الأحد، 14 أكتوبر 2018

الحرية والعنف، قراءة في كتاب؛ (م. ح)


الحرّية والعنف

قراءة في كتاب


صدر هذا العام كتاب الدكتور جورج زيناتي "الحرية والعنف" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" وهو يقع في 144 صفحة.
نُشر الكتاب بدايةً باللغة الفرنسية عام 1972 عن جامعة باريس نانتير بعنوان "القطبية الثنائية للحرّية La Bipolarite de la liberte .  وقام زيناتي بترجمته كما هو واضح (دون ذكر ذلك) من الفرنسية إلى العربية، مع مقدمة للطبعة يبدو أنها خُصّصت للترجمة، دون ذكر تاريخ كتابة هذه المقدمة.
يتضمّن الكتاب سبعة فصول إضافةً إلى المقدمة.
الفصل الأول بعنوان: "في البدء كان النطق (الكلمة)؛ الثاني: الحب والحرية بوصفهما بحثاً عن المطلق؛ الثالث: الحرية بوصفها معرفةً للمطلق.
الرابع: الحرية والمسؤولية؛
 الخامس: في البدء كان العمل والعمل كان عنفاً؛ السادس: الحرية والفاعلية.
إضافةً إلى خاتمة وقائمة بالمراجع ومسرداً بالأسماء.
تتميّز كتابات زيناتي بالشمولية والوضوح والعمق، ويشكل هذا الكتاب فرصة لمقارنة زيناتي في أوائل السبعينيات وزيناتي اليوم.
يقسّم زيناتي كتابه إلى قسمين:
يتحدث القسم الأول عن الحرية انطلاقاً من الفلسفات النظرية، ثم يتحدث في القسم الثاني عن قَدَر العنف الملازم لتطبيق الفكرة في الواقع.
ينافح زيناتي عن فكرة الحرية والذات الفاعلة عند الإنسان، في وقتٍ سادت فيه فكرة غياب هذه الذات بفعل تياراتٍ فكريةٍ بدأت مع فرويد وحديثه عن الدوافع اللاواعية المتحكمة في سلوك الأفراد، وتالياً مع موجة البنيوية التي روّجت لطروحات غياب الذات وموت المؤلف وموت الإنسان، وبخاصة عند ميشيل فوكو، الذي كان قد أصدر كتابه الأهم قبل كتاب زيناتي بسنوات قليلة، والذي يتحدث فيه عن "إبستيميه" أو قبلية تاريخية كما يحلو لزيناتي ترجمتها، تسود في عصر ما وتطبع أساليب التفكير ومعايير الصح والخطأ، ثم تفرض نفسها على وعي الأفراد بلاوعي منهم.
يفند زيناتي هذه المزاعم، وينحاز بوضوح إلى مقولة الذات الفاعلة وحرية الإرادة.
يقول زيناتي في ذلك: "سنرى أن المفارقة هي أن العلوم الإنسانية بدل أن تضعف الذات الفاعلة، تفترض وجودَها بالضرورة."
في توصيفه لمنطق البنيويين المتناقض، وبالتحديد لمقولة ميشيل فوكو، يروي على لسانهم بالقول: "أكتشف حين أفكر أني لا أفكر [أي حين أفكر، أكتشف أنه يُفَكّر من خلالي]، وحين أفكر أكتشف الروح الخبيث الذي يفكر في داخلي [الروح الخبيث هنا هي البنية أو الإبيستيميه التي تحدث عنها فوكو]، غير أن الشقاء يقول إني حين أفكر أكتشف الهُوَ الذي يفكر في الإبيستميه التي تسمح لي أن أفكر. في الأصل أنا سجين هذه الإبيستميه، فلا أستطيع التفكير إلا في معسكر الاعتقال حيث تحتجزني.."
المفارقة هنا هي أن هذه البنية أو هذه الإبيستيميه أو هذه القبلية التاريخية التي تسمح لي بالتفكير أو التي تفكر من خلالي، حين تكشف عن نفسها، فهي تكشف عن نفسها لمن؟
هل هي تكشف عن نفسها لنفسها، أم أنها تكشف عن نفسها لذات سابقةٍ عليها، جوهرةٍ تلمع ما إن نَحُكَّ عنها رمال التراكمات؟ إن الإبستيميه نفسها "تصبح بدورها سجينتي حين أكتشفها وأسجنها في الكلمات"، يقول زيناتي. كيف "عليّ أن أكون شفافاً أمام ذاتي عينها من دون أن أعي ذلك أنا نفسي."؟
هذا الوعي الذاتي، بما فيه وعي القبلية التاريخية، يعود إلى ذات حقيقية فاعلة سابقة على هذه القبلية التاريخية. وإلا فـ "كيف يمكننا أن نجعل بنيةً معيّنةً حاضرةً أمام ذاتها عينها وليس أمام إنسان هو ذاتٌ فاعلة تعي هذه البنية؟ إن ما يُرفض هنا وبإصرار هو التسليم بأن لكل بنية إحالةً أخيرة مرجعية هي الإنسان. نحن هنا إذاً أمام محاولة الوصول إلى تفسير للإنسان من دون الإحالة إلى هذا الأخير." (ص 10)، وهي محاولة بائسة في النهاية. لأن "الإنسان هو الشرط الضروري لكل إبيستميه (قبليّة تاريخية)، وهو المرجع الأخير لكل بنية؛ .. [وهو] يمتلك بنية أساسيةً ليست قادرة على استيعاب جميع البنى التي اكتُشفت واتضحت أو لم تُكتشف بعد، فحسب، بل إنها قادرة على فهمها واستيعابها كلها بما هي بنى، وهي قادرةٌ تالياً على أن تبقى على مسافةٍ معها، وإلا تعذّر أيُّ فهم.". ومن الواضح أن هذه "البنية الأساسية" هي الذات الفاعلة التي باستطاعتها وحدَها فهم كل بنية أخرى، بما فيها "إبيستيمه" فوكو.
يكشف هذا السجال موقف زيناتي المتفائل والمفند لكل مقولات موت الذات، والمستكشف الدائم لينابيع "المحبة والفرح" في حياة الإنسان، وهو يصر كثيراً في كتابه على هذين المفهومين، باسلوب الفلاسفة أحياناً، وبأسلوب الشاعر والأديب أحياناً أخرى.
يظهر زيناتي في كتابه هذا فيلسوفاً أكثر من أيِّ كتابٍ آخر له، رغم أنه كتبه بداية في أوائل السبعينيات. وإن كان قد أحدث عليه تعديلات خلال الترجمة التي يُرَجّح أن يكون قد قام بها بنفسه، ذلك لأن الكثير من هوامش الكتاب تعود إلى نصوص صدرت بعد تاريخ صدور الكتاب بنسخته الفرنسية بزمنٍ طويل. رغم ذلك فلا يمكن أن تزيد تلك الاستشهادات عن إسناد ما ذهب إليه في الكتاب بنصوصٍ لاحقة تعود إما له شخصياً، أو إلى بعض ترجماته لكتب أستاذه بول ريكور.
دفاعه عن وجود الذات الفاعلة الحرة المفكرة هو إحدى نقاط القسم الأول. ويقول زيناتي في ذلك:
 "يحاول موضوع القسم الأول من عملنا أن يبيّن بأيّ ظروفٍ لا يُختزل الكوجيتو (الأنا أفكر) إلى معطيات موضوعية لأنه يتضمّن بنيةً أساسية غيرَ قابلةٍ لأن تتحوّل إلى بنية. ليس هنا على الإطلاق من تناقض أو تلاعب بالألفاظ، لأن هذه البنية أصليّة بدائية للوجود البشري الذي يبيّن في بنيته عينها، جهةً لا يمكن لنا أن نُنَسقِنَها (أن نعاملها بصفتها نسَقاً."
وقبل أن ينتقل فيلسوفنا إلى الحديث عن حرية الإرادة في تاريخ الفلسفة، يعرّج بنا إلى موضوع الخلق، فنكتشف في زيناتي فيلسوفاً مؤمناً. وهو أمرٌ كان "اكتشافاً" بالنسبة لي. فرغم تتلمذي على زيناتي لسنوات، ورغم قراءتي الكثير من كتاباته، لم يكن من الممكن يوماً استنتاج موقف كهذا له، رغم أن النقاشات كانت تدور حول كافة الأمور.
سأعرض موقف زيناتي مختصراً من هذه القضية، دون التعليق عليها، وكنت قد فعلتُ ذلك في مقالة منفصلة، لكن يمكن إبداء رأيٍ سريع حول هذا الموضوع، وهو أنه من المجازفة غير مأمونة النتائج السجال في موضوع الخلق بعد أن أوصد كانط هذا الباب في كتابه "نقد العقل المحض"، الذي يرى فيه بأن العقل في تناوله لهذه الموضوعات مثل الذي يحاول أن يسبح في الفراغ، لا يجد ما يرتكز إليه، ويقع في التناقض من خلال قدرته على إثبات القضية ونقيضها بنفس القوة.
يقول زيناتي بأن علم الأحياء (البيولوجيا) يعلمنا بأن "المادة غيرَ الحيّة، أي البروتين، استغرقت ملايين السنوات من التطور كي تصل إلى دماغ الإنسان وهو ذروة إنجازها، ولا يتمتع هذا الإنجاز إلا بقدر محدودٍ من القدرة على الخلق والإبداع، فكيف يمكن أن تكون المادة مبدعةً نفسَها، أي أن تكون القدرةَ الإبداعية عينَها أي الخلق المطلق؟".
وهو يقصد بذلك بأنه إذا كانت المادة قد استغرقت ملايين السنوات حتى تصل إلى صيغتها الحالية الأكثر تعقيداً، وهي الدماغ البشري، وبما أن الخلق من العدم أصعب بكثير وأكثر تعقيداً من تحوّل المادة بالتطور إلى قدرتها على إبداع الذكاء الإنساني، يصبح القول بالخلق الذاتي للمادة مستحيلاً.
لا شك بأن هذا النوع من الاستنتاج لا يمكن أن يصمد أمام النقد. فالخلق الذاتي للمادة مستحيل، لكن ليس للسبب الذي ذكره زيناتي. في كل الأحوال، ما يهمنا هنا هو عرض موقف زيناتي من موضوع الخلق أكثر من مناقشته.
يخصص زيناتي فصلاً جميلاً يتحدث فيه عن الحب، سأقتبس منه دون تعليق، يقول: "إن العيش بزخمِ وحدّةِ حميميّتنا المكشوف إلى جانب الآخر، عيش العري أمام العري الآخر، أليس هذا هو الطريق الأكثر انفعالاً وهوَساً لمعرفة الذات؟ أوَليست المعرفة الشبقية هي معرفة جميع خبايا كياننا وزواياه؟ وهل نستطيع، من دون الانحدار العميق في الذات، أن نصعد كينونةً نحو الذات؟
..
إن الرغبة التي تُنهي طريقها عند اللذة هي وحدها جسديّة. تذهب الرغبة إلى أبعدَ من اللذة. إنها تذهب إلى حد كسر توحّدي لأجد براءتي في عريي.
يؤوي الجسدُ الروحَ، ويجب "إذابة المعدن الثقيل للجسد" من أجل العثور على طهارة الروح. هناك طريقتان لإذابة الجسد: إما رفضه وقتله كرغبة، وإما القبول به والعيش معه كرغبة بالطريقة الأعمق. الجسد هبةٌ ثمينة وغنية، وليس ثمة شرٌّ في ولوجه.
إن إيروس البشري مجنّح، وهو يدير وجهه نحو العلاء ويتأمل السماء الزرقاء في الأفق البعيد، على الرغم من انغراسه في الأرض. إن كل روحيٍّ متجذر في تربة، أي في جسد مع جميع رغباته وأهوائه. والحب، أي الروحي المجرد، المقتلع من جذوره، نحن لا نعرفه. فكل نورٍ يجب أن يضيء غرضاً أو موضوعاً أو واقعاً.
"إن كنتُ أحبّه فليس ذلك لأنه جميل.. بل لأنه أنا ذاتي أكثر منّي" (إميلي برونتي)
في الحب لا يعود تمجيد الحياة هو المقصود، بل بالأحرى الكمال للذات الذي نقرأه على وجه الحبيب؛ أي إن هناك خارج ذاتي أناً ما هو أكمل من ذاتي، فإن بتُّ وحدي مع أناي لبقيت غريباً عن عين ذاتي، إذ إن هناك استلاباً للإنسان بالنسبة إلى ذاته؛
إن آدم سيبحث دوماً عن الضلع الذي ينقصه، أما حواء فتبحث دوماً عن مصدر الضلع الذي خرجت منه كي يذوبا في فرح الوحدة الجديدة."

بعد أن يجول زيناتي في القسم الأول من الكتاب في رحاب التفاؤل واستكشاف الذات الحرة (وهو ما قد يكون موضوع مقالةٍ ثانية)، ينتقل إلى القسم الثاني ليواجه العنف في الواقع الذي يحايث كل تطبيق للأفكار في مثاليتها. وهو يعرّف بهذا القسم مسبقاً بالقول:
"غير أن هذه البنية التي ترينا نوعاً من عظمة الذات ترينا في الوقت عينه سقوط الذات في الموضوع! إن الذات المفكرة قابلةٌ بشكلٍ جوهريّ للموضعة (التعامل معها كوضعية)، وهذه القابلية هي التي تسمح للعلوم الإنسانية (التحليل النفسي والأنثروبولوجيا والألسنية وغيرها..) بأن توجَد، وهذا ما سيشكّل موضوع القسم الثاني من عملنا."
التفاؤل الذي رافق القسم الأول يكاد يتبخر إذاً في القسم الثاني من الكتاب.
"حين يمتصُّ المرءَ العملُ، حتى ذلك الأكثر عنفاً، هناك أملٌ ضعيفٌ جداً أن يعود إلى ذاته كيّ يجدَ طفولتَه، ليصبحَ إنساناً بلا جبروت، إي إنساناً قادراً على الندم على ما ارتكبته يداه." (101)
بعد الحديث عن الحرية عند اسبينوزا وكانط وهيغل وبرغسون في القسم الأول، يأتي الحديث عن الواقع في القسم الثاني من الكتاب:
"لقد أراد ماركس أن يكون فعالاً كي يتخلص من القمع العابر للقارات وللقرون، فاستعان بدكتاتورية البروليتاريا، واكتشفنا نحن بعد وفاته وبالتجربة المرة أن جميع الدكتاتوريات تتشابه وإن اختلفت الأسماء. فالستالينية والفاشية والنازية كانت متعاصرة ومتجاورة، عاشت كلها في النصف الأول من القرن العشرين وفي أوروبا القارية، وتميّزت بقمع وتصفيات للملايين من الأبرياء من الطبقات والأجناس المختلفة. إن ماركس الذي عاب على الفلاسفة من قبله أنهم "اكتفوا بأن يؤوّلوا العالم بأساليب مختلفة في حين أن المهم هو تغييره"، مهد الطريق حين أدخل الدكتاتورية إلى منظومته الفكرية إلى تغيير العالم فعلاً، لكن ليس كما حلم به المفكر بل كما شاءه الدكتاتور: إنه عالم يحكمه الخوف، وتتكدس فيه الجماجم بسرعة غير معهودة."
(112)
وغياب الحريات وسيادة القمع تحت ذرائع شتى هي سبب المآسي وخسارة طاقاتٍ فكريةٍ لا يمكن تعويضُها، وإن "المجتمع الذي لا يترك الحرية للنخبة هو إذاً مجتمع اختار أن يكون خارج المسيرة الكبرى للإنسانية، وهي مسيرة التجدد والإبداع والخروج من الماضي والتطلع نحو الحاضر والمستقبل. إن قمع أمةٍ لكل تجديد وركودَها في ماضٍ تعيده باستمرار يعني اختيار مشاهدة التاريخ يمر من دون أيِّ مساهمةٍ فيه. أمةٌ كهذه تختار بالفعل نوعاً من الانتحار الثقافي والعلمي وتضحي بحاضرها ومستقبلها من أجل أن تحافظ على ماضيها وتقاليدها وعلى الأعراف السائدة." (ص 120)
رغم كل ما يشوب الواقع من مآسٍ أطاحت بكل ما حلم به الفلاسفة بمجتمع عادل، فإن زيناتي لا يتخلى عن تفاؤليته، لكنه لم يقل لنا بطريقة فلسفية كيف يمكن المصالحة بين أحلام الفلاسفة والواقع الذي لن يكون إلا كدحاً متواصلاً.
لكن هذا الكدح سيجعل اليومَ أفضل من الأمس، وسيجعل الغد أفضلَ من اليوم. السبيل إلى ذلك هو النظام الديموقراطي، الذي يحتم على كل مجتمع أن يخوض تجربته الخاصة، ويراكم إنجازاته الخاصة بفضل هذا الكدح الجماعي، إن " الديموقراطية هي إذاً تراكم حضاري، وهي ليست مجرد استنباط (اختراع) على كل مجتمع أن يخترعها دوماً من واقعه المتجدد، كما أكد ذلك كلود لوفور.
إن المؤسسات السياسية والمدنية والتراكم مع مرور الزمن هي الأساس الذي من دونه ليس هناك من ديموقراطية، أما دولة القانون فهي أشبه بشعار انتخابي لأن وجود القانون لم يمنع يوماً أيَّ مستبدٍ من ممارسة استبداده." (ص 122)
ثم يضيف: "إن تاريخ شعبٍ، ماضيَه، وما جمعه من تجربته المرّة ومعاناته في ثقافته العلمية والاجتماعية ونضاله المتواصل من أجل حقوقه، هي التي تشكل رصيده الثقافي السياسي لمراقبة الدولة وحاكمِها، ومنعه من أن يتحول إلى مستبد."
باختصار، إن درب البشرية مزروعةٌ بالمعاناة، وإن ما يسمح بالتفاؤل هو الأمل بأن كدحنا الآن سينتج زهوراً تنعم الأجيال القادمة بعبيرها.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق