اللحظة الفلسفية
الفرنسية عند آلان باديو
بالمقارنة مع اللحظة اليونانية واللحظة المثالية الألمانية.
ترجمة: أحمد
رباص
ولذلك أود أن
أؤيد أطروحة تاريخية ووطنية: كان هناك أو يوجد الآن، تبعا لموقعي، لحظة فلسفية فرنسية شهدها النصف الثاني من القرن العشرين،
وأود أن أحاول أن أقدم لكم هذه اللحظة الفلسفية، مقارنة بالمثالين اللذين أعطيتهما
إياكم سابقا، وهما اللحظة اليونانية الكلاسيكية، واللحظة المثالية الألمانية.
دعونا نأخذ هذا النصف الثاني من القرن العشرين: "الوجود والعدم'، العمل
الأساسي لبول سارتر، ظهر في عام 1943، وكتاب جيل دولوز الأخير، "ما هي
الفلسفة؟"، يعود تاريخه إلى أوائل التسعينيات. بين عام 1943 ونهاية القرن
العشرين، تطورت اللحظة الفلسفية الفرنسية؛ بين سارتر ودولوز، يمكننا ذكر باشلار،
ميرليو بونتي، ليفي ستروس، ألثوسير، فوكو، دريدا، لاكان وعبد ربه، ربما سنرى ذلك
لاحقا. وموقفي الخاص، إذا كانت هناك لحظة فلسفية فرنسية، ربما يكون آخر ممثل لها.
وهذه المجموعة الواقعة بين الكتابات الأساسية لسارتر وأعمال دولوز الأخيرة هي ما
أدعوها بالفلسفة الفرنسية المعاصرة وهي التي أود أن أتكلم عنها. في رأيي، أنها
تشكل لحظة فلسفية جديدة، خلاقة، فريدة من نوعها، وفي الوقت نفسه عالمية. والمشكلة
هي تحديد هذه المجموعة: ماذا وقع في فرنسا، في مجال الفلسفة، بين عام 1940 ونهاية
القرن؟ ماذا حدث حول تلك الأسماء العشرة التي ذكرتها؟ ما هذا الذي سمى بالوجودية،
بالبنيوية وبالتفكيكية؟ هل هناك وحدة تاريخية وفكرية في هذه اللحظة؟ ما هي؟
هذه هي الأسئلة
التي أود أن أثيرها معكم في هذه المحاضرة. سأفعل ذلك بأربع طرق مختلفة. انطلاقا من
سؤال المنشأ: من أين جاءت هذه اللحظة؟ ما هو ماضيها؟ ما هي ولادتها؟ ثم من خلال
ذكر العمليات الفلسفية الرئيسية الخاصة بهذه اللحظة التي أتكلم عنها. ثم يأتي سؤال أساسي جدا عن علاقة كل هؤلاء الفلاسفة بالأدب،
وبشكل عام العلاقة بين الفلسفة والأدب في هذه الحقبة. ورابعا، سوف أتحدث عن
المناقشة المستمرة خلال هذه الفترة بين الفلسفة والتحليل النفسي. سؤال المنشأ
(الأصل)، وسؤال العمليات، وسؤال الأسلوب والأدب، وسؤال التحليل النفسي، تلكم هي
وسائلي الخاصة في محاولة لتحديد هذه الفلسفة الفرنسية المعاصرة.
لنبدأ أولا
بالأصل. للتفكير في هذا الأصل، يجب أن نعود إلى بداية القرن العشرين، حيث جرى
تقسيم أساسي للفلسفة الفرنسية: تشكل تيارين فلسفين مختلفين تماما. إليكم بعض
العلامات: في عام 1911، هنري برغسون يقدم محاضرتين
مشهورتين جدا، في أكسفورد، وقد نشرتا ضمن
مجموعة من كتابات بيرغسون بعنوان "الفكر والحركة"، وفي عام 1912، أي في
نفس الوقت تقريبا، ظهر كتاب ليون برانشفيك تحت عنوان "مراحل الفلسفة
الرياضية". هاتان المداخلتان الفلسفيتان وقعتا قبل حرب 1914. هذان التدخلان
يشيران إلى وجود اتجاهين مختلفين للغاية. في حالة بيرغسون، لدينا ما يمكن أن نسميه
فلسفة الباطنية الحيوية: أطروحة هوية الوجود والتغيير، فلسفة الحياة والصيرورة.
وسيستمر هذا التوجه طوال القرن حتى يشمل دولوز. في كتاب برانشفيك، نكتشف فلسفة
المفهوم القائم على الرياضيات، وإمكانية نوع من الفلسفية الصورية؛ فلسفة فكرية
ورمزية. استمرهذا التوجه طوال القرن، على وجه الخصوص، مع ليفي-ستروس، ألثوسير أو
لاكان.
لدينا إذن في
بداية القرن ما أسميه صورة مقسمة وجدلية للفلسفة الفرنسية.
من ناحية، فلسفة حول الحياة؛ من ناحية أخرى، فلسفة حول المفهوم. مسألة الحياة
والمفهوم هاته سوف تكون هي المشكلة المركزية في الفلسفة الفرنسية، بما في ذلك
اللحظة الفلسفية التي أتكلم عنها، لحظة النصف الثاني من القرن العشرين.
من
خلال مناقشة الحياة والمفهوم، جرت أخيرا مناقشة حول مسألة الذات، التي نظمت الفترة
بأكملها. لماذا؟ لأن الذات الإنسانية هي على حد سواء جسد حي وخالق مفاهيم. الذات
هي الجزء المشترك بين هذين التوجهين: هي تسأل عن حياتها، عن حياتها الخاصة، عن حياتها
الحيوانية، عن حياتها العضوية. وتسأل أيضا عن تفكيرها، عن قدرتها الإبداعية، عن
قدرتها على التجريد. العلاقة بين الجسد والفكر، بين الحياة والمفهوم سوف تنظم
مستقبل الفلسفة الفرنسية وهذا الصراع موجود منذ بداية القرن مع بيرغسون من جهة
وبرانشفيك من جهة أخرى. ومن ثم يمكننا القول إن الفلسفة الفرنسية ستشكل تدريجيا
نوعا من ساحة المعركة حول مسألة الذات. كانط هو أول
من عرف الفلسفة باعتبارها ساحة معركة، نسهم جميعا فيها كمقاتلين، متعبين
بهذا القدر أو ذاك. إن المعركة المركزية للفلسفة في النصف الثاني من القرن ستكون
معركة حول موضوع الذات. سأعطيكم بسرعة بعض العلامات: ألثوسير عرف التاريخ كسيرورة
دون ذات والذات كمقولة إيديولوجية؛ اعتبر دريدا، في شرحه لفلسفة هايدجر، الذات
كمقولة ميتافيزيقية، ونحت لاكان مفهوما للذات - حتى لا نقول شيئا عن المكانة الرئيسية
للذات لدى سارتر أو ميرلو بونتي. لذا فإن الطريقة الأولى لتحديد اللحظة الفلسفية
الفرنسية هي الحديث عن معركة حول مفهوم الذات، لأن المسألة الأساسية فيها هي مسألة
العلاقة بين الحياة والمفهوم، وأن هذه الأخيرة ما هي، في نهاية المطاف، سوى السؤال
الأساسي حول مصير الذات.
دعونا نلاحظ، في
هذه النقطة الخاصة بالبدايات، أنه يمكن للمرء أن يعود إلى أبعد من ذلك ويقول في
نهاية المطاف أن هناك تراث ديكارت، وأن الفلسفة
الفرنسية في النصف الثاني من القرن هي مناقشة هائلة لفلسفة ديكارت. لأن ديكارت هو
المبدع الفلسفي لمقولة الذات، ومصير الفلسفة الفرنسية، فتقسيمها ذاته، هو تقسيم
ينتمي للميراث الديكارتي. ديكارت هو في وقت واحد منظر للجسد المادي،
للحيوان-الآلة، ومنظر للتفكير المجرد. ولذلك فهو مهتم، بمعنى معين، بفيزيقا
الأشياء وبميتافيزيقا الذات. نجد نصوصا حول ديكارت
عند جميع الفلاسفة المعاصرين العظام: حتى أن لاكان أطلق شعار العودة إلى ديكارت،
هناك مقالة بارزة لسارتر حول الحرية عند ديكارت، هناك عدوانية عند دولوز تجاه
ديكارت، وأخيرا، هناك ديكارت بصيغة الجمع بقدر ما هناك من الفلاسفة الفرنسييين في
النصف الثاني من القرن العشرين، الشيء الذي يبين ببساطة أن هذه المعركة الفلسفية
هي أيضا في النهاية معركة رهان ودلالة ديكارت. تمدنا الأصول، إذن، بتعريف
أولي لهذه اللحظة الفلسفية باعتبارها معركة مفاهيمية حول مسألة الذات.
خطوتي الثانية
هي تحديد العمليات الفكرية المشتركة بين جميع هؤلاء الفلاسفة. وسوف أحدد منها
أربعة، أعتقد أنها تبين جيدا طريقة ممارسة الفلسفة والتي هي بطريقة ما عمليات
منهجية.
العملية الأولى
هي عملية ألمانية، أو عملية فرنسية (انصبت) على الفلاسفة الألمان. في الواقع، فإن الفلسفة الفرنسية بأكملها في النصف الثاني من القرن العشرين
هي في الواقع أيضا مناقشة للتراث الألماني. كانت هناك بعض اللحظات الهامة
جدا في هذه المناقشة، على سبيل المثال، محاضرات كوجيف حول هيغل في الثلاثينيات،
التي كانت ذات أهمية كبيرة، بحيث تابعها لاكان وتأثر بها ليفي - ستروس. ثم هناك
اكتشاف الفينومينولوجيا من قبل الفلاسفة الفرنسيين الشباب طيلة الثلاثينيات
والأربعينات، من خلال قراءة هوسرل وهايدغر. سارتر، على سبيل المثال، غير تماما من
وجهة نظره عندما قرأ، أثناء مقامه في برلين، مباشرة في النص، أعمال هوسرل وهيدجر؛ ديريدا هو، أولا وقبل كل شيء، الشارح الأول تماما للفكر
الألماني. ثم هناك نيتشه، الفيلسوف الأساسي بالنسبة لكل من فوكو و دولوز.
وبالتالي يمكننا القول إن الفرنسيين ذهبوا للبحث عن
شيء ما في ألمانيا، عند هيغل، عند نيتشه، عند هوسرل وعند هايدغر.
ماهو هذا الشيء
الذي ذهبت الفلسفة الفرنسية للبحث عنه في ألمانيا؟ ويمكن تلخيصه في جملة واحدة: علاقة جديدة بين المفهوم والوجود، والتي اتخذت العديد من
الأسماء: التفكيك، الوجودية، الهيرمينوطيقا. ولكن من خلال كل هذه الأسماء،
لديك بحث مشترك هو تعديل، تحويل العلاقة بين المفهوم والوجود. ومثلما كانت مسألة
الفلسفة الفرنسية، منذ بداية القرن، هي الحياة والمفهوم، كان هذا التحول الوجودي
للفكر، هذه العلاقة بين الفكر وتربته الحيوية، ذا أهمية كبيرة للفلسفة الفرنسية.
هذا ما أسميه بعمليتها الألمانية: العثور في الفلسفة الألمانية على طرق جديدة
للتعامل مع العلاقة بين المفهوم والوجود. إنها عملية لأن هذه
الفلسفة الألمانية أصبحت، في ترجمتها الفرنسية، ضمن ساحة معركة الفلسفة الفرنسية،
شيئا جديدا تماما. لقد كانت لدينا عملية خاصة جدا تمثلت، إذا جاز لي القول،
في الاستيلاء الفرنسي على الفلسفة الألمانية. هذه هي العملية الأولى.
العملية
الثانية، لا تقل أهمية، وهي تتعلق بالعلم. لقد أراد
الفلاسفة الفرنسيون في النصف الثاني من القرن أن ينتزعوا العلم من المجال الصارم
لفلسفة المعرفة؛ من خلال إظهار أنه كان أكبر وأعمق من مجرد مسألة معرفة، كنشاط
إنتاجي، كخلق وليس مجرد انعكاس أو إدراك. أرادوا أن يجدوا في العلم نماذج للإبداع،
للتحويل، ليدمجوا أخيرا العلم ليس في الكشف عن الظواهر، في تنظيمها، ولكن كمثال
على نشاط الفكر والنشاط الإبداعي القرين بالنشاط الفني. لقد كانت العملية
المتعلقة بالعلوم هي نقل العلم من ميدان المعرفة إلى مجال الخلق وجعله في نهاية
المطاف أقرب إلى النشاط الفني. جاءت هذه العملية تتويجا في (فلسفة) دولوز، الذي
يقارن بطريقة خلاقة وحميمة الاختراع العلمي بالإبداع الفني، لكنها بدأت قبل فترة
طويلة باعتبارها واحدة من العمليات التأسيسية للفلسفة الفرنسية.
العملية الثالثة
عملية سياسية. فلاسفة هذه الفترة جميعا أرادوا أن يوظفوا بعمق الفلسفة في المسألة
السياسية: سارتر، ميرليو- بونتي بعد الحرب، فوكو، ألثوسير، دولوز، كانوا ناشطين
سياسيين. ومن خلال هذا النشاط السياسي، سعوا إلى إقامة علاقة جديدة بين المفهوم
والفعل. كما في حالة الألمان، سعوا إلى إيجاد علاقة جديدة بين المفهوم والوجود،
كما بحثوا في السياسة عن علاقة جديدة بين المفهوم والفعل، الفعل الجماعي على وجه
الخصوص. هذه الرغبة الأساسية في إشراك الفلسفة في الأوضاع السياسية تكمن في تغيير
العلاقة بين المفهوم والفعل.
أخيرا، العملية
الرابعة، سوف أسميها عملية حديثة: تحديث الفلسفة. حتى قبل أن نتحدث كل يوم عن
تحديث عمل الحكومة (اليوم يجب علينا تحديث كل شيء، وهو ما يعني في كثير من الأحيان
تدمير كل شيء)، كانت هناك رغبة عميقة في الحداثة بين الفلاسفة الفرنسيين. هذا يعني
متابعة عن كثب للتحولات الفنية والثقافية والاجتماعية، ولتحولات التقاليد. كان
هناك اهتمام فلسفي قوي باللوحة غير التصويرية، بالموسيقى الجديدة، بالمسرح،
بالرواية البوليسية، بموسيقى الجاز، بالسينما. كانت هناك رغبة في جعل الفلسفة أقرب
إلى ما كان أكثر كثافة في العالم الحديث. وكان هناك أيضا اهتمام شديد بالحياة
الجنسية، بأنماط الحياة الجديدة. ومن خلال كل هذا، سعت الفلسفة إلى إقامة علاقة
جديدة بين المفهوم وحركة الأشكال: الأشكال الفنية والاجتماعية وأنماط الحياة. وكان
هذا التحديث بحثا عن طريقة جديدة للفلسفة تقترب من خلق الأشكال.
لذلك كانت هذه
اللحظة الفلسفية الفرنسية بمثابة اعتماد جديد للإبداع الألماني، رؤية خلاقة للعلم،
راديكالية سياسية، وبحثا عن أشكال جديدة للفن والحياة. ومن خلال كل هذا، كان الأمر
يتعلق بموقف جديد للمفهوم، بتصرف جديد للمفهوم، بتهجير علاقة المفهوم إلى خارجه:
علاقة جديدة بالوجود، بالفكر، بالحركة وبحركة النماذج. ومن هذه الجدة في العلاقة
بين المفهوم الفلسفي وخارجية هذا المفهوم، جاءت الجدة العامة للفلسفة الفرنسية في
القرن العشرين.
سؤال الأشكال،
والبحث عن حميمية الفلسفة مع خلق أشكال أمران في غاية الأهمية. ومن الواضح أن هذا
(المعطى) طرح سؤال شكل الفلسفة ذاتها: لا يمكن للمرء أن يحول المفهوم دون اختراع
أشكال فلسفية جديدة. ولذلك كان من الضروري تحويل لغة الفلسفة وليس مجرد خلق مفاهيم
جديدة. وقد أدى ذلك إلى وجود علاقة خاصة بين الفلسفة
والأدب، وهي سمة بارزة للفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. نستطيع أن نقول إنها
قصة فرنسية طويلة - لنتذكر أن هؤلاء الذين يسمون في القرن الثامن عشر فلاسفة كانوا
كلهم كتابا كبارا، فولتير وروسو أوديدرو، الذين هم كلاسيكيون في أدبنا، وهم
بالتالي أسلاف هذه المسألة. هناك مؤلفون كبار في فرنسا لا نعلم إن كانوا ينتمون
إلى الأدب أو الفلسفة، على سبيل المثال، باسكال، الذي هو بالتأكيد أحد أعظم الكتاب
في تاريخنا الأدبي وبالتأكيد واحد من أعمق مفكرينا.
في القرن
العشرين، كان آلان، وهو فيلسوف بمظهر كلاسيكي تماما، في الثلاثينيات والأربعينات،
فيلسوف غير ثوري ولا ينتمي إلى تلك اللحظة التي أتكلم عنها، قريبا جدا من الأدب؛
بالنسبة له، الكتابة أساسية؛ إذ كتب العديد من التعليقات على عدة روايات - نصوصه
التي كتبها عن بلزاك هي أيضا مثيرة جدا للاهتمام - والتعليقات على الشعر الفرنسي
المعاصر، بما فيه فاليري. لذلك، حتى عند الشخصيات الكلاسيكية للفلسفة الفرنسية في
القرن العشرين، نلاحظ هذه الصلة الوثيقة جدا بين الفلسفة والأدب. وقد لعب
السرياليون أيضا دورا هاما: أرادوا أيضا تغيير العلاقة بخلق الأشكال، بالحياة
العصرية، بالفنون؛ أرادوا ابتكار أشكال جديدة للحياة. وكان هذا البرنامج برنامجا
شعريا بالنسبة لهم، إلا أنه في فرنسا مهد للبرنامج الفلسفي في الخمسينيات والستينيات.
وأود أن أذكر الروابط بين الإثنين: لاكان أو ليفي-ستروس كلاهما تردد وتعرف على
السرياليين . لذلك هناك في هذا القصة المعقدة علاقة بين المشروع الشعري والمشروع
الفلسفي، السورياليون هم ممثلوها.
لكن انطلاقا من
الخمسينيات / الستينيات، تعين على الفلسفة نفسها أن تخترع شكلها الأدبي؛ كان عليها
أن تجد صلة تعبيرية مباشرة بين العرض الفلسفي، والأسلوب الفلسفي، والتحول
المفاهيمي الذي اقترحته. قدر لنا أن نشاهد تغييرا جذريا في الكتابة الفلسفية.
العديد منا اعتادوا على هذه الكتابة، على طريقة دولوز، فوكو، لاكان؛ ونحن لا نستطيع
أن نتصور كيف كانت قطيعة غير عادية مع الأسلوب الفلسفي السابق. وقد سعى جميع هؤلاء
الفلاسفة إلى أن يكون لهم أسلوب خاص بهم، الى إبداع كتابة جديدة، لقد أرادوا أن
يكونوا كتابا. عند دولوز أو عند فوكو، تجد شيئا جديدا
تماما في حركة الجملة. العلاقة بين الفكر وحركة الجملة أصيلة تماما. أنتم
أمام إيقاع إيجابي جديد تماما، أمام دلالة الصيغة التي هي أيضا إبداعية بشكل مثير.
لدى دريدا تجد علاقة معقدة ومعتلة بين لغة ولغة، اشتغال لغة على ذاتها، ويمر الفكر
أثناء اشتغال لغة على لغة. عند لاكان، لديكم تركيب معقد بشكل مذهل لا يجتمع في
النهاية سوى بجملة مالارميه، تركيب وريث مباشر لتركيب جملة مالارميه وهو بالتالي
تركيب شعري على نحو فوري.
كان هناك إذن
تحول في الأسلوب الفلسفي وكانت هناك محاولات لتحريك الحدود بين الفلسفة والأدب؛
يجب أن نتذكر أن سارتر هو أيضا كاتب روائي ومسرحي ما عد شيئا جديدا، وتلك هي نفس
حالتي. خصوصية هذه الفلسفة الفرنسية هي أنها لعبت على
عدة سجلات لغوية وزحزحت الحدود بين الفلسفة والأدب أو بين الفلسفة والمسرح.
في العمق، يمكن للمرء أن يقول تقريبا إن أحد أهداف الفلسفة الفرنسية كان خلق مكان
جديد للكتابة، مكان للكتابة حيث يستحيل فصل الأدب عن الفلسفة؛ مكان لا تكون فيه
الفلسفة بمثابة تخصص، ولا حتى الأدب بالضبط، إنما كتابة لا تمييز فيها بين الفلسفة
والأدب، أي مكان لم يعد من المكن التمييز فيه بين المفهوم و الحياة، لأن هذا الإبداع
في الكتابة يتمثل أخيراً في إعطاء حياة جديدة لهذا المفهوم، حياة أدبية لهذا
المفهوم، من خلال هذا الإبداع، وهذه الكتابة الجديدة، يتعلق الأمر في نهاية المطاف
بالحديث عن ذات جديدة، بأن تخلق في الفلسفة صورة جديدة للذات، معركة جديدة حول
الذات.
ذلك أن الذات
العاقلة الواعية المتحدرة مباشرة من ديكارت لا يمكن لها أن تكون، بعبارة أكثر
اصطناعا، ذاتا انعكاسية. يجب أن تكون شيئا أكثر غموضا، أكثر ارتباطا بالحياة،
بالجسد، ذاتا أشمل من ذات واعية، شيئا شبيها بالإنتاج أو بالإبداع الذي تتكاثف فيه
قوات هائلة. سواء صرحت بكلمة الذات، أو لم تصرح بها، فهذا ما تحاول الفلسفة الفرنسية
قوله، إيجاده والتفكير فيه. لهذا السبب كان التحليل النفسي مخاطِبا (بكسر الطاء)،
لأن، في العمق، الإبداع الفرويدي العظيم كان هو الآخر اقتراحا جديدا حول الذات. ما
قدمه فرويد من خلال فكرة اللاشعور كان على وجه التحديد أن موضوع الذات كان أكبر من
الشعور: أنه يشمل الشعور ولكنه لا يختزل في الشعور، بل هو المعنى الأساسي لكلمة
اللاشعور.
ونتيجة لذلك،
شاركت الفلسفة الفرنسية المعاصرة بأكملها في مناقشة واسعة مع التحليل النفسي. إن
هذه المناقشة، في فرنسا، في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت مشهداً من
التعقيد بمكان، ويمكننا أن نتكلم فقط عن هذا، بشكل مطول، لأن هذا المشهد بمفرده
(هذا المسرح) بين الفلسفة والتحليل النفسي كان موحياً تماماً. من حيث الجوهر،
رهانه الأساسي هو تقسيم الفلسفة الفرنسية إلى تيارين كبيرين انطلاقا من بداية
القرن.
دعونا
نعود إلى هذا التقسيم. لديكم من جانب ما أسميه نزعة حيوية وجودية، استمدت أصلها من
بيرغسون، ومرت بالتأكيد الى سارتر، فوكو و دولوز. ومن ناحية أخرى، لديكم ما أسميه
نزعة صورية مفاهيمية نجدها عند برانشفيك ومنه انتقلت الى ألثوسير ولاكان. ما تتقاطعان
عنده، النزعة الحيوية الوجودية والنزعة الصورية المفاهيمية، هو موضوع الذات. لأن
كل ذات هي في نهاية المطاف ما يحمل الوجود مفهومها. وهكذا يمكن تعريف الذات في
الفلسفة الفرنسية. لكن، بأحد المعاني، لاشعور فرويد يحتل بالضبط هذه المكانة. فإن
اللاشعور هو أيضاً شيء ما حيوي أو موجود حامل للمفهوم. كيف يمكن لوجود أن يحمل
مفهوماً؟ وكيف يمكن أن ينشأ شيء ما انطلاقاً من جسد؟ هذا هو السؤال الرئيس، من أجل
ذلك وجدت هذه العلاقة المكثفة جدا بالتحليل النفسي. من الواضح، كما هو الحال
دائما، أن تكون العلاقة مع الشخص الذي يفعل الشيء نفسه مثلك، لكن بطريقة مختلفة،
أمراً صعبا. يمكننا أن نقول إنها علاقة تواطؤ - أنت تفعل الشيء نفسه - ولكنها أيضا
علاقة تنافس - أنت تفعل ذلك بشكل مختلف. وعلاقة الفلسفة بالتحليل النفسي في
الفلسفة الفرنسية هي بالضبط: علاقة تواطؤ وتنافس. إنها علاقة افتتان وحب وعلاقة
عداء وكراهية. لهذا السبب كانت مشهدا عنيفا ومعقدا.
ثلاثة نصوص
أساسية تجعل من الممكن الحصول على فكرة عن كل ذلك. الأول هو بداية كتاب باشلار،
المنشور في عام 1938، والمعنون ب" التحليل للنفسي للنار"، هو الأكثر
وضوحا في ما يخص هذه المسألة. اقترح باشلار تحليلا نفسيا جديدا يقوم على الشعر
والحلم، تحليلا يمكننا أن نطلق عليه التحليل النفسي للعناصر: النار والماء والهواء
والتراب، ما يعني أنه تحليل نفسي أولي. في الأساس، يمكن للمرء أن يقول إن باشلار
حاول استبدال الإكراه الجنسي، الموجود عند فرويد، بالحلم، وتبيان أن الحلم هو شيء
أكثر شساعة وانفتاحا من الإكراه الجنسي. نجد هذا بوضوح شديد في بداية
"التحليل النفسي للنار".
النص
الثاني هو نهاية كتاب "الوجود والعدم" لسارتر، حيث اقترح، هو أيضا،
إنشاء تحليل نفسي جديد أسماه التحليل النفسي الوجودي. هنا ثنائية
التواطؤ / التنافس ثنائية نموذجية. لقد عارض هذا التحليل النفسي الوجودي بالتحليل
النفسي لفرويد، الذي أطلق عليه وصف التحليل النفسي التجريبي. الفكرة هي أنه اقترح
التحليل النفسي النظري الحقيقي، في حين اقترح فرويد التحليل النفسي التجريبي.
إذاً أراد
باشلار أن يحل الإكراه الجنسي محل الحلم [الحلم محل الإكراه الجنسي]، فان سارتر
أراد أن يستبدل العقدة الفرويدية، أي بنية اللاشعور، بما أسماه المشروع. فما يحدد
الذات بالنسبة لسارتر ليس بنية، عصبية أو معاكسة، ولكن مشروع أساسي، وهو مشروع
الوجود. وهنا أيضا لدينا نموذج مثالي لمزيج من التواطؤ والتنافس.
والمرجع الثالث
هو الفصل الرابع من كتاب "ضد- أوديب" الذي ألفه دولوز وغتاري، حيث
يقترحان أيضا أن يتم تعويض التحليل النفسي بطريقة أخرى أطلق عليها دولوز اسم
"السكيزوتحليل" (la schizoanalyse)
(تحليل الفصام)، في تنافس مطلق مع التحليل النفسي بالمعنى الفرويدي. هذا أمر غير
عادي: اقترح ثلاثة فلاسفة عظام، باشلار، سارتر ودولوز استبدال التحليل النفسي بشيء
آخر.
باشلار قال:
أحلام اليقظة بدلا من الإكراه الجنسي. سارتر: المشروع بدلا من البنية أو العقدة. و
دولوز: النص واضح تماما، البناء عوض التعبير - مأخذه الكبير على التحليل النفسي
كونه يعبر فقط عن قوى اللاشعور بينما كان يجب عليه بناؤه. يقول دولوز صراحة:
لنستبدل التعبير الفرويدي بالبناء الذي هو قيد التفعيل في السكيزوتحليل. كل هذا
يرسم ما يشبه مناظر فلسفية سوف أوجزها أمامكم.
من حيث الأهداف،
كان هناك برنامج فلسفي وأعتقد أن لحظة فلسفية يتم تحديدها بواسطة برنامج فكري.
بطبيعة الحال، الفلاسفة مختلفون جدا ويتم التعامل مع البرنامج بشكل مختلف جدا. يمكننا أن نرى ما هو شائع تاريخيا، ليس الأعمال، ليس النسق،
ولا حتى المفاهيم ولكن البرنامج. عندما يكون السؤال قويا ومشتركا، هناك لحظة
فلسفية، مع تنوع كبير في الوسائل والمهام والفلاسفة.
ماهو هذا
البرنامج خلال الخمسين سنة الأخيرة من القرن العشرين؟
أولا، انتهت
معارضة المفهوم بالوجود، تم وضع حد لهذا الفصل. اتضح أن المفهوم كائن حي، أنه
إبداع، سيرورة وحدث وأنه بهذه الطريقة ليس مفصولا عن الوجود.
النقطة الثانية،
إدراج الفلسفة في الحداثة، وهو ما يعني أيضا إخراجها
من الأكاديمية، تعميمها في الحياة. الحداثة الجنسية، الفنية، الاجتماعية، يجب مزج
الفلسفة بكل هذه العناصر.
النقطة الثالثة
من البرنامج، التخلي عن المعارضة بين فلسفة المعرفة وفلسفة العمل. هذا الفصل
الكبير الذي أقامه كانط، على سبيل المثال، بين العقل النظري والعقل العملي؛
وبالتالي التخلي عن هذا الفصل، وإظهار أن المعرفة هي في حد ذاتها ممارسة، أن
المعرفة العلمية ذاتها هي في الواقع ممارسة.
رابعا، وضع الفلسفة مباشرة على الساحة السياسية دون المرور عبر
منعرج الفلسفة السياسية، إدراج الفلسفة وجها لوجه في الساحة السياسية. كلهم
أرادوا أن يبدعوا ما أسميه بالناشط الفلسفي، وأن يجعلوا من الفلسفة ممارسة نضالية،
في حضورها، في نمط وجودها. ليس كمجرد تفكير في السياسة، ولكن في الحقيقة كتدخل
سياسي.
النقطة الخامسة،
تناول مسألة الذات، والتخلي عن النموذج الانعكاسي وبالتالي، مناقشة التحليل
النفسي، والتنافس معه والقيام بمثل ما قام به، إن لم يكن أفضل منه.
وأخيرا النقطة
السادسة، خلق أسلوب فلسفي، أسلوب جديد في العرض الفلسفي، وبالتالي، التنافس مع
الأدب. في الأساس، إبداع للمرة ثانية، بعد القرن الثامن عشر، للكاتب الفيلسوف،
إعادة خلقه.
هذه هي اللحظة
الفلسفية الفرنسية، برنامجها وطموحها العظيم. وأعتقد أن هناك رغبة أساسية؛ بعد كل
شيء، أية هوية هي هوية رغبة. كانت هناك رغبة أساسية
في جعل الفلسفة كتابة نشطة، أي وسيلة لذات جديدة، مصاحبة لذات جديدة. هي إذن رغبة
في جعل الفيلسوف أي شيء آخر عدا حكيم، اندثرت صورة الفيلسوف المتأمل، الأستاذ أو
المفكر. أن نجعل من الفيلسوف أي شيء آخر عدا حكيم هو جعله شيئا آخر غير منافس
للكاهن. جعله كاتبا مكافحا، فنان الذات، عاشقا للابداع. كاتب مكافح، فنان
الذات، عاشق الابداع، الناشط الفلسفي، هذه هي أسماء هذه الرغبة التي اجتازت هذه
الحقبة، وهذا ما كانت الفلسفة تعمل بوحي منه. كل هذا
يذكرني بجملة لمالرو نسبها إلى ديغول في نصه الحامل لعنوان " Les
chênes qu'on abat": العظمة طريق
تؤدي إلى شيء لا نعرفه. وأعتقد أن الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن
العشرين، اللحظة الفلسفية الفرنسية، اقترحت أساسا على الفلسفة تفضيل الطريق على
معرفة الهدف، الفعل أو التدخل الفلسفي على التأمل و الحكمة. لقد كانت فلسفة دون
حكمة، وهذا من المؤاخذات المسجلة عليها الآن.
لكن اللحظة
الفلسفية الفرنسية في الحقيقة تمنت العظمة بدلا من السعادة. أعتقد أننا أردنا شيئا
خاصا جدا، والذي هو في الواقع إشكالي: أردنا أن نكون مغامرين على مستوى المفهوم.
غير أننا لم نكن في النهاية نرغب في فصل صارم بين الحياة والمفهوم، ليس لأن الوجود
خاضع للفكرة أو المعيار، ولكن لأن المفهوم نفسه هو طريق لا نعرف بالضرورة غايته. بعد زمن المغامرين عادة ما يأتي عصر النظام. هذه هي
المشكلة. أحدهم يفهم ذلك: كان هناك في كل هذه الفلسفة جانب من القرصنة، تحدث دولوز
بطيب خاطرعن الترحال.
يبدو لي أن المغامرين
على مستوى المفهوم صيغة يمكن أن توفق بيننا جميعا، وهذا هو السبب في أنني أقول إن
هناك في فرنسا، في القرن العشرين، لحظة احتوت المغامرة الفلسفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق