السبت، 19 مايو 2018

جاك لاكان؛ مقابلة.




جاك لاكان؛ حوار.
بهذا الحوار الذي أجري سنة 1974، يحذر جاك لاكان بشكل تنبؤي من الأخطار التي تتعلق بعودة الدين والعلموية: بالنسبة له يعتبر التحليل النفسي، المتراس المفترض ضد التوجسات المعاصرة. النقاش تضمن موضوعاً مدهشاً.
كما بفعل السحر، فإن جاك لاكان يُستعاد بكل قوته ضمن هذا الحوار الذي أُجري سنة 1974 لمجلة بانوراما الإيطالية. بطلاقته المذهلة، لحججه وقع مدهش بالنقاش، حيث أننا نعاين بسنة 1974، أنه صار دارجاً “الحديث بشكل مستمر عن أزمة التحليل النفسي”، كما بتعبير إيميليو غرانزوطو، المحاور الإيطالي. عند جاك لاكان، نجد بكل بساطة قوة الصراحة، الحس الحقيقي، الوضوح، والدقة، بعيدا عن “التحليل النفسي البرجوازي” المنتهج من قبل بعض تلامذة فرويد، جاعلين من تقنية العلاج طقساً مجرداً، ساعين بذلك لتكييف المريض مع محيطه الاجتماعي. “ذلك ما رفضه فرويد بقوة” يوضّح لنا لاكان. ما الذي يقلقه، بالزمن الراهن؟ بموهبته التنبؤية، لاكان يخشى من عودة تسلط الدين من جهة، والهيمنة العلمية من جهة أخرى. الجنس بكل مكان كبرهان؟ لا، بالأحرى تحرر خادع ليست له أي أهمية، أما تطفل العبث العلمي، فتلك مسألة أخرى..
إيميليو ـ نسمع الحديث يتزايد باستمرار عن أزمة التحليل النفسي، يُقال بأن فرويد صار مُتجاوَزاً، وبأن أعماله بالوقت الراهن لا تكفي لفهم الإنسان أو لكشف عميق عن علاقته بالعالم.
لاكان ـ الأمر مجرد ثرثرة. بالأساس، ليس هناك من شيء اسمه أزمة، ولا يمكن لها أن تكون. فالتحليل النفسي لم يقترب بعد من رسم حدوده، لا يزال هناك الكثير مما يجب كشفه بالممارسة والمجال المعرفي. بالتحليل النفسي، ليست هناك من إجابات محددة، هناك بحث طويل وصبور عن العلل..
أما عن المسألة الثانية المتعلقة بفرويد، كيف يمكن أن ندّعي بأنه أصبح متجاوزاً، في حين أننا لم نقم بعدُ بفهمه بشكل تام؟ المؤكد في الأمر، هو أنه قام بدفعنا لرؤية أشياء جديدة، لم نكن لنتصورها قبله. من مشاكل اللاواعي بأهمية الجنسانية، من تأويل الرمزية إلى الخضوع لقوانين اللغة. منهجه وضع الحقيقة نفسها موضع التساؤل، حيث يتعلق الأمر بالجميع وبكل شخص على حدة. إنه أمر آخر غير الأزمة. وأكرر: لانزال بعيدين عن فرويد، لقد تم كذلك باستخدام اسمه كشف الغطاء عن العديد من الأشياء، وقد ترتب عن ذلك عدة انحرافات، الأتباع لم يتّبعوا النموذج دائما بالشكل المطلوب، فنتجت عنهم التباسات. بعد وفاته بسنة 1939زعم بعض تلامذته ممارسة مغايرة للتحليل النفسي، باختزال منهجه لمجموعة من الصياغات السخيفة: التقنية كمجرد طقس، والممارسة مختزلة في علاج سلوكي، يُهدف من خلاله لتكييف الفرد مع محيطه الاجتماعي. الأمر الذي كان يعارضه فرويد بقوة، كممارسة برجوازية، خاصة بالصالونات.
لقد تنبأ لذلك بنفسه
. حيث قال إن هناك ثلاثة مواقع صعبة التمكّن، ثلاث مهام مستحيلة: الحُكم والتدريس وممارسة التحليل النفسي. بزمننا الراهن، أيٍا كان يتحمل مسؤولية الحكم، وكل شخص يعتبر نفسه مدرّساً. أما بالنسبة للمحللين النفسيين، والحمد لله، فقد تكاثروا، كما المشعوذين والمعالجين السحرة، يقترحون مساعدة الناس بعلاج فعّال، فيسارع الزبناء لدق أبوابهم. التحليل النفسي شيء مغاير.
إيميليو ـ ما هو بالضبط ؟
لاكان ـ أصنفه كعَرَض – شيء يفضح الشقاء الحضاري الذي نعيشه. بالطبع، ليس بفلسفة، فأنا أمقت الفلسفة، فمنذ زمن طويل لم تقل شيئا يدعو للاهتمام. كذلك، ليس التحليل النفسي بعقيدة، ولا أحب أن أصنفه كعِلم. لنطلق عليه ممارسة، حيث يتطرق لما هو غير مضبوط. ما يجعله ممارسة جد صعبة طالما أنه يسعى للإمساك بغير الممكن، والخيالي بالحياة اليومية. لقد توصل لبعض النتائج حتى الوقت الراهن، غير أنه لم يتأسس بعد على قواعد، ولا يزال عرضة لكل أنواع الالتباس.
لا يجب أن يغيب عن بالنا للحظة، أن الأمر لا يزال جديداً، سواء من زواية نظر الطب، أو علم النفس بفروعه. لا يزال بعدُ شاباً، ففرويد لم يمت إلا قبل 35 سنة من الآن. أول كتبه، كان قد نُشر في سنة 1900، وأحرز نسبة قليلة من النجاح. أعتقد أن لم يُبع منه سوى 300 نسخة خلال السنوات اللاحقة لصدوره. كان لديه عدد قليل من التلاميذ، اعتُبروا مجانين، زيادة على أنهم لم يتفقوا فيما بينهم حول كيفية الممارسة وتطبيق ما تعلموه.
إيميليو ـ ما هو الشيء غير المضبوط عند الناس، اليوم ؟
لاكان ـ هذا الفتور الكبير بالحياة، كنتيجة لسباق محموم نحو التقدم. وعبر التحليل النفسي يرجو الناس أن يكتشفوا إلى أي مدى يمكنهم السير وهم يسحبون معهم هذا الفتور.
إيميليو ـ ما الذي يدفع بالناس للخضوع للتحليل ؟
لاكان ـ الخوف. حينما يحدث للشخص شيء لا يفهمه، حتى إذا رغب بحدوثه، فإنه يخيفه. إنه يعاني من كونه لا يفهم، وشيئا فشيئا يسقط في الفزع. وهذا هو العُصاب. وفي العُصاب الهستيري، يصبح الجسد مريضاً بسبب خوفه من المرض، حتى لو لم يكن كذلك بالحقيقة. وفي العُصاب الوسواسي، يضع الخوف في عقل الإنسان أموراً غريبة، أفكار يصعب التحكم فيها، مخاوف تأخذ فيها الأشكال والأشياء معاني مختلفة تجعل الإنسان في حالة رعب.
إيميليو ـ على سبيل المثال ؟
لاكان ـ يحدث للعُصابي أن يشعر بأنه مدفوع بحاجة ملحة للتحقق عشرات المرات إذا كان الصنبور مُقفلاً، أو إذا كان شيء ما بمكانه، حيث يعرف بكل تأكيد أن الصنبور مقفل وأن ذلك شيء لايزال بمكانه. ليست هناك من عقاقير للتغلب على هذا الأمر، يجب الكشف عن سبب حدوث ذلك، ومعرفة ما يعنيه.
إيميليو ـ والعلاج ؟
لاكان ـ العُصابي مريض يعالَج عبر الكلام، وقبل كل شيء ذاك الذي يخصه. يجب أن يتحدث، يحكي، وأن يُفسّر بنفسه. ففرويد عرّف التحليل النفسي بأنه تعرّف الموضوع [المريض] لتاريخه الخاص، الذي يتشكل على مستوى خطاب موجّه للآخر. التحليل النفسي هو مجال الخطاب، ليس هناك من وصفة علاجية. وقد بيّن فرويد أن اللاوعي ليس عميقاً إلى درجة أن الوعي سيعجز عن استنطاقه. وضمن هذا اللاوعي، المتحدث كموضوع يدخل ضمن الموضوع، حيث يتسامى الموضوع. فالحديث هو القوة العظيمة للتحليل النفسي.
إيميليو ـ حديث من ؟ المريض أم المحلل النفسي ؟
لاكان ـ بالتحليل النفسي، مصطلحات مثل “مريض”، “طبيب”، “علاج”، ليست سوى صياغات متداولة أُدرج استعمالها. فأن نقول “يخضع للتحليل” فتلك مغالطة. فمن يقوم بالعمل الحقيقي هو من يتحدث، الموضوع هو من يحلل ذاته. حتى لو كان الأمر يتم باقتراح المحلل الذي يسهر على كيفية سير العملية، ويساعد بمداخلاته.
إن الموضوع يتجلى عبر تفسير، يبدو بالنظرة الأولى أنه يهدف لمنح معنى لما يتفوه به الموضوع. غير أن التفسير جد محتال، حيث يقوم بإبعاد المعنى عن الأمور التي يعاني منها الموضوع. فهدفه أن يكشف للموضوع، من خلال طريقة حديثه، أن العَرَض – أو لنسميه المرض – ليست له أي علاقة بشيء، ويفتقر لمعاني محددة. فحتى لو بدا (المرض) معقولاً، فهو غير موجود.
إن المسارات التي تنطلق عبرها حركة الخطاب، تتطلب الكثير من الممارسة وصبراً لامتناهياً. فالصبر والقياس هما أدوات التحليل النفسي، حيث إن التقنية تتوقف على قياس نسبة المساعدة التي يلزم تقديمها للموضوع إثر تحليله لذاته. بالتالي، فالتحليل النفسي ليس بالشيء الهيّن.
إيميليو ـ عندما نتحدث عن جاك لاكان، فإن اسمه يرتبط حتما بما يطلق عليه “العودة لفرويد”. ما الذي تعنيه هذه الجملة ؟
لاكان ـ إنها تتضمن معناها، حيث التحليل النفسي هو فرويد. فإذا رغبنا بممارسة التحليل النفسي، يلزمنا العودة لفرويد، لكلماته ومفاهيمه، أن نقرأ ونفسر النصوص حرفيا. لقد أُنشئت مدرسة فرويدية بباريس لأجل هذا الغرض. وسبق أن أفصحت عن وجهة نظري منذ عشرين سنة أو أكثر: العودة إلى فرويد تعني إزاحة انحرافات والتباسات الظاهراتية الوجودية على سبيل المثال، كتلك المؤسسات الشكلانية لجمعيات التحليل النفسي؛ وإعادة قراءة لمنهج فرويد من خلال المبادئ الأساسية والمدرجة ضمن أعماله. إعادة قراءة فرويد هي إعادة قراءة فرويد. ومن لا يفعل ذلك، لن يقوم سوى بالإساءة للمفاهيم حينما يتحدث عن التحليل النفسي.
إيميليو ـ إن فرويد صعب. ولاكان، كما يقال، جعله غير مفهوم البتة. عند لاكان نقترب من خطاب، وكتابة يأخذان شكلاً لا أمل في فهمه إلا بالنسبة لقلة من المؤيدين..
لاكان ـ أعلم، يرون بأني شخص مبهم يخفي أفكاره خلف ستائر دخانية. فأسأل نفسي لماذا. بالنسبة للتحليل، فأنا أردد مع فرويد، بأنه “لعبة تواصل ذاتي، يُهدف من خلالها استدعاء الحقيقة لتدخل الواقع”. أليس هذا واضحاً ؟ إن التحليل النفسي ليس بلعبة للأطفال.
يُطلق على كتاباتي بأنها غير مفهومة، لكن بالنسبة لمن ؟ لم أكتبها للجميع، أن يعتقد كل واحد أنه هكذا قادر على فهمها. على العكس، لم أبذل أي مجهود لتلبية حاجة أو إرضاء ذوق ثلة من المؤيدين، مهما كانت قيمتهم. لدي أشياء لأقولها، وأقوم بقولها. فيكفيني أن لدي جمهور يقرأ أعمالي. وإذا لم يتم فهم شيء، فقليل من الصبر. بالنسبة لعدد القراء، أعتبر أني محظوظ مقارنة بفرويد. ربما كتبي تقرأ بشكل أكثر، وهذا يدهشني.
أنا جد مقتنع بأنه بعد عشر سنوات على الأكثر، من يقرؤون أعمالي سيجدون بأنها واضحة، ككأس بيرة مثلجة. ربما ساعتها سيقولون: لاكان هذا، يا لسخافته!
إيميليو ـ ما هي مقومات اللاكانية ؟
لاكان ـ إنه لأمر سابق لأوانه قول ذلك، حيث أن اللاكانية ليست بعد موجودة. يمكن أن نستشعر فقط بنفحة منها، كتوجس. لاكان، بكل الحالات، هو شخص مارس التحليل النفسي لأكثر من أربعين سنة، والذي درسه قبل ذلك لسنوات. أثق بالبنيوية وعلم اللغة. لقد كتبت في أحد كتبي “إن ما اكتشفه فرويد هو اندماجنا ضمن نظام ضخم، حيث إذا أمكن أن نقول بأنه ولادة ثانية، حيث نخرج من حالة ما يسمى، طفولة قاصرة بعدُ عن الكلام”.
إن النظام الرمزي الذي اعتمده فرويد لاكتشافاته، يتأسس على اللغة بلحظة انبثاق خطاب كوني شامل. إن عالم اللغة هو الذي يخلق عالم الأشياء، التي كانت بالبداية مطموسة ضمن كل التجليات. ليست سوى الكلمات ما يعطي معنى محدداً لماهية الأشياء. من دون كلمات، لن يوجد شيء. كيف ستكون المتعة، بدون تواصلية لغوية ؟
ملاحظتي
هي أن فرويد، قد صرّح بكتاباته الأولى – “تفسير الأحلام”، “ما وراء مبدأ اللذة،”الطوطم والطابو” – عن قوانين اللاوعي، حيث صاغ مُمَهِّداً، النظريات التي سيعتمدها بعد سنوات من ذلك، ألفريد دي سوسير لفتح الطريق أمام علم اللغة الحديث.
إميليو ـ ماذا عن الفكر الأصيل ؟
لاكان ـ إنه ككل شيء، خاضع كذلك لقوانين اللغة. إن الكلمات هي التي تمكّنه من الإنتاج وتمنحه التماسك. من دون لغة، لن يستطيع البشر أن يتقدموا خطوة واحدة بالأبحاث الفكرية. ينطبق الأمر أيضا على التحليل النفسي. فمهما كانت الوظيفة المنسوبة إليه – شكل علاجي، ممارسة، استطلاع – فإن الأمر لا يتعلق بأكثر من استخدام وساطة: أي خطاب المريض. حيث أن كل خطاب يتطلب استجابة.
إيميليو ـ بالنسبة للتحليل النفسي كحوار، نجد أن هناك من يعتبرونه بديلاً عن الاعتراف..
لاكان ـ لكن أي اعتراف؟ ليس هناك من اعتراف بالتحليل. إنما ندع الشخص، بكل بساطة، يتحدث عن كل ما يرد على باله. كلمات، هذا كل شيء. إن اكتشاف التحليل النفسي هو تصنيف الإنسان ككائن يخاطِب. قد يتوجب على المحلل أن يقوم بترتيب خطاب المعني لمنحه معنى ودلالة. فلكي يتم التحليل بالشكل المطلوب، يلزم أن يكون هناك اتفاق وتفاهم، بين المحلل والموضوع الذي يحلل ذاته.
فمن خلال الخطاب، يسعى المحلل لتكوين فكرة عن المقصد، والبحث فيما وراء الأعراض لكشف الحقيقة المختبئة بثنايا الموضوع. تظهر وظيفة المحلل انطلاقا من إيجاد معنى للخطاب حتى يتمكن المريض من استيعاب ما يمكن توقعه من التحليل.
إيميليو ـ إنها علاقة تتطلب الكثير من الثقة..
لاكان ـ بالأحرى تبادل، حيث إن أحدهم يتحدث والآخر يصغي، وذلك أهم ما في الأمر. أيضاً الصمت، فالمحلل لا يطرح الأسئلة ولا يبث أفكاراً. إنما فقط يمنح الإجابات التي يريد، للأسئلة التي يريد أن تُطرح. غير أنه في النهاية، ينقاد الموضوع الذي يحلل ذاته للوجهة التي يقوده نحوها المحلل.
إيميليو ـ لقد جئت على ذكر العلاج، هل هناك من سبيل للشفاء والتخلص من قبضة العُصاب؟
لاكان ـ ينجح التحليل النفسي، حينما ينير الساحة، بالنفاذ خلف الأعراض، خلف الواقع. بتعبير واضح نقول، حينما يلمس الحقيقة.
إيميليو ـ هل بالإمكان إعادة التفسير بطريقة أقل لاكانية ؟
لاكان ـ أسمي عَرَض كل ما ينبثق عن الواقع، والواقع هو كل ما ليس على ما يرام، غير مضبوط، كل ما يعترض حياة الإنسان ويعوق شخصيته. الواقع يعود كل مرة إلى نفس المكان، دائما ستجدونه هناك، بنفس التجليات. يدّعي بعض العلماء أنه لا وجود للمستحيل بظل الواقع ـ حتى أنهم يدفعون بالعصابيين لقول أشياء مثل هذه، حيث أعتقد، بأن ذلك ناتج عن جهل كبير بين ما يقوله الواحد ويفعله. فالمستحيل والواقع أمران متعارضان، فلا يعقل أن يكونا بنفس المستوى. يقوم التحليل بدفع الموضوع نحو المستحيل، الذي يوحي إليه بالنظر للعالم كما هو بالواقع، بمعنى خيالي، بدون معنى. في حين أن الواقع، كما الطائر الشره، لا يتغذى إلا على الأشياء المحسوسة، أحداث لها معنى.
نسمع كثيرا، عن وجوب منح المعنى لهذا الشيء أو ذاك، للخواطر، للتطلعات، للرغبات، للجنس، وللحياة. غير أننا لا نعلم شيئا عن الحياة. تتقّطع أنفاس الحكماء تعباً بسعيهم لتفسيرها لنا.
خوفي، هو أنه انطلاقا من مغالطتهم، يتحقق للواقع – هذا الأمر المُغْوِل والذي ليس له أي وجود – الانتصار بالنهاية. لقد حوّل العلم نفسه لديانة بل أخذ مكانة الدين، حيث يفوقه استبداداً وتبلداً وتحجراً. إنه إله – ذري، إله – فلكي.. فحيث ينتصر العلم أو الدين، ينتهي التحليل النفسي.
إيميليو ـ بزمننا الراهن، ماهي العلاقة بين العلم والتحليل النفسي ؟
لاكان ـ بالنسبة لي، العلم الحقيقي الذي يلزم تتبعه، هو الخيال العلمي. أما الآخر، الرسمي، الذي يقيم مذابح كنسية بمختبراته، متلمسا طريقه، دون اعتدال، فقد بدأ بنفسه يتخوف من ظله.
ويبدو أنه ستأتي على الخبراء تلك اللحظة التي سيصطدمون فيها بقلق مهول. منتشين ببدلاتهم داخل مختبراتهم المعقمة، يقوم هؤلاء العجزة ذوي العقول الصغيرة باللعب بأشياء لا يملكون عنها أدنى فكرة، حيث يصنعون آلات معقدة، تستدعي دائما صياغات مبهمة، فينشغلون بالتساؤل عما سيحدث بالغد، وعما يمكن أن تحمله تلك الأبحاث الجديدة. أقول، هذا يكفي! ماذا لو أن الأوان قد فات؟ يتساءل بالراهن كل من البيولوجيون والكيميائيون والفيزيائيون، وأعتقد بأنهم قد جُنّوا. لقد قاموا بتغيير وجه العالم، والآن يجب أن يهتموا بما قد يحتويه الأمر من خطورة. فماذا لو انقلب الأمر عليهم ؟ لو أن البكتريا تزايدت بحب داخل مختبراتهم اللامعة متحولة إلى عدو فتاك؟ لو أن هذه الجحافل تطغى على العالم بما فيه من حماقات، مبتدئة بأولئك الخبراء أنفسهم ؟
بالنسبة للمهام الثلاث صعبة التمكّن التي ذكرها فرويد : الحكامة، التدريس، والتحليل النفسي. فإني أضيف مهمة رابعة، وهي العلم. الخبراء لم يصلوا بعدُ لخبرة تكشف لهم أن مهمتهم صعبة التمكّن.
إيميليو ـ هاهي نظرة موغلة في التشاؤمية عن التّقدم..
لاكان ـ لا، إنه شيء آخر. فأنا لست بالطبع متشائما. ولن يحدث شيء، لسبب بسيط وهو أن الإنسان لا يقدر على شيء، وغير مؤهل لتدمير نوعه. شخصياً، أجد أنه أمر مذهل إنتاج وباء شامل عن طريق الإنسان، فذلك سيكون برهاناً على أن الإنسان مؤهل للقيام بأمور، انطلاقا من يديه ورأسه، ودون تدخل قوى إلهية أو طبيعية أو ما سواه.
كل هذه البكتريا الجميلة تتم تغذيتها بإفراط، لتنتشر عبر العالم مثل جراد الإنجيل، دلالة عن تفوق الإنسان. لكن ذلك لن يحدث. العلم يمشي الهوينى سعيدا بظل أزمة مسؤوليته: كل شيء سيعود لمكانه، يقول. فأرد: الواقع سيأخذ الأولوية، كما دائما، ولن نكون سوى أتباع، كما كنا دائما.
إيميليو ـ مفارقة أخرى لجاك لاكان، يعاب عليكم، بالإضافة لصعوبة اللغة والمفاهيم المبهمة، اللعب بالكلمات، التهريج اللغوي، والتعتيم بالفرنسية، أو بالضبط، تناقضاتك. فمن يقرأ أو يستمع لك، يشعر بأن من حقه أن يحتار..
لاكان ـ أنا لا أمزح، إنما أقول أموراً جدية. إنني ببساطة أستخدم الكلمات، مثلما يستخدم العلماء كما أسلفت، أدوات التقطير والدوائر الالكترونية. إلاّ أني أنطلق من تجارب التحليل النفسي كمرجع.
إيميليو ـ قلت بأن: الواقع لا وجود له. غير أن الإنسان العادي يدرك بأن الواقع هو العالم، ما يحيط به، ما يراه بعينه المجردة، ويلمسه.
لاكان ـ بالأول، دعنا نتخلص كذلك من هذا الإنسان العادي، باعتبار أنه غير موجود. فهو معطى خيالي إحصائي. هناك وجود لأفراد، وهذا كل شيء. حينما أسمع الناس يتحدثون عن إنسان الشارع، استطلاع الرأي العام، ظاهرة الجموع، وأطياف من هذا النوع، أفكر في كل المرضى الذين قابلتهم خلال 40 سنة من الإنصات. لا أحد، بقياس ما، يشبه الآخرين. لا أحد لديه نفس الرهاب، نفس القلق، نفس طريقة الحديث، نفس الخوف مما لا يفهمه. فمن هو هذا الإنسان العادي؟ أنا، أنت، حارس العمارة، أم رئيس الجمهورية ؟
إيميليو ـ المقصود هو الواقع، أي العالم الذي نراه..
لاكان ـ بالضبط، إن الفرق بين الواقع – الغير مضبوط – وبين الرمزي، الخيالي ـ الذي هو الحقيقة ـ هو أن الواقع هو ما يشكل العالم. ولإدراك أنه لا وجود للعالم، حيث أنه ليس هنالك من عالم. يكفي النظر لكل التفاهات الجماعية التي تعتقد من خلالها جماعات الحمقى اللامتناهية بأنها هي العالم. وأدعو أصدقائي بمجلة بانوراما، قبل أن يتهموني بالتناقض، أن يتأملوا جيداً فيما قلته للتو.
إيميليو ـ سيجد الناس بأنك تنحو أكثر نحو التشاؤمية.
لاكان ـ هذا ليس صحيحاً. فأنا لا أنتمي لا لفئة المتشائمين، ولا لفئة القلقين. يشقى المحلل النفسي الذي لا يرغب بتجاوز مرحلة القلق. صحيح أنه تحيط بنا أشياء مقلقة ومُتلِفة، مثل شاشة التلفاز التي تتغذى على جزء كبير منا. لكن ذلك عائد لقابلية الناس بالاستسلام للتلفاز، حتى أنهم يُلفقون قيمة لما يرون.
أيضا هناك تلك الأمور المُغْوِلة والطاغية من جهة أخرى: إرسال صواريخ للقمر، أبحاث في أعماق البحر الخ. كل أنواع الأشياء التي تستهلك الناس، دون مقصد للقيام بشيء خارج هذه الدراما. فأنا على يقين، بأنه إذا توفر لدينا ما يكفي من الصواريخ، ومن القنوات التلفزية بكل أبحاثها البغيضة في الغير مُجدي، فإننا سنبحث عن شيء آخر لنشغل به أنفسنا. إنه انبعاث الدين ودورته التناسخية، أوليس كذلك؟ وأي غول ينقض علينا أفضل من الدين؟ إنها احتفالية مستمرة، استمتاع يأخذ قروناً، كما حدث دائما بالسابق.
إجابتي عن كل هذا، هو تبيان أن الإنسان قادر دائما على تكييف نفسه مع الشر. إن الواقع الوحيد الذي يمكن أن نتصوره، ونطمح بلوغه هو ذاك، الحاجة لباعث: حيث نمنح للأشياء بعض المعاني، كما أشرنا سابقا. بصورة أخرى، الإنسان ليس لديه قلق، فرويد لن يصبح مشهوراً، وأنا سأكون مدرّساً بثانوية.
إيميليو ـ هل القلق دائما من هذه الطبيعة، أم أنه هناك قلقاً يرتبط ببعض الشروط الاجتماعية، بفترات التاريخية، أو بمواقع الجغرافية ؟
لاكان ـ قلق العالِم الذي يخاف من اكتشافاته، يبدو اليوم أكثر حداثة. لكن ماذا نعلم عن ما حدث بأزمنة أخرى؟ مآسي الباحثين الآخرين؟ قلق العامل المستعبد بصف تركيب منتوجات المعمل كصف المجدفين بالسفينة – ذلك هو قلق اليوم. أو ببساطة، يتربط هذا القلق بكلمات ومفاهيم اليوم.
إيميليو ـ لكن ما هو القلق بالنسبة للتحليل النفسي ؟
لاكان ـ شيء يقع خارج الجسد، خوف من لاشيء، يمكن أن يحفزه الجسد أو حتى العقل. إنه الخوف من الخوف باختصار. مجمل هذه المخاوف، وهذا القلق، بالمستوى الذي نقوم فيه باستيعابها، نراها مرتبطة بالجنس. ذَكَر فرويد أن الجنسانية بالنسبة للحيوان الناطق، ما نطلق عليه الإنسان، لا علاج لها ولا أمل لها. ومن ضمن مهام المحلل النفسي أن يجد ضمن خطاب المريض، العلاقة بين القلق والجنس، هذا المجهول العظيم.
إيميليو ـ الآن حيث نرى الجنس في كل الأرجاء، الجنس بالسينما، الجنس بالمسرح، بالتلفاز، على الجرائد، في الأغاني، على الشواطئ. نسمع كما يقال بأن الناس صاروا أقل قلقاً من المشاكل التي تتعلق بالجانب الجنسي. الطابوهات تسقط، كما قيل، ولم يعد هناك بالنسبة للناس خوفٌ من الجنس.
لاكان ـ الهوس الجنسي المنتشر ليس سوى ظاهرة ترويجية. إن التحليل النفسي أمر جدّي، يتعلق، كما أسلفت، بعلاقة شخصية للغاية بين فردين: الموضوع والمحلل النفسي. ليس هنالك من تحليل نفسي جماعي، كما أنه ليس هنالك من عُصاب أو قلق جمعي.
حقيقة الترويج الكلامي حول الجنس، واستعراضه على أطراف الشوارع، ومعاملته كأي مسحوق تنظيف يظهر بالتلفاز كإعلان متكرر، فذلك لا يعد بأي شكل من السعادة. أنا لا أقول بأن ذلك أمر سيء. المؤكد هو أنه لا يكفي للتعامل مع القلق والمشاكل الخاصة. فلا يخرج ذلك عن موضة، من موضات الليبرالية الزائفة التي نطلق عليها المجتمع المتساهل، كما لو أنه هبة سماوية. لكن لا جدوى منه على مستوى التحليل النفسي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق