عن البارقليط (أو الفارقليط):
جواد علي
.. وقد كتب الإنجيل المذكور
باليونانية [المقصود هو إنجيل يوحنا]، وترجمت لفظة (parakletos) في الإصحاح الخامس عشر
وفي الآية السادسة والعشرين وفي مواضع أخرى منه، بلفظة (comforter) و (advocate) وبـ (helper) في الإنكليزية. وبـ
(المعزّي) في العربية. وأقرب هذه الكلمات إلى المعنى الصحيح لفظة (advocate) المقابلة للفظة (aevocatus) في اللاتينية، ومعناها
في العربية المحامي والمعين والمدافع والنصير والمساعد والمواسي. وقد ترجمت الآية
على هذه الصورة في العربية: (ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح
الحق، الذي من عند الرب ينبثق، فهو يشهد لي).
وقد حافظ الأخباريون على
الأصل اليوناني للفظة، ولم يترجموها. فجاء في السيرة الحلبية: "وفي الإنجيل:
إن أحببتموني، فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى ربي، فيعطيكم بارقليط. والبارقليط لا
يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبّخ العالم على الخطيئة. ولا يقول من تلقاء نفسه،
ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب". وقد ذكر
صاحب السيرة أن البارقليط أو الفارقليط هو الحكيم والرسول.
وقد أخذت هذه الترجمة من
إنجيل يوحينا، من الإصحاح الرابع عشر، ففيه: "إن كنتم تحبّوني، فاحفظوا
وصاياي. وأنا أطلب من الأب، فيعطيكم معزياً باراقليط آخر". ومن الإصحاح
السادس عشر من الإنجيل نفسه، ففيه: "لكني أقول لكم الحق، إنه خيرٌ لكم أن
أنطلق؛ لأن إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي "البارقليط"، ولكن إن
ذهب[تُ]، أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا
يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمورٍ آتية. ذلك يمجدني لأنه
يأخذ مما لي ويخبركم".
والحديث كما نرى هو عن رجل
يأتي من بعد المسيح ليبكت العالم على الخطيئة، وليرشدهم إلى الحق.
وقد ذكر المسعودي في كتابه
"التنبيه والإشراف"، أن المانوية تقول بالفارقليط، الذي وعد به المسيح،
وهو "ماني" عندهم، وذكر أن ماني نفسه ذكر ذلك في كتابه
"الجبلة" وفي كتابه المترجم بالشابرقان وفي كتاب سفر الأسفار وغيرها من
كتبه. وذكر ذلك مؤلفون آخرون أيضاً. ولهذه الإشارة شأن خاص في دراسة مووضوع
(المخلص المنتظر). ولا أستبعد أخذ بعض العرب هذه الفكرة من القائلين بظهور الفارقليط.
وذكر بعض الأخباريين أن
الرسول هو (المنحمنا) في الإنجيل، و(المنحمنا) بالسريانية محمد. وهذه اللفظة هي
"منحيم، مناحيم" في العبرانية، وهي من الصفات التي نعت بها العبرانيون
(المسيح)، وهي (consolator) و (comforter) في اللغة الإنكليزية،
أي المسلي والمعزّي. وقد وردت في موضعَ من التلمود والمدراش. وهي من الألفاظ
المعروفة عن آرم فلسطين النصارى. ومن هذا التقارب الملحوظ بين لفظة (منحمنا)
السريانية المستعملة بدلاً من لفظة (بارقليط( الواردة في إنجيل يوحنا باليونانية،
ولفظة (محمد)، استخرج أولئك المستشرقون رأيهم في أن الرسول أخذ اسمه ودعوى نبوته
من ذلك الإنجيل.
والذين قالوا إن (المنحمنا)
بالسريانية هو محمد، وإنها (البرقليطس) بالرومية، قد أخذوا قولهم هذا من مسلمة
يهود ومن النصارى في جملة ما أخذوه عن أهل الكتاب وهو من هذا القصص الذي نرجو أن
يأتي يوم يتدارسه فيه العلماء دراسة علمية عميقة مبنية على النقد والمقابلة مع
الأصول اليهودية والنصرانية القديمة، ليكون في الوسع البت في أمثال هذه الموضوعات،
فيقوم فيه العلماء بتثبيت الموارد على وفق التسلسل التأريخي، وبمراجعة الروايات
والأخبار ونقد سندها ورجالها، ومقابلة الإسرائيليات والنصرانيات بأصولها الواردة
عند اليهود والنصارى، وعندئذٍ ستكون لدينا دراسةٌ علمية دقيقة ترشدنا إلى حقائق من
صلات الأديان بعضها ببعض، نجهلها في هذا اليوم.
(جواد علي؛ تاريخ العرب في الإسلام؛ صص: 106ـ 107)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق