خطأ ديكارت: العاطفة
والعقل والدماغ البشري؛ أنطونيو داماسو؛ ترجمة أحمد الغفيلي.
رابط المقالة على
مجلة "حكمة"
عالم الأعصاب
البرتغالي أنطونيو داماسيو ينقض الكوجيتو... أين أخطأ ديكارت؟
25 أكتوبر 2018 - 12:13 AM
الفاهم محمد
ديكارت الرجل الذي افتتح عصر الحداثة
الفلسفية، والذي وضع القواعد الضرورية لقيادة استعمال العقل بطريقة سليمة. ألا
يمكن أن تكون فلسفته قد تضمنت عناصر لا عقلانية؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة
العقلانية قد افتتحت ميلادها بخطأ كبير سيتردد صداه في مجمل الفلسفة
الحديثة؟
هذا ما يراه أنطونيو داماسيو، طبيب علم الأعصاب والأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا، في كتابه الذي أثار ضجة كبيرة: «خطأ ديكارت». نعلم جميعا أن الفلسفة الديكارتية تعرضت لنقد شديد داخل تاريخ الفلسفة سواء من طرف كانط أو هيجل أو هوسرل فيما بعد، غير أن الانتقادات المقدمة من طرف داماسيو هي من طبيعة أخرى تماماً، فهي تستثمر نتائج علم الأعصاب من أجل تفنيد الأطروحات الديكارتية حول الأنا والوعي الذاتي، ولكن في ماذا أخطأ أبو العقلانية؟
هذا ما يراه أنطونيو داماسيو، طبيب علم الأعصاب والأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا، في كتابه الذي أثار ضجة كبيرة: «خطأ ديكارت». نعلم جميعا أن الفلسفة الديكارتية تعرضت لنقد شديد داخل تاريخ الفلسفة سواء من طرف كانط أو هيجل أو هوسرل فيما بعد، غير أن الانتقادات المقدمة من طرف داماسيو هي من طبيعة أخرى تماماً، فهي تستثمر نتائج علم الأعصاب من أجل تفنيد الأطروحات الديكارتية حول الأنا والوعي الذاتي، ولكن في ماذا أخطأ أبو العقلانية؟
ثورة علم الأعصاب
قبل الإجابة على السؤال السابق لا بد من الإشارة إلى واحدة من أكبر الثورات التي نعيشها في الألفية الثالثة، وهي ثورة علم الأعصاب والتي مكنتنا من التصوير الداخلي لما يجري في أعماق الدماغ البشري. لم تعد العمليات الذهنية شيئا سريا محاطا بالألغاز، بل إن علم الأعصاب قادر اليوم على فك شفرتها، بواسطة الخوذة العجيبة، أو بواسطة التصوير المغناطيسي الذي يعرف أيضا بتصوير الدماغ عبر الرنين المغناطيسي. ورغم أن داماسيو لم يقتنع تماما بما قدمته هذه التقنيات ويأمل في أن تتطور في المستقبل، إلا أنها، وفي الوضع الذي توجد عليه اليوم، قد مكنت من تثوير نظرتنا إلى الوظائف التي يؤديها الدماغ البشري.
قبل الإجابة على السؤال السابق لا بد من الإشارة إلى واحدة من أكبر الثورات التي نعيشها في الألفية الثالثة، وهي ثورة علم الأعصاب والتي مكنتنا من التصوير الداخلي لما يجري في أعماق الدماغ البشري. لم تعد العمليات الذهنية شيئا سريا محاطا بالألغاز، بل إن علم الأعصاب قادر اليوم على فك شفرتها، بواسطة الخوذة العجيبة، أو بواسطة التصوير المغناطيسي الذي يعرف أيضا بتصوير الدماغ عبر الرنين المغناطيسي. ورغم أن داماسيو لم يقتنع تماما بما قدمته هذه التقنيات ويأمل في أن تتطور في المستقبل، إلا أنها، وفي الوضع الذي توجد عليه اليوم، قد مكنت من تثوير نظرتنا إلى الوظائف التي يؤديها الدماغ البشري.
لكن من هو أنطونيو داماسيو؟
طبيب أعصاب وعالم معروف عالمياً في ميدان الطب النفسي وعلم الأعصاب. برتغالي الأصل لكنه يعيش حاليا في الولايات المتحدة الأميركية، ويعمل أستاذا في جامعة جنوب كاليفورنيا منذ 2005. تتركز أعماله حول البحث عن الأساس العصبي للإدراك البشري وتسليط الضوء على الدور الذي تلعبه العواطف في تشكيل القرارات المعرفية التي يقوم بها الإنسان. كتاب «خطأ ديكارت» الصادر سنة 1994 أول عمل له، وقدمه للمجتمع العلمي والمعرفي، كواحد من أهم الباحثين في مجال علم الأعصاب. في هذا الكتاب يبحث داماسيو عن الدور الكبير الذي تلعبه العواطف والمشاعر في تشكيل إدراكاتنا المعرفية.
طبيب أعصاب وعالم معروف عالمياً في ميدان الطب النفسي وعلم الأعصاب. برتغالي الأصل لكنه يعيش حاليا في الولايات المتحدة الأميركية، ويعمل أستاذا في جامعة جنوب كاليفورنيا منذ 2005. تتركز أعماله حول البحث عن الأساس العصبي للإدراك البشري وتسليط الضوء على الدور الذي تلعبه العواطف في تشكيل القرارات المعرفية التي يقوم بها الإنسان. كتاب «خطأ ديكارت» الصادر سنة 1994 أول عمل له، وقدمه للمجتمع العلمي والمعرفي، كواحد من أهم الباحثين في مجال علم الأعصاب. في هذا الكتاب يبحث داماسيو عن الدور الكبير الذي تلعبه العواطف والمشاعر في تشكيل إدراكاتنا المعرفية.
حالة فينياس جيج
يتناول أنطونيو داماسيو في كتابه هذا مثالاً شهيراً في كتب الطب وهو حالة (فينياس جيج -phineas gage)، هذا العامل الأميركي البسيط في السكك الحديدية خلال القرن التاسع عشر الذي تعرض لحادث غريب، وذلك عندما دخل قضيب معدني مخترقا رأسه من أعلاه إلى أسفله، مما أدى إلى تلف الفص الجبهي الأمامي للمخ. الغريب في هذا الحادث ليس فقط كون فينياس ظل على قيد الحياة، ولكن الأغرب هو أن شخصيته تغيرت بالكامل - كما يقول أصدقاؤه - من رجل انطوائي ورصين في سلوكاته، إلى شخص منطلق عديم المسؤولية غارق في التهتك اللاأخلاقي.
فينياس جيج مثال ملموس عن دور الدماغ في تحديد طبيعة الشخصية. يتساءل داماسيو: ترى ماذا حدث حتى تتغير القدرات العقلية وكذا السلوك الشخصي لفينياس؟ في نظره، لقد فقد هذا الرجل العواطف التي تمكننا من التكيف مع محيطنا الاجتماعي. إن هذا في نظره دليل على أن العواطف تقع في أساس عملياتنا الإدراكية والمنطقية. وهذا بطبيعة الحال عكس ما كان يدعي ديكارت. حالة فينياس جيج تثبت في نظر الباحث - بشكل قاطع - الدور الذي يلعبه الفص الجبهي الأمامي préfrontale في التخطيط لأفعالنا المستقبلية، والتصرف في انسجام مع القواعد الأخلاقية الاجتماعية، وكذا اتخاذ القرارات الضرورية للحفاظ على البقاء. أما في حالة تلفه فإننا نفقد كل هذه الإمكانات وتتشوش هذه الوظائف. إن واحدة من المهام الأساسية التي يقوم بها الدماغ البشري هي استشراف المستقبل وتشكيل خطط للعمل، غير أن كل هذه الأمور يتمكن من القيام بها فقط بالتزامن مع ما نشعر ونحس به. صحيح أن فينياس جيج نجا بجسده من الحادث، غير أنه فقد تماما شخصيته وقدراته العقلية والنفسية.
إن حالة فينياس جيج تدل - في نظر الكاتب - على الدور الكبير الذي تلعبه العواطف في تكيف الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه. هذا يعني أن العواطف ضرورية جدا من أجل الإدراك السليم، على العكس تماما مما كان يعتقد ديكارت، الذي نظر دوما إليها كشيء مناقض تماما للعقل. بل أكثر من هذا يؤكد داماسيو في الجزء الثالث من الكتاب أن الجسد الذي احتقره ديكارت، واعتبره مجرد جوهر ممتد يمكن أن يلعب دورا كبيرا في تمثلاننا العقلية، نظرا لأنه وهو يمارس أنشطته في العالم، يشكل إطارا مكانيا وزمنيا ثابتا يمكن أن تستند إليه باقي التمثلات الإدراكية.
يتناول أنطونيو داماسيو في كتابه هذا مثالاً شهيراً في كتب الطب وهو حالة (فينياس جيج -phineas gage)، هذا العامل الأميركي البسيط في السكك الحديدية خلال القرن التاسع عشر الذي تعرض لحادث غريب، وذلك عندما دخل قضيب معدني مخترقا رأسه من أعلاه إلى أسفله، مما أدى إلى تلف الفص الجبهي الأمامي للمخ. الغريب في هذا الحادث ليس فقط كون فينياس ظل على قيد الحياة، ولكن الأغرب هو أن شخصيته تغيرت بالكامل - كما يقول أصدقاؤه - من رجل انطوائي ورصين في سلوكاته، إلى شخص منطلق عديم المسؤولية غارق في التهتك اللاأخلاقي.
فينياس جيج مثال ملموس عن دور الدماغ في تحديد طبيعة الشخصية. يتساءل داماسيو: ترى ماذا حدث حتى تتغير القدرات العقلية وكذا السلوك الشخصي لفينياس؟ في نظره، لقد فقد هذا الرجل العواطف التي تمكننا من التكيف مع محيطنا الاجتماعي. إن هذا في نظره دليل على أن العواطف تقع في أساس عملياتنا الإدراكية والمنطقية. وهذا بطبيعة الحال عكس ما كان يدعي ديكارت. حالة فينياس جيج تثبت في نظر الباحث - بشكل قاطع - الدور الذي يلعبه الفص الجبهي الأمامي préfrontale في التخطيط لأفعالنا المستقبلية، والتصرف في انسجام مع القواعد الأخلاقية الاجتماعية، وكذا اتخاذ القرارات الضرورية للحفاظ على البقاء. أما في حالة تلفه فإننا نفقد كل هذه الإمكانات وتتشوش هذه الوظائف. إن واحدة من المهام الأساسية التي يقوم بها الدماغ البشري هي استشراف المستقبل وتشكيل خطط للعمل، غير أن كل هذه الأمور يتمكن من القيام بها فقط بالتزامن مع ما نشعر ونحس به. صحيح أن فينياس جيج نجا بجسده من الحادث، غير أنه فقد تماما شخصيته وقدراته العقلية والنفسية.
إن حالة فينياس جيج تدل - في نظر الكاتب - على الدور الكبير الذي تلعبه العواطف في تكيف الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه. هذا يعني أن العواطف ضرورية جدا من أجل الإدراك السليم، على العكس تماما مما كان يعتقد ديكارت، الذي نظر دوما إليها كشيء مناقض تماما للعقل. بل أكثر من هذا يؤكد داماسيو في الجزء الثالث من الكتاب أن الجسد الذي احتقره ديكارت، واعتبره مجرد جوهر ممتد يمكن أن يلعب دورا كبيرا في تمثلاننا العقلية، نظرا لأنه وهو يمارس أنشطته في العالم، يشكل إطارا مكانيا وزمنيا ثابتا يمكن أن تستند إليه باقي التمثلات الإدراكية.
أطروحة ثورية
نحن أمام أطروحة ثورية جدا تقلب رأسا على عقب كل ما كنا نعرفه عن الوعي بالذات. نعلم جميعا أن ديكارت وضع العقل في ضفة والعواطف في ضفة ثانية، مؤكدا أنهما لا يعملان معا، لأن العقل هو سيد ذاته ولا يمكنه أن يتأثر بأي شيء آخر. والحال أن أنطونيو داماسيو يربط بينهما لأن العواطف تلعب دورا أساسيا في اتخاذ القرارات العقلية. فعندما تتضرر المناطق من الدماغ المسؤولة عن العواطف كما في حالة بعض الأمراض العصبية، فإن الإنسان يصبح غير قادر على التحكم في إدراكاته العقلية واتخاذ قراراته بشكل سليم. وهكذا، فإن الكوجيتو الديكارتي مناقض تماما للحقيقة، ما دام أن الوعي لا ينفصل بتاتا عن الجسد. وبكلام آخر، إذا كان ديكارت ينطلق من فعل التفكير لكي يثبت فعل الوجود، فإن داماسيو يقلب الكوجيتو الديكارتي، مؤكدا أن فعل الوجود في العالم ذاته هو ما يسمح بقيام التفكير.
إن الوعي الذي اعتبر منذ قديم الزمان خصيصة الإنسان ومقصور عليه وحده، الجوهر الذاتي و«اللطف الإلهي» كما كان يسميه ديكارت، ها هو ذا يتم إنزاله من عليائه. فالوعي ما هو إلا الكيفية التي تحدد العملية التي تجري داخل الدماغ عبر الدوائر الخلوية العصبية. ثمة شبكة معقدة من التفاعلات بين العصبونات والإشارات الدماغية. ورغم أن داماسيو يعترف أن هذا التفسير البيولوجي غير كاف ولا يقدم حلا لكل الثغرات، إلا أنه يعتقد - مع ذلك - بأنه يشكل الطريق الصحيح لتأسيس تفسير شامل لمعضلة الوعي. فداماسيو لا يوضح لنا، بشكل تام، كيف تستطيع هذه العواطف التي ساهمت في بناء التمثلات العقلية، أن تتمكن في ما بعد من بناء وعي الإنسان بذاته. لقد حاول الكاتب معالجة هذه النقطة التي ظلت معلقة في كتبه اللاحقة خصوصاً في كتاب: «الشعور بما يحدث» موضحاً أن هذه الذات الفطرية أو ما يسميه بنواة الوعي المتجذّرة بشكل لاشعوري داخل الإنسان بفضل الجهاز العصبي، هي ما يساعد على تأسيس وعي مركزي للإنسان بذاته أو ما يطلق عليه «الوعي الممتد». لكن في جل الأحوال أن يكون المرء عقلانيا هذا لا يعني بتاتا الانفصال عن عواطفه.
نحن أمام أطروحة ثورية جدا تقلب رأسا على عقب كل ما كنا نعرفه عن الوعي بالذات. نعلم جميعا أن ديكارت وضع العقل في ضفة والعواطف في ضفة ثانية، مؤكدا أنهما لا يعملان معا، لأن العقل هو سيد ذاته ولا يمكنه أن يتأثر بأي شيء آخر. والحال أن أنطونيو داماسيو يربط بينهما لأن العواطف تلعب دورا أساسيا في اتخاذ القرارات العقلية. فعندما تتضرر المناطق من الدماغ المسؤولة عن العواطف كما في حالة بعض الأمراض العصبية، فإن الإنسان يصبح غير قادر على التحكم في إدراكاته العقلية واتخاذ قراراته بشكل سليم. وهكذا، فإن الكوجيتو الديكارتي مناقض تماما للحقيقة، ما دام أن الوعي لا ينفصل بتاتا عن الجسد. وبكلام آخر، إذا كان ديكارت ينطلق من فعل التفكير لكي يثبت فعل الوجود، فإن داماسيو يقلب الكوجيتو الديكارتي، مؤكدا أن فعل الوجود في العالم ذاته هو ما يسمح بقيام التفكير.
إن الوعي الذي اعتبر منذ قديم الزمان خصيصة الإنسان ومقصور عليه وحده، الجوهر الذاتي و«اللطف الإلهي» كما كان يسميه ديكارت، ها هو ذا يتم إنزاله من عليائه. فالوعي ما هو إلا الكيفية التي تحدد العملية التي تجري داخل الدماغ عبر الدوائر الخلوية العصبية. ثمة شبكة معقدة من التفاعلات بين العصبونات والإشارات الدماغية. ورغم أن داماسيو يعترف أن هذا التفسير البيولوجي غير كاف ولا يقدم حلا لكل الثغرات، إلا أنه يعتقد - مع ذلك - بأنه يشكل الطريق الصحيح لتأسيس تفسير شامل لمعضلة الوعي. فداماسيو لا يوضح لنا، بشكل تام، كيف تستطيع هذه العواطف التي ساهمت في بناء التمثلات العقلية، أن تتمكن في ما بعد من بناء وعي الإنسان بذاته. لقد حاول الكاتب معالجة هذه النقطة التي ظلت معلقة في كتبه اللاحقة خصوصاً في كتاب: «الشعور بما يحدث» موضحاً أن هذه الذات الفطرية أو ما يسميه بنواة الوعي المتجذّرة بشكل لاشعوري داخل الإنسان بفضل الجهاز العصبي، هي ما يساعد على تأسيس وعي مركزي للإنسان بذاته أو ما يطلق عليه «الوعي الممتد». لكن في جل الأحوال أن يكون المرء عقلانيا هذا لا يعني بتاتا الانفصال عن عواطفه.
رهانات علم الأعصاب
بشكل عام نقول بأن الأطروحة الضمنية التي يدافع عنها دامسيو محاولا تطويرها في كل كتبه، هي أن كل ما بحثه الفكر الفلسفي حول الوعي وجوهر الأنا والتي اعتبرت مواضيع ميتافيزيقية خالصة، يمكن معالجتها وحل إشكالاتها بالاعتماد على البيولوجيا وبالخصوص علم الأعصاب. وأن الوعي يمكن اختزاله إلى علاقات صورية وخوارزميات شكلية ما دام أن كل ما يحدث داخل الدماغ يمكن اختزاله إلى العمليات الميكانيكية البيولوجية أو ما أطلق عليه في كتابه: «الشعور بما يحدث» الأسس البيولوجية للعقل. في هذا السياق ألا يمكن أن تكون النظرة الاختزالية الميكانيكية هروبا من التعقيد الأساسي الذي يكتنف الذات البشرية ووعيها بذاتها وامتلاكها لإرادتها الحرة؟. لنتذكر هنا التجارب التي قام بها بنجمان ليبت benjamin libet والتي رفض من خلالها الاعتراف بوجود «مركز عصبي للوعي»، في نظره، صحيح أن الدماغ ينتج نبضات عصبية حيث يكون الوعي خاصية منبثقة عن هذا النشاط، غير أن الوعي مع ذلك لا يتموقع في مجموعة محددة من النبضات الدماغية، فهو ينبثق عنها ولكنه لا يختزل فيها تحديدا، وهذه هي دلالة عنوان كتابه: «الوعي ما وراء الخلايا العصبية» الصادر سنة 2012.
باختصار، لقد ابتعدنا كثيرا عن ذلك الموقف الذي كان ينظر إلى الوعي ككيان لا مادي. نحن اليوم نعتبره مجرد إشارات دماغية يمكن رصدها وتصويرها بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، وبالتالي فهو ظاهرة مادية خاضعة لقوانين الطبيعة. هذه الأطروحة لا يختص بها فقط داماسيو، بل نحن نجد لها اليوم الكثير من الأنصار منهم مثلا ستانيسلاس دوهين صاحب كتاب «شفرة الوعي»، وجيرالد إدلمان صاحب كتاب «بيولوجيا الوعي» وكذلك دانييل دانيت بكتابه «الوعي مفسرا». كل هذه المشاريع تفتح مجالا واسعا للنظر إلى الوعي معتبرة إياه مجرد إشارات دماغية، يمكن حوسبتها وبالتالي فتح المجال لمحاكاتها عبر الذكاء الاصطناعي.
نحن اليوم أمام منعطف حضاري كبير يدفعنا إلى إعادة النظر في جل المفاهيم التليدة حول الوعي والذات الإنسانية. كانت الفلسفة الكلاسيكية سواء في صيغتها اليونانية أو في صيغتها الحديثة تعتبر أن الكينونة البشرية محاطة بالغموض والإبهام، وأن الوعي والأنا لا سبيل إلى سبر أغواره. يقول أرسطوفان: «ثمة عجائب كثيرة في هذا العالم لكن الإنسان هو أعجب العجائب». أما كانط فقد ذكر مرة أن: «معرفة الذات سقوط في مهاوي جهنم»، غير أن كل هذا بات مع ثورة علم الأعصاب من الماضي.
أصبح الوعي ظاهرة قابلة للقياس والإحصاء والتكميم، فهل سيتمكن علم الأعصاب من فك شفرة هذا «النور الفطري» - كما كان يسميه ديكارت - تبديد كامل الغموض الذي يكتنف الذات البشرية؟ تلكم على أي حال هي رهانات علم الأعصاب المستقبلية.
بشكل عام نقول بأن الأطروحة الضمنية التي يدافع عنها دامسيو محاولا تطويرها في كل كتبه، هي أن كل ما بحثه الفكر الفلسفي حول الوعي وجوهر الأنا والتي اعتبرت مواضيع ميتافيزيقية خالصة، يمكن معالجتها وحل إشكالاتها بالاعتماد على البيولوجيا وبالخصوص علم الأعصاب. وأن الوعي يمكن اختزاله إلى علاقات صورية وخوارزميات شكلية ما دام أن كل ما يحدث داخل الدماغ يمكن اختزاله إلى العمليات الميكانيكية البيولوجية أو ما أطلق عليه في كتابه: «الشعور بما يحدث» الأسس البيولوجية للعقل. في هذا السياق ألا يمكن أن تكون النظرة الاختزالية الميكانيكية هروبا من التعقيد الأساسي الذي يكتنف الذات البشرية ووعيها بذاتها وامتلاكها لإرادتها الحرة؟. لنتذكر هنا التجارب التي قام بها بنجمان ليبت benjamin libet والتي رفض من خلالها الاعتراف بوجود «مركز عصبي للوعي»، في نظره، صحيح أن الدماغ ينتج نبضات عصبية حيث يكون الوعي خاصية منبثقة عن هذا النشاط، غير أن الوعي مع ذلك لا يتموقع في مجموعة محددة من النبضات الدماغية، فهو ينبثق عنها ولكنه لا يختزل فيها تحديدا، وهذه هي دلالة عنوان كتابه: «الوعي ما وراء الخلايا العصبية» الصادر سنة 2012.
باختصار، لقد ابتعدنا كثيرا عن ذلك الموقف الذي كان ينظر إلى الوعي ككيان لا مادي. نحن اليوم نعتبره مجرد إشارات دماغية يمكن رصدها وتصويرها بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، وبالتالي فهو ظاهرة مادية خاضعة لقوانين الطبيعة. هذه الأطروحة لا يختص بها فقط داماسيو، بل نحن نجد لها اليوم الكثير من الأنصار منهم مثلا ستانيسلاس دوهين صاحب كتاب «شفرة الوعي»، وجيرالد إدلمان صاحب كتاب «بيولوجيا الوعي» وكذلك دانييل دانيت بكتابه «الوعي مفسرا». كل هذه المشاريع تفتح مجالا واسعا للنظر إلى الوعي معتبرة إياه مجرد إشارات دماغية، يمكن حوسبتها وبالتالي فتح المجال لمحاكاتها عبر الذكاء الاصطناعي.
نحن اليوم أمام منعطف حضاري كبير يدفعنا إلى إعادة النظر في جل المفاهيم التليدة حول الوعي والذات الإنسانية. كانت الفلسفة الكلاسيكية سواء في صيغتها اليونانية أو في صيغتها الحديثة تعتبر أن الكينونة البشرية محاطة بالغموض والإبهام، وأن الوعي والأنا لا سبيل إلى سبر أغواره. يقول أرسطوفان: «ثمة عجائب كثيرة في هذا العالم لكن الإنسان هو أعجب العجائب». أما كانط فقد ذكر مرة أن: «معرفة الذات سقوط في مهاوي جهنم»، غير أن كل هذا بات مع ثورة علم الأعصاب من الماضي.
أصبح الوعي ظاهرة قابلة للقياس والإحصاء والتكميم، فهل سيتمكن علم الأعصاب من فك شفرة هذا «النور الفطري» - كما كان يسميه ديكارت - تبديد كامل الغموض الذي يكتنف الذات البشرية؟ تلكم على أي حال هي رهانات علم الأعصاب المستقبلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق