الديمقراطية بين
التقريظ والتعريض
أغسطس 2015 بقلم
ملاحظة:
سأعمل في هذه المحاولة على متابعة مسار تكوّن الديمقراطية عبر التاريخ
في أهمّ محطاته، تقريظاً وتعريضاً، اعتماداً على كتاب روبرت ماكيفر، تكوين
الدولة، ترجمة حسن صعب، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية،
1974. وتخصيصاً على مستوى الفصل الثامن منه "طرق الديمقراطية"، الفقرة
"ظهور الديمقراطية".
ينبغي التأكيد منذ البداية على أنّ
الديمقراطية مظهر من مظاهر الحكم التي يعسر إدراكها على نحو تام، ولأجل ذلك يتعذر
تعريفها وتقييمها على نحو متسق وصحيح. وقد تتعاقب السنون وربما القرون على أمّة من
الأمم قبل أن يقال عنها إنّها أمّة ديمقراطية.
والحقيقة، فإنّ ظهور الديمقراطية لا يأتي
بشكل فجائي، بل تسبقه عملية مخاض عسيرة، إذ لا سبيل لانقلاب أنظمة الحكم
الاستبدادية إلى ديمقراطية بين عشية وضحاها، مهما يكن مقدار التغيير الذي قد يطرأ
على مؤسساتها وآلياتها وسلطاتها، بيد أنّ العكس صحيح، حيث تنقلب الديمقراطية إلى
دكتاتورية منذ اللحظة التي يحدث فيها الانقلاب. معنى هذا أنّ الديمقراطية احتاجت
في نشأتها وظهرها إلى تحولات وثورات عميقة طويلة الأمد. وقد بذلت البشرية في سبيل
ذلك تكاليف باهظة وأعباء مضنية حتى بلغت أشكالاً مختلفة من الديمقراطية، قبل أن
تتمكن من توفير ضمانات ووسائل تكفل للمواطنين الحق في المشاركة والمراقبة
والمقاومة.
ولمّا كان ذلك كذلك، فإنه يبدو أنّ الثورات
لا تنتهي بالضرورة إلى خلق الديمقراطية خلقاً فجائياً، ولكنّها قد تؤدي إلى
استبدال فجائي لنظام استبدادي بنظام استبدادي آخر. فميلاد الديمقراطية يحتاج إلى
تخطّي محن كثيرة وعظيمة، ذلك حال ما عاناه الشعب الفرنسي مثلاً قبل أن يبلغ نظاماً
اعتُبر نموذجاً للنظام الديمقراطي القويم والنقي.
ونأتي الآن إلى التساؤل المحوري الذي يفرضه
معنى الديمقراطية كمشاركة ومراقبة ومقاومة. فهل استطاع الشعب أن يمارس حقوقه تلك
في مختلف الديمقراطيات التي عرفتها البشرية عبر تاريخها في مقاومتها للجور والحيف
والإجحاف وسعيها الدائم لترسيخ قيم العدل والمساواة والإنصاف؟
ففي اليونان القديمة، وفي عهد بريكلس، كما
جاء في كتاب روبرت ماكيفر، تكوّين الدولة: "كان الشعب يمارس الرقابة على الحكومة، إلا أنها لم تترك لهم ممارستها
إلا لفترة قصيرة، ثم ما لبثت أن اختفت الديمقراطية بعد ذلك. وأخذت تظهر من حين
لآخر في القرن التالي لفترات عابرة. وظلت قواعد البنية الديمقراطية متزعزعة، وظلت
أسطورتها واهية، وبقيت بعيدة عن الرسوخ العميق في أذهان الناس. ويكفي الاطلاع على
الآداب اليونانية لتبيّن وهم قواعد الديمقراطية وتهافت أسطورتها"[1]، فقد كان أهل أثينا شديدي
الولع بالحرية، لكنهم لم يهتموا كثيراً بشروط حفظها.
ولم يكن كبار فلاسفة اليونان يعلقون آمالاً
كبيرة على الديمقراطية، بل كان أكثرهم منكرين ومناهضين لها: "وكان
السفسطائيون يشرّحونها تشريحاً ساخراً، أمّا كتّاب المأساة فقد كانوا مأخوذين
بالخرافات الأوليغاركية. وكان كاتب الملهاة العظيم أرسطوفانس يتهكم على
الديمقراطية، ويتسلى بكاتب الملهاة الديمقراطي أروبيدس وينقده نقداً لاذعاً. وكان
سقراط المفكر الوحيد الذي حبذّ الديمقراطية. وكان الشعب يغط في سبات تجاه أبطال
الديمقراطية، فكافأ أروبيدس بالطرد من المدينة بعد أن ألصقت به تهمة التلوث بمشاعر
غير خلقية. وكان جزاء سقراط عقوبة الموت. وظلت الديمقراطية شكلاً بدل أن تصبح
جوهراً، وظلت أكثر نوادي أثينا نوادي أوليغاركية".[2]
وفقدت أثينا ديمقراطيتها بفعل تعرضها
المستمر للغزو الخارجي والتدخل الأجنبي الذي استفاد من افتقار شعبها للروح
القومية، وهو افتقار أعاق نمو الديمقراطية فيهم. فالديمقراطية لا تترسّخ في النفوس
ما لم يسندها في ذلك حسٌّ بالانتماء القومي ووعي الشعب لوحدته. فقد ظلت كلّ مدينة
يونانية تتغنى بمنجزاتها الثقافية الخاصة وتميزها وتفوقها على سائر المدن الأخرى.
ففرّقت الثقافة شعب اليونان بينما كان بإمكان وازع القومية توحيده، وهكذا فشلت
الثقافة في توحيد شعب لم تستطع القومية أن توحّده. فانحسرت الديمقراطية، أو انحصرت
في إطار ضيّق، لم يتعدّ حدود فئة المواطنين، وهم الأقلية، وهيّأ لهم ذلك الممارسة
الكاملة لحقوقهم الديمقراطية. وظلّ الحال على ما هو عليه بقدر استمرار الديمقراطية
على ذلك النحو. واستطاع المواطنون أن يدكوا حصون الاستبداد حتى تيسر لهم أمر
العدالة، فتوفرت لهم فرص اختيار القضاة، وأصبح من حقّ العامة أن يرتقوا لأعلى
المناصب، وأصبح للمواطنين الحقّ في المشاركة في الشؤون العامّة بكل حريّة.
وإذا بلغت ديمقراطية أثينا عصر ذاك أقصى
درجات نموها ضمن حيثيات نشأتها تلك بشكل لم يكن يتوقعه أعظم الحالمين بالتقدم
الديمقراطي، فإنّ ذلك لم يكن بلا ثمن، ولم يخلُ من مخاطر كادت تعصف بأركان الدولة
نفسها، ويعود ذلك إلى أنّ الشعب لم يتربَّ بعدُ على الديمقراطية، من ذلك أنّه نكل
بمن نكل وأعدم من أعدم وطرد من طرد من عظمائه (طرد أرستيدس العادل، ونفى القائد
العظيم ثمستكلس، وقضى على نفوذ بريكلس في محاكة إسباسيا الشهيرة بتهمة الفسق[3])، باسم الحق الديمقراطي
الذي اصطنعه لنفسه، حتى أصبحت الزعامة السياسية في أثينا غير محمودة العواقب.
ولمّا كان هذا شأن الظروف التي نشأت فيها
ديمقراطية أثينا، فقد ظلت حكراً على جماعة المواطنين الذين كوّنوا طبقة قائمة
بذاتها، ولم تستطع الروح الديمقراطية أن تغيّر في ذلك الوضع. وتنعمت تلك الطبقة
بكلّ الامتيازات المتاحة، وحرمت منها أكثرية سكان إقليم أتيكا في الأماكن البعيدة
عن مركز مدينة أثينا، حيث استعصى عليهم هجر أراضيهم والارتحال عنها، وممارسة
حقوقهم كمواطنين. وفي تلك الأثناء ظلّ المقيمون الأجانب (الغرباء) محرومين من حقوق
المواطنة، ودونهم العبيد الذين حرموا كلّ الحقوق تماماً، رغم أنّ عددهم يناهز ثلث
السكان، وكانت النساء في عزلة إلا من كنّ نديمات الطبقة العليا. وكأننا إزاء
ديمقراطية شكلية محدودة تفتقد للقاعدة الشعبية ولتبرير وجودها. ولم تخلُ تجربة
الديمقراطية في العهد الروماني من صعوبات عطلت في بادئ الأمر انطلاقتها، قبل أن
تقضي عليها تماماً. "وكان لظاهرة العبودية دورها الحاسم في إخفاق التجربة،
وأدّى نمو قدرة روما إلى التمادي في اعتماد العبودية قاعدة لاقتصادها، فأصبح نظام
العبودية فيها كما كان في العالم القديم كله عائقاً منيعاً دون تحقيق الديمقراطية".[4]
من الواضح إذن أنّ الديمقراطية لا تتفق مع
العبودية، وذلك لأنّ الديمقراطية تكرّس حرية الشخص أيّاً كانت مكانته الاجتماعية،
في حين تقوم العبودية في جوهرها على رفض كلّي وتام لحقوق الشخص المدنية. وعليه
طالما ظلّ هذا الرفض قائماً، وطالما مازلنا نقبل بالعبودية فلا سبيل للتسليم
بمفهوم حقيقي للديمقراطية. والثابت أنّ المجتمعات القديمة والوسيطة عرفت العبودية
على نطاق واسع، بل اعتبرت سمة المجتمع الإنساني. وبرّرها مفكرون وفلاسفة أفذاذ على
غرار أفلاطون وأرسطو. وظلّ الأمر على هذه الحال حتى سرت الروح الديمقراطية في
أذهان المفكرين في آخر عهد روما. وأنكر سيسرون تفاوت الشعوب والطبقات، واستهجن
سنكا القول بعبودية الناس الطبيعية وفنّدها. "وشدّد الرواقيون على وجود العقل
العام متحركاً في جميع البشر، وأعلنوا كما أعلن القديس بولس أنّه لا فرق بين عبد
وحر. وميّز الفقهاء الرومان بين التفاوت في الحقوق المدنية والتساوي في الحقوق
الطبيعية، فقبلوا بالعبودية باسم القانون المدني، ولكنهم أعلنوا أنّ القانون
الطبيعي ساوى بين جميع البشر. فاعتبرت هذه الآراء الجديدة القواعد الفكرية لنشوء
الديمقراطية".[5]
وقد أصاب تقدّم الديمقراطية الفتور دائماً،
فلم تشمل غالبية الناس حيث نجد أكثرهم عبيداً، لا يتمتعون بحقوقهم المدنية،
ومايزال الحال على ما هو عليه في العصر الحديث، حيث يعاني السواد الأعظم من البشر
الجهل والتهميش وشظف العيش وافتقار الموارد وكلّ أسباب العيش الكريم وشروط التنمية
ومستلزماتها خاصة في المناطق الفقيرة والمحرومة، بينما يفترض أن يكون هناك تلازم
بين الديمقراطية وبين وضع هؤلاء لأنهم يمثلون الأغلبية. ولا عجب إذن أنّ الديمقراطية
ظهرت أول ما ظهرت في المدن حتى أصبحت امتيازاً لفئة قليلة من الناس استطاعوا أن
ينجو من قدر الأغلبية العاثر. فانحصرت الديمقراطية في نطاق المدينة حتى أصبحت
المدينة هي الدولة وما عدا ذلك مجرد مناطق ملحقة بها أو تابعة لها أو على ملكيتها،
وأضحت الديمقراطية حقاً يحتكره المواطنون من سكان المدن دون سواهم. وقد تكرّس هذا
الوضع خاصة في مدينة روما في أواخر عهد الجمهورية الرومانية. "فقد خلعت
الجمهورية مواطنيتها على سكان ممتلكاتها المترامية الأطراف. ولكنّ مواطنيتهم
الرومانية ظلت رمزية ولم تصبح حقيقية، وذلك لأنّ ممارسة حقوق المواطنية ظلت رهينة
بانتساب المواطن لمدينة روما. ولم تكتسب المواطنية معناها الديمقراطي الكامل إلا
في وقت متأخر بعد أن بلغت فكرة القومية أشدها، ولم تظهر الديمقراطية التمثيلية إلا
في العصر الحديث. وهي السبيل الوحيد لحكم البلاد ديمقراطياً، ولجهل العالم القديم
هذا السبيل مغزاه ودلالته على ما كانت عليه حقيقة الديمقراطية فيه".[6]
ويعكس ما تقدم من معطيات ضيق أفق
الديمقراطية في أثينا وروما، حيث فشلت في أن تمتد لتشمل كلّ أنحاء البلاد، ويوجز
ماكيفر الأحول غير الملائمة للديمقراطية في التالي:
"- القاعدة الرقيّة للاقتصاديات القديمة
- وقف الفرص الثقافية على طبقات محظوظة يمكن ان تعتبر نسبياً محدودة
العدد
- فقدان مفهوم القومية
وشيئاً فشيئاً بدأت أحوال الناس المعيشية
ونمط الحياة يتغير في القرون الوسطى، حتى أصبحت الإبستيمية الثقافية مهيأة أكثر
لتقبل فكرة تمدّد الديمقراطية ومغادرتها مركز المدينة مع بداية تراجع العوائق التي
حالت دون ذلك مع انتشار القيم والتعاليم المسيحية حول المساواة والتآخي وتقدير
الشخص لذاته لا لثروته وجاهه ونفوذه ومكانة الاجتماعية. وسادت أفكار فقهية
وقانونية تؤكد على علوية القانون الطبيعي بوصفه معياراً للقانون الوضعي الذي لا
يمكن أن يكون عادلاً إلا إذ اتفق تماماً مع القانون الطبيعي، (يعتبر توماس
الإكويني أشهر من درس القانون الطبيعي وأفاض في شرحه وتعليمه).[8]
اللافت في كلّ ذلك أنّ انتشار هذه الأفكار
القانونية والدينية الملائمة لفكرة الديمقراطية التي ساعدت على تغيير تصوراتنا حول
الإنسان، لم تساعد على تغيير نمط عمل المؤسسات، فتقدّمت الأفكار الديمقراطية دون
تقدم المؤسسات الديمقراطية، ولم يكن لتلك الأفكار تأثير قوي إلا في الضمائر دون
النظم والتنظيمات السياسية والاجتماعية. ففشلت القرون الوسطى في التوفيق بين هذه
الأفكار وأفكار أخرى تفرض التزامات عملية تعيق النمو الديمقراطي. ومن ثمّة فشلت في
التوفيق بين المبادئ الإنسانية والسياسات المتبعة التي ظلّ مصدرها أفكاراً غير ديمقراطية.
وفي الحقيقة حال الانسجام الذي كان سائداً في القرون الوسطى بين الكنيسة والدولة
دون تنامي الديمقراطية، فقد نشأت عن ذلك أوضاع عطلت حرية الرأي، حيث أصبحت الدولة
اليد الطولى للكنيسة، وتعذّر على هذه الحيرة بنظامها التسلسلي أن تنصر
الديمقراطية، فامتنعت حرية الفكر كركن أساسي من أركان الديمقراطية.
ومع تصدّع الكنيسة بدأت الأحوال تتغير، فقد
ساهم ذلك في تطوير الديمقراطية في العصر الحديث. وتجلى ذلك خاصة في احتدام الصراع
بين الديانة الرسمية وبين المعتقدات المناضلة في سبيل التحرر والتساوي في حقوق
المواطنية. فكان لتلك الشيع المنشقة دورها الرائع والعظيم في تحقيق ذلك التحرر.
ولئن كان انشقاقها في الأصل تمرداً في سبيل حرية المعتقد إلا أنه سرعان ما تطور في
اتجاه تحقيق حرية الفكر.
وتزامن ذلك على الصعيد الاجتماعي والسياسي
مع التحول من الدولة الإقطاعية إلى الدولة المحلية، حيث بدأت سلطة الحكومة تتجمع
في مركز واحد، ولكنها ما لبثت أن انتهجت طريقاً غير ديمقراطية، إذ انقادت سيادة
الدولة إلى الملك. إلا أنّه رغم ذلك أتاحت المجال لتحقيق تصوّر أوسع للديمقراطية
تعذر إدراكه في أثينا وروما. وهيأت هذه الفكرة المناخ لفكرة سيادة الشعب، فقد أصبح
الشعب يطالب بمرور الوقت بالاعتراف بحقوقه.
واعتبرت إنجلترا، تاريخياً، أرض هذا
التغيير العميق في اتجاه تكريس فكرة الديمقراطية، حيث انتهى بها الأمر إلى خلق
مؤسساتها الديمقراطية منذ إعلان "الماجنا كارتا"[9] أول مرّة في القرون الوسطى. وقد اعتبر العديد من المؤرخين أنّ هذا
الإعلان كان بمثابة فاتحة التطور الديمقراطي في إنجلترا الذي استمر إلى الآن، رغم
أنه كان إعلاناً بروح إقطاعية بامتياز، بوصفه يؤكد حقوق الباروانت الإقطاعيين ضد
الملك الإقطاعي. وقد أعقبت هذه الخطوة خطوات أخرى أكثر جذرية في اتجاه تكريس فكرة
الديمقراطية، فقد أصبح البرلمان الإنجليزي يتشكل كمجلس عموم، وقد اقترن مسار
الديمقراطية الغربية لقرون بتطور مجلس العموم هذا. "وأصبح بخطواته قدوة لسائر
المجالس. وكانت أهمّ هذه الخطوات انفصاله عن مجلس النبلاء الأعلى، وانتزاعه حقّ
الضرائب، وفرضه الرقابة على السياسية الماليّة للحكومة، ونضاله ضد جور الملوك،
وتجريده إياهم تدريجياً من السلطة، وتقويضه لامتيازات الطبقية، وقضاؤه على ما كان
لمجلس اللوردات من رقابة عليه، وتوسيعه المتواصل للحقوق السياسية إلى أن تساوى فيها
الغني والفقير، وتعادل فيها أخيراً النساء والرجال."[10]
وفي حين كانت التجربة الديمقراطية تشق
طريقها بثبات بدأت تشهد دول أخرى حركية هائلة، بفعل الحركة النشيطة لبعض القوى
الصاعدة التي أثّرت في مختلف أوجه الحياة اجتماعياً وثقافياً وتقنياً، فحفزت
المجتمع على التغيير، وإن بطرق مختلفة تتراوح بين التحول المحافظ والثوري العنيف.
وشهد القرن الثامن عشر أهمّ لحظات هذا التحول العميق، حيث شقت القوى الصاعدة
طريقها معلنة حربها على المؤسسات القائمة بعنف مكنها من الانقضاض عليها، رائدها في
ذلك الإيمان الثوري بحقوق الإنسان. "وكانت فرنسا في طليعة هذا التقدم في
أوروبا، وظلّ نظام مؤسساتها -بالرغم من سبقها الثقافي - نظام ملكية طبقية مطلقة.
فكانت الطبقة المتوسطة بطبيعة وضعها الاجتماعي أقوى الطبقات وعياً للتباين بين
المؤسسات الفرنسية السائدة وروح العصر. فاندفعت في الثورة الفرنسية كالبركان
المنفجر في وجه ظلم العرش واستخفافه".[11]
وقد كان هاجس الجماهير الغاضبة إبّان تلك
الثورة انبلاج عهد جديد ونظام جديد ينعم في ظله الجميع على قدم المساواة بالحرية،
قوامه ديمقراطية تبنى على حقوق الإنسان. غير أنّ الطريق إلى ذلك لم تكن سهلة كما
تصور ذلك أبطال الثورة ودعاتها. ولكن ما صاحبها من صخب منذ لحظة اندلاعها اهتزّت
له أركان الملكية البالية في جميع أنحاء أوروبا. وأثار ذلك لغطاً بين المحافظين
والمجددين، بين رافض ومؤيد. وقد صعق الساخطون وكثير من المعجبين بتطورات الثورة
ومآلاتها المحزنة، "فقد ساءهم أن تنتهي بقيصرية جديدة. وراعهم أن تتحول من
حركة إنسانية عامة إلى حركة قومية، وكيفما كانت نهاية الثورة الفورية فإنّ تأثيرها
الشامل أدّى إلى تغيير وجه الحياة في العالم الغربي. وامتدّ تأثيرها إلى القرن
التاسع عشر الذي اكتسبت فيه القومية والديمقراطية معاً المزيد من القوة والمناعة"[12].
ولما آلت الثورة الفرنسية إلى قيصرية
نابليون، فزعت إنجلترا للأمر، حتى أنها وجدت نفسها مضطرة من جديد للتصدي للدفاع عن
مبدأ الديمقراطية، وكانت عندها في فترة ازدهار اقتصادي، ولم يعد لفكرة مراقبة
الحكومة للنشاط الاقتصادي أيّ معنى ولا جدوى، وتدعمت بدلاً عن ذلك فكرة الحرية
الاقتصادية حتى أصبحت الديمقراطية تعني تدريجياً الليبرالية الاقتصادية، ومثلت
الحرية الفردية قوام هذه الليبرالية. وصارت هذه الحرية الفردية معيار الديمقراطية.
ومن ثمّة توجّب على الحكومة أن تدع كلّ فرد وشأنه ومصلحته، وتؤمن للأفراد حرية
تعاطي أنشطتهم وحرية المنافسة. وكلما تأمّن مجموع مصالح الأفراد كانت الجماعة
بخير، وليس للحكومة أن تتدخل في شؤون الأفراد، بل عليها أن تترك لهم إمكانية
متابعة مصالحهم بكلّ حرية.
وقد كان رواد الاقتصاد الكلاسيكيون أوّل من
طالب بمبدأ الحرية الاقتصادية الفردية. ثم تدعمت تلك المطالبة بشكل أكبر مع
المدرسة النفعية بزعامة أحد كبار مؤسسيها جيرمي بنتام الذي اعتبر أنّ على الحكومة
ألا تناهض الطبيعة التي قضت أن ينشد الناس اللذة ويتجنبون الألم، وذلك هو المعيار
الوحيد للخير والشر. وأنّ عليها أيضاً أن تقرأ حساب الأفعال التي تحقق أقصى حد
ممكن من اللذة على حساب الألم، تلك التي تجلب أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس.
وأدرك هذا الضرب من الليبرالية غايته فقضى على القيود الاقتصادية وأعلى من شأن
الفرد وحريته ووسّع قاعدة المواطنية، لكنه صرف الحكومة عن اعتماد سياسات بنائية
تراعي فيها مفهوماً إيجابياً للخير العام يتعيّن عليها تأمينه والمضي قدماً في
دعمه. ونتج عن ذلك تغير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية دون أن يواكبه أيّ تغير
في سياسات الحكومات.
وهكذا مثلت المنافسة الحرة التي أطلقت
عنانها الديمقراطية الليبرالية ذات النزعة الاقتصادية الخالصة عبئاً ثقيلاً على
الطبقات التي أنهكتها الثورة الصناعية، وهو ما دفعها للمطالبة بتوفير ضمانات جديدة
لتجاوز مساوئ الرأسمالية التي كرستها هذه الديمقراطية الليبيرالية. وهكذا أصبح على
الديمقراطية أن تواجه معضلات عظيمة، وأن تضطلع بمهام عظيمة. "فقد أصبح على
الديمقراطية وهي تتقدم أن تواجه قضايا ومخاطر جديدة، وأن تدخل المعترك الاقتصادي،
وأن تحسب حساب نقابات العمال ومنظماتهم التي ازدادت قوتها، وأن تراعي تطلع الحركة
العمالية لتجاوز الليبيرالية، ولحمل الحكومة على مراقبة النظام الاقتصادي، وسنّ
التشريعات لصون حقوق العمال. وموضوع هذه المطالب العمالية هو من الموضوعات التي ما
تزال تشغل الديمقراطية في وقتنا الحاضر".[13]
وخلاصة القول إنّ الديمقراطية اقترنت
بالتطور الثقافي، دون أن يعني ذلك أنّ أمّة من الأمم قد تصبح ديمقراطية بمجرد أن
تزدهر ثقافياً، ولكنها لن تكون ديمقراطية إلا إذا ازدهرت ثقافياً. كما اقترنت
الديمقراطية أيضاً بالازدهار الاقتصادي، ولكن لا يعني هذا أيضاً أنّ الازدهار
الاقتصادي كفيل وحده بالتقدم الديمقراطي. فقد توفرت للعديد من الأمم أسباب الثروة
ولم تبلغ الديمقراطية، وهذا ما تشهد عليه إمبراطوريات العالم عبر التاريخ. معنى
هذا أنّ الديمقراطية لا تكون إلا بتلازم الثقافة التقدمية والرفاهية الاقتصادية.
وربما ظلت الديمقراطية في بعض البلدان شكلية أكثر منها حقيقية. فكثيرة هي الدول
التي حاولت الاقتداء بدول تعتبر عريقة في الديمقراطية دون أن تكون مهيأة لها بشكل
كافٍ، فظلّ أكثرها ديمقراطي المظهر ولكنّه مستبد في جوهره. "ويتعذر تحقيق
الديمقراطية إذا غلبت الاستكانة على أكثرية الشعب، وكانت الأكثرية جاهلة، وافتقرت
إلى الوعي بوحدتها، أو إلى الوعي بمنفعتها المشتركة، ولا يكفي أن يكون الشعب على
مستوى عالٍ من الذكاء ليصلح للديمقراطية، لأنّ الذكاء ليس بديلاً لوعي المنفعة
المشتركة. ولا بدّ من الوعي ليسير الشعب في طريق الحكم الديمقراطي".[14]
وما أكثر المخاطر التي يواجهها النظام
الديمقراطي لحظة محاولة اعتماده لأول مرّة كنظام للحكم! حتى أنه قد يوأد أو يقبر
وهو ما يزال في المهد. وما أعلاها نسب وفيات الديمقراطيات الناشئة والمستجدة! وما
أشقّ طريق كفاح هذه الديمقراطيات وما أطولها لتنجو من هذه المخاطر! وما أكثر القوى
المعادية والمناوئة للديمقراطية! ولكن أضعف الايمان في كلّ ذلك أن ندفع في اتجاه
تقريظ ممارسة الديمقراطية في مواجهة كلّ أشكال التعريض بها سراً وعلانية، تلميحاً
وتصريحاً، فأعتى الديمقراطيات وأعرقها إنما بلغت ما بلغته من تقدم بفضل كفاح طويل
وعسير.
[1]ـ روبرت
ماكيفر، تكوين الدولة، ترجمة حسن صعب، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، الطبعة
الثانية، 1974، ص 220
[9]ـ الماجنا كارتا أو الميثاق الأعظم هي
وثيقة إنجليزية صدرت لأول مرّة عام 1215م. ثم صدرت مرّة أخرى
في القرن الثالث عشر، ولكن بنسخة ذات أحكام أقل، حيث ألغيت بعض الأحكام
المؤقتة الموجودة في النسخة الأولى، خصوصاً تلك الأحكام التي توجه تهديدات صريحة
إلى سلطة الحاكم، وقد اعتمدت هذه الوثيقة قانوناً عام 1225م وما
تزال النسخة التي صدرت عام 1297م ضمن كتب لوائح الأنظمة الداخلية
لإنجلترا وويلز حتى الآن. وقد وصفت تلك النسخة بأنها "الميثاق
العظيم للحريات في إنجلترا والحريات في الغابة".
يحتوي ميثاق عام 1215م على أمور عدة منها: مطالبة الملك بأن يمنح
حريات معينة، وأن يقبل بأنّ حريته لن تكون مطلقة، وأن يوافق علناً على عدم معاقبة
أي "رجل حر" إلا بموجب قانون الدولة، وهذا الحق ما زال قائماً حتى اليوم
في هذه الدول.
كانت الماجنا كارتا أول وثيقة تُفرض على ملك إنجليزي من
مجموعة من رعاياه (وهم البارونات)، في محاولة للحد من نفوذه وحماية
امتيازاتهم قانونياً، ولم تكن الماجنا كارتا أول ميثاق للحد من سلطة الملك، فقد
سبق هذا الميثاق ميثاق آخر للحريات عام 1100م وتأثر به تأثراً مباشراً، وكان ذلك
في عهد الملك هنري الأول، وبالرغم من أنّ للميثاق أهمية لا يختلف عليها
اثنان، إلا أنّه بحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر ألغيت معظم
البنود التي كانت في قالبها الأصلي، وبقيت ثلاثة بنود كجزء من قانون إنجلترا وويلز،
وتعتبر عادةً جزءاً من الدستور غير المدوّن.
وفي مرسوم حديث “ومثير للجدل نوعاً ما” لقوانين اللوردات، استشهد
بالماجنا كارتا كمثال على لوائح أنظمة داخلية دستورية لم يمكن إلغاؤها إلا بلوائح
أنظمة داخلية جديدة تنوي استبدال القديمة بقوانين أكثر وضوحاً فضلاً عن أن تلغيها.
كان الميثاق جزءاً مهماً من عملية تاريخية ممتدة أدت إلى
حكم القانون الدستوري في الدول الناطقة بالإنجليزية. بالرغم من أنّ
الماجنا كارتا أبعد من أن تكون فريدة في شكلها أو محتواها إلا أنها لم تنجح في
الحد من نفوذ الملك بشكل كبير عند تطبيقها في حقبة العصور الوسطى، ولكنها كانت
مهمة وذات تأثير تاريخي قوي، خاصة في زمن الحرب الأهلية الإنجليزية، حيث كانت
رمزاً هامّاً عند من كانوا يتمنون أن يبرهنوا بأنّ الملك يقع تحت وطأة القانون.
وقد تأثر المستوطنون الأوائل في إنجلترا الجديدة بالماجنا كارتا وألهمت وثائق
دستورية أتت بعدها من ضمنها دستور الولايات المتحدة.
[10]ـ تكوين الدولة، مصدر موثق سابقاً، ص ص 231-232
[11]ـ المصدر السابق، ص 233
[12]ـ المصدر السابق، ص 233
[13]ـ المصدر السابق، ص 236
[14]ـ المصدر السابق، ص 238
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق