الأربعاء، 14 أغسطس 2019

اقتباسات من كتاب "الفتنة الكبرى، عثمان"؛ طه حسين.




الفتنة الكبرى، الجزء الأول: عثمان
طه حسين


وأكاد أعتقد أن الخلافة الإسلامية كما فهما أبو بكر وعمر إنما كانت تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة، ولكنها لم يكن من الممكن أن تنتهي إلى غايتها، لأنها أجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تجري فيه، سبق بها هذا العصر سبقاً عظيماً.
وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب وبلغت من رقيّ وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تنشي نظاماً سياسياً يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه! (6)
وقد ذهبت الإنسانية في الحكم مذاهبها المختلفة؛ فكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم آلهة، وكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالاً للآلهة، ثم كان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالاً لإله واحد. وهؤلاء الملوك جميعاً كانوا يرون مخلِصين أو غير مخلصين أن سلطانهم لا يأتيهم من الناس، وإنما يأتيهم من آبائهم الآلهة إن رأوا أنفسهم آلهة، ويأتيهم من الإله أو من الآلهة الذين اتخذوهم لأنفسهم ظلالاً واستخلفوهم على عبادهم من الناس؛ فكان هؤلاء الملوك يصدرون فيما يأمرون وما ينهون وفيما يأتون وما يدَعون عن أنفسهم، لا يعنيهم أن يرضى الناس أو يسخطوا، فليس للناس أن يرضوا أو يسخطوا، وإنما عليهم أن يذعنوا؛ وليس من شأن رضاهم أو سخطهم أن يغيّر من سيرة ملوكهم شيئاً؛ فأنت تستطيع أن ترضى عن الشمس حين تضيء، وتسخط عليها حين تحتجب، فلن يغريها رضاك بالإشراق، ولن يمنعها سخطك عن الاحتجاب. (6)
فالتسوية بين الناس إذاً هي مظهر أحد الأساسين اللذين قام علهما الإسلام، وهما التوحيد والعدل؛ وقد سار النبيّ في أصحابه بمكة ثم بالمدينة سيرةً قِوامُها العدل في الجليل من أمرهم والخطير، حتى استقر في نفوس المسلمين أن العدل ركنٌ أساسيٌ من أركان الإسلام، وأن الانحراف عنه انحراف عن الإسلام، والإخلال به إخلالٌ بالدين؛ ومن أجل ذلك لم يتردد بعض المسلمين في أن ينكر على النبي نفسه بعضَ ما رأى، ولم يفهم حين كان النبي يقسم الغنائم بعد حُنين ويتألف بعض من كان يتألّف من العرب فيعطيهم أكثر من حقهم في الغنيمة، فقال له: اعدِل يا محمد فإنك لم تعدِل. وقد أعرض النبي عنه أول الأمر، ولكنه أعاد كلمته وأعادها، فظهر الغضب في وجه النبي وقال: ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟
وهمّ بعض المسلمين أن يبطشوا بهذا الرجل ولكن النبي كفّهم عنه لأنه [النبي] كان يحفظ لأصحابه حريتهم وحقهم في المشورة والاعتراض والنقد. والنبي مع ذلك لم يتألف من تألّف من العرب إلا عن وحيٍ من الله وإذنٍ في القرآن؛ فالله قد أذن له في سورة "براءة" أن يتألف بعض الناس من أموال الصدقة، وجعل تألف بعض القلوب مصرفاً من مصارف الصدقة.
فهو إذاً لم يجر عن القصد حين أعطى من الغنيمة جماعةً من هؤلاء الذين أذِن الله له في أن يتألّف قلوبَهم. وليس أدلّ على ذلك أن النبي مضى في رعاية العدل إلى أبعدِ حدٍّ ممكن، من هذه السنّة التي استنّها في نفسه، فأحب الخلفاء أن يسنّوها بعده في الناس فلم يبلغوا من ذلك ما أرادوا.. (13)
نحن نعلم أن، قد كان للدين سلطانه في اختيار الملوك والقياصرة عند الرومان، وفيما يكون من سيرة هؤلاء الملوك والقياصرة. ولكن الفرق بين النظام الروماني والإسلامي هو الفرق بين دين ودين، كما أنه الفرق بين جنس وجنس وبين بيئة وبيئة؛ فلم يكن للدين الذي سيطر على ملوك الرومان خاصةً وعلى قياصرتهم إلى حدٍ ما، من النقاء والسموّ ما يشبه نقاء الديانات السماوية من قريب أو بعيد؛ إنما كان دين الرومان يقوم على العيافة والزجر واستطلاع ضمائر الغيب بطرق نقرأها الآن فنبتسم لها ونضحك منها، وكان تطور الشعب الروماني، من حياته الساذجة الأولى إلى حياتها المعقدة، مباعداً كل البعد لتطور الشعب العربي من جاهليته إلى إسلامه؛ فقد كان التطور الروماني مادياً، إن صح هذا التعبير، نشأ من تقدم الحضارة قليلاً قليلاً، على حين كان التطور العربي معنوياً، نشأ من تغير النفس العربية بتأثير الإسلام، فكأنه كان تطوراً من داخلٍ إلى خارج، تغيّرت النفس العربية فتغيرت الحياة المادية للعرب، على حين كان التطور الروماني من خارج إلى داخل، تغيّرت ظروف الرومان الخارجية فتطورت نفوس الرومان وضمائرُهم. (30)
سنرى أن أسباب الفتن ودواعي الغرور كانت كثيرةً قوية خلاّبة، لا يثبت لها إلا أولو العزم، وأولو العزم قلّةٌ في كل زمان ومكان.
وما أريد أن أتزيّد ولا أن أتكلّف، ولا أن أوذي بعض الضمائر، ولا أن أحفظ بعض الصدور، ولكني مع ذلك ألاحظ أن جماعةً من أصحاب النبيّ قد حسن بلاؤهم في الإسلام حتى رضي النبيّ عنهم وبشّرهم بالجنة أو ضمنهالهم، ثم طال عليهم الزمن واستقبلوا الأحداث والخطوب، وامتُحِنوا بالسلطان الضخم العظيم وبالثراء الواسع العريض، ففسدت بينهم الأمور، وقاتل بعضُهم بعضاً، وقتل بعضُهم بعضاً، وساء ظن بعضهم ببعض إلى أبعدَ ما يمكن أن يسوء ظن الناس بالناس، فما عسى أن يكون موقفُنا نحن من هؤلاء؟ لا نستطيع أن نرضى عن أعمالهم جميعاً، فلا نلغي عقولنا وحدها وإنما نلغي معها أصول الدين التي تأمر باعلدل والإحسان وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنه قد خطئ، لمكانهم من النبي أولاً، ولما بشرهم به النبي من الجنة ورضا الله ثانياً، ولحسن ظنهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسولُه، وإيمانهم بالجنة التي بُشِّروا بها؛ وما نحب أن نذهب في أمرهم مذهب الذين عاصروهم من خصومهم وأنصارهم، فنحكم على بعضهم بالخير، ونحكم على بعضهم الآخر بالشر؛ فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألمّ بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يسخطون حسب مكانهم من أولئك أو هؤلاء، أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاماً، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوّب من نصوّب منهم من هذه الجهة وحدَها دون أن نقضي في أمر دينهم، فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم: هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ذلك شيء لا نخوض فيه وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده، فأما الذي إلينا فهو أن نتبيّن من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمها؛ وهذا في نفسه كثير، ولكن لا بدّ مما ليس منه بد. (41)
فالعنصر الأول إذاً من عنصري نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام، وهو الضمير الحي، معرّض كما رأيت لكل هذه الأخطاء، ولو قد عصم أصحاب النبي جميعاً من الخطأ وأمنوا التعرض للفتنة واستقامت لهم أمورهم على ما يلائم تلك العصمة وهذا الأمن، لما كان بدٌّ من أن يتعرض أبناؤهم وحفدتهم لضروب الفتن والمحن والغرور.
فلم يكن بدٌّ إذاً من أن يصل المسلمون في ذلك العصر إلى ما يمكنهم من ألا يتركوا أمورهم إلى حساب الضمير وحده، أو إلى ما بين الخليفة وبين الله، إلى ما يمكنهم من أن يضعوا النظام المقرر المكتوب الذي يبيّن حدود الحكم جملة وتفصيلاً، ويبين للخلفاء ما يجب عليهم أن يفعلوا، وما يجب عليهم أن يتركوا، وما يجوز لهم أن يترخصوا فيه؛ ويبين للشعب حقوقه وواجباته مفصّلة، والوسائل التي يختار بها الخليفةَ ويراقبه بها بعد اختياره ويعاقبه بها إن حاد عن الطريق. كان المسلمون في حاجةٍ إلى أن يُنشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستوراً مكتوباً مبيّن الحدود والأعلام يعصمهم من الفرقة والاختلاف؛ ولو قد فعلوا لما تعرضوا لما تعرضوا له من الشر أيام عثمان. (41)
لقد كُلِّم عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: "إن عمر كان يحرم قرابته احتساباً لله، وأنا أعطي قرابتي احتساباً لله، ومن لنا بمثل عمر؟" فقد كان عمر إذاً محسناً حين كان يحرم ذوي قرابته مال المسلمين، وكان عثمان مسحناً حين كان يصل أرحامه من مال المسلمين لأن الله أمر أن توصل الأرحام.
فهذا كلام قد يستقيم عند الذين يحاولون أن يتأوّلوا في الفقه، فأما المصالح العامة فلا تحتمل هذا التأويل؛ فالأمور العامة إما أن تكون للشعب فلا يحل للإمام أن يتصرّف فيها إلا بإذنه [بإذن الشعب]، وإما أن تكون للإمام فلا يحل للشعب أن يعترض عليه إن تصرّف فيها؛ فأما أن يتقرب بعض الأئمة إلى الله بحفظها على المسلمين، وأن يتقرّب بعضهم الآخر إلى الله بصلة رحمه منها، فهذا شيءٌ لا يستقيم وواضح أنّا نذهب في ذلك مذهب عمر؛ لأنه وحده يلائم الحقة والعدل وما ينبغي للأئمة من التعفف، ويلائم فقه الأمور العامة كما نفهمه الآن. (42)
ومثل آخر يرويه المؤرخون [..] فقد قال عثمان لخصومه حين اشتد عليه الحصار: "إن رأيتم في كتاب الله أن تضعوا رجليّ في القيد فافعلوا"..
وربما كان من أوضح الأمثلة على حاجة المسلمين في ذلك الوقت إلى هذا النظام المكتوب ما يروى من أن عليّاً حين عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على أن يلزم الكتاب والسنة وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيءٍ من ذلك، أبى أن يعطي ما طلِبَ إليه من العهد وقال: "اللهم لا! ولكن أجتهد في ذلك رأيي ما استطعت". [..] ولعليٍّ بعدُ كل الحق في أن يخالف عن سيرة الشيخين إن تغيّر الزمن أو رأى في المخالفة عن هذه السيرة منفعة للرعية ونصحاً للمسلمين؛ فلما عرض عبد الرحمن بن عوف هذا العهد على عثمان قبله وأعطى مثله وقال: "اللهم نعم!". يريد أنه سيجتهد في إنفاذ كتاب الله وسنة نبيّه وسيرة الشيخين، وأنه متى اجتهد في ذلك مخلصاً فقد التزم الكتاب والسنّةونهج الشيخين. وقد أصاب عليّ ما في ذلك شكّ، ولم يُبعد عثمان؛ ولكن انظر إلى ما حدث بعد أن مضت أعوام على إمرة عثمان: ذهب في أموال المسلمين مثلاً مذهباً مخالفاً لمذهب عمر وسيرته، فأما الذين بايعوه على التزام هذه المسيرة فيما التزم فقد رأوا أنه خالف عنها ولم يفِ بالعهد كاملاً، وأما هو فرأى أنه لم يخالف بحال من الأحوال؛ لأن قوام سيرة عمر إنما هو التقرب إلى الله، وهو قد وصل رحمه تقرّباً إلى الله؛ ولو قد كان للمسلمين في ذلك الوقت نظامٌ مكتوب بيّن الحدود واضح الأعلام، لما أبى عليٌّ أن يبايع على هذا الدستور، ولما احتاج عثمان إلى أن يبايع ثم يتأوّل، ولما انقسم الناس بعد ذلك فريقين؛ فريقاً يشتد ويتحرج كما تحرج عليّ ومن لاموا عثمان، وفريقاً يتأوّل كما تأوّل عثمان.
.. وقد يكون من الإنصاف إذا أردنا أن نستوفي هذا البحث أن نلاحظ سياسة عمر لهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، فهو قد أمسكها في المدينة كما قلنا آنفاً، لم يأذن لها أن تتفرّق في الأرض، خوفاً عليها وخوفاً منها؛ فكان راشداً في هذه السياسة كل الرشد. ولمَ لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ أو لِمَ لا نترجمها بلغة العصر الحديث فنقول: إن عمر إنما أمسك هذه الطبقة الممتازة في المدينة ضناً بها وضنّاً بالمسلمين على ما نسمّيه في هذه الأيام باستغلال النفوذ؛ فقد استقامت أمور المسلمين وأمور هذه الطبقة نفسها ما أمسكها عمر في المدينة ووقفها عند حدودٍ معيّنة من الحركة والاضطراب، فلما تولى عثمان وخلّى بينها وبين الطريق لم تلبث الفتنةُ أن ملأت الأرض شرّاً؛ لا لأن هذه الطبقة أرادت الشر أو عمدت إليه، بل لأنها استكثرت من المال والأنصار من جهة، ولأن الناس افتتنوا بها من جهةٍ أخرى؛ فكان لكل واحدٍ من زعمائها مواليه وأنصارُه وشيعته.
ولم يكن عمر يحب أن يعطي من أموال المسلمين فلاناً أو فلاناً صلةً منه له أو عنايةً منه به أو تألفاً منه إياه؛ وإنما كان يفرض لكل واحدٍ منهم ومن الناس عطاءه ويبيح لهم ما أباح الله لهم من الاكتساب؛ لا يضيّق عليهم في ذلك إلا بهذا المقدار الذي عرفناه. فلما استخلف عثمان لم يفتح لهم الطريق إلى الأقاليم فحسب، وإنما وصلهم أيضاً بالصلات الضخمة من بيت المال، فيقال إنه أعطى الزبير ذات يومٍ ستمائة ألف، وأعطى طلحة ذات يومٍ مائتي ألف. وإذا كثر المال على هذا النحو لفريق بعينه من الناس، وأتيح لهم أن يشتروا الضياع في الأقاليم ويتخذوا الدور في الأمصار ويتخذوا القصور في الحجاز ويستكثروا من الموالي والأتباع والأشياع في كل مكان، فقد فتحت لهم أبواب الفتنة على مصاريعها وكان من أعسر العسر عليهم أن يتجنبوا الولوج في هذه الأبواب، وقد تجنبها منهم متجنبون: تجنبها سعد بن أبي وقّاص الذي لم يشارك في فتنة وإنما اعتزل الناس حين أخذهم الشر، وتجنبها عبد الرحمن بن عوف الذي يقال إنه ندم على ما كان من اختياره لعثمان، والذي أقام في دار الهجرة مصرّفاً تجارته في الأقاليم متصدقاً بكثيرٍ من ريعه كما كان يفعل أيام النبي وأيام الشيخين، وتجنبها عليٌّ رحمه الله، فلم نعلم أنه أتجر أو اتخذ الضياع والدور في الأقاليم، وإنما أقام في المدينة حيث بوّأه رسول الله، وكان له مالٌ في ينبع يذهب إليه من حين إلى حين.. ولكن لعليّ قصةً أخرى كما يقول القائلون. (47)
.. حتى إذا طُعِن عمر وطلَب إليه المسلمون أن يعهد لهم، لم يرد أن يعهد ولم يرد أن يتركهم بغير مشورةٍ عليهم، فاقترح عليهم نظامم الشورى وجعلها في هؤلاء الستة الذين مات النبيّ وهو عنهم راض، ولم يرد أن يضم إليهم ابن عمه سعيد بن زيد بن نفيل، مع أنه من العشرة الذين كان الناس يرون أن رسول الله قد ضمن لهم الجنة، لأنه كره أن تكون الخلافة في عديّ مرتين؛ ولم يحضره الشورى لأنه خاف أن يميل إليه بعض أهل الشورى لرضا النبي عنه ولمكانه من عمر، وأحضر ابنه عبدالله الشورى ولم يجعل له من الأمر شيئاً؛ لأنه كره أن يليها من آل الخطاب رجلان من جهة، ولأنه كان يرى في ابنه ضعفاً عن النهوض بأعباء الخلافة من جهة أخرى. (54)
.. ثم لم يكتفِ عثمان بزيادة العطاء، وإنما وفد الأمصار لأول مرة فيما يقول المؤرخون، ومعنى ذلك أنه دعا الأمصار إلى أن توفد إليه وفودها للعطاء والإجازة، فكان هذا توسعاً في الإنفاق لم يكن عمر يعمد إليه أو يفكر فيه. (76)
لقد كان السادة من قريش على أقلّ تقدير ينظرون إلى الدين على أنه وسيلةٌ لا غاية، وإلى الأوثان المنصوبة على أنها أسبابٌ لكسب الرزق وبسط السلطان لا أكثر ولا أقل. وكان السيد من قريش رجلاً أثِراً شديد الطمع بعيد الهم عظيم المكر داهية، كلماحزبته المشكلات عرف كيف يستقبل ما حزب من الأمر، وكيف يخرج منه سالماً معافىً فوراً. (81)
.. ويقال إن عمر قد خاف شيئاً من هذا الإيثار فتقدم إلى عثمان إن وُلِّي أمر المسلمين في ألا يحمل بني أميةوبني أبي معيط على رقاب الناس، وتقدم إلى عليّ إن ولّيَ أمر المسلمين في ألا يحمل بني عبد المطلب وبني هاشم على رقاب الناس. ولم يستطع عثمان أن يستجيب لعمر، فحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس، ما في ذلك شك. وقيل إنّ علياً نفسه حين ولِّي الخلافة لم يستجب لعمر، فولّى ثلاثة من بني عمه العباس، مكة والبصرة واليمن، حتى قال مالك الأشتر: ففيم قتلنا الشيخ إذاً!
ولكني على ذلك أفرّق أشدّ التفرقة بين ما صنع عثمان وما صنع عليّ؛ فقد لام نفسه عثمان في أمر الولاة، فاحتج عثمان بأن عمر قد ولّى المغيرة بن شعبة الكوفة، والمغيرة بن شعبة ليس هناك، وبأن عمر قد ولّى معاوية. فقال له عليّ إن عمر كان يراقب ولاتِه ويخيفهم، وإن ولاتِك يستبدون بالأمر من دونك، ويصدرون الأمر من عند أنفسهم ويحملونه عليك فلا تستطيع له تغييراً. فسيرة عليّ مع ولاته من بني عمّه هي سيرة عمر، كان شديداً عليهم مراقباً لهم، لا يتحرّج من عزلهم إن قصّروا أو انحرفوا دون أن يكرهه على هذا العزل أحد، على حين لم يعزل عثمان والياً من بني أمية وآل أبي معيط إلا حين أكرهته الأمصار على ذلك إكراهاً.  (87)
عثمان يعزل سعد بن أبي وقاص ويعين مكانه الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ومعروف عنه أنه كان غش النبي ونزلت فيه الآية "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا.." (93)
[الكوفة]
فالطارئون من الأعراب والطارئون من الأعاجم والناشئون من أولئك وهؤلاء قد كثروا في المصر [أي في الكوفة] حتى زحموا أهل السابقة، وكانوا يستأثرون من دونهم بالأمر. وكلهم حظه من الجهل أكثر من حظه من العلم، ونصيبه من الغلظة والجفوة أعظم من نصيبه من الرِقّة واللين. والأعراب يقبلون بما حفظوا من غلظتهم وجفوتهم وعصبيتهم وجهلهم. والأسرى يقبلون بما ورثوا من حضارتهم، وبما تستتبعه الحضارة في أعقاب أمرها من الضعف والفساد، وبما تستتبعه الهزيمة والرق من انكسار النفوس وذلتها، وحسرتها على ما مضى، ويأسها مما يقبِل، وبغضها لسيدها وخوفها منه ومكرها به وكيدها له. والناشئون بين أولئك وهؤلاء يأخذون بحظوظم من أخلاق أولئك وهؤلاء، فتختلط الأمور عليهم. ويكونون مصدراً لاختلاط الأمور على غيرهم من الناس. وبهذا كله تتعقد أمور السياسة تعقداً شديداً، ويجد الأمراء والولاة أنفسهم أمام مشكلات كلما حلوا منها طرفاً نجم طرفٌ آخر. (103)
[عمّال عثمان على الكوفة: الوليد بن عقبة، سعيد بن العاص ، أبو موسى الأشعري (من اليمن)]
وكان معاوية أعظم الولاة حظاً في كل شيء أيام عثمان وكان والياً لعمر على دمشق، فلما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان، وكان والي عمر على الأردن، ضمّ عمر إلى معاوية عمل أخيه،وشكر ذلك له أبو سفيان: ولكن عمر لم يحابِ معاوية ولم يرد أن يعزي أبا سفيان عن موت ابنه بضم عمله إلى أخيه، وإنما رضي عن معاوية ورأى فيه كفايةً وعزماً وحزماً، فاستكفاه الأردن فكفاه، وقد مات عمر ومعاوية على هذين الجندين، فأقره عثمان عليهما، كما أقرّ عمال عمر جميعاً عامه الأول. ولكن عبد الرحمن بن علقمة الكناني عامل عمر على فلسطين يموت، فيضم عثمان فلسطين إلى معاوية. ثم يمرض عمير بن سعد الأنصاري عامل عمر على حمص ويستعفي عثمان من عمله، فيعفيه ويضم حمص إلى معاوية، فتخلص له أرض الشام كلها، ويصبح أعظم العمال خطراً وأعلاهم قدراً أيام عثمان. فهو قد اجتمعت له الأجناد الأربعة، وأصبح بحكم مركزه الجغرافي قوياً إلى حدٍ غير مألوف. (118)
لقد طال عهد معاوية بالشام، فعرفه أثناء خلافة عمر كلها وأيام خلافة عثمان كلها. وقد أحبَّ أهلَ الشام وأحبَه أهلُ الشام ورضي عنه الخليفتان جميعاً، وأصبح لطول ولايته وحسن مدخله إلى نفوس رعيته أشبه بالملك منه بالوالي. فليس تاريخ الخلافة يعرف والياً أتيح له من طول الولايةواتصالها واستقرارها وتدرجها في الاتساع مثل ما أتيح لمعاوية. وليس غريباً أن يرضى معاوية عن نفسه وحظه حين يرى العمال من حوله يُعزَلون بين حين وحين أثناء خلافة عمر وعثمان، ويرى نفسه مستراً لا يريم، والولايات تُضَمّ إليه واحدةً في إثر الأخرى. ولو قد كان معاوية مقصراً في عمله أو جائراً على رعيته لم أقرّه عمر ولا أعفاه من العزل، بل من العقوبة إن اقتضى الأمر أن يعاقَب. وأكبر الظن أنه لم يغير سيرته في أهل الشام بعد وفاة عمر واستخلاف عثمان. رضي عن سيرته حين كان الخليفة متشدداً متحرجاً، فلم يرَ بالإقامة عليها بأساً حين أصبح الخليفة هيناً ليناً سمحاً. ولهذا لم يشارك أهلُ الشام فيما شارك فيه أهل الأمصار الأخرى من اتهام عمالهم والتشهير بهم والخلاف على عثمان. فالذين حاصروا عثمان وفدوا من الكوفة والبصرة ومصر ولم يكن بينهم شاميٌّ واحد. (119)
وكانت إلى معاوية حماية الثغور البرّية مما يلي بلاد الروم، فكان يغير على العدوّ في الشتاء والصيف. وكان هذا كلّه يتيح له من الغنائم والفيء ما يسرّ الجيش ويسرّ ببيت المال.  (120)
وكانت تولية عثمان لهذا الرجل [أي عبدالله بن سعد بن أبي سرح، وهو أخو عثمان في الرضاعة، وقد تمت توليته مكان عمرو بن العاص] مصرَ شؤماً على جماعة المسلمين؛ فمن مصر خرج الثائرون الأولون على عثمان، واجتمع إليهم بعد ذلك غيرهم من أهل المصرَين الآخرَين في العراق. ومع ذلك فقد كان عبدالله بن سعد شجاعاً جريئاً مقداماً موفقاً في الفتح؛ فهو قد أخرج الروم من إفريقية، وشارك في غزو قبرص، وهزم أسطول الروم في ذات الصواري، ولكنه كان صاحب دنيا ولم يكن صاحب دين. (125)
ولم يكن عبدالله بن سعد بن أبي سرح رجل صدق، ولم يكن المسلمون يرضون عنه؛ فهو كان من الذين اشتدوا على النبي وأسرفوا في السخر منه، وقد نزل القرآن بكفره وذمّه. فقد كان عبد الله يقول ساخراً من القرآن: سأُنزِل مثل ما أنزل الله. وقد أهدر النبي دمَ عبد الله بن سعد بن أبي سرح يوم الفتح. ولكن عثمان جاء به مسلماً إلى النبي، فلم يجد النبي عليه سبيلا. (124)
طلحة بن عبيد الله
وكان طلحة كما رأيتَ معارضاً لعثمان منذ اليوم الأول لخلافته؛ لأن البيعة تمت وهو غائب، ولكن عثمان ترضاه فاستقامت الأمور بينهما، ثم وصله فازدادت الأمور استقامةً، فلما ظهر الخلاف على عثمان كان طلحة من المسرعين إليه، فيما يقول الرواة. ولما اشتد الخلاف كان طلحة من المؤلّبين. ولما حوصِر عثمان كان طلحة من المشاركين في الحصار، ولما قُتِل عثمان كان طلحة من الذين عجبوا لحزن عليّ على مقتل عثمان. ولما بويع عليّ كان طلحة من المبايعين مع الزبير، ثم خرج مع الزبير مطالباً بدم عثمان، ناقضاً بيعته لعليّ وقد قتِل يوم الجمل، قتله فيما يقول الرواة، مروان بن الحكم، رماه بسهم فأصابه، فقال مروان: والله لا طالبت بعده بدم عثمان أبداً. كان مروان يرى أن طلحة أشد المحرضين على قتل عثمان. ولما أصيب طلحة وجعل دمه ينزف قال: هذا سهم أرسله الله! اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. فكان طلحة إذاً يمثل نوعاً خاصاً من المعارضة، رضي ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة، فلما طمع في أكثرَ من ذلك عارض حتى أهلك وهلك. (150)
كان عليّ معارضاً للخلفاء الثلاثة، ولكنّ الشيخين لم يأتيا ما يدعو إلى النقد الرفيق فضلاً عن النقد الشديد، فلم تظهر معارضةُ عليٍّ لهما، وإنما كان ينصح مع الناصحين ويشير مع المشيرين، ويسمع بعد ذلك ويطيع، كما كان يفعل غيرُه من المهاجرين والأنصار. فلما استُخلِف عثمان اشتدت معارضةُ عليٍّ شيئاً ما أثناء الشورى ثم ثاب إلى سيرته مع الشيخين، فنصح وأشار وسمع وأطاع. ولكن سياسة عثمان دفعته إلى شيءٍ من الشدة في المعارضة؛ فهو لم يرَ ما رآه عثمان من العفو عن عبيد الله بن عمر. ثم لم تلبث الحوادث أن دفعته إلى معارضةٍ جعلت شدتُها تزداد شيئاً فشيئاً، ولكنها على كل حال لم تخرج قط على طور المعارضة الرشيدة التي تلين وتعنف، ولكنها تلزم حدود النصح والمشورة والتخويف من عقاب الله. وما زالت الأحداث تشتد وتتفاقم حتى اضطر عليٌّ ذات يوم أن يواجه عثمان بشيء من المقاومة على ملأٍ من الناس، كان ذلك حين أعلن عثمان في غير تحفّظ أنه سيأخذ من هذا المال حاجته وإن رغمت أنوف الكارهين لذلك. فقال له عليٌّ: إذاً تُمنَع من ذلك. وعلى كل حال لم يخرج عليٌّ قط في سيرته مع عثمان عن النصح والمشورة والنقد الشديد أحياناً. وهو كان يتوسط بين عثمان وبين الناقمين منه والخارجين عليه، يبصر عثمانَ بالحق، ويرد الناس عن الفتنة. حتى إذا استيأس من مقاومة عثمان لأهل بيته، لزم داره ولم يتوسط بينه وبين الناس. ثم هو مع ذلك ظل بارّاً بعثمان أثناء الحصار، فأنفذ إليه الماء وأرسل ابنيه لمقاومة المحاصرين.
وما ينكِر أحدٌ أن التنافس بين عليّ وعثمان قد اتصل أثناء خلافة عثمان كلّها. ولكن الشيء الذي لا شكّ فيه هو أن قرابة عثمان ما زالت به حتى أخافته من عليّ إلى أبعدٍ حدٍّ ممكن. ولو قد سار عثمان سيرة عمر، ولو لم تدخل قرابه عثمان بينه وبين الناس، لكان من غير المشكوك فيه أن يسير معه عليّ سيرته مع الشيخين من قبل. ولكن لو سار عثمان سيرة عمر ولو لم تدخل قرابتُه بينه وبين الناس، لما كانت الفتنة، ولما احتجنا إلى إملاء هذا الكتاب. (156)
.. [ثمّ] مضى عثمان في سياسته، ومضى عليٌّ في معارضته، ومضت قرابة عثمان في إفساد الأمر بينهما، حتى اشتد الحرج. فروى البلاذري بإسناده عن عبد الله بن عباس: "أن عثمان شكا عليّاً إلى العباس، فقل له: يا خال، إن عليّاً قطع رحمي وألّب النساَ ابنُك. والله لئن كنتم يا بني عبد المطّلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تثم وعديّ [في إشارةٍ إلى أبي بكر وعمر]، فبنو عبد مناف أحقّ ألا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه. قال عبدالله بن العباس: فأطرقَ أبي طويلاً، ثم قال: يا بن أخت، لَئن كنتَ لا تحمد عليّاً فما يحمدك له، وإن حقك في القرابة والإمامة للحق الذي لا يُدفَع ولا يُجحد. فلو رقيت فيما تطأطأ أو تطأطأتَ فيما رقى تقاربتما، وكان ذلك أوصل وأجمل. قال: قد صيّرت الأمر في ذلك إليك، فقرّب الأمر بيننا. قال: فلما خرجنا من عنده دخل عليه مروان فأزاله عن رأيه. فما لبثنا أن جاء رسول عثمان بالرجوع إليه. فلما رجع قال: يا خال، أحب أن تؤخر النظر في الأمر الذي ألقيت إليك حتى أرى من رأيي. فخرج أبي من عنده ثم التفت إليّ فقال: يا بنيّ، ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء، ثم قال: اللهم اسبق بي الفتن ولا تُبقِني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه. فما كانت جمعة حتى هلك. (157)
وتولّى ابن مسعود بيتَ المال في الكوفة حين كان سعد بن أبي وقّاص والياً عليها. فلما عزل سعد عن الكوفة ظل ابن مسعود على بيت المال صدراً من أيام الوليد بن عقبة. ثم استقرض الوليد شيئاً من بيت المال فأقرضه ابن مسعود، وكان هذا شيئاً مألوفاً. فلما حلّ الأجل طلب ابن مسعود إليه الأداء، فالتوى، فألحّ عليه. فكتب الوليد إلى عثمان يشكو ابن مسعود. وكتب عثمان إلى ابن مسعود: إنما أنت خازنٌ لنا، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من بيت المال.. فغضب ابن مسعود وألقى مفاتيح بيت المال، وأقام في داره يعظ الناس ويعلّمهم. (160)
ومنذ ذلك الوقت بدأت معارضة ابن مسعود لعثمان في أمور السياسة وفي أمور المال، ثم ازدادت معارضته تعقداً حين وحّد عثمان المصحف وجعل كتابتَه إلى نفر من المسلمين عليهم زيد بن ثابت، وتقدّم في إحراق غيره من المصاحف. فأنكر ابن مسعود وأنكر معه كثيرٌ من الناس ما كان من تحريق المصاحف. واشتد نقد ابن مسعود لعثمان، وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع، وكان يقول فيما يقول: إن أصدق القول كتابُ الله، وأحسن الهدى هدى محمد (صلعم)، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدَث بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. فكتب الوليد بذلك إلى عثمان وقال: إنه يعيبك ويطعن عليك. فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه إلى المدينة. فأُشخِص إليها، وخرج معه أهل الكوفة مشيّعين ومودعين أحسن التشييع وأحرّ التوديع. وبلغ ابن مسعود المدينة، فدخل المسجد وعثمان يخطب على منبر النبي. فلما رأى مدخلَه قال. إلا إنه قد قدمت عليكم دويبةُ سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة أي عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله! ثم أمر عثمان به فأخرِج من المسجد إخراجاً عنيفاً، وضُرِبت به الأرض فدُقت ضلعه. وقام عليٌّ فلام عثمان في ذلك وقال: تفعل هذا بصاحب رسول الله عن قول الوليد! فقال عثمان: ما عن قول الوليد فعلت هذا، ولكن أرسلت زبيد بن كثير فسمعه يحلّ دمي. قال عليّ: زبيد غير ثقة، ثم قام على أمر ابن مسعود حتى حُمِل إلى منزله. (161)

.. من هؤلاء المعارضين [لعثمان] عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة. وكان عبد الله حين لقي النبيَّ لأول مرة غلاماً يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط. فأتاه النبي وأبو بكر ذات يومٍ فاستسقياه. قال الغلام: لا أسقيكما، فإني مؤتمن. قال النبي: فهل عندك شاةٌ لم يَنزُ عليها الفحل؟ فدفع الغلام إليه شاةً، فمسح النبي على ضرعها فاحتفل، وجاء أبو بكر بصخرةٍ متقعّرة، فاحتلب منه وشرب وشرب أبو بكر. ثم قال النبي للضرع: اقلص، فعاد كما كان. ومنذ ذلك الوقت أسلم ابن مسعود ولزم النبيّ. (159)
لقد أتيح لعثمان من القوة العسكرية مثل ما أتيح لعمر، وأتيح له من التوسع في الفتح والقضاء على دولة الأكاسرة وإذلال الروم في البر والبحر ما لم يتَح لعمر ولكن هذا نفسه كان مصدراً من مصادر الفتنة والخلاف. فقد كان الفتح يتيح للمسلمين من الغنائم والفيء شيئاً كثيراً، وكان تصرّف عثمان في بعض تلك الغنائم وهذا الفيء ربما أحفظ الجندَ كالذي كان من أمر عبد الله بن سعد ومروان بن الحكم في فتح إفريقية، وربما أحفظ المهاجرين والأنصار كالذي كان من تصرف عثمان في بعض ما كان في بيت المال من الجوهر والحلي، حتى لامه المسلمون وأغضبوه.. (170)
.. وقد تظاهرت الروايات أيضاً بأن المسلمين اختلفوا في قراءة القرآن أيام النبيّ نفسه، ولم يكن اختلافهم في اللهجات، وإنما كان اختلافهم في الألفاظ دون أن تختلف معاني هثه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبي نفسه فأجاز قراءتهم جميعاً لأنها لم تكن تختلف في معناها وإنما كانت تختلف في ألفاظها. وقد جُمِع القرآن أيام أبي بكرٍ وعمر، وجاءت الشكوى إلى عثمان بأن المسلمين في الأمصار والثغور يختلفون في قراءة القرآن، ثم يختصمون حول هذا الاختلاف، فيفضّل بعضهم قرآنه على قرآن غيره، حتى أوشكوا أن يفترقوا، وحتى قال حذيفة بن اليمان لعثمان: أدرك أمة محمد قبل أن تتفرّق حول القرآن. (182)
ولا نعلم أن عليّاً أنكر ذلك على عثمان، ولا أنّ أحداً من أصحاب الشورى أنكره، بل رُوي أنّ علياً قال في خلافته: "لو كنت مكان عثمان لحملت الناس في أمر القرآن على ما حملهم عليه". (183)
وبما تحرّج بعض المسلمين من تحريق ما حرّق عثمان من الصحف، ولم يقبلوا اعتذاره بحسم الفتنة وقطع الخلاف. ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئاً لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرّقها على أنها نصوصٌ محفوظة لا تتاح للعامة، بل تكاد تتاح للخاصة، وإنما هي صحف تحفظ ضناً بها على الضياع. ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات. وإذا لم يكن على عثمان جناحٌ فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف، لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئاً من دينهم فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيراً من العلم بلغات العرب ولهجاته؛ على أن الأمر أعظم خطراً وأرفع شأناً من علم العلماء وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات. (184)
قول [عثمان] ..: "ما كنت لأخلع قميصاً قمصنيه الله عزّ وجل". وقوله ..: "لأن أقدّم فتضرَب عنقي أحبّ إليّ من أن أنزع سربالاً سربلنيه الله عزّ وجلّ".
فلم تكن الخلافة عنده إذاً تكليفاً تلقّاه من المسلمين، ويستطيع أن يردّه عليهم إن شاء هو أو شاؤوا هم، وإنما كانت الخلافة عنده ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحدٍ غيرِه أن ينزعه عنه..(191)
ويقول الرواة: إن عبد الرحمن بن عوف كان أول من اجترأ على عثمان، فألغى بعض أمره وأطمع الناس فيه. وذلك أن بعض السعاة أقبلوا بإبلٍ للصدقة، فوهبها عثمان لبعض أهل الحكم. فلما بلغ ذلك عبد  الرحمن دعا بعض أصحاب النبي وأرسلهم فاستردوا له هذه الإبل وقسمها بين الناس، وعثمان في الدار لم ينكر ذلك ولم يغيّره، بل لم يكلم فيه عبد الرحمن وأصحابه. فكان اجتراء عبد الرحمن وأصحابه خطراً في نفسه؛ لأنه تغيير لأمر السلطان، وكان سكوت عثمان على هذا الاجتراء أشد منه خطرا؛ لأنه اعتراف بالخطأ ونقص من هيبة السلطان. (201)
[القبيلة: عثمان يهدد ببني أميّة]
.. فخرج [عثمان] حتى جلس على المنبر ثم قال: "أما بعد فإن لكل شيءٍ آفة، ولكل أمرٍ عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون يُرونكم ما تحبون ويُسِرّون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نغصاً، ولا يرِدون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور وتعذّرت عليهم المكاسب! ألا فقط والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم. ولِنتُ لكم وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليّ. أما والله لأنا أعزُّ نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأقمن إن قلتُ هلمّ أتى إليّ.. (205)
ولا تقل إن عمر قد واجه هذه الظروف وظهر عليها؛ فقد كان عمر من هؤلاء الأفذاذ الذين لا تظفر الإنسانية بهم إلا في القليل النادر، والذين يُتعِبون مَن بعدَهم ويرهقونهم من أمرهم عسراً. ولولا شيء من التحفظ والاحتياط لقلتُ: إن المسؤول الأول والأخير عما تعرّض له عثمان وأصحابه من الخطوب إنما هي هذه العبقرية الفذّة التي أتيحت لعمر ولم تتح لأحد من أصحابه وفيهم عثمان. (217)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق