تاريخ الفلسفة
الغربية
برتراند راسل
ترجمة زكي نجيب محمود
عن دار التنوير في بيروت
حدث إبّان العصر المظلم الذي امتدّ من
نهاية القرن الخامس حتى منتصف الحادي عشر، أن تعاورت العالم الروماني الغربي ضروبٌ
من التغيّر تثير الاهتمام إلى حدٍّ كبير، ذلك أن الصراع القائم بين الواجب نحو
الله والواجب نحو الدولة، ذلك الصراع الذي بذرت المسيحية بذوره، اتخذ صورة الصراع
بين الكنيسة والملك، وقد امتدت سلطة البابا القضائية الكنسية حتى شملت إيطاليا
وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا العظمى وأيرلندة وألمانيا واسكندنافيا وبولندة؛ وكان
نفوذه بادئ ذي بدء بالغ الضعف على الأساقفة ورؤساء الأديرة ـ في ما عدا إيطالي وجنوبي
فرنسا؛ لكنه منذ عهد جريجوري السابع (في أواخر القرن الحادي عشر) بات نفوذاً
حقيقياً وفعالاً؛ إذ أصبح رجال الكنيسة منذ ذلك العهد هيئةً موحّدة في أوروبا
الغربية كلها، تديرها روما، وراحت تنشد لنفسها السلطان في إحكامٍ متدَبّر وصرامةٍ
لا ترحم؛ وحالفها التوفيق عادةً إلى ما بعد عام 1300 كلما نشب صراع بينها وبين
أصحاب السلطة الدنيوية. (13)
كانت القوات المسلحة كلها في جانب الملوك،
ومع ذلك خرجت الكنيسة ظافرةً؛ وإنما ظفرت الكنيسة بالنصر لأنها ـ من جهة ـ كادت
تحتكر التعليم ولأن الملوك ـ من جهة أخرى ـ كانوا في حربٍ لا تنقطع بعضهم مع بعض؛
لكن العلة الرئيسية لنصر الكنيسة هي أن الحكام والشعب على السواء كانوا يعتقدون
اعتقاداً راسخاً بأن الكنيسة في يدها مفاتيح السماء، ففي يدها أن تقرر إن كان هذا
الملك أو ذاك ليقضي وجوده الأبديّ في الجنة أو في الجحيم؛ وفي مستطاع الكنيسة أن ترفع
عن أفراد الرعيّة واجب الولاء للسلطان، وبهذا تحرك الدوافع إلى العصيان؛ أضف إلى
ذلك كله أن الكنيسة كانت تمثل النظام بعد الفوضى، ولهذا اكتسبت تأييد طبقة التجار؛
وكان هذا العامل الأخير هو الذي رجحت به كفة الكنيسة في إيطاليا على وجه الخصوص.
(14)
جاء كتاب "الأمير" لمكيافيلي
معبّراً عن الاضطراب السياسي؛ فإذا لم يكن هناك مبدأ يهدي الناس سواءَ السبيل،
باتت السياسة عراكاً مكشوفاً في سبيل السلطة، وفي كتاب "الأمير" إرشادٌ
ماكر لما ينبغي أن يُتبع في القيام بهذه اللعبة على نحو ينتهي بالتجاح؛ فالذي حدث
في أثينا إبان عصرها الذهبي، عاد فحدث من جديد في إيطاليا أيام النهضة، فامّحت
القيود الخلقية التقليدية، لما رأوها مرتبطة بالخرافة؛ وهذا الفكاك من القيود زاد
الإفراد نشاطاً وإبداعاً، حتى لقد أبدوا من النبوغ ازدهاراً نادر المثال؛ لكن
انحلال الأخلاق مؤدٍّ حتماً إلى الفوضى والخيانة، وهذان كان لهما من التأثير في
الإيطاليين ما عجزهم باعتبارهم جماعةً، فسقطوا ـ كما سقط اليونان ـ حت سلطان أممٍ
أقلَّ منهم حضارة، لكنها لم تكن مثلهم قد تفككت فيها عرى المجتمع. (16)
[من الأسباب التي ساعدت على نجاح الثورة
على الكنيسة] أن الأمراء سرعان ما تبيّنوا أنه لو باتت الكنيسة في بلادهم قومية
كان في مستطاعهم أن يفرضوا عليها سلطانهم، وبهذا تزداد قوتهم في أوطانهم زيادةً
كبيرةً جداً بالقياس إلى ما كانوا عليه حين كانوا يشاركون البابا في سلطانه"
(17)
لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية مستمدَّة من
مصادر ثلاثة: فتاريخها المقدس يهودي، ولاهوتها يوناني، وحكومتها وقانونها ـ على
الأقل بطريق غير مباشر ـ رومانيان؛ وجاء الإصلاح الديني فنبذ العناصر الرومانية،
وحدّ من العناصر اليونانية، وزاد من قوة العناصر اليهودية زيادةً كبرى؛ وبهذا كان
متآزراً مع القوى القومية التي كانت تهدم التماسك الاجتماعي الذي كان نتيجةً
للإمبراطورية الرومانية أولاً، ثم للكنيسة الرومانية ثانياً؛ فالمذهب الكاثوليكي
من رأيه أن الوحي الإلهي لم ينته بالكتاب المقدس، بل إنه قائم متصل من عصر إلى
عصر، وأداته هي الكنيسة.
وإذاً فمن واجب
الفرد أن يُفني آراءه الخاصة في طاعة لها؛ أما البروتستانت فعلى خلاف ذلك، ينبذون
الكنيسة باعتبارها أدةً للوحي؛ فالحق سبيله الكتاب المقدس وحدَه، وواجب كل إنسان
أن يفسّر الكتاب المقدس لنفسه، فإن اختلف الأفراد في تفسيراتهم، فليس هنالك سلطة
عيّنتها السماء لتفصل في أمر الخلاف؛ نعم إن الدولة قد طالبت لنفسها عملياً بنفس
الحق الذي كان من قبلُ للكنيسة، لكن ذلك كان منها اغتصاباً لما ليس لها، فعند
المذهب البروتستانتي، لا يجوز أن تتوسط قوة على الأرض بين روح الإنسان والله.
وكانت نتائج هذا التحوّل جسيمة،
لأنّ الحقَّ لم تعد وسيلةُ ثبوتِه استشارةَ ذوي السلطان، بل التأملُ يقوم به الفردُ
بينه وبين نفسه؛ وبدأ الاتجاه في عالم السياسة يسير بخطواتٍ سريعةٍ نحو الفوضى،
وفي عالم الدين نحو التصرف الذي كان دائماً من العسير عليه أن يجد له مكاناً في
بناء المذهب الكاثوليكي الأصيل ولم ينشأ عن ذلك حركة بروتستانتية واحدة، بل نشأت
كثرة من مذاهب، كما أن الفلسفة السكولائية لم تنهض لمعارضتها فلسفةٌ واحدة، بل
نشأت فلسفاتٌ بعددِ ما كان هنالك من فلاسفة؛ ولم يقم أمبراطورٌ واحدٌ يناهض البابا
ـ كما حدث في القرن الثالث عشر ـ بل قام لمناهضته عددٌ من الملوك الزنادقة؛ (17)
ونتيجةُ ذلك في الفكر وفي الأدب على السواء، هي التعمق المطّرد في انطواء
الأفراد على ذواتهم، وقد كان ذلك أولَ الأمرِ خطوةً سليمةً نحو التحرّر من
العبودية الروحية، لكنه أخذ ينقلب في تدرّجٍ مطّردٍ ثابت إلى عزلةٍ تحيطُ بالفرد
فتجعلُه نافراً من النظام الاجتماعي الصحيح.
وتبدأ الفلسفة الحديثة بديكارت
الذي وضع يقينه الأساسي في وجود نفسه ووجود أفكاره التي يستدل منها على وجود
العالم الخارجي، ولم تكن تلك إلا خطوةً أولى في طريقٍ من التطوّر مرّ خلال باركلي
وكانط ليصل إلى فيخته الذي ذهب إلى أن كل شيء إن هو إلا فيضٌ من الذات؛ وهذا منه
ضربٌ من الجنون، ولذا جعلت الفلسفة تحاول محاولةً لا تنقطع منذ ذلك الحين، أن تلوذ
من هذا التطرف بالفرار إلى عالم الحياة الواقعية التي ندرك أمورَها اليومية
بالإدراك الفطري السليم. (18)
قامت حركات كثيرة تناهض ما ظهر في العصور
الحديثة من ألوان الذاتية التي أمعنت في جنوحها إلى حدّ الجنون؛ وأولى هذه
الحركات، فلسفةٌ وقفت في منتصف الطريق توفّق بين الطرفين، وأعني بها مذهب التحرير
الذي حاول أن يخصص مجالاً للحكومة ومجالاً للفرد بحيث لا يتعارضان؛ وتبدأ هذه
الحركة في صورتها الحديثة عند لوك، الذي يقاوم "حرارة التحمس" ـ أقصد
النزعة الفردية.. ـ كما يقاوم في الوقت نفسه السلطة المطلقة والخضوع الأعمى
للتقاليد؛ إلى جانب ذلك ترى ثورةً أشمل نطاقاً من ثورة لوك، تنتهي إلى مذهب يقول
بعبادة الدولة، وهو مذهبٌ يضع الدولة في نفس المنزلة التي كان هؤلاء يضعون فيها الله؛
وهوبز وروسو وهيغل يمثلون وجوهاً مختلفة لهذه النظرية، وقد تجسدت مذاهبُهم من
الوجهة العملية في كرُمْوِل ونابليون وفي ألمانيا الحديثة؛ ولَئِن كانت الشيوعية
نظرياً بعيدةً كل البعد عن أمثال هذه الفلسفات إلا أنها من الوجهة العملية سائرةٌ
في طريقٍ ينتهي بها إلى نمطٍ من المجتمع شديد الشبه بالمجتمع الذي يترتّب على
عبادة الدولة. (19)
[ملاحظة: لقد نشر راسل هذا الكتاب عام
1945، وهي نفس الفترة التي كتب فيها كارل بوبر كتابه "المجتمع المفتوح
وأعداؤه"؛ ومن المعروف أن راسل ربما كان الوحيد الذي حظي باحترام بوبر الشديد
من بين الفلاسفة الذين ساهموا في تأسيس "الوضعية المنطقية"]
[جدل]
في غضون التطور الطويل الذي يمتد أمدُه من
عام 600 قبل الميلاد إلى يومنا هذا، ترى الفلاسفة ينقسمون إلى فريقين: ففريقٌ يريد
أن يشدّ من الروابط الاجتماعية، وفريقٌ آخر يريد أن يرخي تلك الروابط؛ وعلى هذا
الاختلاف تترتّب اختلافات أخرى؛ فأنصار انخراط الأفراد في سلك المجتمع قد دافعوا
عن نظامٍ فكري يأخذ بالجمود في العقيدة ـ جديدها وقديمها على السواء ـ ولذلك ترى
هؤلاء مضطرين اضطراراً أن يكونوا أعداء العلم ـ مع اختلاف درجتهم في ذلك العداء ـ
ما دامت عقائدهم الجامدة لا يمكن البرهنة عليها برهاناً يقوم على تجربة الحواس؛ وترى
هؤلاء يكادون يجمِعون على تعليم أتباعهم بأن السعادة ليست هي الخير، بل الخيرُ
الأفضل منها عندهم هو "شرف المحتدّ" و"البطولة"؛ وهم يعطفون
على الجوانب اللاعاقلة من الطبيعة الإنسانية، لأنهم أحسوا أن العقل لا يرضى عن
التماسك الاجتماعي؛ أما دعاة الحرية من جهةٍ أخرى ـ إذا استثنينا منهم المتطرفين
في الفوضوية ـ فقد مالوا إلى أن يكونوا ذوي صبغة علمية، نفعية، عقلية، تعادي
العاطفة الحادة، كما تعادي شتى ضروب الدين التي تضرب بجذورها عميقةً في عاطفة
الإنسان؛ وقد كان هذا الصراع قائماً في اليونان قبل نشأة ما نسمّيه الفلسفة؛ وهو
واضح كل الوضوح في المرحلة الأولى من الفكر اليوناني؛ ولقد دام حتى اليوم الحاضر
في صورٍ مختلفة، ولا شك أنه سيدوم مدى قرونٍ طوال في مستقبل الأيام.
وواضحٌ أن كلاًّ من طرفيّ هذا النزاع ـ كما
هي الحال في كل نزاع يدوم بقاؤه آماداً طويلةً من الزمن ـ مصيبٌ إلى حدٍ ومخطئ إلى
حدّ؛ فالتماسك الاجتماعي ضرورة يقوم عليها الدليل العقلي الخالص، فكل مجتمع معرّض
لخطرين متعارضين: فهو معرّض للتحجر بسبب الإسراف في النظام واحترام التقاليد من
جهة، ثم هو معرّض من جهةٍ أخرى للتحلّل والخضوع للغزو الأجنبي بسببٍ من نموّ
النزعة الفردية واستقلال الأشخاص استقلالاً يجعل التعاون مستحيلاً؛ ونستطيع القول
بصفةٍ عامة إن المدنيات الهامة تبدأ بنظام جامد مليءٍ بالخرافات، ثم يأخذ في
التراخي تدريجاً حتى ينتهي في مرحلةٍ معيّنة إلى عصرٍ يسطع بالعبقرية؛ وذلك في
الوقت الذي يقى فيه الجانب الطيب من التقاليد، بينما لا يكون شرّ التحلل قد نمَت
جذورُه بعد؛ لكن الشرّ إذا ما كشف عن نفسه، فسينتهي إلى الفوضى، ومن ثمّ يؤدي
حتماً إلى طغيانٍ جديد ينجم عنه تأليفٌ جديد من عناصر الخير والشر، تعمل على
صيانته مجموعةٌ جديدةٌ من العقائد الجامدة، وأما مذهب التحرر فعبارة عن محاولةِ
التخلّص من هذا التأرجح الذي لا ينتهي، ذلك لأن جوهر هذا المذهب هو السعي في سبيل
الحصول على نظامٍ اجتماعي لا ينبني على العقائد اللامنطقية، والوصول إلى حالةٍ من
الاستقرار بغير حاجةٍ إلى زيادة القيود عن الحد الضروري لصيانة المجتمع، ولا
يستطيع إلا مستقبلُ الأيام أن ينبئ إن كانت هذه المحاولة ستتكلّل بالنجاح. (20)
[هوميروس والمعتقدات اليونانية القديمة]
الأشعار الهوميرية ـ كالقصص الغرامية التي
سادت عِلْيَةَ القوم في الجزء المتأخر من العصور الوسطى ـ تمثل وجهة نظر
الأرستقراطية المتمدّنة التي لم تأبه للخرافات التي لا تزال شائعةً بين عامة الناس
على اعتبار أنها علامة السُوْقة؛ وقد عاد كثيرٌ من هذه الخرافات في عصرٍ جاء بعد
ذلك بزمنٍ طويل، عادت فظهرت ظهوراً جعلها مركزاً للاهتمام؛ ويذهب كثيرٌ من كتّاب
هذا العصر الحديث ـ مهتدين في ما يذهبون إليه بعلم الأجناس البشرية ـ إلاّ [إلى]
أن هوميروس كان أبعد ما يكون الإنسان عن البدائية، بل الأقرب إلى لاصواب أنه كان
يغالب البدائية، فهو من أنصار العقل الذين ظهروا في القرن الثامن عشر [أظن أن
الصواب هو القرن الثامن قبل الميلاد] وأخذوا يبررون بالعقل أساطير القدماء، كأنما
ضرب مثلاً أعلى للطبقة العالية من الحضر المستنير، فلم تكن آلهة الأولمب التي تمثل
الدين عند هوميروس، بالمعبودات الوحيدة عند اليونان، لا في عصر هوميروس ولا بعد
عصره، بل كان إلى جانبها عناصر أخرى أحلك ظلاماً وأشدّ همجية من تلك الآلهة، شاعت
في الديانة الشعبية، تجنّبها العقل اليوناني في عصر ازدهاره، لكنها ظلّت هناك
تتحفّز للوثوب إذا ما حانت لها فرصة ضعفٍ أو إرهاب؛ فإن العقائد التي كان هوميروس
قد نبذها، دلّت في عصر الانحلال على أنها احتفظت ببقائها، فاختفى منها شيءٌ وبقي
شيء خلال العصر القديم كلِّه؛ وهذه الحقيقة تفسر لنا أشياء كثيرة، ولولاها ظلت هذه
الأشياء في أنظارنا نابية في عصرها وتثير العجب. (29)
كانت الديانة البدائية في أرجاء الأرض كلها
ديانةً قبَلية أكثر منها عقيدة شخصية، فقد كان الناس يؤدّون شعائر معيّنة بقصد
استخدام السحر الاستعطافي لخدمة مصالح القبيلة خصوصاً في ما يتعلق بالخصوبة في
الزرع والحيوان والإنسان.. (29)
وعند مراحل معيّنة من مراحل
التطور الديني في أنحاء العالم كله كانت تضحّى صنوفٌ من الحيوان المقدّس وأفراد من
الإنسان، تضحية دينية، فيُذبَحون ويؤكَلون؛ وقد وقعت هذه المرحلة في عصور تختلف
باختلاف المناطق؛ وحدث في أغلب الحالات أن دامت الضحية بالإنسان حتى بعد الإقلاع
عن أكل من يضحّى بهم من الأفراد أكلاً دينياً؛ ولم تكن تلك التضحية بأفراد الإنسان
قد امّحت بعد في اليونان حين بدأت العصور التاريخية..(29)
ولا بدّ لنا أن نعترف بأن
العقيدة الدينية، كما هي في هوميروس، ليست دينية إلى حدٍّ كبير؛ فالآلهة هناك
بشرية إلى أقصى الحدود، لا تختلف عن الإنسان إلا في كونها خالدة ومزوّدة بقوّة
خارقة للطبيعة البشرية؛ أما من الوجهة الخلُقية فليس ثمّة ما يحفزنا إلى
استحسانهم.
.. وأما الشعور الديني الصادق
الذي قد تصادفه عند هوميروس، فإنما تصادفه شعوراً لا يهتم بآلهة الأولمب قدْرَ
اهتمامه بكائناتٍ ألطف وجوداً منها، مثل "القَدَر" و"الضرورة"
و"القضاء"، وهي كائنات يخضع لها زيّوس نفسه، فقد سيطر "القدر"
سيطرةً قويةً على الفكر اليوناني كله، وربما كان مصدراً من المصادر التي استمدّ
منها العِلم اعتقاده بقوانين الطبيعة. (30)
ديونيسوس:
كان ديونيسوس (أو باخوس) في أول الأمر
إلهاً من تراقيا، وكان أهل تراقيا في حضارتهم أقل بكثير جداً من اليونان الذين
عَدّوا التراقيين من الهمج. والتراقيون ككل الشعوب الزراعية البدائية لهم طقوسهم
الخاصة بالإخصاب، ولهم إله يُعنى بالإخصاب، واسمه باخوس. ولم يعلم أحدٌ علم اليقين
عن باخوص هل كان له جسد إنسان أو عجل. فلما عرف الناس طريقة صنع الجعة، ظنوا أن
السُكر شيءٌ إلهي، وكرّموا باخوس من أجل ذلك. ثم لما عرفوا في ما بعد ما الكروم
وما خمرُها، ازدادوا إعلاءً من شأن باخوس، وعندئذٍ تحوّلت وظيفته من الإخصاب بصفةٍ
عامة، إلى العناية بالعنب وبالجنون الإلهي الذي يسببه شرب النبيذ. (33)
[التمدن والزراعة]
إن الإنسان المتمدّن يتميّز من الهمجي
بسداد الرأي قبل كل شيء، أو إذا شئت لفظةً أشمل قليلاً من تلك، فقل إنه يتميّز
ببعد النظر (الذي يتنبأ بما سيقع قبل وقوعه) فتراه لا يأتبى احتمال الألم الراهن
من أجل لذّةٍ مستقبلة، حتى وإن كانت تلك اللذة المقبلة بعيدة الوقوع؛ وقد أخذت
تظهر أهمية هذه العادة حين بدأت الزراعة، فليس هناك حيوانٌ ولا إنسان من الهمج
يعمل في الربيع لكي يدّخر طعاماً للشتاء، اللهم إلا قليلاً من الحالات الغريزية
الخالصة، كالنحل يصنع العسل، والسنجاب يدفن البندق تحت الثرى؛ وليس ثمّة بُعدُ نظر
في هذه الحالات، بل هنالك دافع مباشر يدفع الحيوان إلى فعلٍ لا يعلم عن نفعه في
المستقبل إلا الإنسان المتفرج؛ إن بُعد النظر الحقيقي هو الذي يقع حين يفعل
الإنسان فعلاً لا يدفعه إلى فعله دافعٌ طبيعي، بل يفعله لأن عقله يهديه إلى أنه
سينفع بهذا الفعل في تاريخ مقبل؛ ولا يحتاج الصيد إلى بُعد نظر لأنه لذيذ، أما حرث
الأرض فعمل شاق ويستحيل فعله بدافع فطريٍّ باطني. (34)
[باخوس والأورفية وأفلاطون]
[إذا] جاز للعلم أن يصنع الحدود للمعرفة،
فلا يجوز له أن يضع أمثال هذه الحدود للخيال؛ وبين فلاسفة اليونان ـ كما هي الحال
مع فلاسفة العصور التالية ـ فريقٌ يميل إلى العلم بصفةٍ رئيسية، وفريقٌ آخر يميل
إلى الدين قبل أيّ شيءٍ آخر؛ وأما هذا الفريق الثاني فمَدِينٌ بشيءٍ كثير لديانهة
باخوس [=ديونيسوس]، سواءٌ جاء ذلك بطريقٍ مباشر أو غير مباشر؛ وهذا القول ينطبق
بصفةٍ خاصة على أفلاطون، وعلى ما تفرّع عنه في ما بعد من فروع تبلورت في نهاية
الأمر في اللاهوت المسيحي. كانت عبادة ديونيسوس في صورتها الأولى وحشية، بل كانت
منفردة [منفرة] في كثيرٍ من نواحيها، وهي لم تؤثّر في الفلاسفة بصورتها تلك، بل
أثّرت فيهم حين اتخذت صورتها الروحية التي تعزى إلى أورفيوس، وهي صورة مصطبعةٌ
بالزهد، أحلّت السُّكْرَ الروحي مكان السُكرِ البدني.
وأورفيوس هذا شخصيةٌ غامضة لكنها تستوقف
النظر؛ ويعتقد بعضٌ أنه كان رجلاً حقيقياً، على حين يعتقد آخرون أنه كان إلهاً أو
بطلاً خيالياً؛ وتجري الرواية بأنه ـ مثل باخوس ـ جاء من تراقيا [=الجزء الأوروبي
من تركيا اليوم]، لكن الظاهر أن الرأي الأرجح هو أنه (أو الحركة المرتبطة باسمه)
جاءت من كريت؛ ومن المؤكد أن التعاليم الأورفية تحتوي على كثيرٍ مما يظهر أن قد
كانت جذوره الأولى في مصر، وأنّ كريت هي حلقة الوصل بين مصر واليونان في انتقال
هذا الأثر؛ ويقال إن أورفيوس كان مصلحاً مزّقته طائفةٌ متهوّسة من معتنقي المذهب
الباخي [نسبةً إلى باخوس أو ديونيسوس]، ولم يكن انصرافُه إلى الموسيقى في الأدوار
الأولى من الأسطورة التي تُروى عنه، بنفس الأهمية التي بدت لهذا الجانب في الأدوار
المتأخرة من تلك الأسطورة. وعلى كل حال فهو كاهنٌ وفيلسوف قبل أيّ شيءٍ آخر.
ومهما يكن من أمر تعاليم أورفيوس (لو قد
كان له وجود) فنحن على علمٍ تام بالتعاليم الأورفية نفسه (أي تعاليم الأتباع)، فقد
كان الأورفيون يعتقدون في تناسخ الأرواح، وذهبوا إلى أنّ الروح في الحياة الآخرة
قد تنعم نعيماً أبدياً أو قد تشقى بعذاب مقيم أو موقوت، بحسب نوع الحياة التي
قضاها صاحبُها في الدنيا؛ ولكن هدفَهم أن يجعلوا أنفسهم "أطهاراً"
بالاحتفالات الدينية التي تعمل على التطهير من ناحية، وبتجنّبهم أنواعاً من الدنس
من ناحيةٍ أخرى، وأشدّهم تمسكاً بعقيدته كان يمتنع عن أكل الحيوان، اللهم إلا في
مناسباتٍ طقوسية، وعندئذٍ يأكلونه في صورة دينية، وهم يتقدون أن الإنسان بعضَه من
الأرض وبعضَه من السماء؛ والحياة الطاهرة تزيد من الجزء السماوي وتُنقِص من الجزء
الأرضي، وقد يستطيع الإنسان في النهاية أن يتحد مع باخوس حتى ليدعى بهذا الاسم
نفسه؛ ولهم لاهوت مفصّل ينصّ على أنّ باخوس وُلِد مرتين، مرة أولى من أمِّه
"سِمِلي" ومرةً ثانية من فخذ أبيه زيوس.
وللأسطورة الديونيسوسية صورٌ كثيرة، تقول
إحداها إنّ ديونيسوس هو ابن "زيوس" و"برسفوني" وقد مزّقه
العمالقة [الطيطان] إرباً إرباً حين كان صبياً، وأكلوا لحمه كله إلا قلبَه؛ ويقول
بعضٌ إن زيوس أعطى القلب لـ "سِمِلي" ويقول آخرون إن "زيوس"
ازدرده ازدراداً؛ وكان ذلك في أيٍّ من الحالتين سبباً في مولدٍ جديد لديونيسوس؛
وتمزيق الباخيّين [عبدَة باخوس أو ديونيسوس] لحيوانٍ مفترس والتهام لحمه نيّئاً،
إنما يرمز إلى تمزيق ديونيسوس وأكله على أيدي العمالقة؛ والحيوان نفسه رمزٌ لتجسيد
الله بمعنىً من المعاني؛ وأما المالقة فقد وُلِدوا من الأرض أولاً، لكنهم بعد
أكلهم للإله دبّت فيهم شرارةٌ إلهية؛ وكذلك الإنسان بعضه أرضي وبعضه إلهي، والطقوس
الباخيّة هدفُها أن تجعل الإنسان إلهياً كله تقريباً. (36)
[كان الدكتور يوسف الحوراني يقول بأن زيّوس
انتقم من الطيطان بعد التهامهم ولده بأن أحرقهم ثم جعل الإنسان من رمادهم. وبذلك
فإن الإنسان يحمل في تكوينه عنصرين: عنصر إلهي من أثر ابن زيوس الذي التهمه
الطيطان، وعنصر "شيطاني" من أثر الطيطان أنفسهم]
** يقال بأن أفلاطون قد فلسف النحلة
الأورفية.
لقد تسلّل هذا العنصر الصوفي (الأورفية)
إلى الفلسفة اليونانية على أيدي فيثاغورس الذي كان مصلحاً للمذهب الأورفي، كما كان
أورفيوس نفسه مصلحاً للديانة الديونيسوسية، ثم انتقلت الأورفية من فيثاغورس إلى
أفلاطون، ومن أفلاطون انتقلت من جديد إلى معظم الفلسفات التي جاءت بعدئذٍ فكان
عنصرٌ دينيٌّ قلّ أو كثر.
وأينما كان للأورفية نفوذٌ غُرِست جذور
المذهب الباخي الصريح، ومن بين هذه الجذور الباخية عنصر نسائي تراه واضحاً في
فيثاغورس، ثم تراه قد اتسع عند أفلاطون اتساعاً جعل هذا الفيلسوف يطالب للنساء
بالمساواة السياسية المطلقة. [؟]
ومن هذه الجذور الباخية أيضاً احترام
العاطفة العنيفة، حتى لقد نشأت المأساة اليونانية من طقوس الديانة الديونيسوسية؛
وترى يوروبيد بصفةٍ خاصة يعلي من شأن الإلهين الرئيسيين في المذهب الأورفي، وهما
ديونيسوس وإروس. (38)
كان اليونان يتمثّلون بحكمةٍ
عندهم تقول: "لا تُفرِط في شيء". لكنهم كانوا في الواقع يسرفون في كل
شيء ـ في التفكير الخالص، وفي الشِّع، وفي الدين، وفي الخطيئة؛ وإن ما بلغ بهم
مبلغ العظمة هو امتزاج العاطفة والعقل؛ ولم يكن العقل وحدَه ولا العاطفة وحدَها
لتحوّل العالم أبد الدهر بمقدار ما عملا معاً على تحويله؛ وليس نموذج اليونان في
أساطيرهم هو زيّوس الأولمبي، لكنه برويثيوس الذي جاء بالنار من السماء، فكان جزاؤه
عذاباً سرمديّاً. (40)
الديانة بين الشرق واليونان
وكأنما أوشكت الديانة اليونانية أن تبدأ
المرحلة التي كانت الديانات في الشرق قد بلغتها فعلاً؛ ويتعذّر علينا أن ندرك كيف
كان يمكن لأي شيء أن يوقف فيها هذا الاتجاه، لولا نشأة العلم؛ وإنه لمن الأقوال
المألوفة عن اليونان أنهم أُنقِذوا من ديانة على النمط الشرقي لعدم وجود طائفة
الكهنة عندهم؛ لكن هذا القول يخلط بين ما هو نتيجة وما هو سبب. فيجعل النتيجةَ
سبباً؛ فالكهنة لا تخلق العقائد الجامدة، ولو أنهم يحافظون عليها بعد أن تتكوّن؛
ولم يكن للشعوب الشرقية في المراحل الأولى من تطوّرهم كهنةٌ أيضاً، بالمعنى
المقصود بهذه الكلمة في الاستعمال السابق؛ فالذي أنقذ اليونان ليس هو غياب طائفة
الكهنة من بينهم بمقدار ما هو وجود المدارس العلمية. (42)
بينما أثّرت مصرُ في أهل اليونان أثراً لا
شكّ فيه، لم يؤثّر اليهود فيهم. (45)
[يرى أنكسمندر
(القرن السادس ق. م) بأنه] كان ثمّة حركةٌ منذ الأزل، تمت في غضونها نشأة العالم؛
ذلك أن هذه العوالم لم تُخلق كما تقول اليهودية والمسيحية، بل تطورت؛ وكذلك حدث
تطور في مملكة الحيوان، فنشأت الكائنات الحية من العنصر الرطب حين أخذت الشمس
تبخره؛ والإنسان ـ كأي حيوان آخر ـ هو سليل الأسماك؛ ولا بد يكون الإنسان قد
[تدرّج] من صنوف من الحيوان تختلف عنه لأنه كان من المستحيل عليه ـ سبب طفولته
الطويلة ـ أن يحتفظ ببقائه في أول مراحل التطور لو كان عندئذٍ على صورته الراهنة.
(47)
أنكسيمنس: عنده أن
العنصر الرئيسي هو الهواء، فالريح هواء، والنار هواء مخلخل؛ وإذا تكثف الهواء
انقلب بادئ الأمر ماء، ثم إذا مضيت في تكثيفه انقلب تراباً .. ولهذه النظرية حسنة
هي أنها تجعل الفوارق كلها بين العناصر المختلفة، اختلافاً في الكمية. (48)
كان فيثاغورس
(580ـ 495) الذي سأجعل تأثيره في العصور
القديمة والحديثة موضوع هذا الفصل ـ من أهم ما شهدت الدنيا من رجال من الوجهة
العقلية؛ وهو بهذه الأهمية كلها في كلتا حالتيه: حين أصاب وحين أخطأ على السواء.
(50)
هو مؤسس ديانته، أهم اتجاه فيها هو مذهب
تناسخ الأرواح. (52)
يقول كورنفورد في كتابه "من الدين إلى
الفلسفة" أنه يرى أن "مدرسة فيثافورس تمثل التيا الأساسي في الاتجاه
الصوفي الذي جعلناه أحد المجرَيَيْن الرئيسيّين، حين جعلنا الآخر الاتجاه
العلمي"؛ وهو يعتبر بارمنيدس الذي نسميه "مستكشف المنطق" نتيجةً
تفرّعت عن الفيثاغورية، ويرى أن أفلاطون نفسه قد وجد المعين الرئيسي لوحيه في
الفلسفة الإيطالية" [أي في فيثاغورس] (53)
كانت الجمعية التي أسسها، تقبل الرجال
والنساء على قدم المساواة، وكانت الملْكية فيها مشاعاً للجميع، كما أنهم جميعاً
كانوا يعيشون على غرار واحد؛ بل إن ما يستكشفونه في العلم والرياضة، كانوا
يعتبرونه كشفاً جمعياً، وينسبونه إلى فيثاغورس حتى بعد موته، نسبةٌ فيها معنىً من
معاني التصوّف؛ وحدث أن خرج "هباسوس" من أهالي "مينابونتيون"
على هذه القاعدة فتحطمت به السفينة جزاءً من عند الآلهة الغضبى عما اقترف من إثم.
لكن ما شأن هذا كله بالرياضة؟ إن الرابطة
بينه وبين الرياضة هي رابطةٌ خلُقية، لأنه كان بهذا يعلي من شأن الحياة التأملية،
ويلخص لنا "بيرنت" ما في هذه التعاليم من صيغة خلقية فيقول"
نحن في هذا العالم غرباء، والجسم هو مقبرة
الروح، ومع ذلك فلا يجوز لأحد منا أن يلتمس الفرار بالانتحار، لأننا ملْكٌ لله، هو
راعينا، وما لم تشأ إرادتُه الفرار، فلا حق لنا في تهيئته لأنفسنا بأنفسنا؛ والناس
في هذه الحياة ثلاثة ضروب تقابل الضروب الثلاثة من الناس الذين يفدون إلى الألعاب
الأولمبية: فأحط الطبقات جماعةٌ جاءت تبيع وتشتري، ويتليها ارتفاعاً إولئك الذين
جاؤوا يتنافسون في المضمار؛ وخير الناس جميعاً هم أولئك الذين جاؤوا ينظرون إلى ما
يجري وحسبهم ذلك؛ وعلى ذلك فأعلى درجات التطهير النفسي هو العلم الذي لا يجعل
الهوى أساسه، وإن مَن يستطيع تكريس نفسه لذلك لهو الفيلسوف الحق، الذي فك الأغلال
التي تربطه "بعجلة الميلاد". (54)
إنّ تعريف الحقيقة في عصرنا
الحديث، كتعريف البراغماتية والذرائعية لها، وهما اتجاهان عمليّان أكثر منهما
تأمّلين نظريّين؛ أقول إن تعريف الحقيقة عند أصحاب هذه الاتجاهات العملية قد أوحى
به العصر الصناعي بالقياس إلى عصر سيادة الأرستقراطية (55)
[لقد] كانت الرياضة مرتبطةً بنوعٍ من الخطأ،
لكنه خطأ ألطف في نوعه مما ذكرنا؛ فقد خيّل للناس أن الرياضة يقينية ومضبوطة ويمكن
انطباقها على العالم الواقع. أضف إلى ذلك أنّ وسيلة الحصول عليها هي الفكر الخالص
الذي لا حاجة فيه إلى المشاهدة بالحواس؛ ونتيجةَ هذا كلِّه، ظنّ الناس أنها تهيّئ
لهم مثلاً أعلى للمعرفة يقصر دونه نوع المعرفة السحية التي نستمدها من الحياة
الومية؛ وحسِبَ الناسُ ـ معتمدين في ذلك على الرياضة ـ أن الفكر أعلى منزلةً من
الحسّ، وأن الحدسَ أهدى إلى الحق من الملاحظة، فإذا وجدنا أنّ عالم الحسّ لا يطابق
الرياضة فلننبذ عالم الحسّ؛ وهكذا جعل الناسُ يلتمسون بالوسائل المختلفة ذلك المثل
الأعلى للرياضة، ونجم عن ذلك من الآراء ما أصبح مصدراً لكثيرٍ من الخطأ في
الميتافيزيقا وفي نظرية المعرفة؛ وإنما يبدأ هذا الضرب من الفلسفة بفيثاغورس. (56)
كلنا نعلم أن فيثاغورس قد ذهب إلى أن
"الأشياء كلها أعداد"، ونحن إذا فهمنا هذه العبارة من وجهة نظر حديثة
وجدناها كلاماً ليس له معنى؛ لكن ما أراده فيثاغورس بعبارته لم يخلُ من المعنى
خلوّاً تاماً، فقد أدرك أهمية الأعداد في الموسيقى..
إن الأعداد كانت ترد في ذهن فيثاغورس على
هيئة أشكال، كما تبدو في زهر اللعب وورق اللعب، وما زلنا حتى اليوم نقول:
"مربع العدد" و"مكعّب العدد" وهي ألفاظٌ ورثناها عنه؛ كذلك
كان فيثاغورس يتحدث عن أعدادٍ مستطيلة وأعداد مثلثة وأعدادٍ هرمية وهلمّ جراً؛
وكان يقصد بذلك عدد الحصى المطلوب لتكوين هذه الأشكال. (56)
[عن فيثاغور. نص لبرتراند راسل.]
لقد كان تأثير الهندسة في الفلسفة وفي
الطريقة العلمية عميقاً، فالهندسة، كما بدأها اليونان، تبدأ ببديهيات واضحةٍ
بذاتِها (أو ظُنَّ أنها كذلك)، ثم تمضي في تدليلها بخطواتٍ قياسية، لكي تنتهي إلى
نظرياتٍ أبعدَ جداً من أن تكون واضحةً بذاته، وهم يسلّمون بأنّ البديهيات والنظريات
على السواء تصوِّر المكان الحقيقي تصويراً صحيحاً، مع أن المكان يأتينا العلم به
عن طريق الخبرة؛ ومن ثمّ خيِّل إليهم أنه من الممكن للإنسان أن يحصّل بعض العلم عن
العالم الواقعي إذا ما بدأ أولاً باستخراج الحقائق الواضحة بذاتها، ثم استخدم
طريقة الاستنتاج القياسي بعد ذلك؛ ولقد أثّرت هذه النظرية في أفلاطون وكانط ومعظم
من جاء بينهما من الفلاسفة؛ وإذا ما رأيتَ "إعلان الاستقلال" يتضمّن هذه
العبارة: "نحن نعتقد أن هذه الحقائق واضحة بذاتها" فاعلم أنه قد صيغ على
غرار إقليدس، ومذهب الحقوق الطبيعية الذي ظهر في القرن الثامن عشر يستخدم
البديهيات الإقليدية في السياسة*، وكتاب نيوتن "الأصول" [أظن أن الأصح
هو "المبادئ"، لأن كتاب نيوتن هو بعنوان: "المبادئ الرياضية لفلسفة
الطبيعة"] متأثرٌ بالطريقة الإقليدية تأثراً تاماً في صورته، على الرغم من
أنّ مادّته قائمة على التجربة الحسية قياماً لا سبيل إلى الشك فيه؛ وكذلك اللاهوت
في صُوَرِه السكولائية الدقيقة، يستمد أسلوبَه من المصدر نفسه؛ فالديانة الشخصية
مستمدَّة من النشوة، واللاهوت مستمَدّ من الرياضة، وكلاهما يمكن تعقب أصوله إلى
فيثاغورس.
فعقيدتي هي أن الرياضة كانت المصدر الأساسي
الذي عنه تفرّع الاعتقاد في حقيقةٍ أبديّة مضبوطة، وفي عالم معقول فوق مستوى
الحسّ. (58)
إن الهندسة تبحث في دوائرَ مضبوطة؛ لكن ليس
بين ما يقع تحت الحسّ من أشياءَ دائرةٌ مضبوطة، فمهما حرصتَ في استعمال الفرجار،
فلا بدّ أن يكون في الدوائر التي ترسمها به بعضُ أوجه النقص وعدم الاطّراد؛ وهذا
فيه إيحاءٌ بأن كل تدليل مضبوط ينطبق على موضوعات الفكر لا موضوعات الحواسّ؛ ومن
الطبيعي أن نمضي وراء ذلك خطوة، فنقيم الحجة على أن الفكر أسمىمنزلةً من الحواس،
وأن ما ندركه بالتفكير أقربُ إلى الحق مما ندركه بالحواس؛ كذلك ترى الرياضة البحتة
عاملاً يؤيد المذاهب الصوفية في العلاقة بين الزمان والأبدية؛ ذلك لأنّ موضوعات
الرياضة ـ كالأعداد مثلاً ـ إذا كانت صحيحة إطلاقاً، فهي أبديةٌ ولا تقع في
الزمان، ويمكن أن نتصوّر أمثال هذه الأشياء الأبدية على أنها أفكار الله؛ ومن ثَمّ
جاء مذهب أفلاطون بأن الله عالِم هندسة، كما جاءت عقيدة "سير جيمز جينز"
بأن الله قد اختص نفسه بعلم الحساب؛ إن العقائد الدينية العقلية ـ مميّزة من
العقائد التي هبط بها الوحي ـ ما فتئت منذ فيثاغورس ـ ومنذ أفلاطون على وجه أخص ـ
متأثرة بالرياضة وبانهج الرياضي تأثراً كاملاً شاملاً. (58)
كان امتزاج الرياضة باللاهوت، الذي بدأ على
يديّ فيثاغورس، صفةً تميّزت بها الفلسفة الدينية في اليونان، وفي العصور الوسطى،
وفي العصور الحديثة حتى كانط؛ وكانت الأورفية قبل فيثاغورس شبيهة بالديانات
الآسيوية التي يكتنفها الخفاء؛ أما عند أفلاطون والقديس أوغسطين وتوما الأكويني
وديكارت واسبينوزا ولايبنتز، فترى امتزاجاً وثيقاً بين العقيدة الدينية والتدليل
العقلي، بين الطموح الخلقي والإعجاب المنطقي بما هو غير خاضع لقيود الزمن؛ وإنما
هبط إليهم ذلك الامتزاج الوثيق بين الجانبين من فيثاغورس، وأصبح يميّز اللاهوت المصطبغ
بصبغةِ العقل في أوروبا، يميّزه من تصوّف آسيا الذي تراه أكثر صراحةً في نزعته
الصوفية؛ ولم نستطع أن نبيّن في وضوحٍ جليّ مواضع الخطأ عند فيثاغورس إلا في
العصور الحديثة جداً؛ فلست أعلم عن رجلٍ آخر كان له من
التأثير في نطاق الفكر ما كان فيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونياً،
ستجده عند التحليل فيثاغورياً في جوهره؛ فكل الفكرة القائلة بوجود عالمٍ أزليّ،
ينكشف للعقل ولا ينكشف للحواس، مستمدَّة من فيثاغورس؛ ولولاه لما فكر
المسسيحيون في المسيح على أنه "الكلمة"، ولولاه أيضاً لما حاول رجال
اللاهوت أن يلتمسوا البراهين على وجود الله وخلود الروح؛ غير أن هذا كلّه كان في
فيثاغورس لا يزال كامناً، وسيتضح في غضون كلامنا كيف أصبح الكامن ظاهراً صريحاً.
(59)
إذا أقبلتَ على دراسة فيلسوف، كان الموقف
الصحيح هو ألا تشعرَ نحوه باحترام ولا باحتقار؛ بل أن تنظر إليه أول الأمر بنوعٍ
من مشاركته وجدانَه مشاركةً تقوم على افتراض أنك توافقه في وجهة النظر، حتى يمكنَك
أن تعرف كيف يكون شعورُك في الواقع حين تؤمن بنظرياته؛ وعندئذٍ فقط، لك أن تثير في
نفسك موقفَ الناقد، وهو موقفٌ يجب أن يكون شبيهاً ـ ما استطعتَ إلى هذه المشابهة
سبيلاً ـ بالحالة العقلية لشخصٍ في سبيله إلى نبذ آراءٍ كان يعتقد في صدقها؛ على
أنّ الاحتقار قد يتسلل إلى موقفنا في نصفها الثاني، على شريطة أن تظلَّ ذاكراً
لنقطتين: الأولى هي أن الرجل الذي استحقت آراؤه ونظرياتُه أن تكون موضع درس، لك أن
تفرض فيه أنه كان على قدْرٍ من الذكاء، والثانية هي أنه لا يحتمل أبداً لأي إنسان
أن يكون قد بلغ الحق النهائي الكامل في أيّ موضوعٍ كائناً ما كان؛ (62)
[فيلسوف سابق لزمانه]
لقد ظهر بين فيثاغورس وهرقليطس
فيلسوف آخر [لا] يقلّ عنهما أهميةً، وهو إكسانوفان؛ ولسنا نعلم اليقين عن تاريخه
الزمني، وأهم ما يحدده لنا هو أنه يشير إلى فيثاغورس، ثم يشير إليه هيراقليطس؛ وهو
أيّوني المولد، لكنه عاش معظم حياته في جنوبي إيطاليا؛ وذهب إلى أنّ الأشياء كلّها
من تراب وماء؛ وكان في ما يختص بالآلهة حرّاً في تفكيره بغير تردّد. [يقول]:
"إن هوميروس وهزيود قد نسَبا إلى الآلهة كل ما يجل العار [والشنار] للبشر،
فنسَبا إليهم السرقة والزنا ولاخداع بعضُهم تجاه بعض.. إن البشر لَيظنُّون أن
الآلهة وُلِدوا كما وُلدوا، ولهم ثياب يرتدونها كثيابهم،ولهم صوتٌ وصورة.. نعم،
ولو كان للثيران وللخيل أو الأُسْسدِ أيدٍ، وكان في مستطاعها أن ترسم الرسوم
بأيديها، وأن تنتج الأعمال الفنيّة كما ينتجها الإنسان، إذاً لصوّرَت الخيلُ
الآلهةَ على صورة الخيل، ولاثيرانُ على صورة الثيران، ولَجَعلَ كلُّ نوعٍ منها
أجسام الآلهة على غرار نوعه هو.. إن أهلَ أثيوبيا يجعلون آلهتهم سود البشرة، فطس
الأنوف. ويقول التراقيون إن آلهتهم زرق العيون، حمر الشعر". وكان إكسانوفان
يعتقد في إله واحدٍ يختلف عن الناس شكلاً وتفكيراً، فهو "بغير جهد يسيّر
الأشياء جميعاً بقوّةِ عقلِه". وتهكّم إكسانوفان من المذهب الفيثاغوري في
تناسخ الأرواح..
كذلك ذهب إكسانوفان إلى أنه من
المستحيل على إنسان أن يثبت الصدق في أمور اللاهوت "فالحقيقة المؤكدة هي أنه
ليس بين الناس، ولن يكون بينهم أبدَ الدهر، مَن يعرف شيئاً عن الآلهة أو عن كل هذه
الأشياء التي أتحدث عنها؛ نعم، حتى ولو شاءت المصادفة لشخص أن يقول الصواب التام
في أمرٍ من الأمور، فسيظل هو نفسه على غير علمٍ بصوابه. إنك لن تجد غيرَ التخمين
أينما وجّهتَ النظر". (62)
على الرغم من أنّ هيراقليطس أيونيّ، إلا
أنه لم يتصف بالنظرة العلمية التي تميَّز بها أهل ملطية؛ بل كان صوفياً من نوعٍ فريد، وذهب إلى أن النار هي العنصر الرئيس؛ فكل شيءٍ ـ مثلُ لهبِ النار ـ يولد
بموت غيره، "إن أصحاب الفناء خالدون، والخالدون هم من أصحاب الفناء؛ وكل
واحدٍ يعيش بموتِ غيره ويموت بحياة غيره". (63)
"إن أهل إفسسوس يحسنون صنعاً لو شنقوا
أنفسهم بحيث لا يبقى من رجالهم رجلٌ واحد، فتُترَك المدينة للصِّبية غير ذوي
اللِّحى. (63)
يقول [هيراقليطس]: "الحرب أبٌ للجميع
ومَلِكٌ على الجميع؛ والحرب هي التي جعلت بعض الأفراد ناساً وبعضَهم آلهة، وهي
التي جعلَت بعضَ الناس أحراراً وبعضَهم عبيداً". (64)
[هيراقليطس ونيتشه]
[نقرأ عبارات هيراقليطس التهكمية في ما يخص
معتقدات عصره، وهو ما يذكرنا بموقف نيتشه من أديان عصره أيضاً، نراه يقول]:
"إن مولانا الذي نرى راعِيه في دلفي، لا هو يفصح عما يريد، ولا هو يكتمه،
لكنه يدل على مراده بما يرمز إليه".
"العرّافةُ بشفتين هاذيتَين تنطق
أشياء لا مرحَ فيها ولا زخرف ولا عطر، فتَعْبُرُ ألف سنة بصوتها بفضل الإله الكامن
فيها."
"المشاة في الليل والسحرة وكهنة باخوس
وكاهنات دِنان الخمر، كل هؤلاء يتاجرون بالأسرار"..
"إن الأسرار الذائع أمرُها بين الناس
هي أسرارٌ بغير قدسية، ولاناس يوجّهون بصلواتهم إلى هذه الأوثان، كأنما يتوجه
الإنسان بالدعاء إلى بيته، إذ هو لا يدري ماذا عسى أن تكون الالهة أو يكون
الأبطال." (65)
[من العناصر الأربعة عند اليونان إلى
الكيمياء عند العرب]
لقد ذهب هيراقليطس إلى أنّ النار هي العنصر
الأول الذي خرج منه كلُّ شيءٍ آخر؛ .. وكاليس كان يعتبر الماء أصل الأشياء،
وأناكسيمانس ظنّ أن العنصر الأول هو الهواء؛ وها هو ذا هيراقليطس قد آثر النار،
وأخيراً جاء أمباذوقليس واقترح حلاً يوفق بين وجهات النظر كأنه في ذلك من أصحاب
السياسة، وذلك بأن قَبِل العناصر الأربعة: التراب والهواء والنار والماء؛ وها هنا
عند هذا الحدّ وقفتْ كيمياءُ القدماء وقفةَ الأموات، ولم يَخطُ هذا العلم خطوةً
أخرى إلى الأمام حتى أخذ الكيمياويون المسلمون في بحثهم عن حجر الفيلسوف، وإكسير
الحياة، وعن طريقه يحوّلون بها المعادن الخسيسة ذهباً. (65)
[يقول المستشرق الفرنسي Berthelot (18271827ـ 1907) (وهو عالم كيمياء
وبيولوجيا وإيبستيمولوجي فرنسي) بأن لجابر بن حيان (القرن الثامن للميلاد) في
الكيمياء ما لأرسطو في المنطق.
ومن المعروف أن اهتمام العرب في الكيمياء
بدأ في العصر الأموي ولأسبابٍ غير علمية، لكنه تحوّل إلى علمٍ على يديهم في العصر
العباسي بفضل التجارب المخبرية]
"كل الأشياء بالنسبة لله عادلة وخيّرة
وصحيحة؛ أما الناسُ فيرَوْن بعض الأشياء خطأً وبعضَها صواباً"
"الطريق الصاعد والطريق الهابط هما
طريقٌ واحدٌ بعينه"
"الله هو النهار والليل ولاشتاء
والصيف والحرب والسلام والشبع والجوع؛ لكنه يتخذ أشكالاً عدّةً، كما يطلق على
النار أسماء تختلف ـ إذا امتزجت بالتوابل ـ باختلاف الشذى الذي يفوح في كل
حالة". (66)
[مصفاة أفلاطون وأرسطو لتاريخ الفلسفة]
إن كلمات هيراقليطس ـ كما هي الحال في سائر
الفلاسفة قبل أفلاطون ـ لا تصادفها إلا في سياقٍ اخترعه أفلاطون وأرسطو اختراعاً،
بُغيةَ أن يدحضوها، إننا إذا تخيلنا ما يصيب أيَّ فيلسوف حديث، لو كانت الوسيلة
الوحيدة لمعرفة فلسفته هي مناقشة منافسيه لتلك الفلسفة، عرفنا أن الفلاسفة قبل
سقراط لا بدّ أن يكونوا قد بلغوا من الإبداع حداً بعيداً، ما داموا يحتفظون
بالعظمة حتى حين ننظر إليهم خلال ضباب الحقد الذي اكتنفهم به أعداؤهم. (67)
إن البحث عن شيءٍ يتّصف بالدوام، هو من
أعمق الغرائز التي تؤدي بالإنسان إلى الفلسفة. .. والدين ينشد هذا الدوام في
صورتين: الله والخلود. (68)
ـ أمباذوقليس
كان أمباذوقليس في أزهر أعوامه حوالي سنة
440 ق.م، وإذاً فقد كان يعاصر بارمنيدس. (76)
كان له نظرية [غريبة] عن التطور وبقاء الأصلح
(77)
وأما في الفلك فقد عرف أنّ القمر يضيء
بأشعة منعكسةٍ عليه، وظن أن ذلك صحيح أيضاً بالنسبة للشمس؛ وقال إن الضوء يستغرق
في انتقاله زمناً، لكنه زمنٌ يبلغ من القصر حداً لا نتمكّن معه من ملاحظته؛ وعرف
كذلك أن كسوف الشمس يحدث بتوسطط القمر بين الأرض والشمس، وهي حقيقة نقلها ـ في ما
يظهر ـ عن أناكسجوراس. (78)
كان هو الذي جعل من التراب والهواء والنار
والماء العناصر الأربعة. قديمة. [تتصل بالمحبة وتنفصل بالبغضاء]
أثينا:
تبدأ عظمة أثينا من عهد الحربين الفارسيتين
(490؛ 480) أما قبل ذلك العهد كانت أيونيا إريقيا الكبرى (وهو اسم يُطلَق على
المدن الإيطالية في جنوبي إيطاليا وصقلية) هما اللتان تنجبان عظماء الرجال؛ فقد
اكتسبت أثينا منزلةً رفيعةً بسبب نصرها على دارا ملك الفرس عند ماراثون (490) ..
وعلى ابنه عام 480 ق.م.
.. ولم تسهم إسبرطة في هذا الأمر، لأن
الإسبرطيين لم يُعنَوْا إلا بأرضهم.
وقد أثْرَت أثينا وازدهرت تحت زعامة بركليز
السديد، بركليز الذي حكم بمحض اختيار أبناء البلاد نحواً من ثلاثين عاماً، حتى سقط
في سنة 430 ق.م. (82)
إن سياسة [بركليس] الاستعمارية التي كان
الانتعاش الاقتصادي في أثينا مرتبطاً بها ارتباطاً وثيقاً، سبّبت مشاحناتٍ مع
إسبرطة لم يزل يتفاقم أمرُها، حتى انتهت آخر الأمر بنشوب حرب البيلوبونيز (431ـ
404 ق. م.) التي هُزِمَت فيها أثينا هزيمةً نكراء.
غير أنّ مكانة أثينا لم تزل رفيعةً على
الرغم من سقوطها السياسي، وتركزت فيها الفلسفة دهراً يقرب من الألف عام.
.. ولبثت الأكاديمية التي كان أفلاطون
يعلّم فيها، قائمةً بعد أن زالت سائر المدارس الأخرى، وبقيت كأنها جزيرة تعتصم بها
الوثنيةمدى قرنين بعد اعتناق الإمبراطورية الرومانية للعقيدة المسيحية، وأخيراً
جان "وستنيان" [يوستنيانوس] سنة 529 م، وأغلقها مدفوعاً بتعصّبه الديني،
وعندئذٍ خيّمت العصور الوسطى على ربوع أوروبا. (85)
[هيراقليطس بين كارل بوبر وراسل]:
[يقول بوبر: أودُّ هنا فقط أن أبيّن الدور المعادي للعقلانية؛
والتصوّف في فلسفة هيراقليطس؛ فهو يكتب قائلاً: "إن الطبيعة تحب أن
تتخفّى"؛ "إن الله الذي يوجد كاهنه في دلفي لا يفشي ولا يخفي، وإنما هو
يعبّر عن مراده من خلال تلميحات".
بينما يورد برتراند راسل هذه العبارة نفسها في سياقٍ آخر، هو
سياق التهكم على معتقدات عصره.
"إن مولانا الذي نرى راعيه في دلفي، لا هو يفصح عما
يريد، لا هو يكتمه، لكنه يدل على مراده بما يرمز إليه.
ـ والعرّافة بشفتين هاذيتين تنطق أشياءَ لا مرح فيها ولا زخرف
ولا عطر، فتعْبر ألفَ سنة بصوتها بفضل الإله الكامن فيها.
ـ المشاة بالليل والسحرة وكهنة باخوس وكاهنات دِنان الخمر، كل
هؤلاء يتاجرون بالأسرار.
ـ إن الأسرار الذائعُ أمرُها بين الناس هي أسرارٌ بغير قدسيّة
والناس يتوجّهون بصلواتهم إلى هذه الأوثان، كأنما يتوجه الإنسان بالدعاء إلى
بيته..
فهيراقليطس إذاً " يقف .. موقفاً عدائياً إلى حدٍ كبير
إزاء العقائد الدينية في عصره أو على الأقل إزاء الديانة الباخيّة [نسبةً إلى
باخوس أو ديونسوس]" كما يقول برتراند راسل.
رغم أن راسل يلتقي مع بوبر في القول بصوفيّة هيراقليطس الذي
"كان صوفياً من نوعٍ فريد" (ص 63)، ثم يضيف بأن عداء هيراقليطس إزاء
أديان عصره "ليس هو العداء الذي يكون عند صاحب النزعة العقلية العلمية؛ فله
مذهبه الديني الخاص، ويفسر اللاهوت السائد في عصره بحيث يلتئم مع ذلك المذهب، وهو
يرفض بعد هذا اللاهوت السائد في كثيرٍ من الازدراء؛ [..] يقول [هيراقليطس] مثلاً:
"إن الأسرار (الدينية) الشائعة بين الناس أسرارٌ لا قدسيّة فيها"، وذلك
يدل على أن ثمّة ـ في رأيه ـ أسراراً ممكنة لا توصف "بعدم القدسية"،
لكنها تختلف عما هو شائع في عصره.." (ص 64)
يقول راسل: "يقف هيراقليطس موقفاً عدائياً إلى حدٍ كبير
إزاء العقائد الدينية في عصره أو على الأقل إزاء الديانة الباخيّة [نسبةً إلى
باخوس أو ديونسوس]
أنا أرجح ما ذهب إليه راسل في قراءته عبارة هيراقليطس ووضعها
في سياق التهكم على معتقدات عصره وليس للتدليل على صوفيّته، التي يمكن أن نعثر على
عبارات عديدة لهيراقليطس تدلل عليها وعلى نوعٍ من
وحدة الوجود عنده، وقد أورد بعضها راسل، مثل قوله: "إن الواحد متألف
من كل الأشياء، وكل الأشياء صادرٌ عن الواحد"؛ "الله هو النهار والليل
والشتاء والصيف والحرب واللام والشبع والجوع؛ لكنه يتخذ أشكالاً عدة، كما يطلَق
على النار أسماءً تختلف ـ إذا ما امتزجت بالتوابل ـ باختلاف الشذى الذي يفوح في كل
حالة".
أكثر من هذا، أرى أن راسل أكثر موضوعية بكثير من بوبر في
قراءته لتاريخ الفلسفة اليونانية، التي أفرد لها بوبر مئات الصفحات للحديث عنها في
كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، وكتابه "تاريخ الفلسفة الغربية من
أعمق وأجمل ما كتِب ربما في تاريخ الفلسفة.
قد تنسبُ العالَم إلى "خالقٍ"
لكنك في هذه الحالة نفسها لا بدّ أن تترك "الخالق نفسَه" بغير تعليل.
(92)
[بين العلّة السببيّة والعلّة الغائيّة]
[يقول راسل بأن الذريين قد بحثوا في العلة
السببية وأهملوا العلّة الغائية، على عكس سقراط وأفلاطون وأرسطو،]
إذا سألنا "لماذا؟" عن حادثةٍ
ما؛ فنحن إنما نقصد إلى أحد أمرين؛ فإما أن نقصد: "إلى أيّ غرضٍ تؤدي هذه
الحادثة؟" وإما أن يكون المقصود: "ما الظروف السابقة التي سبقت الحادثة
فسبّبتها؟"؛ .. وقد ألقى الذريون السؤال الآلي، وأجابوا عنه إجابةً آلية، ثم
جاء من بعدُهم حتى عصر النهضة، فكانوا أكثر اهتماماً بالسؤال الغائي، وبهذا ساروا
بالعلم في طريق مسدود. (92)
لقد قال ديكارت .. إن الامتداد هو جوهر
المادة، وعلى ذلك تكون المادة موجودةً في كل مكان، والامتداد في رأيه صفةٌ يوصف
بها موضوع، لا موضوعٌ تحمل عليه صفةٌ ما؛ والموضوع الذي يوصف بالامتداد هو المادة،
وبغير وجود المادة الموصوفة بالامتداد لا يكون للامتداد نفسه وجود، وعنده أن
المكان الفارغ عبارة لا معنى لها، كالسعادة بغير كائنٍ حساس يقال عنه إنه سعيد؛
وكذلك آمن لايبنتز بالامتلاء (أي عدم وجود فراغ) وبنى إيمانه ذلك على أسس تختلف
بعض الشيء عن أسس ديكارت؛ لكنه ذهب إلى أنّ المكان عبارةٌ عن مجموعةِ علاقات لا
أكثر؛ ولقد دار نقاشٌ مشهور حول هذا الموضوع بين لايبنتز ونيوتن، ومثّل نيوتن في
ذلك النقاش نائبٌ عنه هو كلارك؛ ولبث الخلاف قائماً بغير حسم حتى جاء أينشتين،
فكانت نظريتُه هي العامل القاطع في نصر لايبنتز. (95)
.. أما النظرة الحديثة في موضوع المكان،
فهي أن المكان لا هو عنصر كما ذهب نيوتن، وكما كان ينبغي أن يذهب لوقيبوس
وديموقريطس، ولا هو صفة توصف بها أجسام ممتدة، كما ظن ديكارت؛ لكنه مجموعة علاقات
كما ارتأى لايبنتز؛ ولا نستطيع قولاً قاطعاً فيما إذا كان هذا الرأي لا يتعارض مع
وجود الفراغ. (96)
[نظرة بانورامية]
لم يكن موقف [الفلاسفة اليونان
حتى ديموقريطس] علمياً فقط، بل كان كذلك قويّ الخيال شديد المراس، مليئاً بلذّة
المغامرة؛ وكان كل شيء يستثير اهتمامهم ـ الشهب والكسوف والخسوف؛ والأسماك
والأعاصير والدين والأخلاق؛ واجتمع فيهم نفاذ الذكاء وحماسة الأطفال.
ومنذ ذلك العهد فصاعداً [فترة
ديموقريطس في منتصف القرن الخامس ق. م.]، بدأت أول الأمر بذور الفساد تُبذَر، على
الرغم مما أدَّوْه من مجهودات لم يسبق لها نظير، ثم أعقب ذلك انحلال تدريجي، فوجه
الخطأ ـ حتى عند خيرة الفلاسفة بعد ديموقريطس ـ هو الاهتمام الزائد عما ينبغي
بالإنسان، بالقياس إلى اهتمامهم بالكون؛ فأولاً طغت موجةُ الشك مع السوفسطائيين،
وأدى ذلك الشك إلى دراسة الطريقة التي بها نعرف ما نعرفه، أكثر من بذل مجهود
لتحصيل معرفةٍ جديدة؛ ثم تبع ذلك اهتمام بالأخلاق صحب سقراط، وجاء أفلاطون فنبذ
عالم الحس إيثاراً منه لعالم الفكر الخالص الذي خلقه لنفسه بنفسه؛ ومع أرسطو جاءت العقيدة
بأن الغاية هي الفكرة الرئيسية في العلوم، فعلى الرغم من عبقرية أفلاطون وأرسطو،
كان لتفكيرهما شرورٌ انتهت إلى ما لا حدّ له من الأذى، وبعد عهدهما فتر النشاط
وعادت الخرافات الشعبية إلى سطوتها القديمة شيئاً فشيئاً، ولما انتصرت
الأورثوذكسية الكاثوليكية نشأت نظرةٌ فيها بعض الجدّة؛ غير أن الفلسفة لم تستعد ما
كان لها من القوة والاستقلال اللذين تميّز بهما أسلاف سقراط في عصر النهضة. (98)
[أثينا أيام سقراط]
إن الفلسفات العظكى التي ظهرت قبل سقراط،
قد قابلتها في النصف الثاني من القرن الخامس موجةٌ من الشك، كان بروتاغوراس ـ كبير
السوفسطائيين ـ هو أهمّ أعلامِها؛ ولفظة "سوفسطائي" لم يكن لها معنىً
مرذولٌ في أول أمرِها، إذ كان معناها أقرب ما يكون إلى ما نعنيه نحن اليوم من كلمة
"أستاذ"؛ فقد كان السوفسطائي رجلاً يكسب عيشَه بتعليم الشبان بعضَ
الأشياء التي كان يُظَنّ أنها قد تنفعهم في الحياة العملية؛ ولمّا لم تكن الدولة
عندئذٍ تخصّص من مالها شيئاً لمثل هذا التعليم، فقد جعل السوفسطائيون يعلّمون من
كان في مقدورهم أن يدفعوا أجورَ تعليمهم من أموالهم الخاصة أو من أموال والديهم؛
وقد أدى ذلك إلى خلق شعورٍ بالفوارق بين الطبقات، أخذ يزداد قوّةً بفعل الظروف
السياسية القائمة إذ ذاك؛ فلَئن كانت الديموقراطية هي المذهب الذي ظفر بالنصر
السياسي في أثينا وغيرها من المدن، إلا أنّ إجراءً لم يتّخذ للحد من ثروة أولئك
الذين كانوا ينتمون إلى الأسرات الأرستقراطية القديمة. ففي الأعم الأغلب كان
الأغنياء هم الذين يحتضنون الثقافة التي نطلق عليها اليوم اسم "الثقافة
الهيلينية" إذ كان هؤلاء الأغنياء يتمتعون بالتعلم وبالفراغ، فضلاً عما
أنتجته الرحلات في نفسهم ن تلطيفِ حدّة التحزّب المغرض الذي ورثوه مع تقاليدهم؛
هذا إلى أنّ الزمن الذي أنفقوه في المجادلات قد أرهف من سرعة الخاطر عندهم، فما
كان يسميه اليونان الديموقراطية لم يؤثر قط في نظام الرقّ عندهم؛ ذلك النظام الذي
مكّن للأغنياء أن يتمتعوا بثرائهم من دون أن يرهقوا مواطنيهم من الأحرار.
ومع ذلك ففي كثيرٍ من المدن ـ وفي أثينا
بصفةٍ خاصة ـ كان المواطنون الأفقر من سواهم يحسّون إزاء الأغنياء بعداوةٍ مضاعفة،
عداوة بسبب الحسد، وأخرى بسبب الحرص على التقاليد؛ فقد كانوا يفرضون في الأغنياء ـ
والفرض صوابٌ في أغلبِ الأحيان ـ أنهم خارجون على الدين وعلى قواعد الأخلاق؛ فقد
كانوا يقلبون العقائد القديمة رأساً على عقب، وربما كانوا كذلك يحاولون محو
الديموقراطية؛ وهكذا حدث أن ارتبطت الديموقراطية السياسية بالجمود الثقافي.. (100)
[القضاء في أثينا]
كان القضاة ومعظم رجال السلطة التنفيذية
يُنتَخبون بالاقتراع، .. يعيبهم ما يعيب أوساط المواطنين من تحزّب مغرض في النظر
إلى الأمور، ومن نقصٍ في الخبرة الفنيّة اللازمة؛ وبصفةٍ عامة كان يستمع إلى
القضية الواحدة عددٌ كبيرٌ من القضاة، وكان المدعي والمدّعى عليه، أو المتهم
يحضران بشخصيهما، ولا يوكلان عنهما أحداً من رجال القانن المحترفين؛ وطبيعي
والحالة هذه أن يعتمد النجاح أو الفشل إلى حدٍّ كبير على المهارة الخطابية في
استثارة الأهواء المحببة إلى نفوس الناس؛..
.. في مثل هذا المجتمع، كان من الطبيعي
للأشخاص الذين كانوا يتوقّعون أن يتعرضوا لعداوة الساسة الديموقراطيين، أن عملوا
على اكتساب مهارة قضائية؛ ..
وهذا يفسّر لنا لماذا أحبّت طائفةٌ من
الناس جماعة السوفسطائيين وكرهتهم طائفةٌ أخرى؛ .. فلَئن رأيتَ أفلاطون يكرّس
مجهوده لتشويه حسناتِهم والافتراء عليهم بالكذب، فلا تحكم عليهم [من خلال]
محاوراته. (101)
بروتاغوراس:
"أما عن الآلهة فلست أراني على يقين
من وجودهم أو عدم وجودهم، ولا من شكلهم كيف يكون، ذلك لأنّ ثمّة أشياءَ كثيرةً
تعوق المعرفة اليقينيّة، وهي غموض الموضوع وقِصَر الحياة البشريّة". (102)
إن البحث عن الحقيقة، حين يصدر
عن إخلاصٍ تام، لا بدّ أن يغضّ النظرَ عن الاعتبارات الخلُقية؛ فليس في مستطاعنا
أن نقدّرَ مقدّماً أنّ الحقيقة التي نسعى وراءها ستجيء مقؤيّدةً لأهواء الناس في
مجتمعٍ معيّن.
.. إنك ترى أفلاطون شديد العناية
دائماً أن يؤيّد الآراء التي من شأنها أن تجعلَ الناس يظنّون به الفضيلة؛ فتكاد لا
تجدُه في موضعٍ واحدٍ أميناً أمانةً عقليةّ، لأنه يسمح لنفسه أن يحكم على المذاهب
بنتائجها الاجتماعية، وحتى في هذا نفسِه لا تراه أميناً، فهو يدّعي أنه يتابع
خطوات التدليل وأنه يحكم بمقاييسَ نظريةٍ خالصة، مع أنه في حقيقةِ الأمر يلفّ الناس
لفّاً حتى ينتهي به إلى نتيجةٍ ترضى عنها الفضيلة.
ولقد أدخل على هذا السوءَ في الفلسفة
كلِّها، فاستقرّ بها هذا السوء منذ عصره حتى اليوم، ويحتمل أن تكون كراهيته
للسوفسطائيين هي التي خلعت ـ إلى حدٍّ كبير ـ هذه الصفة على محاوراته، فمن عيوب
الفلاسفة جميعاً منذ أفلاطون، أن أبحاثهم في الأخلاق تسير على زعم أنهم يعرفون
مقدّماً النتائجَ التي سيصلون إليها بعد البحث. (104)
إن تفوّق أثينا في هذه الفترة (القرن
الخامس) إميل إلى أن يكون نبوغاً فنياً من أن يكون نبوغاً عقلياً، فلستَ تجدُ
واحداً من أعلام الرياضيين والفلاسفة في القرن الخامس قبل الميلاد من بين
الأثينيين؛ إلا إذا استثنيت سقراط. (106)
[ظروف إعدام سقراط.]
لأن إسبرطة كانت زعيمة حكومة الأقلية،
وأثينا كانت مؤيدة للحكومة الديموقراطية، وكان عند الأثينيين ما يبرر ريبتهم في
أبناء الطبقة الأرستقراطية عندهم بحيث اتهموهم بالخيانة الوطنية، التي شاع بينهم
أنها بعض السبب في هزيمتهم البحرية الأخيرة سنة 405 ق. م.
وفي نهاية الحرب أقام الإسبرطيون في أثينا
حكومةً أوليغاركية (حكومة أقلّية) تُعرَف باسم "حكومة الطغاة الثلاثين"
وكان بعض هؤلاء الثلاثين ـ وفيهم كرتياس زعيمهم ـ من تلاميذ سقراط، فكرههم الشعب
بحق، وأزيلوا عن الحكم خلال عام واحد، ولمّا أذعنت إسبرطة، عادت الديموقراطية إلى
أثينا لكنها كانت ديموقراطيةً تملأ الضغائن نفسَها؛ نعم، إن الهدنة العسكرية نصّت
على تحريم الانتقام المباشر من أعداء الديموقراطية من أبناء أثينا، لكن
الديموقراطية كانت ترحّب بكلّ ذريعةٍ لا تنطوي تحت نصوص الهدنة، لتوجِّه الاتهام
إلى أعدائها؛ وفي هذا الجو حدثت محاكمة سقراط وموته عام 399 ق. م. (106)
"إني لأفضّل أن ينقلَ عني فلسفتي
ألدُّ أعدائي من الفلاسفة، على أن ينقلها صديق لا شأن له بالفلسفة. (110)
كتب عن سقراط اثنان من تلاميذه هما زينوفون
وأفلاطون، فأفاضا القولَ عنه؛ لكنهما اختلفا في ما روياه اختلافاً بعيداً: وحتى
حين يتفقان على روايةٍ واحدة، فإن زينوفون عندئذٍ ـ في رأي "بيرنت" ـ
يكون ناقلاً عن أفلاطون؛ وأما حيث يختلفان في الروقاية؛ فبعض الناس يؤمن بهذا،
وبعضهم يؤمن بذلك، وبعضهم لا يؤمن لا بهذا ولا بذلك. (109)
إن الأمر في سقراط هو أننا لا ندري هل نعلم
عنه القليل أو الكثير. (109)
أما العلّة الحقيقية في كراهية الناس
[بسقراط] فهي ـ في ما يقرب من اليقين ـ أنهم فرضوا فيه الاتصال بالحزب
الأرستقراطي، إذ كان معظم تلاميذه من أعضاء هذا الحزب، وكان بعضهم في مناصب الحكم،
.. لكن الناس لم يكن في مستطاعهم أن يصرحوا بسببِ كراهيتهم لسقراط على هذا النحو،
احتراماً لاتفاق الهدنة (بين أثينا وإسبرطة). (111)
[هل كان سقراط يعتبر نفسَه نبياً؟]
"ففي ظني أنكمم ربما تضيقون صدراً (كالرجل
الذي يوقظونه من نومه بغتة)، وربما تظنون أنه من اليسير أن تقضوا عليّ بضربةٍ
واحدة ـ كما ينصح "أنايتس" ـ وعندئذٍ يتاح لكم أن تستأنفوا النوم بقيّة
حياتكم، إلا إذا أرسل لكم الله في عنايته بكم نذيراً آخر". (115)
"لقد سمعتموني أتحدث في أوقاتٍ مختلفة
وفي أماكن مختلفة، عن راعية مقدسة، أو علامة تتردّد عليّ، .. إن هذه العلامة التي
هي ضربٌ من الصوت، جاءتني أول ما جاءت، عندما كنت طفلاً؛ وهي دائماً تنهاني عن فعل
شيء ما، لكنها لم تأمرني قط بفعل شيء أنا فاعله؛ وذلك هو ما لا يجعلني رجلاً من
رجال السياسة، ومضى يقول: "إنه لا يستطيع رجلٌ شريف أن يطيل أمد بقائه في
السياسة"، ويضرب لذلك مثلين من المور العام كان قد اشتبك فيهما اشتباكاً لم
يكن له عنه محيص؛ في أولهما قاوم الديموقراطية، وفي ثانيهما عارض "الطغاة
الثلاثين"؛ وقد قاوم تلك وعارض هؤلاء، لما رأى أصحاب السلطان يجاوزون القانون
في أفعالهم. (115)
[وحي سقراط]
إنه يوشك ألا يكون ثمّة
سبيلٌ إلى الشك ـ فيما يظهر ـ بأنّ سقراط الذي عرفه التاريخ، قد زعم أنه كان يهتدي
براعيةٍ مقدّسة، ويستحيل علينا أن نقطع برأيٍ فيما إذا كان ذلك شبيهاً بما قد
يسميه المسيحيون بصوت الضمير، أو كان يبدو له صوتاً حقيقياً. إن جان دارك كانت
تسيّرها أصوات، وهذه الأصوات من الأعراض المعروفة لحالات الجنون، وكان سقراط
يتعرّض لحالاتٍ من الغيبوبة التي يتصلّب فيها جسدُه، أو على الأقل ذلك ما يصح أن
يكون تعليلاً طبيعياً [لبعض الحالات التي حدثت له]. (117)
[سقراط الأفلاطوني أو أفلاطون السقراطي]
نكاد نوقن أن ما يشغل بال سقراط هو أقرب
إلى مبادئ الأخلاق منه إلى قواعد العلم..
إن أوّل ما كتب أفلاطون من محاوراته، هي
المحاورات التي يفرض فيها غلبة النزعة السقراطية، يسود البحث في تعريف ألفاظٍ
أخلاقية، فمحاورة "شارميدس" معنيّة بتعريف الاعتدال، ومحاورة
"ليسيس" بتعريف الصداقة، ومحاورة "لاخس" معنيّة بتعريف
الشجاعة، وهو لا ينتهي في كل هذه المحاورات إلى نتيجة، لكن سقراط لا يدع مجالاً
للشك في أنّ رأيه هو أنّ لأمثال هذه المسائل أهميةً بالغة، ولا ينفك سقراط الأفلاطوني
يقرر وجهة نظره في أنه لا يعلم شيئاً، وأنه أحكم من غيره في شيءٍ واحد، وهو علمه
بأنه لا يعلم شيئاً، غير أنه لا يعتقد أن المعرفة مستعصية على التحصيل. (118)
[بين الأخلاق السقراطية
والأخلاق المسيحية]
إن العلاقة الوثيقة بين
الفضيلة والمعرفة مما يميّز سقرط وأفلاطون، وهي ظاهرةٌ ـ إلى حدٍ ما ـ في الفكر
اليوناني كلِّه إذا قورن بالمسيحية. فالأخلاق المسيحية تجعل القلب النقيّ هو
الأساس الجوهري، والقلب النقيّ قد يوجد في الجاهل على الأقل كما يوجد في العالِم،
ولقد لبث هذا الاختلاف بين الأخلاق اليونانية والأخلاق المسيحية قائماً حتى يومنا
هذا. (119)
[سقراط تلميذاً لزينون]
في المحاورة الأفلاطونية
"بارمنيدس" ترى زينون يعامل سقراط نفس المعاملة التي يعامل بها سقراط
أشخاصاً آخرين في مواضع أخرى من المحاورات؛ لكن ثمة ما يبرر لنا كل التبرير أن
نقول إن سقراط قد مارس هذه الطريقة وهذبها. (119)
[قصور الجدل السقراطي في
المسائل التجربية]
إنه من الواضح أن بعض
الموضوعات لا تصلح لبحثها [بطريقة الجدل السقراطي] ـ مثال ذلك العلم التجريبي؛ نعم
إن غاليليو قد استخدم لمحاورات يؤيّد بها نظرياتِه، لكنه لم يلجأ إلى ذلك إلا
ليتغلب على تعصّب الناس لآرائهم تعصّباً أعماهم عن الحقائق ـ ومع ذلك فالجوانب
الوضعية [التجريبية] من استكشافاته، لم يكن حشرها في محاورة بغير كثير من التكلّف؛
إن سقراط في محاورات أفلاطون، يدعي دائماً أنها لا يريد أكثر من استخراج المعرفة
من نفس سائله، وهو لهذا يشبّه نفسه بالقابلة؛ وتراه في محاورة "فيدون"
ومحاورة "مينون" حين يطبّق طريقته على مشكلات هندسية، يلق أسئلةً موجّهة
لا يبيحها أيُّ حَكَمٍ عادل؛ والطريقة متمشية مع مذهب التذكر القائل بأن الإنسان
يتعلم بتذكره لما كان يعرفه في وجود سابق على هذا الوجود؛ ولتفنيد هذا الرأي، انظر
إلى أيّ كشفٍ كشفه الإنسان بالمجهر، كانتشار المرض بالبكتيريا مثلاً؛ فلا يسهل على
إنسان أن يذهب إلى أنّ مثل هذه المعرفة يمكن استخلاصها من شخصٍ كان يجهلها، بطريقة
السؤال والجواب. (119)
[فائدة المنهج الأفلاطوني]
مما لا شك فيه أن أي مذهب متسق الأجزاء من
الوجهة المنطقية، يكون ـ على الأقل من ناحية من نواحيه ـ مؤلماً ومنافياً للعقائد
الجارية حوالطريقة الجدلية ـ أو بعبارة أعم، طريقة المناقشة التي لا تتقيد بقيود ـ
عمل على الزيادة من الاتساق المنطقي، وهي على هذا الوجه طريقة نافعة؛ لكنها طريقة
لا نفع فيها إذا ما كان هدفنا كشف حقائق واقعة جديدة؛ وقد يجوز لنا أن نعرّف
"الفلسفة" بأنها مجموعةُ الأبحاث التي يمكن متابعتها بالطرق
الأفلاطونية؛ فإن كان هذا التعريف صحيحاً، فما ذاك إلا لما تركه أفلاطون من أثر في
الفلاسفة الذين جاؤوا من بعده. (120)
مصادر آراء أفلاطون:
لقد كان موقف الناس دائماً على صوابٍ في
ثنائهم على أفلاطون، ولو أنهم لم يكونوا أبداً على صوابٍ في فهمه؛ وذلك هو القضاء
المحتوم الذي ينتظر عظماء الرجال جميعاً. أما غايتي فهي على نقيضٍ من ذلك، لأني
راغبٌ في فهمه، على أن أعامله بقدر من التبجيل لا يزيد على ما أخصّ به مفكراً
إنجليزياً أو أمريكياً معاصراً، أخذ نفسه بالدفاع عن الحكم الاستبدادي.
وكانت العوامل الفلسفية الخالصة التي أثّرت
في أفلاطون هي الأخرى تميل به نحو التحزّب في الرأي لإسبرطة؛ وهذه العوامل ـ بصفةٍ
عامة ـ هي فيثاغورس، وبارمنيدس، وثيراقليطس، وسقراط.
فمن فيثاغورس استمد أفلاطون العناصر
الأورفيّة في فلسفته.. وأعني بذلك الاتجاه الدينيّ، والإيمان بالخلود، والقول
بحياة آخرة، والنغمة الكهنوتية، وكل ما ينطوي عليه تشبيهه الذي صوّر فيه أهل هذا
العالم بقومٍ يعيشون في كهفٍ لا يشهدون الحقيقة. وكذلك أعني احترامه للرياضة وخلطه
بين العقل والنظر الصوفي خلطاً لا يكاد يفرّق فيه أحدهما عن الآخر.
واستمد من بارمنيدس الإيمانَ بأن العالَم
الواقع أبديٌّ لا يقع في الزمن، وبأنّ التغيّر لا بدّ ـ على أسسٍ منطقية ـ أن يكون
وهماً.
ومن هيراقليطس استقى المذهب السلبي الذي
يقرر أن العالم المحسوس لا دوام فيه لشيءٍ ما، فإذا جمعت هذا المذهب إلى مذهب
بامنيدس انتهيتَ إلى النتيجة بأن المعرفة لا تُستمَدّ من الحواس، وإنما يكوّنها
العقل وحدَه؛ وهذا الرأي بدوره لاءم النزعة الفيثاغورية كل الملاءمة.
والأرجح أن يكون قد أخذ عن سقراط اهتمامه
بالمسائل الخُلُقية، وميله إلى البحث عن تعليلات للعالم تكون أقرب إلى التعليلات
الغائية منها إلى التعليلات الميكانيكية؛ فلقد شغلت رأسَه فكرةُ "الخير"
أكثر مما شغلت رؤوس الفلاسفة السابقين لسقراط، ومن العسسير علينا ألا نعزو هذا
الجانب فيه إلى تأثير سقراط.
فكيف نجد الصلة بين هذا كلِّه وبين إيثارِه
للحكومة الاستبدادية في السياسة؟ (133)
إذا سألنا: ماذا يُنتظَر
لجمهورية أفلاطون أن تؤديه؟ كان الجواب أقرب إلى الابتذال؛ لأنه سيقول إنها تظفر
بالنصر في الحروب على مجموعات من السكان تقرب في عددها سكان مدينته، وستضمن معيشةً
لفئة قليلةٍ معيّنة من الناس؛ لكنها، في ظنٍ راجح يقرب من اليقين، لن تنتج فناً
ولا علماً، بسبب تصلّب أوضاعها؛ وستكون في هذا الصدد ـ وفي غيره ـ شبيهةً بإسبرطة؛
فعلى الرغم من كل ما يقال عن الجمهورية من كلام جميل، فإنها لن تؤدي أكثر من
المهارة في الحرب وإعداد الطعام للأهلين. لقد عاش أفلاطون في عصرٍ شهدت أثينا فيه
المجاعة والهزيمة، فربما ظن ـ على غير وعيٍ منه ـ أن اجتناب هذين الشرّين هو خير
ما يمكن للسياسة أن تؤديه. (144)
كلّ من أبدع أيَّ نوعٍ من أنواع
الخلق المبتكَر، قد أحسَّ ـ بدرجةٍ كبيرةٍ أو صغيرة ـ تلك الحالة العقلية التي
تتبدّى له فيها الحقيقة أو الجمال، بعد جهدٍ طويل، أو تلك الحالة التي يخيّل
لصاحبها أن قد تبدّت له فيها الحقيقة أو الجمال، في ومضةٍ مباغتة من المجد ـ وقد
يكون هذا ناشئاً عن معالجة موضوعٍ تافه، وقد يكون ناشئاً عن معالجة الكون بأسره،
فمثل هذا الإحساس عند حدوثه يميل بصاحبه ميلاً شديداً إلى الاقتناع بما هو بصدده،
وبما [وربما] يعاوره الشك فيه في ما بعد، لكنه في تلك اللحظةِ ذاتها يبلغ الغاية
القصوى من درجات اليقين، وأغلب ظني أن الكثرة الغالبة من خيرة الآيات التي تدل على
إبداع أصحابها في الفن، والعلم، والأدب، والفلسفة، كانت نتيجةً لمثل هذه الحالة
التي ذكرناها، ولست أدري إن كان سواي يحسّها بمثل ما أحسّها أنا. فمن ناحيتي، أقول
إنني وجدت أنني حين أهمّ بكتابة كتابٍ في موضوع ما، فلا بدّ لي أولاً أن أغمس نفسي
غمساً في تفصيلاته، حتى لآلفُ كلَّ أجزاء الموضوع الذي أريد تناوله وهي فرادى، ثم يحدث ذات يومٍ ـ إن كنت مجدوداً
ـ أن أدرك الكلّ دفعةً واحدة. بكل أجزائه مرتّبةً في مواضعها الصحيحة بالنسبة
لبعضها البعض، وبعد ذلك لا يبقى أمامي سوى أن أكتب ما قد رأيت، وأقرب تشبيه لهذه
الحالة، هو أن أقول إنني أبدأ بالسير في كل أرجاء الجبل وهو مغمور في الضباب، حتى
ألفّ كلَّ شعبةٍ فيه وكلَّ حافةٍ أو وادٍ، آلف هذه الأشياءَ كلاً على حدة، ثم
أبعُدُ عن الجبل فأراه كلاً واحداً، وهو واضحُ المعالم في ضوء الشمس. (152)
[الانخطاف]
وأعتقد أن هذا الإحساس ضروريٌّ للعمل
الابتكاري الجيد، لكنه وحدَه لا يكفي، لا بل قد يكون اليقين الذاتي الذي يستصحبه
مضلِّلاً في نهاية الأمر، فيصف لنا وليم جيمس حالة
رجل أحسّ هذا الإحساس وهو مخدَّر بالغاز الضحّاك، فكلما خدّره ذلك الغاز، أدرك
سرَّ الكون، حتى إذا ما أفاق، نسيَ ما كان اعتراه من إحساس، وفي النهاية، جاهد جهاداً
عنيفاً حتى استطاع أن يدوّن السرَّ قبل أن تمحى معالم الرؤية، ولما أفاق إلى وعيه
الكامل، راح في لهفةٍ يقرأ ما قد كتب، فكان ما يأتي: "إن رائحة البترول تملأ
المكان كلّه". فإنّ ما قد يبدو لصاحله لمحةً مباغتةً من التجلّي ربما كانت
مضلِّلةً، ولا بدّ لنا من سبرها ونحن في حالة الصحو العقلي؛ بعد أن تزول عنا حالة
السُّكْر القدسي. (152)
إن نظرية أفلاطون في المثُل، بها أخطاء
عدّة، لكنها رغم أخطائها تحدّد تقدماً مهماً في تطور الفلسفة؛ لأنها أول نظرية
تبرز مشكلة المعاني الكلّية، التي لبثت قائمةً ـ في صورٍ مختلفة ـ حتى يومنا هذا.
(155)
[نصوص كاشفة: النفس المفارقة عند أفلاطون]
يقول سيبيس (في محاورة فيدون) ـ حين ارتأى
أن مذهب التذكّر قد توطدت دعائمه ـ : "إن ما يقرب من نصف ما كانت تُطلب
البرهنة عليه، قد أقيم عليه البرهان بالفعل، وأعني بذلك كون أرواحنا كانت موجودةً
قبل أن نولد؛ أما النصف الثاني الذي لا يزال ينتظر البرهان، فهو أن الروح ستظل
موجودةً بعد الموت، كما كانت موجودة قبله"، فينصرف سقراط استجابة لهذه الدعوة
إلى بحث هذا الموضوع؛ فيقول إنه يترتب على ما أسلفنا قوله من أن كل شيء يتولد من
ضده، فلا بد أن يولّد الموتُ الحياة، كما تولّد الحياةُ الموت؛ ثم يضيف إلى هذه
الحجة حجةً أخرى، كانت أطول من سابقتها تاريخاً في الفلسفة، وهو أنه لا يتحلل إلا
الأجسام المركبة، أما الروح ـ فهي كالمثل ـ فبسيطة وليست مركبة من أجزاء؛ وما هو
بسيط ـ في ظنهم ـ لا تكون له بداية ولا نهاية ولا يطرأ عليه تغيّر؛ فالماهيات لا
تتغير. مثال ذلك الجمال المطلق تراه دائماً على حاله لا يتغيّر، على حين لا تفتأ
الأشياء الجميلة متغيّرة؛ وهكذا تكون الأشياء المرئية خاضعة لقيود الزمن، أما
الأشياء الخفية فأبدية؛ والجسم مرئيّ، أما الروح فخفيّة، وعلى ذلك وجب سلك الروح
في طائفة الأشياء الأبدية.
وما دامت الروح أبدية، فهي أشد ما تكون
اطمئناناً حين تتأمل الأشياء الأبدية، أعني الماهيات؛ لكنها تضل وتضطرب، حين تتأمل
عالم الأشياء المتغيرة، كما يحدث في حالة الإدراك الحسي.
"إن الروح حين تستخدم
الجسم أداة للإدراك، أعني حين تستخدم حاسة البصر أو السمع أو أية حاسة أخرى (لأن
معنى الإدراك بوساطة الجسم هو الإدراك بواسطة الحواس).. يجرّها الجسم عندئذٍ إلى
عالم المتغيرات، فتضل وتضطرب؛ وتلفّ
الدنيا من حولها، حتى لتحس إحساس المخمور ساعة مسّها دنيا التغيّر.. لكنها إذا ما
عادت إلى نفسها وتأملت، عندئذٍ تنتقل إلى العالم الآخر، عالم الصفاء، والأبدية
والخلود والثبات، فهذه كلها أشياء من فصيلتها، وهي مقيمة جميعها إلى الأبد إذا ما
استقلّت بنفسها، ولم تعقها العوائق؛ عندئذٍ لا تعود تضرب في مسالكها الخاطئة، ولا
يطرأ عليها تغير ما دامت قد اتصلت بالذي لا يتغير؛ وهذه الحالة من حالات الروح هي
التي تسمى الحكمة".
"إن روح الفيلسوف الحق،
التي تحررت ـ أثناء الحياة ـ من عبودية الجسد، سترحل بعد الموت إلى العالم الخفي
فتعيش عيشة النعيم في صحبة الآلهة، أما الروح المشوبة التي أحبّت الجسد فستصبح
شبحاً مخيفاً يعاود الجسد في قبره، أو تدخل في جسم الحيوان، فتحل مثلاً في حمار أو
ذئب أو صقر، بحسب ما تتسم به من خصائص؛ فالرجل الذي اصطنع الفضيلة في حياته بغير أن
يكون فيلسوفاً، سيصبح نحلةً أو زبوراً أو نملة، أو حيواناً آخر من القبيل
الاجتماعي من صنوف الحيوان.
والفيلسوف الحق وحده هو الذي يصعد إلى
السماء عند موته. إذ لا يسمح لأحد ممن لم يدرسوا الفلسفة، ولم يكونوا على طهر كامل
ساعة الرحيل من هذا العالم، أن يدخل في صحبة الآلهة؛ وإنما يسمح بذلك لمن أحب
المعرفة دون سواه"، وهذا هو السبب في امتناع من كرّسوا أنفسهم للفلسفة عن
شهوات البدن؛ فهم لا يمتنعون خشية إملاقٍ أو عار، بل لأنهم "على ذكر من أن
الروح كانت مغلولة أو ملصقة بالجسم ـ وجاءت الفلسفة فتلقتها بعد أن لم تكن تستطيع
أن ترى الوجود الحقيقي إلا من خلال قضبان السجن، لا أن تراه وهي قائمة بذاتها ومن
خلال نفسها.. ولقد أصبحت الروح ـ بسبب شهوات البدن ـ عاملةً بنفسها على أسر
نفسها" سيصطنع الفيلسوف العقة لأن "كل لذة
وكل ألم بمثابة المسمار الذي يسمر ويربط الروح بالجسم، حتى تصبح شبيهة به وتعتقد
بأن الصواب هو ما أثبت الجسم أنه الصواب".
.. ويمضي سقراط في شرح خطوط تطوّره في
الفلسفة، وهو جانب من المحاورة غاية في الأهمية، وإن يكن انحرافاً عن مجرى النقاش؛
يمضي فيعرض نظرية المثل، بحيث ينتهي إلى النتيجة القائلة بأن "المثل قائمة؛
وأن سائر الأشياء تشارك فيها وتستمد أسماءها منها"؛ وهنا يأخذ في وصف ما قد
كتب على الأرواح أن تلاقيه بعد الموت: الطيب يذهب إلى الجنة والخبيث إلى جهنم،
وأما ما توسط منها بين الطيب والخبيث فيذهب إلى حيث يتطهر من أدرانه.
.. نحن إذا نظرنا [إلى سقراط كما يعرضه
أفلاطون] باعتباره واحداً من الناس، فقد نعتقد بأنه جديرٌ بالحشر في زمرة
القديسين، أما إذا نظرنا إليه باعتباره فيلسوفاً، ألفيناه في حاجة إلى إقامة
طويلةٍ في مطهر علمي. (172)
ينتقل سقراط .. إلى المثل، أو الصوَر، أو
الماهيات؛ إنّ ثمّة عدلاً مطلقاً، وجمالاً مطلقاً، خيراً مطلقاً، لكنها لا تُرى
بالعين؛ "ولست أقصر الحديث على هذه وحدها، إنما أريد كذلك العظمة المطلقة
والصحة المطلقة والقوة المطلقة، أريد الماهية الحقيقية، أي الطبيعة الحقة لكل شيء،
فهذه كلها لا تُرى إلا بالرؤية العقلية، ولذا، فطالما نحن في البدن، وطالما تُفسد
الروحَ شرور البدن، فلن نشبع في أنفسنا الرغبة في اكتساب الحقيقة.
وهذه النظرة تُقصي الملاحة العلمية
والتجربة العلمية، باعتبارهما طريقتين للوصول إلى المرعفة، فإن عقل الباحث الذي
يُجري تجربةً ليس "متركزاً في نفسه" ولا ينشد اجتناب الأصوات والمشاهد؛
إن الطريقة التي يوصب بها أفلاطون لا تصلح إلا لنوعين من أنواع النشاط العقلي، هما
الرياضة والحدس الصوفي؛ وهذا يفسر لنا كيف أصبح هذان النوعان من النشاط العقلي
ممتزجين أشد امتزاج عند أفلاطون والفيثاغوريين. (167)
"إذا ما أردنا اكتساب المعرفة بمعناها
الصحيح عن أيّ شيءٍ كائناً ما كان، فلا مناص من التخلص من أجسادنا ـ إن الروح في
ذاتها هي التي يجب ن تشهد الأشياء في ذواتها؛ وعندئذٍ يتاح لنا بلوغ الحكمة التي
نريد، والتي نزعم أننا محبوها؛ ولا يكون ذلك أثناء حياتنا؛ بل بعد موتِنا؛ لأنه
إذا استحال على الروح أثناء صحبتها للبدن، أن تحصل على المعرفة الخالصة، فلا بد أن
يكون بلوغ المعرفة واقعاً بعد الموت، إن كان بلوغها ممكناً إطلاقاً". (167)
فلسفة الكون عند أفلاطون:
[الخلق]
فلسفة أفلاطون الكونية تراها في محاورة
"طيماوس" التي ترجمها متشيشرون إلى اللاتينية فكانت ـ نتيجة ذلك ـ هي
المحاورة الوحيدة التي عرفها الغرب في العصور الوسطى؛ لذلك كانت هذه المحاورة في
العصور الوسطى، وفي عصر الأفلاطونية الحديثة الذي سبق تلك العصور، أعمق أثراً من
أيّ شيءٍ آخر تركه أفلاطون؛ وإن ذلك لأمر عجيب، لأن هذه المحاورة تحتوي بغير شك
على مقدار من السخف الذي لا قيمة له إطلاقاً، أكثر مما تراه من مثل هذا السخف في
محاوراته الأخرى؛ فالمحاورة لا أهمية لها من الوجهة الفلسفية، لكن لها من قوّة
التأثير في عصور التاريخ ما يضطرنا إلى مناقشتها في شيءٍ من التفصيل.
يشغل فيثاغورس في محاورة
"طماوس" نفس المكان الذي كان يشغله سقراط في المحاورات السابقة لها؛
وآراء المدرسة الفيثاغورية على وجه الإجمال هو وجهة النظر التي اتخذت في هذه
المحاورة، بما في ذلك (إلى حدٍ ما) الرأي القائل بأن العدد هو ما يفسر العالم؛
وتبدأ المحاورة بتلخيص للخمسة الكتب الأولى من "الجمهورية"..
يأخذ "طماوس" ـ وهو فلكي فيثاغوري
ـ في رواية تاريخ العالم من بدايته حتى خلق الإنسان.. لمّا كان العالم محَسّاً،
فيستحيل أن يكون أزلياً، ولا بدّ أن يكون الله قد خلقه؛ ثم لما كان الله خيراً،
فقد خلق العالم على غرار ما هو أزلي لأن الله معصومٌ من الغيرة، (173)
ولذا أراد لكل شيء أن يجيء شبيهاً به ما
استطاع إلى ذلك سبيلا؛ "أراد الله أن يكون كل شيءٍ خيراً، وألا يكون لشيءٍ
نصيبٌ من الشر، ما كان ذلك في حدود المستطاع، "فلما وجد الكون المرئي كله في
حركة لا تسكن، ولا تسيسر على وتيرةٍ أو نظام، أخرج من تلك الفوضى نظاماً"
(وهكذا يظهر لنا أن إله أفلاطون يختلف عن الإلهين اليهودي والمسيحي، في أنه لم
يمخلق العالم من العدم، بل كانت المادة موجودةً منذ الأزل، وهو الذي أعاد نظامها)
فبثّ الله قبس العقل في الروح، ثم نفخ الروح في البدن؛ وجعل العالم كله كائناً
حياً واحداً ذا روح وعقل؛ فهناك عالم واحد فقط، لا عوالم كثيرة كما ذهب كثيرون من
الفلاسفة فيما قبل سقراط؛ ويستحيل أن يكون هنالك أكثر من عالم واحد، إذ العالم
صورة خلقت لغاية، وهي أن تحاكي النموذج الأزلي الذي يعقله الله، ما كانت هذه
المحاكاة في حدود المستطاع؛ إن العالم في مجموعه حيوان واحدٌ مرئي، يحتوي في ذاته
على كل الحيوانات الأخرى؛ وهو كريّ لأن الاطّراد خير من النبوّ، وليس في الأشكال
ما هو مطّرد التشابه إلا الشكل الكريّ؛ وهو يدور، لأن الحركة الدائرية هي أوفى
الحركات إلى الكمال؛ وما دامت هذه الحركة الدائرية هي كل ما يتحركه العالم، فليس
هو بحاجةٍ إلى أقدامٍ أو أيدٍ. (174)
[النجوم الآلهة]
هناك أربعة صنوف من الحيوان
(إذا غضضنا الطرف عن العالم في مجموعه): الآلهة والطيور والأسماك وحيوان اليابس؛
والآلهة في صميمها نار؛ وما هذه النجوم الثوابت إلا أفرادٌ من الحيوان قدسيةٌ
وأبدية، ولقد أنبأ الخالقُ الآلهةَ أنه قادر على محوها لو أراد، لكنه لا يريد،
وكلّفها أن تخلق الجانب الفاني من سائر صنوف الحيوان، بعد أن قام هو بخلق الجانب
الخالد والقدسي منها. (175)
[المرأة]
.. ولو عاش إنسانٌ عيشاً حسناً، ذهب بعد
موته إلى حيث يقيم سعيداً إلى الأبد في نجمة، أما إذا عاش عيشاً سيّئاً، فسينقلب
امرأة في الحياة الأخرى؛ ثم إذا أصرّ (أو أصرّت) على مواصلة العيش السيّء، أصبح
(أو أصبحت) حيواناً أعجم، ويظل ينتقل بالتناسخ خطوةً بعد خطوة، حتى يتغلّب العقل
في النهاية؛ ولكن أسكن الله بعض الأرواح هذه الأرض؛ وبعضها أسكنه القمر، وبعضها
أسكنه الكواكب والنجوم الأخرى، كلّف الآلهة أن تصوغ لتلك الأرواح أجساداً. (175)
[هذا رأي أفلاطون في محاورة ثيماوس التي جاءت بعد الجمهورية]
[المرأة في "الجمهورية"]
.. وترى سقراط الأفلاطوني يأخذ في تطبيق
الشيوعية على الأسرة وهو كارهٌ في ما يدّعي، فيقول إن الأصدقاء لا بدّ لهم أن يشتركوا
في كل شيء، وفي ذلك النساء والأبناء، وهيو يعترف أن ذلك سيستتبع مشكلات، ولكن يظن
أنها مشكلاتٌ لا يستحيل التغلب عليها، فأولاً لا بدّ أن تتلقّى البنات نفسَ ما
يتلقاه البنون من تعليم، فيتعلّمن الموسيقى والألعاب وفنّ القتال مع الصبيان جنباً
إلى جنب، ومن حق النساء أن يكنّ على أتمّ مساواةٍ بالرجال في كل شيء "فنفس
التعليم الذي يجعل من الرجل ولياً للأمر طيباً، سيجعل من المرأة وليّة للأمر كذلك،
لأن الطبيعة الأساسية في كليهما واحدة". ولا شكّ أن هنالك فروقاً بين الرجال
والنساء، لكن هذه الفروق لا شأن لها بالسياسة، فبعض النساء فلسفيُّ النزعة،
ويستطيع أن يتولى شؤون الحكم، وبعضهن حربيّ الصبغة، ويمكن أن يكنّ جنديات ماهرات.
(140)
[تأرجحات أفلاطونية: بين
السقراطية والفيثاغورية]
تأرجحات أفلاطونية: بين
السقراطية والفيثاغورية.
بدايةً أقول بأن أفلاطون، الذي
ابتدأ تلميذاً لسقراط، والذي كان المصدر الأساسي لما نعرفه عنه، وجعل منه الشخصية
الرئيسية في مجمل محاوراته الفلسفية (باستثناء "النواميس")، لدرجة أننا
لم نعد نميّز بين سقراط الحقيقي وسقراط أفلاطون.
أفلاطون هذا الذي بدأ سقراطياً
بدرجةٍ ما، قد انتهى فيثاغورياً.
ورغم أن أفلاطون قد بدأ تلميذا
لسقراط، إلا أنّ الفارق بين سقراط وأفلاطون ليس بالبسيط.
فإذا كان سقراط يبحث عن المعرفة
بواسطة الحوار، بحثاً يبغي منه الوصول إلى التعريفات الكلّية، فالعلم لا يقوم على
الجزئيات والحالات الفردية، وهو محقٌّ في ذلك؛ فسقراط كان يبحث عن تعريف للعدالة
يتجاوز الحالات الفردية، يتجاوز هذا الفعل العادل أو ذاك؛ وكان يبحث عن تعريفٍ
للجمال، يتجاوز هذا الشيء الجميل أو ذاك، فإن أفلاطون ذهب إلى القول بوجود واقعي
لفكرة أو مثال الجمال ومثال العدل ومثال الحصان. وهذه المثل سابقة في وجودها على
الأشياء الفردية في العالم، وهذا توجّه فيثاغوري واضح؛ فيثاغور الذي كان يرى أن
الأعداد هي أصل العالم، وبأن للأعداد وجوداً مفارقاً مستقلاً عن الأشياء.
وسقراط الذي كان يعتبر بأن العقل
المفكر يستطيع أن يتوصل إلى المعرفة، وأن هذه المعرفة كامنةٌ داخل كلٍ منا؛ فهو
أساساً لم يكن يدعي التعليم، كان يحاور، كان يجعل الآخرين يفكرون ويتوصلون إلى
المعرفة. جلّ ما كان يفعله أنه كان يناقش ما يتوصلون إليه ليكشف بتفكيره النقدي
ثغرات إجاباتهم، ويجعلهم يعيدون التفكير من جديد لتجاوز تلك النقائص في تلك
الإجابات.
حتى المعرفة بالرياضيات، كان
يجعل محاوريه يتوصلون إليها من خلال رسم الأشكال الهندسية على الأرض ويجعل محاوريه
يفكرون ثم يجيبون عن أسئلته. ولَئن كان البعض (ومنهم راسل) يعتبرون بأن هذه
الأسئلة كانت موحية بالإجابات، فأظن أن ذلك لا يقلل من أهمية التفكير الشخصي
المحفّز بالحوار والمصوّب بالنقد للوصول إلى المعارف والارتقاء بها.
هذا المنهج التوليدي السقراطي،
هذا القول بأن المعرفة كامنةٌ داخل كلٍ منا، سيذهب بها أفلاطون بعيداً ليجعل
المعرفةَ تذكراً، وتعود في أصولها إلى النفس التي كانت تعيش في عالم المثل، وكانت
تعرف، ثم شربت من نهر النسيان (كما يقول في أحد مجازاته الأسطورية).. المهم أنها
نسيت بعد أن حلّت في الجسد، وهي حين تعرف فإنما تتذكر ما كانت تعرفه سابقاً في
عالم المثل، ولا يصل إلى التذكر الكامل إلا الفيلسوف الذي يستطيع تجاوز عالم
المادة الوهمي ليصل إلى المعرفة بالمثل الأزلية الثابتة.. وهو في ذلك يقترب من
نوعٍ من التصوّف العقلي ومن الفيثاغورية.
ما يلفت الانتباه هو موقف
أفلاطون (في محاورة ثماوس) من المرأة. وهو في نظريته في التناسخ وانتقال الأرواح
بعد الموت، يجعل روح الرجل الشرير تتقمص امرأةً، وإذا أصرّت على شرّها فستتقمص في
حيوان.. وهكذا.
يصف برتراند راسل موقف أفلاطون
بالقول:
.. ولو عاش إنسانٌ عيشاً حسناً، ذهب
بعد موته إلى حيث يقيم سعيداً إلى الأبد في نجمة، أما إذا عاش عيشاً سيّئاً،
فسينقلب امرأة في الحياة الأخرى؛ ثم إذا أصرّ (أو أصرّت) على مواصلة العيش السيّء،
أصبح (أو أصبحت) حيواناً أعجم، ويظل ينتقل بالتناسخ خطوةً بعد خطوة، حتى يتغلّب
العقل في النهاية.
هذا ما يراه أفلاطون في محاورة
"ثيماوس". وثيماوس هذا هو أحد أعلام الفيثاغورية.
ومحاورة "ثيماوس" جاءت
بعد محاورة "الجمهورية".
يقول راسل: يشغل فيثاغورس في
محاورة "طماوس" نفس المكان الذي كان يشغله سقراط في المحاورات السابقة
لها؛ وآراء المدرسة الفيثاغورية على وجه الإجمال هو وجهة النظر التي اتخذت في هذه
المحاورة، بما في ذلك (إلى حدٍ ما) الرأي القائل بأن العدد هو ما يفسر العالم؛
وتبدأ المحاورة بتلخيص للخمسة الكتب الأولى من "الجمهورية"..
المرأة في "الجمهورية":
.. إذا كان هذا هو رأي أفلاطون
الفيثاغوري في المرأة، فما كان موقفه منها في محاورة الجمهورية، التي يبدو أن
أفلاطون لم يكن قد دخل بالكامل في دائرة الانخطاف الصوفي الفيثاغوري؟
يفاجأ القارئ بأن المرأة كانت
تحظى في "الجمهورية" بالكثير من التقدير، وهي تقف على قدم المساواة مع
الرجل، تخضع لنفس النظام التربوي، وتحظى بنفس الفرص، ويمكن لها أن تكون من
الفلاسفة الحكام، أو من طبقة الجند.
يقول راسل: .. وترى سقراط
الأفلاطوني يأخذ في تطبيق الشيوعية على الأسرة وهو كارهٌ في ما يدّعي، فيقول إن
الأصدقاء لا بدّ لهم أن يشتركوا في كل شيء، وفي ذلك النساء والأبناء، وهيو يعترف
أن ذلك سيستتبع مشكلات، ولكن يظن أنها مشكلاتٌ لا يستحيل التغلب عليها، فأولاً لا
بدّ أن تتلقّى البنات نفسَ ما يتلقاه البنون من تعليم، فيتعلّمن الموسيقى والألعاب
وفنّ القتال مع الصبيان جنباً إلى جنب، ومن حق النساء أن يكنّ على أتمّ مساواةٍ
بالرجال في كل شيء "فنفس التعليم الذي يجعل من الرجل ولياً للأمر طيباً،
سيجعل من المرأة وليّة للأمر كذلك، لأن الطبيعة الأساسية في كليهما واحدة".
ولا شكّ أن هنالك فروقاً بين الرجال والنساء، لكن هذه الفروق لا شأن لها بالسياسة،
فبعض النساء فلسفيُّ النزعة، ويستطيع أن يتولى شؤون الحكم، وبعضهن حربيّ الصبغة،
ويمكن أن يكنّ جنديات ماهرات.
ما يثير الاستغراب والتأمل
فعلاً، هو موقف أفلاطون الذي يبدو أنه تراجع عن شطحاته الفيثاغورية في سنواته
التالية. فإذا كان في مرحلة كتابة "ثيماوس" كان قد تخلى عن سقراطيته
لصالح نوعٍ من التطرف الفيثاغوري، فإنه في كتابه الأخير والأنضج، أقصد في كتاب
"القوانين" يعود إلى واقعيته (بما نفهمه نحن من كلمة واقعية، وليس
بالمعنى الأفلاطوني، الذي يرى أن الواقع هو عالم المثل)، ربما بسبب الصدمات التي
تعرض لها، فيرى بأن بناء المدينة "الفاضلة" تكون من خلال إصلاح
القوانين، من خلال إصلاح دستور الدولة، وليس من خلال حكم الفلاسفة كما ذهب إلى ذلك
في الجمهورية.
(محمد الحجيري؛ 5/9/2019)
أرسطو
مضى بعد موت [أرسطو] ألفا عام قبل أن ينجب
العالم فيلسوفاً يمكن أن يدنوَ منه في مكانته؛ وفي أواخر هذه الحقبة الطويلة، كان
نفوذُه قد أوشك أن يبلغ ما للكنيسة من سلطان لا يقبل الجدل؛ وكان قد بات في العلم
وفي الفلسفة على السواء، عقبةً كؤوداً في سبيل التقدم؛ فمنذ بداية القرن السابع
عشر، ترى كل خطوةٍ تقريباً من خطوات التقدم العقلي، مضطرةً أن تبدأ بالهجوم على رأيٍ
من الآراء الأرسطية؛ ولا يزال هذا يصدق على المنطق حتى يومنا هذا. (190)
[أرسطو والإسكندر]
يذهب هيغل إلى أن سيرة الإسكندر تنهض
دليلاً على ما للفلسفة من فائدة عملية، وفي هذا يقول "أ. بِنْ": ما أسوأ
حظ الفلسفة لو لم تستطع أن تدافع عن نفسها بما هو خير من شخصية الإسكندر..
ورأيي هو أنني بينما أوافق "بن"
على شخصية الإسكندر، غير أني مع ذلك أظن أن عمله كان بالغ الأهمية وبالغ النفع، إذ
لولاه، لأمكن للتقاليد الهلينية كلها أن تذهب أدراج الرياح.. (191)
لقد راح أرسطو في تأملاته السياسية
متناسياً حقيقةً واقعة، وهي أن عصر الدول التي يكون قوام الدولة منها مدينة واحدة،
قد زال من الوجود ليحل محله عصر الإمبراطوريات. (192)
يظهر أن اتصال هذين الرجلين العظيمين
أحدهما بالآخر، لم تكن له أيّ ثمرة، كأنما كانا يعيشان في عالمين مختلفين. (192)
[الصور المفارقة عند أرسطو]
إن الرأي القائل بأن الصور جوهر
قائمة بذاتها، توجد مستقلةً عن المادة التي تتمثل فيها تلك الصور، يعرّض أرسطو
لنفس النقد الذي وجهه هو نفسه إلى المثل الأفلاطونية؛ فقد أراد بالصورة أن تكون
شيئاً يخالف المعنى الكلي كل المخالفة، غير أنها تشترك مع الكلي في كثير من
خصائصه، فهو يقول إن الصورة أكثر حقيقة في وجودها من المادة، وهذا يذكر بالمثل
التي لا وجود حقيقياً لها؛ فالظاهر أن التغير الذي أدخله أرسطو على ميتافيزيقا
أفلاطون، اقل مما يصوره لنا.. (197)
[ما هو خالد في النفس]
الذي يظهر من هذه الفقرات، هو أن الفردية ـ
تلك التي تميّز إنساناً من إنسان ـ مرتبطة بالجسم وبالنفس اللاعاقلة، بينما النفس
العاقلة ـ أو العقل ـ قدسيّ وغير شخصي، فإنسان يحب المحار وآخر يحب الأناناس،
فيتميّز أحدُهما عن الآخر بهذا، أما حين يفكران في جدول الضرب ـ على شريطة أن
يفكرا تفكيراً صحيحاً ـ فلا اختلاف بينهما في ذلك؛ فإن كان الجانب اللاعاقل يفرّق
بيننا، فإن الجانب العاقل يوحّدنا؛ وعلى ذلك لا يكون خلود العقل أو التعقّل خلوداً
شخصياً لأفراد الناس منفصلين، بل مشاطرةٌ في خلود الله؛ فالظاهر أن أرسطو لم يؤمن
بالخلود الشخصي، بالمعنى الذي دعا إليه أفلاطون، ثم دعت إليه المسيحية بعد ذلك؛
وكل ما آمن به هو أن الناس بمقدار ما هم عاقلون، يشاطرون في الجانب القدسي الخالد؛
وفي مقدور الإنسان أن يزيد الجانب القدسي من طبيعته، وإن فعل ذلك كان فعله هذا
أسمى ما يؤديه من فضائل؛ لكنه إذا نجح في ذلك نجاحاً كاملاً، كان معنى ذلك زوال
وجوده باعتباره شخصاً فرداً قائماً بذاته؛ يجوز ألا يكون هذا هو التفسير الوحيد
لعبارة أرسطو في هذا الموضوع، لكني أراه أقرب إلى النظرة الطبيعية في ما يقول. (203)
[أظن أن هذا الموضوع كان أحد الأسباب التي
هوجم بسببها ابن رشد في الغرب اللاتيني، وهو موضوع وحدة العقول وقوله بفناء العقول
الفردية، وهذا ما أشار إليه جورج زيناتي في بحث له عن ابن رشد]
الأخلاق ـ على خلاف كثيرٍ من
الموضوعات الأخرى التي عالجها الفلاسفة اليونان ـ لم تتقدّم إلى الأمام تقدّماً
واضحاً، وأقصد بالتقدم هنا الكشف عن حقائق مؤكَّدة الصدق؛ ليس في الأخلاق شيءٌ معلوم
لنا بلامعنى العلمي لهذه الكلمة؛ وعلى ذلك ليس ثمّة ما يبرر أبداً أن نجعل رسالةً
قديمة في موضوع الأخلاق أقلَّ منزلةً من أيّة رسالةٍ حديثةٍ في هذا الموضوع. (212)
[العبيد واسترقاق الأسرى]
يعرض راسل موقف أرسطو من استرقاق الأسرى
بأن "الحرب عادلةٌ إذا ما أثيرت على جماعةٍ تأبى الاستسلام، مع أن الطبيعة قد
أرادت لها أن تضع زمم حكمها في أيدي غيرِها.
ويعلّق على ذلك بالقول بأن "معنى ذلك
أنه يكون صحيحاً في هذه الحالة أن نجعل من هذه الجماعة المهزومةِ عبيداً، وفي ذل
كعلى ما يظهر، ما يكفي للدفاع عن أيّ فاتحٍ عرفه التاريخ، لأنك لن تجد أمةً تسلم
بأن الطبيعة قد أرادت لها أن يحكمها غيرُها، والشاهد الوحيد على نيات الطبيعة في
هذا الصدد، إنما يُستمَدّ من نتائج الحرب؛ وعلى ذلك فالمنتصرون في كل حربٍ على
صواب، والمهزومون على خطأ؛ أما إنه لدليلٌ غايةٌ في الإقناع!
كما أن أرسطو يرى بأنه "لا ينبغي أن
يكون العبيد من اليونان، بل من جنسٍ أقلَّ منزلةً وأقلَّ روحاً"(218)
[التنظير الذي تحكمه المصلحة]
"الربا" معناه كل إقراضٍ للمال
بالربح، ولم يقتصر معناه ـ كما هي الحال اليوم ـ على الإقراض بربح مفرط؛ فمنذ عصور
اليونان إلى يومنا هذا، لبثت الإنسانية ÷أو على الأقل الجزء الذي سبق غيرَه في
التقدم الاقتصادي) لبثت منقسمة إلى دائنٍ ومدين، وما برحت طئفةُ المدينِين ساخطةً
على الإقراض بالربح، وما زالت طائفةُ الدائنين راضيةً؛ وفي معظم الحالات، يكون
أصحابُ الأراضي الزراعية مدينين، على حين يكون المشتغلون بالتجارة دائنين؛ وقد
جاءت آراءُ الفلاسفة ـ إذا استثنينا منهم نفراً قليلاً ـ مطابِقةً لما يتفق مع
صالح فئتهم من الوجهة المالية؛ أما الفلاسفة اليونان، فقد كانوا إما مُلاّكاً
للأرض، أو مستخدَمين عند من يملكونها، ولذا فقد سخطوا على الإقراض بالربح؛ وأما
فلاسفة العصر الوسيط، فكانوا من رجال الكنيسة، وكان ملْك الكنيسة أغلبُه أرضاً
زراعية، ولذا فلم يجدوا ما يدعوهم إىل مراجعة أرسطو في رأيه، وتأيّدت مقاومتُهم
للربا بروح العداء للجنس السامي، لأن معظم رؤوس الأموال النقدية كانت في أيدي
اليهود، ولَئن كان رجال الدين والأشراف الإقطاعيون يتنازعون في ما بينهم أحياناً،
بل قد يكون تنازعهم هذا على درجةٍ شديدةٍ من العنف، إلا أنهم كانوا يرحّبون
بالتحالف معاً على اليهودي الخبيث، الذي أعانهم حين اعترضهم قحطٌ في المحصول. حتى
احتازوه بفضلِ ما أقرضهم إياه من مال، فرأى أنه لذلك حقيقٌ ببعض الجزاء على ما
اقتصد.
ثم تغيّر الموقف بقيام حركة الإصلاح لديني،
لأن كثيرين من أشدّ الطائفةِ البروتستانتية حماسةً لمذهبهم، كانوا يشتغلون
بالتجارة، فكان إقراض المال بالربح أمراً جوهرياً بالنسبة لهم، لذلك بدأ
"كالفن" ثم تبعه آخرون من زعماء البروتستانتية، بتحليل [اعتباره حلالاً]
فوائد القروض المالية، حتى اضطرت الكنيسة الكاثوليكية آخر الأمر أن تقْفوَ أثرهم
في هذا، حين رأت أن الموانع القديمة لم تعد صالحةً لظروف العالم الحديث، لقد أخذ
الفلاسفة الذين كانوا يستمدّون دخلهم من أرباح الجامعات على قروضها المالية؛
يحبذون أرباح القروض، منذ اليوم الذي لم يعودوا فيه من رجال الدين، وبالتالي لم
يعودوا على صلةٍبملْكيّة الأرض الزراعية، إنك لا بد واجدٌ في كل مرحلةٍ من مراحل
التاريخ، ثروةً طائلةً من الحجة النظرية، يقيمها أصحابها تأييداً للرأي الذي يتفق
مع صالحهم الاقتصادي. (219)
[أظن أن هذا التحليل يلتقي مع التحيل
الماركسي في تكوين الوعي]
كانت المحكمة عند الأثينيين تتألف من عددٍ
كبيرٍ من المواطنين، يُنتَخبون بالاقتراع، [أظن أنّ المقصود بالاقتراع هو القرعة،
لأنه في مكان آخر يميز بين الانتخاب والاقتراع]، ولا يعيّنهم في عملهم محلّفون،
وبذلك فقد كانوا بطبيعة الحال أسهل تأثّراً بالبلاغة الخطابية وبالعاطفة الحزبية،
فإذا ما نقد الديموقراطيةَ ناقدٌ، فلا بد أن نذكر أن المقصود هو شيءٌ من هذا
القبيل. (222)
المبالغة في تقدير القياس
ليس القياس إلا نوعاً واحداً من
أنواع الاستنباط، فالقياس لا يكاد يرد أبداً في الرياضة، التي هي استنباطية خالصة،
نعم إنه من الممكن أن نصوغ التدليلات الرياضية في صورة قياسية، لكننا لوفعلنا ذلك،
جاء متكلّفاً غاية التكلّف، من دون أن يكسب تلك التدليلات شيئاً من القوة على
الإطلاق، خذ الحساب مثلاً، فإذا اشتريت بضاعةً بثمانين قرشاً، ودفعت جنيهاً، فما
مقدار الباقي الذي أستحقّه من البائع؟ إننا إذا وضعنا هذه الحسبة البسيطة في صورةٍ
من القياس، جاء سخفاً، وعمل على طمس المعالم الحقيقية التي تميّز هذا النوع من
التفكير، أضف إلى ذلك أنه في داخل نطاق المنطق توجد استدلالات لا قياسية، مثل
"الحصان حيوان، وإذاً فرأس الحصان رأس حيوان". والواقع أن القياس الصحيح إن هو إلا ضربٌ من
ضروب الاستنباط، وليس فيه ما يجعله ذا أسبقيّةٍ منطقية على سواه من سائر الضروب. (232)
وقد ضلّ الفلاسفة حين حاولوا أن يرفعوا من
قدر القياس على سائر أنواع الاستنباط، ضلوا في تفهم طبيعة التدليل الرياضي، فلما
أدرك كانط أن الرياضة ليست قياسية، استدلّ من ذلك أنها تستخدم مبادئ خارجةً على نطاق
المنطق، ولو أنه اعتبر تلك المبادئ في يقين المبادئ المنطقية، وإذاً فقد ضلّ ـ كما
ضلّ أسلافُه ـ بسبب احترامه لأرسطو، ولو ن ضلاله في هذا يختلف نوعاً من ضلالهم.
(232)
المبالغة في تقدير الاستنباط:
اهتم الإغريق بصفةٍ عامة بالاستنباط
باعتباره مصدراً من مصادر المعرفة، أكثر من اهتمام الفلاسفة المحدثين؛ ولم يكن
أرسطو في ذلك بأقلّ خطأً من أفلاطون؛ نعم إنه يتعرف في مواضعَ كثيرةٍ بأهمية
الاستقراء، وانصرف بجزء كبير من انتباهه نحو مشكلة: كيف نعلمُ المقدّمات الأولى
التي يبدأ منها الاستنباط القياسي؟ إلا أنه كسائر الإغريق، أعلى شأنَ الاستنباط
القياسي في نظريته عن المعرفة، أكثر مما هو حقيقٌ به؛ فنحن نسلّم أن زيداً (مثلاً)
فانٍ، وقد نقول ـ في غير دقّةٍ ـ إننا قد عرفنا ذلك عن زيد، لأننا نعرف أن كل
الناس فانون؛ غير أن الذي نعرفه حقاً ليس هو "كل الناس فانون" بل ما نعرفه
أقرب إلى أن يكون شيئاً كهذا: "كل من وُلِدوا قبل مائة وخمسين عاماً مضت
فانون، وكذلك معظم من ولدوا منذ أكثر من مائة عام". هذا هو المبرّر الذي
يجعلنا نظن بأن زيداً سيموت؛ لكن هذا التدليل استقراء وليس هو بالقياس؛ وهو أقلّ
يقيناً من النتائج القياسية، ولا يدل على أكثر من الاحتمال، لا اليقين؛ لكنه من
ناحيةٍ أخرى، يمدّنا بعلمٍ جديد [معرفةٍ جديدة]؛ إن كل الاستدلالات المهمة، خارج
نطاق المنطق والرياضة البحتة، هي استدلالات استقرائية، لا قياسية؛ والاستثناءان
الوحيدان في هذا هما القانون واللاهوت، إذ كلاهما يستمد مبادئه الأولىمن نص لا
يوضع موضع الشك، هو كتب التشريع أو الكتاب المقدس. (232)
[في نقد مقولات أرسطو]
لا بدّ لي أن أعترف بأنني لم
أستطع قط أن أفهم المقصود على وجه الدقّة من كلمة "مقولة" سواءٌ كان ذلك
عند أرسطو أو عند كانط وهيغل؛ ولست شخصياً من المؤمنين بأن كلمة "مقولة"
بذات نفعٍ إطلاقاً في الفلسفة، إذ هي لا تمثل أية فكرة واضحة؛ على أن أرسطو يذكر
المقولات عشراً هي: الجوهر والكمّية والكيفيّة والإضافة والمكان والزمان والوضع
والملك والفعل والانفعال.. (233)
أما الجوهر فهو أساساً ما لا
يمكن حمله على موضوع، أو احتواؤه في موضوع؛ ويقال عن الشيء إنه "محتوىً في
موضوع" إذا استحال عليه أن يقوِّم وجوده بغير الموضوع، ولو أنه لا يكون جزءاً
منه.. [البياض.. مثلاً]
ولقد لبثت فكرة الماهية جزءاً لا
يتجزأ من كل فلسفة جاءت بعد أرسطو، حتى كان العصر الحديث؛ وهذه الفكرة ـ في رأيي ـ
مهوّشة إلى حد لا يرجى معه تقويمها؛ غير أن أهميتها التاريخية تقتضينا أن نقول
شيئاً عنها.
يظهر أن "ماهية" الشيء
قد أريد بها "ذلك الجانب من صفاته، الذي يستحيل أن يتغيّر دون أن يفقد الشيء
هويته". فقد يكون سقراط سعيداً آناً حزيناً آناً آخر.. (233)
فكرة الجوهر مثل فكرة الماهية إن
هي إلا نقلٌ لما هو في الحقيقة وسيلةٌ لغوية نافعة لا أكثر إلى عالم
الميتافيزيقا.. (234)
إن "الجوهر" إذا ما
تناولناه بالتفكير الجدي، وجدناه فكرةً يستحيل أن تخلوَ من مشكلات؛ فالمفروض في
الجوهر أنه موضوع يوصف ببضع صفات، على أن يكون شيئاً متميّزاً من صفاته كلها؛
لكننا إذا أبعدنا الصفات وحاولنا أن نتصوّر الجوهر قائماً بذاته، لم نجد شيئاً
قائماً؛ (234)
[استئناف على أرسطو بعد ألفيّ عام]
إن الآراء الأرسطية التي تناولناها في هذا
الفصل، كلّها خطأ إذا استثنينا نظرية القياس الصورية، وهي نظريةٌ لا أهمية لها؛
فكل من أراد اليوم أن يدرس المنطق، سيضيّع وقتَه عبثاً إذا درس أرسطو أو أيّ
تلميذٍ من تلاميذه؛ ومع ذلك فتأليفه في المنطق دليلٌ على قدرة بالغة، وكانت تنفع
الإنسانية، إذ كانت قد ظهرت في وقتٍ كانت فيه الأصالة العقلية لا تزال نشيطة؛ لكن
شاء سوء الحظ أن تظهر تلك التآليف في نفس القت الذي ختمت فيه المرحلة الإبداعية من
مراحل الفكر اليوناني، ولذلك، أخذها مَن جاؤوا بعد ذلك على أنها سند يُرجَع إليه؛
ولما جاء الوقت الذي عادت فيه القدرة على الابتكار في المنطق، كان أرسطو قد سيطر بنفوذه
ألفيّ عام، وبات من العسير جداً أن تنزله من عرشه الذي تربّع عليه؛ فيكاد كل تقدم
في العصر الحديث، مما وفِّق إليه العلم أو المنطق أو الفلسفة، أن يكون قد خطا
خطوتَه إلى الأمام في كفاح يقاوم به ما يبديه أشياع أرسطو من ضروب المعارضة. (235)
[عن فيزياء أرسطو]
إن اليوناني إذا ما حاول أن يفسّر الحركة
تفسيراً علمياً، فبعيد جداً أن يطرأ على باله الرأي الميكانيكي الصِّرف، إذا
استثنيت من الليونان طائفةً قليلةً من النوابغ، أمثال ديموقريطس ,ارشميدس؛ فقد بدا
لليوناني أن ثمّة مجموعتين من الظواهر مهمّتين: هما حركات الحيوان وحركات الأجرام
السماوية؛ إن العالم في عصرنا الحديث ينظر إلى جسم الحيوان على أنه مكنة غايةٌ في
دقة التركيب، بنيت بناءً شديد التعقد في عناصره الطبيعية الكيماوية؛ وكل كشفٍ جديد
هو عبارة عن تضييق مسافة الخلف الظاهري التي تفصل الحيوان عن الآلات؛ لكن اليوناني
قد ظن أن الأقرب إلى المعقول هو أن نشبّه الحركات التي تبدو خلوّاً من الحياة،
بحركات الحيوان؛ ..
ولكن ماذا تقول في الأجرام السماوية؟ إنها
تختلف عن صنوف الحيوان بانتظام حركاتها، وقد يكون ذلك راجعاً إلى علوّها عن
الحيوان في درجات الكمال؛ فكل فيلسوف يوناني قد لقّن في طفولته أن الشمس والقمر
إلهان، مهما كان رأي هؤلاء الفلاسفة في الشمس والقمر حينما بلغوا سنّ النضج؛ فقد
اتُهِم أناكساغوراس بالخروج على الدين حينما ظن أن الشمس والقمر ليسا جسمين حيّين؛
وكان من الطبيعي لدى الفيلسوف الذي لم يعد ينظر إلى الأجرام السماوية نفسها أنها
كانات إلهية، أن يذهب إلى أنها تتحرك بإرادة كائنٍ إلهي، يتصف بحب الهلينيين
للنظام والبساطة الهندسية؛ وعلى ذلك يكون المصدر النهائي لكل ضروب الحركة، هو
"الإرادة": فهي "الإرادة" المتقلبة الأهواء التي لأفراد
الإنسان والحيوان على هذه الأرض، أما في السماء فهي "الإرادة" التي لا
يطرأ عليها تغيّر، وهي إرادة الصانع الأعلى. (237)