الأربعاء، 3 يوليو 2019

كارل بوبر وأعداؤه الثلاثة؛ حاتم حميد محسن.


كارل بوبر وأعداؤه الثلاثة
حاتم حميد محسن


يرجِّح قارئ مقالة حاتم حميد محسن بأن الكاتب مطلع بشكل جيد على كتابات بوبر (بلغة غير العربية على الأرجح)، ومستوعبٌ لأفكارها الأساسية، وجاء عرضُه لأفكار بوبر صحيحاً ومكثّفاً وواضحاً، وهي أفكارٌ مأخوذة من أكثر من كتاب لبوبر، أهمها كتابان: المجتمع المفتوح وأعداؤه، بؤس التاريخانية، إضافةً إلى رسالته للدكتوراه (1928). 
(محمد الحجيري)
***      ***        ***

بعد ان عادت فلسفة العلوم والأخلاق والسياسة في الغرب لتتخذ مرة أخرى المسار المابعد حداثوي للنسبية واللاعقلانية، فلا شيء أفضل من الالتفات إلى كارل بوبر (1902-1994) وفلسفته في العقلانية النقدية. (1)
الفلسفة كمشكلة
في اكتوبر عام 1946 قرأ كارل بوبر ورقةً مثيرة للجدل في نادٍ صغير للعلوم الاخلاقية بجامعة كامبردج في انجلترا. انه نادٍ خاص للنقاش. كان من بين الشخصيات المميزة في النادي لودفيغ فيتغينشتاين (1889-1951)، وهو أحد الدعامات الأساسية لـ"الفلسفة اللغوية". هذه الطريقة في ممارسة الفلسفة بدأها Moritz Schlick في حلقة فيينا في الفترة ما بين الحربين العالميتين. بوبر تلقى الدعوة للحديث في نادي كامبردج كفرصة ثمينة لمواجهة فيتغينشتاين، بطل التفلسف اللغوي وهي الممارسة التي اعتبرها بوبر منذ شبابه في فيينا ليست اكثر من لامعنى. برتراند رسل أحد الذين أُعجِب بهم بوبر كان من بين الحاضرين بانتظام وكان بوبر اعتبره حليفاً له في خلافه ضد الفلسفة اللغوية والوضعية واراد اظهار فهمٍ عميق معه اثناء الجلسة. حديث بوبر كان بعنوان "هل هناك وجود للمشاكل الفلسفية؟"، اعتقد بوبر ان الفلسفة تعاملت ويجب ان تتعامل مع المشاكل الحقيقية. لذا هو أراد مهاجمة فيتغينشتاين الذي كان على عكس بوبر يؤمن بعدم وجود مشاكل في الفلسفة وأن ما موجود هو فقط الغاز لفظية.
يرى فيغينشتاين ان مهمة الفيلسوف كانت توضيح المفاهيم وتصحيح استخدام الكلمات، وحل الالتباسات اللفظية . هذه كانت المهمة التي سخر فيتغينشتاين لها نفسه في اول كتاب له (رسالة منطقية فلسفية) عام 1922. لاحقا، وفي أوراق جُمعت بعد وفاته بعنوان تحقيقات فلسفية (1953)، هو لم يكتف بالدعوة إلى حل الإشكالات الفلسفية باستخدام اللغة دون غموض وإنما قام بهذا عمليا . وعلى أية حال، هو اعتقد بمذهب حلقة فيينا في أن الفرضيات ذات المعنى تكون فقط على شكل نوعين: افتراضات تحليلية وتعني تيلولوجيا منطقية ورياضية، وافتراضات تجريبية يتم التأكد منها بالملاحظة. كل شيء آخر هو ميتافيزيقا لامعنى له.
وعلى عكس ذلك، كان بوبر دائما يعتقد بان على الفلاسفة أن يواجهوا المشاكل الواقعية حتى لو لم يستطيعوا حلها بشكل كامل: مشاكل مثل فشل الاستقراء ، طبيعة الاحتمالية، العلاقات بين السبب والنتيجة، امكانية الرغبة الحرة، معنى الافتراضات الأخلاقية. (كان دائما يلوم من يضع في بحثه فقرة ماهي المشكلة؟ بقوله إن المشكلة لا يمكن فهمها كليا إلا بعد ان تُحل). في الحقيقة إن كل اكتشافات منطق العلوم الذي صرف فيه بوبر جزءاً كبيراً من وقته، هو "ميتافيزيقي" لكنه لايزال مليئاً بالمضمون والمعنى.
الطريقة العلمية
في رسالته للدكتوراه عام 1928، عرض بوبر حلا جزئيا لعدد من المشاكل الأساسية في نظرية المعرفة. الاولى كانت حول الخط الفاصل demarcation line الذي وضعه وضعيو حلقة فيينا بين الفرضيات ذات المعنى وتلك التي بلا معنى . خطهم الفاصل بين الاثنين كان حول ما إذا كانت الفرضيات قابلة للاثبات تجريبيا ، فاذا لم تكن كذلك فهي بلا معنى. يرى بوبر أنْ لا وجود لفرضيات ذات معنى يمكن إثباتها، خاصة الفرضيات الأخلاقية والجمالية. الخط الفاصل لديه لم يكن بين الفرضيات ذات المعنى وتلك التي بلا معنى وانما بين الفرضيات العلمية (يمكن دحضها) وتلك الغيرعلمية (أي التي لا يعرف المرء كيفية دحضها)(2).
المشكلة الثانية التي حلها بوبر جوهرياً كانت مشكلة الاستقراء. ديفد هيوم أشار إلى أننا لا نستطيع التأكد من أن الشمس ستشرق غدا فقط لأنها أشرقت مرارا وتكرارا في الماضي. بوبر عمّم هذا بالقول إنه يستحيل الاعلان عن صحة النظرية عبر المشاهدات المتكررة لظروفها، ما هو ممكن فقط هو دحضها عندما نكتشف ان تنبؤاتها كاذبة. المرء يستطيع فقط الزعم متأكداً أن فرضية جميع البط هو أبيض بالاستقراء بعد ملاحظة جميع البط في الماضي والحاضر والمستقبل، هذه المنهجية ليست مثمرة جدا. من هنا يطرح بوبر استنتاجين أساسيين: أنه من الخطأ السعي إلى اليقين، وأن المعرفة لم تتقدم عبر إثبات أو تأكيد الفرضيات وإنما عبر محاولات دحضها.
وكما أشار بوبر إن حل أي مشكلة سيثير مشكلةً أخرى جديدة. الطريقة العلمية هي أكثر من مجرد تطبيق ميكانيكي للطريقة الاستنتاجية الافتراضية. التفنيد هو نادرا ما يكون نهائياً وأحيانا يتمسك المرء بالنظرية المفندة ليعطيها صلاحية لما يترتب عليها من نقود [ليعطيها القدرة على تجاوز النقد الذي تعرضت له] - لكن هذا يستمر فقط ليوم آخر. نشير هنا إلى صورة أدبية على الغلاف الخارجي لكتاب (منطق الاكتشافات العلمية، 1959) تذكر أن "النظريات هي كشباك الصيد، فقط من يقوم برميها هو الذي سيصيد".
المجتمع القبلي (المغلق) والمجتمع المنفتح
 في كتاب "المجتمع المنفتح واعداؤه لكارل بوبر 1945، 1957"نجد على غلاف الطبعة الاسبانية صورة لاولئك الأعداء الثلاثة وهم افلاطون وهيجل وكارل ماركس. كان للكتاب تاثيرٌ عميقٌ في الولايات المتحدة وبريطانيا. ذكر بوبر لأحد اصدقائه أنه وبعد أن أعلن هتلر عن ضم النمسا لألمانيا النازية بدأ يفكر إن كان يتوجب عليه قتل هتلر. هو قرر تحطيم الفلسفة التي جسدت فكر القيادة الألمانية. ذلك خلق فضيحة في الحلقات الأكاديمية بسبب ذلك الحماس الكبير في تدمير أولئك المفكرين الكبار الثلاثة. رفض بوبر فكرة التاريخية التي ترى أن التاريخ يتطور بشكل مستمر وضروري طبقا لقوانين عامة تمكن معرفتها نحو غايات حتمية ودقيقة، واعتبر هذه الرؤية هي الافتراض المسبق الذي يؤطر كل أشكال التوتاليتارية والسلطوية ، فالتاريخية يراها تأسست على افتراضات خاطئة بشأن طبيعة القانون العلمي والتنبؤ. فإذا كان النمو في المعرفة الإنسانية عاملاً سببياً في تطور التاريخ الإنساني، وبما أن "لا مجتمع يستطيع التنبؤ بوضعه المستقبلي من المعرفة"، يتبع ذلك أن لا وجود لعلم تنبؤي للتاريخ الانساني.
 بوبر تحدى أفلاطون كعدو رجعي لأثينا وكصديق لسبارتا. برنامجه السياسي لا يسمو أخلاقيا على التوتاليرية ، وهو في الأساس مشابه لها. هو يقول إن افلاطون يعترف فقط بمعيار نهائي واحد هو مصلحة الدولة. كل شيء في هذا المجال هو جيد وأخلاقي وعادل ، وكل شيء يهدد الدولة هو سيّئ وشرير وغير عادل. الأفعال التي تخدم الدولة هي أخلاقية، وتلك التي ضدها هي غير أخلاقية. بكلمة أخرى، برنامج أفلاطون هو برنامج نفعي صارم يضع الدولة قبل الفرد.
وبوبر اتُهم بسوء الفهم العتيق للثقافة اليونانية وبعدم القدرة على فهم الفلسفة الألمانية. وفي الدوائر المحافظة كانت هناك صدمة أخرى في رؤيته لماركس بتعاطف اكثر من شعوره نحو افلاطون وهيجل. قد لا يتفق البعض مع بوبر حول نقده لأفلاطون، ولكن يجب تذكير المعجبين بجمهورية أفلاطون أنهم يجب عليهم تأمل خطر الفيلسوف-الملك ومقارنة ذلك الحوار بالخطاب الجنائزي لبريكلس في الذكرى السنوية الأولى لحرب البيليبونيس بين أثينا وسبارطا.
وبالنسبة لهيجل فهو أصل التاريخية المعاصرة ، وهو باعتباره خادما للدولة البروسية كان أسوأ من أفلاطون، لا نجد هناك أسوأ من الصورة التي خلقها بوبر عنه. لنتذكر معركة جينا عام 1806 التي سحق بها نابليون الجيش البروسي. كتب هيجل قائلا"أنا رأيت الأمبراطور، روح العالم، يسير ممتطيا حصانه متأملا مملكته". للمعجبين بهيجل يمكن القول إنهم في مثل هذا النمط من إعطاء الأشياء أقل مما تستحق لابد أن تكون لديهم صعوبة في فهم لغته الألمانية.
وفي نقده لماركس أعلن أن الماركسية هي مشابهة للنظريات النفسية. فهي تتألف أساسا من ادّعاءات لا يمكن تفنيدها، وهي كانت تاريخية، ولهذا لا يمكن وصفها بالعلمية. ماركس ادّعى أن نظامه السياسي تنبؤيا. لكن ماركس لم يتبع المعايير الصارمة للتفنيد ، فعندما فشلت تنبؤات النظرية (مثل فشل الطبقة العاملة بالثورة في اوربا) فإن النظرية لم تُرفَض.
مستقبل التاريخ لم يُكتب بعد
تحليل بوبر لفلسفة ماركس يركز بالأساس على أخطاء التاريخية [التاريخانية] "historicism "التي ورثها من هيجل. التاريخية ترى أن التاريخ يتبع مسارا ضروريا. البعض اعتقد أن هدف العلوم الاجتماعية هو التنبؤ بتطور التاريخ. محاضرات بوبر في التاريخية نبهت الناس إلى فكرة أن التاريخ لم يُكتب بعد. هو طور هذه الفكرة في كتابه (فقر التاريخية، 1947)، فيه ميّز بين نوعين من النظريات في التاريخ: "ضد الطبيعي" (رفض تطبيق العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية) و "المناصرة للطبيعي" (تطبيق العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية). الأولى اعتبرت المجتمعات الإنسانية لا يمكن دراستها بطرق العلوم الطبيعية، أما الثانية ترى أن طرق الفيزياء يجب أن تطبق على السوسيولوجيا. النظريات الهيجلية تنتمي إلى النوع الاول لأن هيجل يرى التاريخ تطور للذهن أو العقل. النوع الثاني من النظريات اقترحها اوكست كومت، فيه رأى أن ملاحظة البيانات الإيجابية كشفت عن أن المجتمعات الانسانية تقدمت بالضرورة نحو التنظيمات الشمولية والمركزية.
بوبر كان مقتنعا بالقول "نحن لا نستطيع التنبؤ بمستقبل اكتشافاتنا العلمية بواسطة الطرق العلمية او العقلية". لو استطعنا ذلك، فهي لا يمكن أن تكون المستقبل. هذه الاعتبارات تنطبق ايضا على التكنلوجيا كما كشفت عنه تجربة الخمسين سنة الاخيرة.
سبب تعامل بوبر مع ماركس بتعاطف كبير هو أن ماركس أنتج بلا قصد نظرية قابلةً للاختبار عن النزعة الضرورية للرأسمالية نحو الاحتكار والإفقار الحتمي للطبقة العاملة وأن هذه النظرية ثبت زيفها عبر المسار الذي اتبعه المجتمع الغربي . هناك أيضا شعور بوبر العاطفي نحو الديمقراطية الاجتماعية التي دعا إليها Malachy Hacohen (2002) والتي شجعت بوبر لتوجيه اللوم لقسوة الرأسمالية المبكرة وتفضيله دولة الرفاهية.
Library of Economics and Liberty,5 Feb 2018

حاتم حميد محسن
. . . . . . . . . . . . . . . . .

الهوامش
(1) العقلانية النقدية critical rationalism هي فلسفة ابيستيمولوجية طورها كارل بوبر، وترى بوجوب اختبار جميع الاجوبة مع ابقاء العيون مفتوحة نحو الفشل. بوبر لا يعتقد بان النظرية هي نهاية البحث وانما هي البداية. جميع الادّعاءات المعرفية هي بالنهاية نظرية قابلة للدحض، انها مجرد تخمينات نستطيع اختبارها لكنها لا يمكن ابدا ان تصبح مؤكدةً عبر اجتياز تلك الاختبارات. لا يمكن ابداً تأسيس حقيقة بأي مقدار. ان تفنيد النظريات العالمية ممكن منطقيا، نحن نحتاج فقط الى حدث مضاد واحد. فرضية "كل البط ابيض" لا يمكن اثبات صحتها باي عدد محدد من الشواهد الايجابية للبط الابيض، ولكن ممكن دحضها فقط بحالة واحدة من البط غير الابيض، وبهذا فان هذه النظرية بالنهاية جرى دحضها بعد اكتشاف بط اسود في استراليا.

(2) منهجية بوبر الفلسفية تؤكد بان النظريات العلمية تتميز باحتوائها على تنبؤات ربما ينكشف زيفها في الملاحظات المستقبلية . وعندما تُدحض النظريات بمثل هذه الملاحظات يستجيب العلماء اما باعادة مراجعة النظرية او برفض النظرية لمصلحة المنافس لها، او عبر الإبقاء على النظرية كما هي مع تغيير الفرضيات المساعدة، وفي جميع الاحوال، هذه العملية يجب ان تهدف الى انتاج تنبؤات جديدة يمكن دحضها. يرى بوبر ان العلماء حين يحققون في النظرية فهم يقومون بمحاولات متكررة وصادقة لتفنيدها، بينما انصار النظريات الميتافيزيقية يتخذون وبشكل روتيني معايير لكي يجعلوا الواقع الملاحظ ينسجم مع تنبؤات النظرية. اذاً النظرية وفقا لبوبر تُعتبر علمية فقط عندما يمكن تفنيدها، هذا قاده لمهاجمة الماركسية ونظريات التحليل النفسي باعتبارها نظريات لا يمكن تفنيدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق