الأربعاء، 10 أكتوبر 2018

[في تاريخ العلم والنظرة العلمية]؛ طارق خميس.




حركة العلم: جنين يصعد سلّمًا؟! (1\3)
الافتراض بأنّ العلم يجري في المختبر في ظروف معزولة ومعقّمة من الواقع، هو افتراض إيمانيّ لا يتّكئ على دليل؛ لطالما رافق حركة العلم، فإن كان المختبر معقّمًا جيّدًا عمّا يحيط به، فإنّ العالِم ليس كذلك...
لقد تخلّصت الأنوار من الفكرة الإنجيليّة الّتي ترى أنّ التّاريخ تنازليّ، تاريخ خطيئة الإنسان وانحداره نحو الأسفل، وقلبت الرّؤية لتضع مكانها تصوّرًا تقدّميًّا وتصاعديًّا للتّاريخ؛ وباستعارة دارون، جرى تعميم 'التّطوّر' فكرةً على مجمل الحقول العلميّة والإنسانيّة؛ ولذلك - وبحسب نيتشة - فإنّ الحداثة تأسّست على عضّة هيجل الّتي تصوّرت أنّ ثمّة معنًى للتّاريخ يأخذه نحو التّقدّم، وهي قلبٌ للتّصوّر المسيحيّ لا أكثر. وما يدعو له نيتشه هو 'براءة الصّيرورة'، وتعني براءتها من الغائيّة اللّاهوتيّة؛ فيكفي القول إنّ الأشياء تصير.
تحوّل السّؤال
ليس من السّهل أن تستقرّ فكرة 'براءة الصّيرورة' في قلب حركة العلم، لأنّه إن لم يكن ثمّة وعود بـ 'الأفضل' مدرجة على برنامج العلم، فإنّه ليس ثمّة حاجة للعلم نفسه. وتكمن أهمّيّة النّشاط العلميّ بعد انحدار الدّين (أو الأصحّ إعادة ترتيب مكانه في العالم الحديث) في أنّ العلم نفسه سمح لنفسه بالتّقدّم في أماكن تركها الدّين شاغرة، وبما أنّه غير مصمّم للإجابة على سؤال 'لماذا؟' (سؤال الغاية الّذي لطالما كان ميدان الأديان المفضّل)، فإنّه فضّل عدم وجوده على أن يكون موجودًا دون إجابة. جرى تصوير أنّ كلّ ما يهمّ هو سؤال 'كيف؟'، إذ إنّ تفسير ما يحدث يجب أن يكون كافيًا للإنسان الحديث حتّى لا يشعر بالاغتراب أمام الطّبيعة، وعليه أن ينشغل بالسّيطرة عليها بدلًا من التّواصل معها. لكن حتّى سؤال الكيف نفسه، تَخَفَّفَ من إجاباته اليقينة وفضّل أن يتواضع أمام الظّواهر الّتي اتّضح أنّها تعاند نظرتنا عنها، وباستمرار. خلف كلّ هذا، كان ثمّة سؤال في طريقه للنّضج، حول 'طبيعة التّطوّر العلميّ نفسها'؛ هل العلم يتطوّر من داخله، في علاقة تحكم المسار العلميّ بتصحيح أخطائه نحو الأمام؟ أم ثمّة ظروف اجتماعيّة وسياسيّة ونفسيّة تشكّل إطارًا ناظمًا لحركة العلم؛ وبالتّالي جعل العلم نشاطًا بشريًّا كمجمل النّشاطات الأخرى؟ هذا التّساؤل خلق تيارّين في نقاشات مؤرّخي العلم، لا سيّما بين الفلاسفة الأنجلوسكسونيّين، وهما تيّار أهل الدّاخل وتيّار أهل الخارج.
جنين
مع المدرسة الوضعيّة على يد كونت، جرت المثابرة على تقديم العلم بوصفه جنينًا ينمو، وبأنّه يترقّى من الأدنى للأعلى، من البدائيّ إلى المتقدّم، في حلقة متّصلة ومتواصلة نحو الأمام. تقوم المحاججة الرّئيسيّة على أنّ العلم قد رافقته بدايات بطيئة؛ فيما التّقدّمات كانت سريعةً ومتّصلة، وهذا ما يجعل حركة العلم جنينيّة الطّابع من داخلها؛ فهي في طور النّموّ مع تقدّم الزّمن كما الجنين تمامًا. فيما يشكّل العالم الخارجيّ إطارًا متواطئًا معها نحو الأعلى على شكل سلّم يجعل من كلّ خطوةٍ خطوةً نحو الأعلى بالضّرورة. لقد تصوّر كونت مراحل نموّ المجتمعات من البدائيّة نحو العلميّة  كدرجة أرقى.
غاستون باشلار (1884 - 1962)
لقد رفض كونت مطلب كوندورسيه بحماية العلم ورفعه عن الثّورات والمتغيّرات التّاريخيّة، بوصفه يمثّل الحقيقة المشتركة والكلّيّة، وهو رفضٌ نابع من عدم اعتراف كونت بفكرة أنّ العلم أو الفكر العلميّ غير معنيّ بالسّياسة والمتغيّرات الاجتماعيّة والتّاريخيّة، إلّا أنّه تصوّرها بوصفها ظروفًا متوافقة مع فكرة 'التّقدّم'.
الافتراض بأنّ العلم يجري في المختبر في ظروف معزولة ومعقّمة من الواقع، هو افتراض إيمانيّ لا يتّكئ على دليل؛ لطالما رافق حركة العلم، فإن كان المختبر معقّمًا جيّدًا عمّا يحيط به، فإنّ العالِم ليس كذلك، وإن قام المختبر على أنقاض المعبد في تصوّر العالم، فإنّه استعار منه طهرانيّته وافترض أنّ رجس الخرافات هو ما يجري خارجه. 
القطيعة
لقد انتقد باشلار التّصوّر التّقدّميّ لحركة العلم، واضعًا مفهوم 'القطعية' مقولةً أبستمولوجيّةً تقف على النّقيض ممّن يؤيّدون مقولة الاتّصال – وبالذّات المدرسة الوضعيّةوالقطائع بدورها مهّدت لتصوّر حركة العلم بوصفها حركة ثوريّة الطّابع، مع أنّ الثّورة في المفهوم الباشلاريّ ليست حدثًا تاريخيًّا مفاجئًا، إذ أنّها تقتضي منظورًا ومسارًا معقولًا يجعلها ممكنة الحدوث؛ وبذلك يبدو مسار الفكر العلميّ بعامّة، وتعاقب النّظريّات العلميّة بخاصّة، على شكل 'جدل استيعابيّ أو حلزونيّ'، حيث اللّاحق يحتوي أهمّ ما في السّابق، ثمّ يتجاوزه إلى جديد لم يطرقه السّابق.
إنّ القطيعة آليّة ضروريّة لتطوّر الفكر العلميّ من خلال 'الجدل'؛ إذ الجديد لا ينفي القديم نهائيًّا، بل يستوعبه ويعيد تنظيمه ودمجه ثمّ تجاوزه، وهي عمليّة لا تقف عند النّظريّات، بل تتعدّاها إلى التّقنيّة، إذ على سبيل المثال: كان المصباح التّقليديّ، 'مصباح أديسون'، قائمًا على مبدأ 'الاحتراق'، فمن أجل إنتاج النّور كان لا بدّ مناحتراق الزّيت والفتيل. أمّا المصباح الحديث، فإنّه يقوم على مبدأ 'اللّاإحتراق'؛ فلإنتاج النّور ينبغي أن تعمل المقاومة الموجودة في المصباح على منع الاحتراق بالتّقليل من شدّة التّيّار، حتّى لا يتلف المصباح نهائيًّا. إنّ الانتقال من إنتاج النّور بالاحتراق لإنتاجه باللّاإحتراق لم يكن تواصلًا داخل المصباح نفسه، إلّا بقدر ما يمكننا اعتبار 'الكيبورد' تواصلًا مع 'المحبرة'.
بيار دوهيم (1861 - 1916)
يشير التّأمّل في حقول المعرفة العلميّة من داخلها، إلى العديد من أمثلة القطائع؛ فعلى سبيل المثال: في الكيمياء يوجد مرحلة 'ما قبل لافوازيه' ومرحلة ما بعده؛ فقد وضع بدوره لغة كيميائيّة أعادت تأسيس الكيمياء بشكل كلّيّ؛ فبدون الأبستمولوجيا لا يمكننا أن نميّز في الكيمياء بين التّاريخ مستنفذ الصّلاحيّة، والتّاريخ الّذي ما زال صالحًا للاستخدام.
روابط خفيّة
في المقابل، يعدّ دوهيم أنّ اللّاتواصل عرضيّ فقط، ويخفي وراءه تواصلًا واستمرارًا جوهريّين، ودلّل على ذلك بإيجاد روابط خفيّة بين غاليلي ونيوتن وأرسطو، على عكس الشّائع بأنّها قطائع.
وفق هذا التّصوّر، فإنّ نيوتن قد اعتمد على ما تبقّى من قوانين غاليلي، وأعاد دمجها في إطار نظريّته الجديدة.  فعل أينشتاين الشّيء ذاته مع نيوتن؛ فعندما وجد 'الفيزياء النّيوتنيّة' لا تفسّر كلّ الظّواهر، لأنّها مقتصرة على مجال الظّواهر الكونيّة الكبرى (أو الوسطى)، طوّرأينشتاين نظريّته الجديدة لتفسّر الظّواهر الصّغرى والكبرى في آن، وغدت النّيتونيّة جزءًا من النّسبيّة وفق منظور جديد، ووفق إعادة تأطير جديدة.

Bottom of Form

حركة العلم: ما بين الثّوريّة والأيديولوجيّة (2/3)
ليست الأيديولوجيا خارج العلم، بل توجد داخل الخطاب العلميّ نفسه، وتستخدم سلطتها الرّمزيّة في فرض هيبتها. يكفي أن تستخدم خطابًا علميًّا، لا لتقمع ما هو غير علميّ فقط؛ بل ولتقمع حركة العلم نفسها...
ينتقد جورج كانغيلام المدرسة الوضعيّة، كونها فلسفة للتّاريخ عمّمت قانون تعاقب النّظريّات حسب حركة تُحِلّ الصّواب مكان الخطأ؛ حيث يرفض طريقة كونت التّراتبيّة والخطّيّة لتصنيف العلوم، ويرى أنّ الأبستمولوجيا المعاصرة الرّافضة للنّظريّة السّابقة، تُحبّذ صورة السّطح بدلًا من صورة السّلّم.
يقترح كانغيلام تصوّر أبستمولوجيا القطائع في فترات تسارع العلوم؛ أمّا حركة الاتّصال، فإنّها ترافق البدايات البطيئة. ملخّص ما يصل إليه كانغيلام أنّه لا يوجد تاريخ نهائيّ ومكتمل للفكر العلميّ، وهي دعوة لإبقاء تاريخ العلوم بوصفه ممارسة وليس نظريّة.
تاريخ مأساويّ
لا يبدو تاريخ العلوم - بحسب كانغيلام - مغامرة سعيدة، إنّما تاريخ دراميّ ومأساويّ؛ وبروح نتشويّة عَدَّ العلم نشاطًا أو قيمة بشريّة مجاورة لأنشطة وقيم بشريّة أخرى. لقد نزل العلم عن عرش التّفكير الأرقى للبشريّة، وارتضى أن يكون نمطًا للمعرفة إلى جانب أنماط أخرى. خطاب يشبه الخطابات المختلفة، وهي رؤية ما بعد حداثيّة خَطِرة، لا تُجبر العلم على التّواضع إلّا بقدر ما تدفع أنماط تفكير خرافيّة للتّقدّم، لكنّها بعد اليوم لم تعد خرافيّة بما فيه الكفاية؛ لأنّ نقيضها، 'العلم'، ليس علميًّا بما فيه الكفاية.
[كارل بوبر]:
لا يدفعنا ذلك للمساواة بين الأنماط، فبعد أن تخلّينا عن التّفكير بتراتبيّتها، وألقينا خلف ظهرنا كلّ براديغم التّراتبيّة، لم يكن ذلك بهدف إحلال براديغم المساواة مكانه، ومع أنّ السّطح يتيح هذا التّصوّر (تصوّر مفتوح لأنماط التّواصل مع العالم ومعرفته)، إلّا أنّ العلم يبقى يقظًا في تفعيل حركته نحو مطاردة الخطأ. إنّ العلم في تصوّره الأخير، هو ما يمكن دحضه، إنّها مقارباتنا القابلة للتّكذيب - بحسب كارل بوبر-؛ فطريقة الاشتغال الجديدة للعلم تجعل ميدانَه مُحدّدًا بشكل معقول، فكلّ الجمل الّتي لا يمكن تكذيبها، يجري ترحيلها لميدان آخرغير ميدان العلم، أمّا ما هو مرشّح للصّمود في ميدان العلم، فهو ذاك النّوع من الجمل المصاغة بشكل يتاح معه فحصها، وبالتّالي القبول بها أو تكذيبها.
نظرة جديدة إلى العالم [توماس كوهن]
في كتابه 'بنية الثّورات العلميّة'، وضع توماس كون بعض الأفكار حول طبيعة حركة العلم، وذهب إلى أنّها ليست واقعّية على نحو مطلق، فلا تمثّل الطّبيعيّة المرجع الأخير والأوحد لها، إذ ثمّة عوامل تقع خارج العلم نفسه تحدّد حركته؛ فلكي يستقرّ التّفكير العلميّ حول مركزيّة الشّمس مع كوبرنيكس، لم يكن ينتظر الأخيرَ نفسَه؛ فالفكرة ذاتها كانت موجودة سلفًا، لكنّ ظروف قبولها تغيّرت؛ فظهور حقيقة علميّة جديدة ليس وليدًا لاجتهاد العلم نفسه فقط، بل ومحكوم أيضًا بالسّياق التّاريخيّ الّذي يحتّم اعتماد تفسير ما وغضّ الطّرف عن آخر، وهذا ما يدفعه لأخذ 'البراديغم' أو الإطار النّاظم نموذجًا تفسيريًّا في حركة العلم.

يؤكّد كون على عدم تراكميّة العلم، فليست حركته مسارًا خطيًّا متّصلًا مؤلّفًا من مراحلَ وأجزاءٍ وإنجازات لا انقطاع بينها؛ إنّها ثوريّة الطّابع، وكلّ صورة لها نموذجها الخاصّ المستمدّ من نظرة جديدة إلى العالم، والمتجسّدة في الحقل المعرفيّ لِمُتَّحَدِ العلماء أو المهنيّين. كما أنّها حركة تاريخيّة تؤكّد وجود أزمات في النّشاط العلميّ، على غرار ما يحصل في العمل الاجتماعيّ والسّياسيّ. تحدث الأزمة عندما يفاجأ العاملون في الحقل المعرفيّ بظاهرة غير متوقّعة، ولا قدرة للعلم العاديّ على شرحها؛ فيولد تيّاران: تيّار يتمسّك بالبراديغم القديم، وآخر يتحوّل إلى نظرة جديدة، منتجًا براديغماً جديدًا، ويكون الحاصل من هذه العمليّة ثورة علميّة؛ فبداية التّغيير في العلم لا تكون إلّا بحصول نظرة جديدة إلى العالم نفسه.
العلم السّويّ
وبالرّغم من أنّ كون يقول بالثّورات العلميّة، إلّا أنّه يدرك فترة 'العلم السّويّ'، والّتي تتميّز بتواصل وتجانس أفكارها ومعارفها في صورة 'براديغم' أو 'قالب انضباطيّ مشترك'، أي جملة من المعارف والأفكار الّتي يتّفق ويجمع عليها المجتمع العلميّ، مثل: الظّواهر الجديرة بالدّراسة وكيف نفسّرها، والإشكالات الجديرة بالبحث وما معنى حلّ إشكاليّة ما... الخ. فليس الاشتغال بالعلم اشتغالًا حرًّا ينطلق من تساؤل بريء لحظة اللّقاء بالظّاهرة، إنّه برنامج عمل حُدِّدَ مسبقًا، وعُرِّفَت وفقه مكوّنات الظّاهرة، وما الّذي يمكن اعتباره موضوعًا للدّرس، وبأيّ الأدوات يمكن مقاربة ذلك. هذا 'النّحو الخفيّ' للنّشاط العلميّ يجعله عرضة لأيديولوجيا فترة 'العلم السّويّ'.
 وتنتهي لاحقًا فترة 'العلم السّويّ' حيث تظهر تجارب جديدة تناقض نتائجُها النّظريّاتِ السّابقة؛ ونتيجة لذلك، تسود فترة إرهاصيّة تتوّج بثورة علميّة، وتفتح الطّريق  لظهور 'علم ثوريّ' يتغيّر معه البراديغم، وبعد استقرار الجديد فإنّه يشتغل بنفس منطق القديم؛ أي يتحوّل تدريجيًّا لعلم سويّ، مشكّلًا بعد فترة ما أطلق عليه ألتوسير اسم 'الأيديولوجيا العلميّة'.
الأيديولوجيا العلميّة
يرى ألتوسير أنّ 'الأيديولوجيا العلميّة' نسق من الممارسات والتّصوّرات، غايتها الاستحواذ المعرفيّ على الموضوع الحقيقيّ بواسطة موضوع المعرفة. ليست الأيديولوجيا خارج العلم، بل توجد داخل الخطاب العلميّ نفسه، وتستخدم سلطتها الرّمزيّة في فرض هيبتها. يكفي أن تستخدم خطابًا علميًّا، لا لتقمع ما هو غير علميّ فقط؛ بل ولتقمع حركة العلم نفسها، وهذا ما يجعل كانغيلام متّفقًا مع ألتوسير، إذ يذهب إلى أنّ 'الفكر العلميّ في سيرورته التّاريخيّة صادف الخطأ، ولم يتعرّف عليه بصفته كذلك'، وعدم التّعرّف على الخطأ حين يظهر هو مهمّة الأيديولوجيا القادرة على تزييف الواقع أو الاستمرار على تقديمه بوصفه ثابتًا خَبِرَتْهُ، ولديها أدوات تفسيره مسبقًا.
تؤدّي 'الأيديولوجيا العلميّة' ما يؤدّيه 'العائق الأبستمولوجيّ' عند باشلار، إذ أنّه قبل نشوء 'الأيديولوجيا العلميّة' كان ثمّة علم، وقبل كلّ علم كان ثمّة 'أيديولوجيا علميّة' شرطًا أو عائقًا أبستمولوجيًّا وظيفته إحداث أزمة معرفيّة، عن طريق تجاوزها ينشأ العلم. هذا يعني أنّ لياقة العلم في القفز، تشترط وجود الأيديولوجيا محفّزًا وشرطًا لهذا القفز.
إلّا أنّه ليس علينا أن نسترخي في تصوّر العلم الّذي يتوسّط آيديولوجيّتين، كونه هو نفسه منزّهًا عن الأيديولوجيا. لكنّ العلم، بحكم تعريفه وليس بحكم حقيقته، ينمو بمطاردة أيديولوجيّته، وكأنّ حركته قائمة على تصفية الّذين يمجّدوه، وأنّ بقاءه حيًّا مرهون بتحطيمه المستمرّ لأتباعه
التّعميم
إنّ الأيديولوجيا العلميّة أخطر من 'اللّا علم'، لأنّها تبرّر موقفها بأدلّة ظاهرها علميّ؛ ويُدلّل كانغلام على ذلك بنظريّة التّطوّر الّتي كانت في نشأة الأنواع الحيوانيّة، ومن ثمّ عُمّمت على مجالات مختلفة، مثل: الأخلاق والاجتماع والسّياسة (كما نجد عند سبنسر).
يمكننا أن نرى هذا التّعميم تبريرًا للمجتمع الصّناعيّ ضدّ التّقليديّ، والمناهض بدوره للمجتمع الاشتراكيّ؛ فبما أنّ المجتمعات ذاتها تقف على سلّم متصاعد الدّرجات نحو التّقدّم، يقف المجتمع الصّناعيّ على درجة أعلى من المجتمع التّقليديّ فيه، فإنّ العلم ذاته (حين تأدلج أو حين استخدمته الأيديولوجيا) يحوّل هيمنة الدّول الرّأسماليّة لمقولة علميّة في مواجهة غيرها؛ تمامًا كما كرّست 'النّظريّة الخلويّة' النّزعة الفرديّة داخل المجتمع الرّأسماليّ.
وبذلك يمكننا القول -مع كانغيلام- إنّ أيّ علم يتحوّل إلى أيديولوجيا إذا عُمِّمَتْ نتائجه على مجالات أخرى مجاورة ليست من اختصاصه.   

حركة العلم: التّخلّي عن السّيطرة والتّبشير (3/3)
يصادف العلماء الكثير من المعرفة الّتي تستطيع التّعامل مع الطّبيعة دون أن تصوغ ذلك في لغة علميّة، معرفة اشتُقّت من اليوميّ للتّعامل معه. لكنّ تأريخ العلم، وبنَفَس أيديولوجيّ، ينفيها عبر عمليّتين؛ الأولى أنّه لا يقرّ بالمعرفة الاستعماليّة الّتي قبله، لأنّها لا تتحدّث لغته، والثّانية أنّه لا يلاحظها في قربه، لأنّها لم تدخل مختبره ولم تعمل وفق برنامجه.
فالميزان الرّومانيّ سبق بقرون ظهور ‘نظريّة الميزان‘، ونظريّة طاليس وفيثاغوريس كانت معروفة علميًّا وحسّيًّا لدى الأمم السّابقة على اليونان، كالبابليّين والآشوريّين والفراعنة. لدى اليونان، كان هناك تسليم بالثّبات على أنّه ‘جوهر‘ وأصل للكون، وكان يجرى تصوّر الحركة بوصفها ‘عَرَضيّة‘، فيما كان الصّينيّون يعتقدون العكس تمامًا، فالحركة هي ‘الجوهر‘، أمّا الثّبات فهو العَرَضِيّ، ولزم أوروبا حتّى القرن 17 لتدرك ذلك، مع قوانين الحركة عند نيوتن.




هنا يعلّق بياجي، بحسّ أيديولوجيّ يستطبن مركزيّة ما، ‘ لكن الأبستمولوجيّ لا يقول إنّ الصّينيّين هم روّاد علم الميكانيكا؛ لأنّ ذلك غير منطقيّ، بحكم غياب الإشكاليّة والبرنامج العامّ الّذي أدى لنشأة الميكانيكا.’ هذا يعني أنّ الصّينيّين، وبما أنّه لم يرتّبوا معرفتهم وفق منطق العلم الحديث (أوروبيّ المنشأ)، فإنّ هذه المعرفة ليست علميّة بالضّرورة.
الطّبيعة في طور التّأليف
ثمّة مدخل آخر للتّفكير في مسألة التّقدّم العلميّ، وهو: ماذا لو كانت الطّبيعة نفسها ليست ثابتة، بمعنى أنّها هي أيضًا، كما العلم، قيد التّشكّل والتّغيّر؟ ألا ينفي هذا إمكانيّة قيام العلم أساسًا؟! أو يُشَكّك، على الأقلّ، في كون القوانين الّتي يفرزها قادرة على البقاء وتجاوز الزّمن؟! ماذا لو كان ‘منهجنا الاستقرائيّ‘ الجريء على التّعميم، لا يعمل ببساطة، لأنّ التّعميم غير ممكن في ظلّ التّبدّل والاختلاف الّذي تفرزه الطّبيعة؟! يشبه الأمر عمليّة وصف الغيوم؛ فلكي تصف غيمة ما، عليك أن تكون سريعًا جدًّا لأنّها بعد قليل لن تكون هي.
ينتقد ديفيد هيوم (1711 – 1776) ‘منهج الاستقراء‘ في كتابه، ‘بحث في الفاهمة البشريّة‘، لأنّ هذا المنهج قائم على افتراض يقضي بأنّ الظّاهرة الّتي لم نختبرها بعد، يجب أن تشابه الظّواهر الّتي اختبرناها سابقًا، وأنّمجرى الطّبيعة سيستمرّ كما هو بانتظام دائم.

معنى ذلك أنّ في الطّبيعة نظامًا لا يتبدّل، وأنّ المستقبل كالماضي تمامًا. وبناء على ذلك، يقرّر هيوم أنّ العقيدة الّتي تفيد بأنّ الأسباب ذاتها تنتج النّتائج ذاتها كلّ مرّة، عقيدة فاسدة.

اللّاتعيين
حاول كونت [كانط] بعده إنقاذ السّببية بردّها إلى ‘العقل النّظريّ‘، وليس بكونها ‘معطًى حسّيًّا‘؛ وبذلك، فالعلم لم يعد معرفة الواقع (الأشياء في ذاتها)، بل صار معرفة لظواهر الأشياء، بعد تنظيمها بمقولات ‘العقل النّظريّ‘، وأهمّها مقولة السّببيّة.
وبدوره، انتقد كارل بوبر الاستدلال الاستقرائيّ بمثال الإوزّ الأبيض الشّهير، واقترح بدلًا من الاستقراء تعريفًا متواضعًا للعلم بوصفه القابل للتّكذيب. فيما دافع راسِل عن الاستقراء، لأهمّيّته وليس لأنّه يمكن إثباته. إنّنانسلّم للاستقراء في يوميّاتنا، لأنّه دون ذلك لا يمكننا أن نشتري كيس الخبز من ذات المخبز، إلّا إذا افترضنا أنّ الكيس الّذي اشتريناه اليوم هو نفسه [يشبه] الّذي كنّا قد اشتريناه البارحة.


وهذا ما جعل ويرنر هيزنبرج (1901 – 1976) يذهب للقول بمبدأ ‘اللّا تعيين‘، مُحْدِثًا خوفًا في الأوساط العلميّة والفلسفيّة من نهاية المعرفة، إلّا أنّ ما حدث لاحقًا أنّه جرى فهم ‘اللّا تعين‘ بلغة جديدة، تجعله أقرب إلى التّحديد التّقريبيّ أو الإجماليّ للظّاهرة المدروسة.

مقارنة غير ممكنة
أمّا باول فايرابند (1924 – 1994)، في كتابه ‘ضدّ المنهج‘، فقد  تحدّى كلّ محاولات وصف ‘المنهج العلميّ‘، منتهيًا إلى القول بعدم وجود مثل ذلك المنهج المتميّز بصفاته، وبالتّالي لا يملك العلم خصائص تميّزه تمييزًا ضروريًّا عن أشكال المعرفة الأخرى. ويضرب مثلًا على ذلك في أنّ غاليليو لم يأخذ بما تنقله الحواسّ عن الوقائع؛ بل كان يجب لتقدّم العلم أن يتغلّب على معطيات الحسّ الّتي تُعَدّ أساس العلوم عند الآخرين (الوضعيّين والاستقرائيّين… الخ) بواسطة إعمال العقل.
ويستخدم فايرابند تعبير ‘عدم إمكانيّة المقارنة‘، بمعنى أنّ أيّ نظريّتين علميّتين لا يمكن مقارنتهما منطقيًّا، فهما تتّصفان بصفة الانقطاع المنطقيّ، وذلك لعدم وجود وقائع محايدة وبريئة من النّظريّات، يمكن استخدامها مرجعيّةً لإجراء أيّ مقارنة. يخلص فايرابند إلى أنّه لا يوجد ‘منهج علميّ‘ ثابت لكلّ زمان ومكان، وأنّ تقديس العلم ‘عقيدة‘ مثل ‘عقيدة الكنيسة‘ في القرن السّابع عشر.

واقع غير واقعيّ
منذ ‘نرسيس‘ المنحني فوق نبعه، ما زال وهم القبض على الواقع الحيّ مستمرًّا، إنّه وهم مفاجأة الواقع بغية تجميده، هذا ما يمهّد به جان بودريار (1929 – 2007) ليعلن عن ‘موت الواقع‘. ليس الموت هنا يعني سقوط الواقع جسديًّا؛ بل يعني أنّ جسده أصبح قادرًا على احتواء نقائضه.
بات من المجاز أن يكون الواقع شيئًا واحدًا يمكن تسميته ووصفه، لقد التحق الزّيف والوهم والمصطنع وما شابهها من أوصاف لتصبح واقعيّة هي الأخرى، وهذا يعني أنّه لم يعد بالإمكان الحديث عن ‘الواقع‘ الّذي يشترط – بحكم تعريفه – فصل هذه العناصر عنه. نحن نتحدّث عن رؤية للواقع تشمل كلّ شيء تقريبًا، وهذا يعني توديعنا بلا رجعة للتّصوّرات السّابقة، الّتي ثابرت على الإمساك بالواقع عبر مناهج علميّة وفلسفيّة ظنّت ذلك ممكنًا.
سابقًا، كان الواقع يُنْتَج بالمجمل عبر عمليّتين؛ الأولى تؤمن بوجوده الموضوعيّ ‘الواقعيّة‘، والثّانية تثابر على خلقه في معمل الذّهن ‘المثاليّة‘؛ إلّا أنّ العمليّتين كانتا تنطلقان من تصوّر واحد للواقع، وهو إمكانيّة وجوده أو خلقه بمعزل عمّا ليس منه. لقد ثابر العصر الحديث على تنقية الواقع ممّا ليس منه، فبذلك غادرت الأساطير والأشباح والخرافة وأعيد ترتيب الكثير من المفاهيم الميتافزيقيّة ومحاصرتها، للوصول إلى ما يمكن اعتباره واقعًا خالصًا، إلّا أنّ هذا النّزوع المَخْبَرِيّ اصطدم بمثابرة ‘الواقع‘ على مقاومته لتصوّرنا عنه.
التّخلّي عن الغرور
لقد وقفت ميادين العلوم الطّبيعيّة، ولاحقًا الاجتماعيّة، عاجزة عن الإمساك بالواقع ومعترفة بقصورها. هذا القصور الّذي أخذ شكل أزمة، افتتح في مجالات الرّياضيّات والفيزياء، وامتدّ لمجالات طبيعيّة أخرى، حيث تخلخل الطّابع اليقينيّ الموضوعيّ لفكرة الواقع، وهو ما اشْتُقَّتِ الأسئلة منه وأُجيبَ عليها وفقه، لنصل إلى أنّالواقع الموضوعيّ لم يكن سوى افتراض.
وفق التّصوّرات أعلاه، يشتغل العلم وينشط، بحركة متواضعة تقف على السّطح وليس على قدم المساواة مع أنماط أخرى من المعرفة؛ فبعد أن تخلّى عن غروره في السّيطرة المعرفيّة التّامّة على الظّواهر، أصبح نشاطه أكثر حيويّة؛ لأنّه إن كان يحلم بمستقبل ما، فإنّه قد تخلّى عن التّبشير به بوصفه خلاصًا أرقى ممّا كان، فاسحًا لأنماط معرفة أخرى كانت مضطّهدة سابقًا، المشاركة في رؤية العالم وتفسيره، ومعها كلّ المخاطر الكامنة، ليس في تحديد العقل، بل في تصفيته.
نشرت هذه المادة على مجلة فسحة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق