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ. السؤال الآن: هل العلم به حاجة الى الفلسفة؟ هنا على العلماء أن يجيبوا وليس الفلاسفة.
الخلاصة أنّ نزعة اليقين لم تعد موجودة وأنّ الفلسفة ليست العلم وأنّ دورها واستقلالها محفوظان حتى في ظل تقدم العلم ولا غنًى عنها.

جمال نعيم:
حسم دولوز مشكلة علميّة الفلسفة وتبعيّتها للعلم ومشكلة موت الفلسفة وموت الميتافيزيقا، فاعتبر أنّ الفلسفة اختصاصٌ قائمٌ بذاته كما هو حال العلم. لا امتيازٍ لفرعٍ معرفيٍّ على آخر ولا ادعاء بالتفوق لاختصاصٍ على آخر، كما لا يمكن لاختصاصٍ أن يحلَّ محلَّ الآخر. فالفلسفة ضروريّة لتفكر الحياة والكون كما هو العلم.
أمّا بالنسبة إلى موت الفلسفة وموت الميتافيزيقا فقد اعتبر أنّها ثرثرات عديمة الجدوى .
وميَّز الفلسفة عن الفنون كما ميّزها من المنطق الذي يأخذ فكرة طفليَّةً عن الفلسفة. لذا، فإنّ كلَّ تطمح إلى أن تكون علميّة تحكم على نفسها بالزّوال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق