الأحد، 9 سبتمبر 2018

كارل بوبر: بين الهندسة اليوتوبية والهندسة المتدرجة.



الجمالية والكمالية اليوتوبية
أو: [بين الهندسة اليوتوبية والهندسة المتدرجة]
كارل بوبر.

ثمة مداخلةٌ معيّنة في علم السياسة متأصّلة في برنامج أفلاطون أعتقد أنها خطيرة إلى أبعد حد. وتحليلُها يُعَدّ ذا أهمية عمليّة كبيرة من وجهة نظر الهندسة الاجتماعية العقلانية. ويمكن أن توصف المداخلة الأفلاطونية، التي أعنيها، بأنها مداخلة الهندسة اليوتوبية، كمقابل لنوع آخر من الهندسة الاجتماعية التي أعتبرها النوع العقلاني الوحيد، والتي يمكن وصفُها باهندسة المتدرّجة. أما المداخلة اليوتوبية فهي الأخطر، لأنها قد يبدو أنها البديل الواضح للنزعة التاريخية الصريحة ـ لمداخلةٍ تاريخانية متطرفة تقتضي ضمناً أننا لا نستطيع تعديل مسار التاريخ، وتبدو، في الوقت نفسه، أنها تكملة ضرورية لنزعة تاريخية أقل تطرفاً، مثل نزعة أفلاطون التي تسمح بتدخل إنساني.
وربما توصَف المداخلة اليوتوبية على النحو التالي: لا بدّ أن يكون لأيّ فعلٍ عقلاني هدفٌ معيّن. وهو عقلاني بنفس الدرجة لأنه يتعقب هدفه بوعي وباتساق، ولأنه تحدَّد وسائلُه وفقاً لهذا الهدف. ولذلك فاختيار الهدف هو الشيء الأول الذي يتعيّن أن نفعله إذا رغبنا في أن نؤدّي عملاً بصورة عقلانية، ويجب علينا أن نحدّد بعنايةٍ أهدافَنا الحقيقية أو النهائية، والتي منها يجب أن نميّز بوضوح تلك الأهداف الوسيطة أو الجزئية التي هي في الواقع وسائلُ فقط، أو خطواتٌ على الطريق، نحو الهدف النهائي. وإذا أهملنا هذا التمييز، فعلينا أيضاً أن نهمل السؤال عمّا إذا كانت تلك الأهداف الجزئية قادرةً على دفعنا نحو الهدف النهائي، وبناءً عليه فسوف نخفق في التصرف العقلاني.
 فإذا ما طُبِّقت هذه المبادئ على حقل النشاط السياسي، فإنها تتطلب ضرورة تحديد هدفنا السياسي النهائي، أو الحالة المثالية، قبل الشروع في أداء أيِّ فعلٍ عملي. وفقط عندما يتم تحديد هذا الهدف النهائي، على الأقل في صورة تقريبية، وفقط عندما يكون في حوزتنا شيءٌ ما شبيهٌ ببرنامج عمل للمجتمع الذي نهدف إليه. حينئذٍ فقط يمكننا أن نبدأ في أن نفكر في أفضل الطرق والوسائل لتحقيقه، وأن نرسم خطّة للفعل العملي. هذه هي الأوليات الضرورية لأي تحرك سياسي عملي يمكن أن يُطلَق عليه اسم عقلاني، وخصوصاً للهندسة الاجتماعية.
هذه باختصار، هي المداخلة المنهجية التي أدعوها بالهندسة اليوتوبية. وهي مقنعة نجذابة. كما أنها، في الواقع، نوعٌ من المداخلة المنهجية التي تجذب كل هؤلاء الذين يتأثرون بالأفكار المسبقة التاريخانية، أو الذين يعملون ضدّها، وذلك ما يجعلها الأخطر، ويجعل نقدَها أكثر إلحاحاً.
وأودّ قبل المضيّ قُدماً في نقد الهندسة اليوتوبية بشكلٍ أكثرَ تفصيلاً، أن أضع مخططاً تممهيدياً لمداخلة أخرى للهندسة الاجتماعية، أعني للهندسة المتدرّجة. وهي أطروحةٌ أعتقد أنها سليمة من الناحية المنهجية. إن السياسي الذي يتبنّى هذا المنهج قد يكون، أو لا يكون، لديه برنامج عمل للمجتمع أمام ناظريه، وقد يأمل، أو لا يأمل، في أن يقيم الجنسُ البشري في يوم من الأيام دولةً مثالية، ويحقق السعادة والكمال على الأرض. بيد أنه لن يدرك أن الكمال، حتى لو كان يمكن إحرازُه بعيدُ المنال إلى حدٍّ كبير، وبالتالي [فإن] الجيل الحالي أيضاً لديه شيءٌ يطالب به، قد لا يكون هذا الشيء المطالبةَ بتحقيق السعادة، لأنه لا توجد وسائل مؤسساتية تجعل الإنسان سعيداً، ولكنه على الأرجح يطالب بألا يكونَ تعيساً، طالما كان في الإمكان تفادي ذلك. وعندما يعاني الناسُ فإن مطلبَهم يكون توفيرَ كلِّ مساعدةٍ ممكنة. ولسوف تتبنى الهندسة المتدرّجة، بناءً على ذلك، منهجاً للبحث عن، والكفاح ضد أعظم شرور المجتمع وأكثرها إلحاحاً، أكثر من البحث عن، والنضال من أجل، خيره النهائي الأعظم. وهذا الاختلاف بعيد عن كونه مجرد اختلاف لفظي. وإنما هو، في الواقع، غايةٌ في الأهمية. إنه الاختلاف بين منهج معقول لتحسين أحوال كثيرٍ من الناس، ومنهج، إذا ما اختُبِر حقيقة، قد يؤدي ببساطة إلى تزايد لا يطاق في معاناة الإنسانية. إنه الاختلاف بين منهج يمكن تطبيقه في أي لحظة، ومنهج الدفاعُ عنه قد يصبح ببساطة وسيلةً لفعلٍ مؤجل بصفة مستمرة حتى تاريخ لاحق، عندما تكون الظروف أكثر ملاءمة. وهو أيضاً الاختلاف بين المنهج الوحيد لتحسين الأحوال الذي طُبِّق بنجاح حقيقي حتى الآن، في أي زمان، وفي أي مكان (بما في ذلك روسيا، كما سنرى) والمنهج حيثما تمّ تطبيقُه، أدى فقط إلى استخدام العنف بدلاً من العقل، وتم استبعاد خطته الأصلية، إن لم يُستبعّد المنهج كلّية.

 (كارل بوبر؛ المجتمع المفتوح وأعداؤه؛ ص 261، 262)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق