الثلاثاء، 26 يونيو 2018

في الفعالية الاجتماعية؛ (م. ح)



في الفعالية الاجتماعية. (وجهة نظر)

مجتمعاتُنا متديّنة بثقافتها. أفرادُها يؤمنون بالله، ويقومون ببعض الفروض الدينية أو بكل تلك الفروض، يصومون بغالبيتهم، ويصلّون بغالبيةٍ أقل، ويقومون ببقية الفرائض بنسبةٍ أو بأخرى. ومن لا يقوم بها، فهو يعترف بتقصيره، وبأن من يقوم بها يكون أقرب إلى تعاليم الدين وطاعة الله.

كلما اقترب الأفراد من تطبيقٍ أكبر متكامل للفروض الدينية كان أكثر كسباً لاعتراف البقية بالسبق. وكلما ازداد الفرد بالتعرف والالتزام بتفاصيل السلوك الديني ومعرفةً والتزاماً بسلوك السلف الصالح، ظهر ذلك في سلوكه ولباسه ولحيته وامتناعه عن المصافحة باليد على الجنس الآخر.. أي كلما صار سلفياً. يعرف أكثر عن سلوك "السلف الصالح" والمرويات عنهم: كيف يأكلون، وكيف يعاملون الزوجة، وكيف يفطرون وكيف يصومون وكيف يحيون ويردون التحية وكيف ينظرون إلى أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى .. إلى آخره.

إذا اجتمع الناس في مناسبةٍ اجتماعية تم الاستماع إليهم وإلى وعظهم ونصائحهم، والحديث عن كرامات الأولياء والأدعية والجميع يعتبر بأن مآله الصحيح أن يكون مثلهم، إنما يمنعه من ذلك صعوبة التطبيق والالتزام.

هذه البيئة تجعل من السهل اختراقها من أي مدعٍ لتطبيق الدين والعودة إلى نموذج السلف الصالح.

يخرق هذه البيئة أصواتٌ، مهما كثرت تبقى أقلية، تهاجم سلوكيات الجماعة وتناقش في جدواها، وهي لا تجد لدى الجماعة إلا النفور وقلة التأثير، بصرف النظر عن صحة مواقفهم من عدم صحتها.

أصواتٌ ثالثةٌ تمتلك ثقافةً دينية جيدةً، وتمتلك وعياً تاريخياً، بصرف النظر عن موقفهم الإيماني، لكنها تخاطب الناس من داخل منظومتهم الثقافية، محاولةً ترويج خطاب معقلن، أقله في مسائل "الدنيا": للظواهر أسبابُها الطبيعية الكامنة في الطبيعة. محاولة المصالحة بين نوعٍ من الإيمان وبين الفهم العلمي للطبيعة. وهذا خطاب له قدرته على المنافسة داخل المناخ الثقافي المتدين في المجتمع.

الصعوبة الأكبر هي في الانتقال إلى القول بأن التجربة الدينية هي تجربة تاريخية، ليس على المستوى الإيماني، بل على المستوى الفقهي التشريعي والسياسي.

وهذا هو المجال الأكثر أهمية برأيي. النقاش في أن التجربة الإسلامية في الحكم كانت تجربة تاريخية قام بها النبي أولاً ثم خلفاؤه بعد ذلك، ليس لأن أمر الحكم هو من الأمور الدينية، بل لأنهم كانوا هم المسؤولين السياسيين عن مجتمعاتهم. وأن ما قاموا به كان فعل اجتهاد سياسي.

وكذلك مسألة التعامل مع غير المسلمين مثلاً. ومع الرق، ومع الإرث، ومع الزواج، ومع الشورى، ومع قطع يد السارق، ومع جلد الزاني أو الزانية، ومع ومع ...

وهنا الأمر أكثر حساسية بكثير، وكل من هو مشكوك في عدم تدينه لا يمكن أن يلقى حديثُه في هذه الأمور إلا الخصومة أو التجاهل. أما المتديّنون منهم فهم يلاقون خصومةً مريرةً من الحرس القديم للدين، الذين لا يخيفهم شيء بقدر ما يخيفهم من يروّج لخطاب مختلف من داخل الدين نفسه.

هذه المجموعة القليلة يمكن أن تلتقي مع جميع المتنورين، بصرف النظر عن موقف هؤلاء المتنورين من الدين والإيمان. شرط أن يجمع جامع التسامح بين هذه الفئات المتنوّرة: الاعتراف بحق الاختلاف. الاعتراف بأن أمور الناس من الأمور الدنيوية التي يجب على الناس أن تبحث لها عن حلول مناسبة لهذا العصر يجترحها الناس أنفسهم من خلال القوانين الوضعية، ومن خلال الفهم العلمي للكون والإنسان. بعد ذلك لا يهم من يعتقد بحياة بعد الموت ومن لا يعتقد، فتلك مسألة فردية بحتة. من يذهب بعد الموت وإلى أين يذهب، هل النفس خالدة أم لا وجود إلا لهذا الجسد وتمظهراته.. كل هذه الأمور تصبح مجالاً شيقاً للحوارات الثقافية والبحث الفلسفي.

ثقافة الإلغاء لم تعد ولم تكن يوماً مناسبة.

مواجهة الناس في معتقداتهم بطريقة استفزازية عامل معوّق أكثر منه عامل تنوير. على المستوى الفردي ذلك لا يضر. لكن التواصل مع العامة سيكون محكوماً بخصومة وحذر مسبق وعدم تقبل لكل ما يقولون.

ربما يكون من المناسب مواجهة كل أشكال تفسيرات الطبيعة بطريقة غيبية بالعلم والعقل والمنطق، وترك الأمور الغيبية مسألةً خاصةً وفردية لا يهم كيف تكون قناعات الأفراد حولها.

والحاجة الكبرى في هذا الطرح ستكون للفئة المنطلقة من داخل الإيمان ومن داخل الدين نحو عقلنة أمور الدنيا، فهم قلة ومهمتهم شاقة.

أخشى إن بقينا كما نحن، أن يشكل فهمنا للدين (وبالتحديد للدين الإسلامي) قنابل موقوته مزروعة في كل مكان.

ولا أرى أن تنحية تأثير الدين من حياة مجتمعاتنا أمراً واقعياً وممكناً، على الأقل في هذه المرحلة التارخية.

(م.ح) 
23/6/2018
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق