الأحد، 9 سبتمبر 2018

ما زال الإله يتنفّس الصعداء - ميشال أونفري



ما زال الإله يتنفّس الصعداء
-
ميشال أونفري
-
ترجمة: المبارك الغروسي


هل مات الإله فعلا؟ ذلك أمر يجب التأكّد منه.. كان من شأن بشرى كهذه أن تخلق تأثيرا هائلا، لكننا ما زلنا ننتظر دون جدوى أدنى إثبات عليها. وإنّنا في مكان الحقل الخصب المكتشف من خلال مثل هذا الاختفاء، نجد بالأحرى نزعة عدمية وتقديسا للاشيء وشغفا بالعدم، وعشقا مرضيا لمعزوفات ولوحات نهايات الحضارات الكئيبة، وافتتانا بالهاويات وبالحفر التي لا قعر لها، والتي يفقد فيها المرء روحه وجسده وهويته وكينونته، وكلّ اهتمام بأيّ أمر من الأمور. إنّه مشهد كارثة: مشهد القيامة الخانق
إنّ موت الإله كان ألعوبة أنطولوجية؛ وهو جزء لا يتجزّأ من جوهر القرن العشرين الذي كان يرى الموت في كلّ مكان: موت الفنّ، وموت الفلسفة، وموت الميتافيزيقا، وموت الرواية، وموت اللحن، وموت السياسة. ولنعلن اليوم رسميا إذن موت أشكال الموت الخيالية هذه! وموت هذه الأنباء غير الصحيحة التي كانت في الماضي تصلح لبعض الناس كي يصوّروا مشاهد مفارقات ظاهرية قبل انقلاب البذلة الميتافيزيقية. لقد سمح موت الفلسفة بمؤلفات في الفلسفة وولَّد موت الرواية روايات، وأنتج موت الفنّ أعمالا فنية، وما إلى ذلك إلخ …. أمّا موت الإله فقد أنتج عالميْ القداسة والألوهية، والدين يتنافس فيه الناس . إننا نسبح اليوم في هذه المياه المطهِّرة.
أكيد أنّ إعلان موت الإله بقدر ما كان مرعدا ومدوّيا كان خاطئا…لقد كان ذلك تزميرا في أبواق، وإعلانات مسرحية مبهرجة، ودقّا للطبول ابتهاجا قبل الأوان. إنّ عصرنا يتداعى تحت الأخبار المقدّسة التي هي أشبه بالكلام الملهم عند وسطاء الوحي الجدد؛ كما أنّ وفرتها تتحقّق على حساب الجودة والحقيقة: لم يسبق أن تمّ الاحتفال بمثل هذا القدر من الأخبار الخاطئة كما لو كانت أخبار وحي سماوي. لقد كان أمر إثبات موت الإله يستلزم حقائق ومؤشرات وقرائن؛ لكن الأمر لم يكن كذلك
فمن رأى الجثة؟ ما عدا نيتشه، ولم يثبت ذلك…. كان الأمر يفترض أن نقع تحت وطأة وجود هذه الجثة- على طريقة جسد الجريمة عند أوجين يونسكو- وتحت سلطة قانونها؛ كان الأمر يفترض أنها ستجتاح وتفسد وتنتن وأنها ستتفسّخ شيئا فشيئا، ويوما بعد يوم؛ وكنّا سنشهد تحلّلا حقيقيا- وفي المعنى الفلسفي للكلمة أيضا. لكن، بدلا من ذلك، ظلّ الإله الذي كان متواريا عن العيان في حياته، ظلّ كذلك عندما مات. ذلك تأثير الإعلان… ما زلنا ننتظر البراهين والشواهد لحدّ الآن. لكن من بإمكانه تقديمها؟ من هو الأخرق الجديد الذي سيتقدّم نحو هذه المهمّة المستحيلة؟
ذلك أن الإله لم يمت، ولا هو يحتضر- بعكس ما يعتقد نيتشه وهين. إن الإله لم يمت، وهو لا يحتضر، لأنه ليس بفان. إنّ الفكرة الخيالية لا تموت، وإن الوهم لا يتوفّى، والحكاية الخرافية الموجّهة للأطفال لا يتمّ دحضها. فالحيوانات الخرافية لا تخضع لقانون الثدييات؛ قانون يخضع له بالفعل الطاووس والفرس؛ أمّا حيوان من محبس الوحوش الخرافية فلا. والحال أنّ الإله ينتمي لهذا المحبس الخرافي، مثله مثل آلاف الكائنات المفهرسة ضمن القواميس المتخصصة. فَنفَسُ الكائن المضطهد يبقى مادام هذا الكائن باقيا؛ بل قل إنه باق دائما..
من جهة أخرى، أين يفترض أن يكون قد مات هذا الإله؟ هل في كتاب “العلم المرح”، لنيتشه؟ هل اغتيل في سيلس-ماريا1 من طرف فيلسوف ملهم ومأساوي وسامي لازم وسكن بحيرته النصف الثاني من القرن العشرين؟ وبأيّ سلاح قتل؟ بكتاب واحد، أم بكتب أم بأعمال كاملة؟ هل من خلال دعوات لعنة، أم عبر تحاليل وبرهان، دحض؟ وهل من خلال تعاليق أيديولوجية لاذعة وساخرة؟ أي سلاح الكتاب الأبيض…. وهل كان القاتل لوحده؟ مترصدا؟ أم كان ضمن عصابة: رفقة الكاهن ميسلي ولوماركي دو ساد باعتبارهم من أسلافه الحراس الحافظين؟ ألا يفترض أن يكون إله أسمى هو قاتل هذا الإله إن وجد؟ ألا يخفي هذا الجرم المزيّف رغبة أوديبية وإرادة مستحيلة وتطلّعا لا يقاوم ولا جدوى منه إلى النجاح في إتمام مهمّة ضرورية لتوليد الحرية والهوية والمعنى؟
إنه لا يمكن قتل النفََسٍ والريح والرائحة، ولا يمكن أيضا قتل الأحلام والأماني. إن الإله الذي ابتكره البشر الفانون على صورتهم الجوهرية لا يوجد إلا ليجعل الحياة اليومية ممكنة، بالرغم من مسار كلّ واحد إلى العدم. فما دام البشر محكومين بالموت ستظلّ حتما بينهم مجموعة لن تستطيع تحمّل هذه الفكرة، وستبتكر حيلا للهروب من ذلك. لا يمكن أن نغتال حيلة للهروب؛ ولا يمكننا أن نقتلها. ستكون بالأحرى هي من تقتلنا: لأن الإله يسحق كلّ من يقاومه، وفي مقدمة ذلك العقل والذكاء والفكر النقدي. والباقي يتبع ذلك بردّ فعل متسلسل
سيختفي آخر إله مع آخر إنسان، وسيختفي معه الخوف والذعر والقلق وكل تلك الآلات المنتجة للآلهة: الرعب في مواجهة العدم، وعدم القدرة على تمثّل الموت كمسار طبيعيّ وحتميّ يجب التعايش معه. وحده الذكاء يمكنه أن يحدث تأثيرات في مواجهت الموت، بل وكذلك الإنكار، وغياب للمعنى خارج المعنى المعطى، واللامعقول القبلي؛ فهذه هي باقة أصول فكرة الإلوهية. إن موت الإله يفترض تطويع العدم وإيلافه؛ لكننا ما نزال بعيدين بسنوات ضوئية عن هذا التقدم الأنطولوجي الوجودي

(عن الفيسبوك)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق