الجمعة، 4 مايو 2018

عبد الرحمن السليمان؛ مقابلة.




شخصية الشهر: الدكتور عبد الرحمن السليمان.
تهدف زاوية (شخصية الشهر) إلى إلقاء الضوء على أحد أعلام العربية في الوطن العربي، سواء أكان ذلك بالحوار أم بالكتابة عنه؛ وذلك بهدف إبراز الوجه التنويري والتثقيفي لهؤلاء العلماء، وتقريب مؤلفاتهم للمثقف العربي، وهذا غيض من فيض نحو حق هؤلاء العلماء علينا.

17ـ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السليمان
أستاذ اللغة العربية والترجمة في جامعة لوفان في بلجيكا،
وعضو مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية




عبد الرحمن السليمان (1381هـ =1962م): لغوي، وأديب، ومترجم. وُلد في مدينة حماة بسورية، ويحمل الجنسيتين السورية والبلجيكية. حصل على الثانوية العامة عام 1979، ودرس الأدب اليوناني القديم في جامعة أثينا، اليونان من عام 1980– 1985، ثم درس اللغات والآداب السامية/الجزيرية في جامعة الدولة في غاند، بلجيكا من عام 1986 – 1991. أنجز دكتوراه في الأدب العبري القديم (الموضوع: "إشكاليات ترجمة غريب التوراة" من الجامعة نفسها عام 1995)، وأنجز أيضًا دكتوراه ثانية في الترجمة (الموضوع: "وثائق الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية: مدونة الأسرة المغربية أنموذجًا") من الجامعة نفسها عام 2009. عمل أستاذًا لمادة التربية الإسلامية في المعهد الملكي التقني في بلجيكا من عام1990-1991، ثم مديرًا للمجلس الاستشاري البلدي لشؤون المهاجرين الثقافية والاجتماعية في مدينة أنتورب في بلجيكا، ثم مديرًا لشركة ترجمة كانت مملوكة له من عام 1997 – 2007. تفرغ للتدريس الجامعي في جامعة لوفان في بلجيكا بنصف دوام عام 2003، ثم بدوام كامل ابتداء من عام 2006. يجيد مجموعة من اللغات الميتة (كل اللغات السامية/الجزيرية الشرقية والغربية بالإضافة إلى اللاتينية والإغريقية ولغات أخرى)، ومجموعة من اللغات الحية (الهولندية والإنكليزية والفرنسية واليونانية الحديثة والعبرية الحديثة)، ويلم إلمامًا متوسطًا بالألمانية والأمازيغية الحية (اللهجة الريفية/ تاريفيت المستعملة في شمال المغرب). وهو خبير في علم اللغة المقارن والآداب القديمة والديانات القديمة وفرقها ومللها ومصادرها الأدبية. وهو حاليًّا أستاذ الترجمة الأدبية والترجمة القانونية في جامعة لوفان في بلجيكا، ورئيس المجموعة البحثية (تكنولوجيا الترجمة) في جامعة لوفان في بلجيكا (كل الفروع الوطنية)، ورئيس قسم اللغة العربية والترجمة العربية في جامعة لوفان في بلجيكا (فرع مدينة أنتورب)، وأستاذ زائر لجامعة القاضي عياض في مراكش، المغرب، وعضو في هيئة التدريس لماجستير الترجمة التحريرية فيها، وأستاذ زائر لمدرسة الملك فهد العليا للترجمة في طنجة، التابعة لجامعة عبدالمالك السعدي في تطوان منذ عام 2006، وعضو في هيئة التدريس لماجستير الترجمة الشفوية فيها الذي يُدرس ابتداء من عام 2016. إصدارته مئة وخمسة وخمسون عملاً مطبوعًا بين كتاب ومقالة علمية ومقابلة منشورة، معظمها باللغة الهولندية والإنكليزية والفرنسية. أما الآثار العربية فمقتصرة اليوم على أربعة كتب مخطوطة لم تُنشر بعد، وهي: "دراسات في اللغة والترجمة والمصطلح"، و"دراسات في الترجمة"، و"ترجمات مختارة"، و"مرايا"، وهي قصص قصيرة جدًّا وومضات مرة مستوحاة من الواقع العربي. يحرر، بمعية الأستاذ الدكتور أحمد الليثي رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية، سلسلتَي مطبوعات الجمعية الدولية لمترجمي العربية: السلسلة الأكاديمية والسلسلة الأدبية. السلسلتان باللغة الإنكليزية، وصدر منهما حتى الآن ثمانية كتب في مواضيع تتعلق باللغة العربية والأدب العربي والثقافة العربية وحوار الثقافات وترجمات أهمها ترجمة المعلقات السبع إلى الإنكليزية مع دراسة وافية عنهما. كما يحرر، بمعية الأستاذ الدكتور أحمد الليثي رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية، المجلد الثالث من موسوعة المصطلح التي تصدرها دار النشر العالمية بنجامينز، وهو عضو في هيئتها العلمية. وهذا المجلد خاص بوضع المصطلح والدراسات المصطلحية في العالم العربي. شارك في العديد من المؤتمرات العالمية، وأشرف على بحوث علمية كثيرة، ويدير عدة مشاريع علمية. وهو ناشط في الشبكة العالمية، وله آلاف المشاركات المنشورة على شكل مقالات وحواشٍ ومشاركات وردود مقتضبة في مواقع أهمها: موقع الجمعية الدولية لمترجمي العربية، وموقع جمعية الترجمة العربية وحوار الثقافات، وموقع مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، وموقع شبكة الفصيح لعلوم اللغة العربية، وموقع ملتقى الأدباء والمبدعين العرب، وتتعلق المشاركات باللغة والترجمة والثقافة بشكل عام.

لم يكن في دارنا تلفزيون؛ لأن اقتناءه كان آنذاك مَعَرَّة! وكانت زيارة السينما مما يُعَيَّر به.
تعلم اللغات الميتة ليس مثل تعلم اللغات الحية؛ لأن للغة الميتة بداية ونهاية.
المتمكن من العربية يتعلم أية لغة سامية في أسابيع إن جدّ واجتهد.
أنا مستعد لأن أعلِّم السريانية أو العبرية لأي واحد متمكن من العربية في عشرة أيام إذا كان ذا جَلَد.
يجب على دارس اللغات السامية/الجزيرية من العرب أن ينتبه إلى الفروق بينها وبين العربية فقط؛ لأن سائر الأمور اللغوية متطابقة تقريبًا.
لا يوجد سبيل لفهم التوراة إلا باللجوء إلى علم اللغة المقارن.
بغض النظر عن الغث الذي يُنشر في الشبكة العالمية للمعلومات، فإنها تبقى أفضل وسيلة لنشر المعرفة والثقافة وإيصالها إلى كل مكان بسهولة مطلقة.
التنوير والتثقيف ونشر المعرفة الحقة والعلم النافع، الطريق الوحيدة للخلاص من الجاهلية التي نمر فيها اليوم.
العالم العربي أكثر أمم الأرض تخلفًا في مجال الترجمة. وهذا حديث ثابت بالأرقام.
العرب بحاجة ماسة إلى ترجمة عشرات الآلاف من الكتب والمصادر العلمية والأدبية إلى العربية لإثراء مدارك قرائها الذهنية.
العمل الإداري لا يصلح للأكاديميين لأني كنت قريبًا من الساسة (محافظ المدينة ووزير الثقافة)، وحسابات أهل السياسة ليست هي حسابات الأكاديميين.
يقوم مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية في مجال العربية بما تقوم به الجمعية الدولية لمترجمي العربية في مجال الترجمة.
المجمع نشيط وإنجازاته ملموسة بسبب نشاط إدارته عمومًا ورئيسه الأخ الدكتور عبدالعزيز الحربي ونائبه الأخ الدكتور عبدالرحمن بودرع خصوصًا.
نأمل في الفترة المقبلة أن ينشر المجمع كتبًا قيمة، وأن يعقد مؤتمرًا في أم القرى ويدعونا، نحن معشر الأعضاء، إليه، فلقد اشتقنا إلى مقابلة الأعضاء الكرام، والتعرف إليهم!
الإسلام دين يتعرض للإساءة على أيدي أبنائه تارة ووسائل الإعلام الدولية تارة أخرى. وأفضل طريقة لتصحيح المفاهيم هو التعايش المبني على الاحترام المتبادل.
لا بد للكبار والحكماء والعقلاء من القيام بدورهم. لا عذر لأحد منهم عن عدم المشاركة في معركة التنوير المعرفي.
في وسائل التواصل الحديثة وتقنياتها وبرامجها على الشبكة العالمية مجال واسع لمن يريد المساهمة في عملية التثقيف والتنوير.

كل هذا وغيره كثير... فإلى تفاصيل الحوار:

في البداية نود إلقاء الضوء على الشخصيات والمحطات المؤثرة في تكوينكم العلمي، وكذا آخر مشاريعكم البحثية ومؤلفاتكم العلمية.
-
بالإضافة إلى والدي رحمه الله ووالدتي أطال الله بقاءها، كان لثلاثة أساتذة فضل كبير عليّ وعلى تكويني، هم أستاذ اللغة العربية (المرحوم محمد علواني) وأستاذ التربية الدينية (المرحوم عدنان الزعيم) وأستاذ مادة التاريخ (الملقب بحمورابي رحمه الله حيًّا كان أو ميتًا). أذكرهم وفاء لهم وأدعو لهم بالخير. كان أستاذ اللغة العربية، الذي كنت ألتقيه في المسجد أيضًا، يشرح لنا ما يستغلق على أفهامنا من النحو، ومن الشعر خصوصًا شعر المتصوفة والزهاد، فيعطينا دروسًا إضافية في المسجد، فيزداد فضولنا واهتمامنا. ومما ساعد على كثرة القراءة أن مدينة حماة التي نشأت وترعرعت فيها مدينة محافظة لم يكن أهلها آنذاك يستسيغون آلات التسلية من تلفزيون وسينما وغير ذلك، فلم يكن في دارنا تلفزيون؛ لأن اقتناءه كان آنذاك مَعَرَّة! وكانت زيارة السينما مما يُعَيَّر به، وكذلك اللعب في الشوارع، فكنا نقضي جُلَّ وقتنا في المطالعة والمذاكرة وحضور الدروس وحلقات العلم في المدينة وكان أهمها دروس الشيخ سعيد حوى والشيخ أديب الكيلاني رحمة الله عليهما. وساعدني فضولي في ذلك الوقت على قراءة أمهات الكتب في سن مبكرة نسبيًّا. ثم راق لي في آخر المطاف التصوف، ولازمت الشيخ أديب الكيلاني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته سنوات، وتعلمت منه الكثير. ولكن علاقتي بالتصوف وأهله انقطعت نهائيًّا بعد سنة 1979.

كيف كانت بداية الاهتمام لديك باللغات عمومًا واللغات السامية/الجزيرية خصوصًا؟

اللغات التي درستُ نوعان: لغات ميتة (مثل المصرية القديمة والبابلية وغيرهما) ولغات حية (مثل الإنكليزية والفرنسية وغيرهما).
- بالنسبة إلى اللغات الحية، لقد درست في بلدين مختلفين هما اليونان وبلجيكا، فكان عليَّ أن أتعلم لغتي الدراسة أولًا وهما اليونانية الحديثة والهولندية. وبما أن الفرنسية والألمانية لغتان رسميتان في بلجيكا (إلى جانب الهولندية)، فكان لا بد من درسهما. وأما الإنكليزية فهي لغة لا بد منها للأكاديمي، درستها في المرحلتين الإعدادية والثانوية في سورية أولاً، ثم في اليونان ثانيًا، فأتقنت منها ما يكفيني. وأما العبرية الحديثة فدرستها بضع سنوات في جامعة أنتورب (دروس مسائية)؛ لأني متخصص في عبرية التوراة وهي مختلفة كثيرًا عن عبرية اليوم.
وأما قصتي مع اللغات الميتة، فقد بدأت منذ أيام المرحلة الابتدائية كما ذكرت، حيث أثارت زيارة رحلة مدرسية لمتحف فيه نقوش أثرية لديَّ فضولاً لمعرفتها، وهكذا تيسَّر لي درسها فيما بعد. فدرست أولاً اللغة اليونانية القديمة في جامعة أثينا بعد تعلمي اليونانية الحديثة لأنها لغة الدراسة فيها، فاللاتينية ثانيًا، ثم عرجت أثناء الدراسة على السانسكريتية (لغة الفيدا، وهي كتاب الهندوس المقدس) والأبستاقية، وهي الفارسية القديمة، لغة الأبستاق، كتاب المجوس المقدس الذي يُنسب تأليفه إلى زردشت. وفي بلجيكا درست اللغات السامية/الجزيرية، فتعلمت الأكادية بلهجتيها البابلية والآشورية، والآرامية والفينيقية والأوغاريتية والحبشية والعبرية التي تخصصت فيها فيما بعد. وبعد التخرج درست سائر اللغات السامية/الجزيرية من الكتب، وأهمها اللغة الإبلية لغة مملكة إبلا شرقي سورية، واللغة العربية القديمة، والحميرية. ثم درست أيضًا من الكتب اللهجات الثمودية والصفوية واللحيانية التي تشكل صلة الوصل بين العربية الجنوبية والشمالية.
كما درست أثناء الدراسة الجامعية أيضًا لغات غير سامية/جزيرية هي السومرية ـ وهي أقدم لغات الأرض تدوينًا ـ والحيثية، بالإضافة إلى أهم لغتين حاميتين (أو: جزيرتين غربيتين) وهما الأمازيغية (البربرية القديمة التي كانت تُكتب بكتابة التفيناغ)، والمصرية القديمة (التي كانت تُكتب بالكتابة الهيروغليفية).
بالطبع إن تعلم اللغات الميتة ليس مثل تعلم اللغات الحية؛ لأن للغة الميتة بداية ونهاية. إن بعض اللغات الميتة مثل البابلية والحيثية والمصرية القديمة لغات صعبة نسبية بسبب أنظمة الكتابة المعتمدة فيها (المسمارية والهيروغليفية)، وكذلك بسبب غناها الأدبي النسبي، بعكس لغات مثل الفينيقية التي لم يُحفظ لنا من أوابدها أكثر من عشر ورقات من النصوص أتت على شكل نقوش، فكان تعلمها سهلاً وحفظ مفرداتها أسهل لقلة المادة. فدارس الفينيقية يتعلمها في أسبوع، ودارس البابلية أو المصرية القديمة يحتاج إلى عام كامل من أجل تعلم نظام الكتابة المسمارية أو الهيروغليفية، فتأمل.
من جهة أخرى، اللغات السامية/الجزيرية شبيهة جدًّا بالعربية، وهو ما يجعل تعلمها بالنسبة إلى العربي المتمكن من لغته أمرًا سهلاً للغاية. فتصريف الأفعال في اللغات السامية/الجزيرية مثل تصريف الأفعال في العربية تقريبًا، وكذلك الأسماء وصيغ الجمع... إلخ. والكتابة الأبجدية هي ذاتها في أكثر الساميات. والنحو هو هو. والمتمكن من العربية يتعلم أية لغة سامية في أسابيع إن جدّ واجتهد. وليست قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه ببعيدة عن الأذهان، حيث ورد أنه تعلم السريانية في أيام. وهذا ممكن جدًّا، وأنا مستعد لأن أعلِّم السريانية أو العبرية لأي واحد متمكن من العربية في عشرة أيام إذا كان ذا جلد؛ لأن العربية أساس الدراسات السامية/الجزيرية. لماذا؟ لأن العربية تحتفظ بجميع صفات اللغات السامية/الجزيرية مجتمعة وتزيدها بصيغ المجهول في الأفعال المشتقة، وهذا غير موجود في سواها. إذن: يجب على دارس اللغات السامية/الجزيرية من العرب أن ينتبه إلى الفروق بينها وبين العربية فقط؛ لأن سائر الأمور اللغوية متطابقة تقريبًا.


يتبع..

أنجزتم دكتوراه عن موضوع: "إشكاليات ترجمة غريب التوراة" من جامعة الدولة في غاند، بلجيكا عام 1995م. نود من سيادتكم إلقاء الضوء عن هذه الدراسة القيمة.
-
يُقصد بغريب التوراة، ما يُعرف في الدراسات التوراتية بـ hapax legomena وهو مصطلح يوناني الأصل (خ±د€خ±خ¾ خ»خµخ³خ؟خ¼خµخ½خ؟خ½) يُشار به إلى الألفاظ المفردة التي وردت مرة واحدة أو أكثر في أسفار العهد القديم، والتي لا يُعرف معناها على وجه التحديد. تُسمى هذه الألفاظ في العبرية: ×گ×™×ں ל×" ×گב×گ ו×گ×"[الكلمة التي] ليس لها أب أو أم"، أي اللفظة اليتيمة أو المفردة أو النادرة.
تحتوي التوراة على ألفاظ كثيرة لا يُعرف معناها على وجه الدقة؛ لأنها رُويت رواية غير متواترة وبلغة ميتة. وبما أن نص التوراة وأسفار العهد القديم هي كل ما تناهى إلينا من نصوص مدونة بالعبرية القديمة، وأن أصولها القديمة مفقودة، فإننا لا نستطيع تفسير ما غمض من التوراة من الأدب العبري غير التوراتي لأنه غير موجود. لذلك لا يوجد سبيل لفهم التوراة إلا باللجوء إلى علم اللغة المقارن. وبحثي كان في هذا المجال، وبالتحديد: في تفاسير أحبار اليهود المستعربين ولغوييهم، خصوصًا تفاسير اللغويين شروى يهودا بن قريش وسعيد بن يوسف الفيومي ويحيى بن حيوج الفاسي ومروان بن جناح القرطبي وابن برون وموسى بن عزرا وغيرهم من كُتّاب العهد العباسي والأندلسي، الذين فسروا ما غمُضَ من التوراة من العربية. لقد اكتشف بعض علماء العرب، وأهمهم ابن حزم الأندلسي، وكذلك السريان واليهود المعتمدون على مناهج العرب اللغوية، القرابة اللغوية الواضحة بين العربية من جهة والسريانية والعبرية من جهة أخرى، فوظفوها في دراساتهم اللغوية الوصفية، ووظفها اليهود على الأخص في الدراسات المقارنة بهدف إلقاء الضوء على نصوص التوراة؛ ذلك لأنهم واجهوا عند درس اللغة العبرية صعوبات كبيرة ذلك لأن النص العبري للتوراة كان يعاني في تلك الفترة من معضلتين كبيرتين هما: "فقدان الإسناد في الرواية" كما يقول ابن جناح في مقدمة كتاب اللمع (ومنزلة هذا الكتاب في النحو العبري منزلة كتاب سيبويه في النحو العربي)؛ لأن العبرية التوراتية أصبحت لغة ميتة ابتداء من القرن الخامس قبل الميلاد، ولأن النص العبري للتوراة رُوي منذ ذلك الوقت حتى القرن التاسع بدون إعجام ولا إشكال، الشيء الذي يعني أن أحدًا لا يعرف على وجه الضبط كيف كانت كلماته تُنطق، من جهة، والإهمال من جهة أخرى؛ لأن التوراة أصبحت في القرن الثاني الهجري نسيًا منسيًّا لدى جمهور اليهود بسبب طغيان التلمود البابلي عليها. وللتدليل على هذا الباب، أورد كلامًا لخليل النحاة اليهود وسيبويههم: مروان بن جناح من مقدمة كتاب اللمع، يشرح فيه منهج المقارنة بالعربية لشرح ما غمض من التوراة من خلالها. يقول: "وما لم أجد عليه شاهدًا مما ذكرته ووجدت الشاهد عليه من اللسان العربي لم أتحرّج من الاستشهاد بواضحه ولم أتحرج من الاستدلال بظاهره كما يتحرّج من ضعفَ علمُه وقلَّ تمييزُه من أهل زماننا لا سيما من استشعر منهم التقشف وارتدى بالتدين مع قلة التحصيل لحقائق الأمور. وقد رأيت سعيدًا (سعيد بن يوسف الفيومي السالف الذكر) يترجم اللفظة الغريبة بما يجانسها من اللغة العربية. وقد رأيت الأوائل وهم القدوة في كل شيء يستشهدون على غريب لغتنا بما جانسه من غيرها من اللغات فتراهم يفسرون كتب الله من اللسان اليوناني والفارسي والعربي والإفريقي وغيره من الألسن؟ فلما رأينا ذلك منهم لم نتحرّج [من الاستشهاد] على ما لا شاهد عليه من العبراني [يقصد غريب التوراة] بما وجدناه موافقًا ومجانسًا له من اللسان العربي، إذ هو أكثر اللغات بعد السرياني شبهًا بلساننا. وأما اعتلاله وتصريفه ومجازاته واستعمالاته فهو في جميع ذلك أقرب إلى لساننا من غيره من الألسن، يعلم ذلك من العبرانيين الراسخون في علم لسان العرب، النافذون فيه وما أقلهم"!

يولي الدكتور عبد الرحمن السليمان الجمعية الدولية لمترجمي العربية اهتمامًا ملحوظًا. نود منكم تعريف قرائنا بالجمعية، وأهم أهدافها، وأبرز إنجازاتها، والمشاريع التي تودون تحقيقها في الفترة المقبلة.
-
أظهر تقرير أممي كان نُشر بداية الألفية الثالثة كم هي مُزْرِية حركة الترجمة في العالم العربي. نتيجة لذلك، شعرت مجموعة من المترجمين العرب الغيورين على لغتهم وثقافتهم – العبد الفقير منهم – بحجم المأساة، فحاولوا أن يفعلوا شيئًا تجاه هذه الحالة المخزية. فأسسوا الجمعية الدولية لمترجمي العربية
www.atinternational.org))، وهي جمعية دولية ذات صفة قانونية اعتبارية، بهدف الإسهام في تحقيق نهضة علمية وثقافية في الوطن العربي بواسطة الترجمة والعمل على أن يساهم العالم العربي في مسيرة الحضارة البشرية. وتتمثل رسالة الجمعية في حشد طاقات المشتغلين بالترجمة من العربية وإليها وتسخيرها في سبيل الارتقاء بالوضع المادي والاعتباري للمترجم المشتغل باللغة العربية والتعبير عن آلامه وآماله والدفاع عن مصالحه أينما كان، وذلك في إطار القوانين والأعراف، وكذلك تحسيس أصحاب القرار في العالم العربي بأهمية الترجمة من أجل تحقيق نهضة علمية وثقافية في الوطن العربي.

تتمثل إنجازات الجمعية – باختصار شديد – في (أ) لَمّ شمل الآلاف من المترجمين المشتغلين بالترجمة من العربية وإليها، و(ب) إطلاق موقع رقمي يمكن وصفه بأنه أكبر مخزون علمي مخصوص بالترجمة في الشبكة اليوم يزوره يوميًّا عشرات الآلاف من طلاب الترجمة والمترجمين وسائر المشتغلين باللغة وعلومها النظرية والتطبيقية، و(ج) إطلاق سلسلتين من المنشورات باللغة الإنكليزية صدر منها حتى الآن ثمانية كتب بهدف نشر الثقافة العربية الإسلامية في العالم، و(د) نشر مجلة علمية محكَّمة مخصوصة بالترجمة علمًا وصناعةً، و(ه) تنظيم العديد من الدورات والمحاضرات الرقمية، و(و) مبادرات منها متابعة المعجم الأمريكي (ويبستر) وإلزامه بحذف تعريفات مشينة للعربي من نسخته الرقمية وهو ما تم فعلاً.
يمول أنشطة الجمعية مجلسُ إدارتها المكون من لغويين ومترجمين يحملون في داخلهم همًّا ثقيلاً هم: الأستاذة الدكتورة وفاء كامل فايد (عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة)، والدكتور أحمد الليثي (رئيس الجمعية)، والدكتور عبدالمجيد العبيدي، والأستاذة جميلة حسن، والأستاذ زهير سوكاح، والدكتور عبدالرحمن السليمان (محاسب الجمعية).

المتأمل لسيرتكم الذاتية يجد حرصًا واضحًا منكم على التواصل بالمشاركة الفعالة والنشطة على الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت). برأيكم كيف استطاعت هذه الوسيلة الاتصالية نشر الثقافات والعلوم؟ وما الذي تأملونه لتفادي ما يعتريها من سلبيات، ووضع ضوابط لتجويد ما يُنشر ويُكتب من خلالها؟
-
نشر الكتب في العالم العربي رهن محبسين: محبس التجارة ومحبس الإيديولوجيا. إن كل كتاب يُنشر في العالم العربي - بلا استثناء - هو إما كتاب يموله صاحبه، أو دار نشر تقتنع بجدواه الاقتصادية، أو مؤسسة حكومية مدعومة عمل وفق آليات العمل العربي .. وحتى المبادرات المدعومة بهدف حل هذه الإشكالية، يُعمل فيها بعامل القرابة القبلية أو الطائفية أو الإيديولوجية. من ثمة صعوبة النشر الورقي وأهمية النشر الرقمي ووسائل التواصل الحديثة وأهمها الشبكة العالمية التي تمكن الكاتب العربي من نشر إنتاجه العلمي والأدبي وإيصاله إلى القارئ دون أن يكون ضحية لمافيا النشر أو عبيد الإيديولوجيا. وبغض النظر عن الغث الذي يُنشر في الشبكة العالمية للمعلومات، فإنها تبقى أفضل وسيلة لنشر المعرفة والثقافة وإيصالها إلى كل مكان بسهولة مطلقة. وأنا عندما أرى أن الآلاف يزورون موقع الجمعية يوميًّا ثم أحسب عدد المرات التي يقرؤون فيها أو ينسخون فيها مقالة أو نصًّا، فإني أشعر بأن ثمة من يفيد من جهدنا – وهو جهد المُقِلّ – وأن بمقدور أي إنسان منا أن يوظِّف الشبكة العالمية بطريقة إيجابية وأن يشعل ولو شمعة في ظلام هذه الأمة الحالك. وهذا، أي التنوير والتثقيف ونشر المعرفة الحقة والعلم النافع، الطريق الوحيدة للخلاص من الجاهلية التي نمر فيها اليوم.
وأنا ضد تقييد الشبكة في مجال الفكر والأدب؛ لأن الناس في آخر المطاف قادرون على التمييز بين الغث والسمين، وبين المادة الجيدة والمادة الرديئة. والعربي ذو ذائقة فطرية أصيلة، وأنا أرفض الوصاية على ذائقته هذه، فالبقاء للأصلح على الدوام.

لا شك أن العالم العربي يفتقر إلى جهود حديثة في الترجمة من وإلى العربية. بوصفكم أحد المترجمين العرب النشطين كيف ننهض بالترجمة من جديد؟ وما الذي يفيد العربية أكثر الترجمة إليها من اللغات الأخرى أم الترجمة منها إلى اللغات الأخرى؟
-
العالم العربي أكثر أمم الأرض تخلفًا في مجال الترجمة. وهذا حديث ثابت بالأرقام؛ لذلك أسباب كثيرة أهمها: (أ) عدم وجود قرار سياسي لتعريب العلوم – وهذا عائد إلى عدم اكتمال استقلال الدول العربية عن الاستعمار الغربي – لذلك تُدرس العلوم باللغتين الإنكليزية أو الفرنسية فلا يرى أولياء الأمور حاجة إلى ترجمة العلوم والمعارف إلى العربية. (ب) عدم تخصيص ميزانيات مالية لتمويل عملية ترجمة واسعة بهدف النهضة؛ لأني أعتقد أن أنظمة الدول العربية غير معنية بإحداث نهضة علمية أدبية في العالم العربي. (ج) عدم الاستثمار في تكوين المترجمين العرب وحرمانهم من سوق ترجمة مُجْدِية اقتصاديًّا بسبب عدم تعريب العلوم والمعارف مما يزهد الناس عند العرب في دراسة الترجمة (قارن ذلك بميزانية الترجمة والمنتجات اللغوية في الاتحاد الأوربي التي بلغت سنة 2015 اثنين وعشرين مليار يورو). العرب بحاجة ماسة إلى ترجمة عشرات الآلاف من الكتب والمصادر العلمية والأدبية إلى العربية لإثراء مدارك قرائها الذهنية؛ وبالتالي إثراء اللغة، وكذلك هم بحاجة إلى ترجمة عيون الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية. الاتجاهان مطلوبان بحدة. وهما متروكان الآن لآليات سوق غير مجدية من جهة، وللمستعربين الذين يترجمون من العربية من جهة أخرى. وهذه قضية مثيرة للإحباط الشديد.

لكم كتاب " دراسات في اللغة والترجمة والمصطلح" تحت الطبع. ما الرسالة التي سيحاول الكتاب توصيلها للقارئ؟
-
يحتوي هذا الكتاب على ست دراسات تلتقي كلها في البحث في علم اللغة المقارن وعلم التأثيل مُسْقطَين على الدراسات المصطلحية والترجمية. ومادته ثمرة من ثمار التواصل العلمي مع الزملاء والزميلات في موقع (الجمعية الدولية لمترجمي العربية) وفي بعض المواقع الأخرى التي تشتغل بعلم اللغة وعلم الترجمة وما إليهما من علوم لغوية نظرية وتطبيقية ومنها (مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية). وكانت مادة الكتاب منثورة في الموقع على شكل ملاحظات لغوية، وتأملات تأثيلية، ومقدمات في علم اللغة المقارن، فضلاً عن آراء واجتهادات إضافية في اللغة والمصطلح والنحو التاريخي. فجمعنا هذه الدراسات المتعلقة بعلم اللغة المقارن وعلم التأثيل، مُسْقطَين على الدراسات المصطلحية والترجمية، في كتاب واحد؛ وذلك لوثيق صلتها بالتخطيط اللغوي، ولما تحتويه هذه الدراسات من معلومات عن العربية وعلاقتها بأخواتها من أسرة اللغات الجزيرية ("السامية" سابقًا) من جهة، ولما تثيره من تأمل في مجال الدراسات المتعلقة بالمعجم التاريخي للغة العربية من جهة أخرى. وتبرز هذه الدراسات أهمية توظيف علم التأثيل وعلم اللغة المقارن ودورهما في ضبط المفاهيم الاصطلاحية للمصطلحات العربية، وتأصيل معانيها، وذلك بمقارنة الجذور المؤسسة للمفاهيم الاصطلاحية مع الجذور المجانسة لها في اللغات الجزيرية التي ترتبط العربية بها بقرابة لغوية على مستوى الأصوات والصرف والنحو والمفردات، وهي المستويات الأربعة التي بناءً عليها يُحكم بالقرابة اللغوية بين اللغات من عدمها. كما تبرهن الدراسات التالية على أنه لا يمكن الاستغناء عن توظيف علم التأثيل وعلم اللغة المقارن في الدراسات المعجمية بشكل عام والدراسات المصطلحية بشكل خاص، وبالأخص في عملية استقراء المصطلح الأجنبي المعرَّب استقراءً صحيحًا واستجلاء مفاهيمه الأصلية استجلاءً واضحًا. ونعتقد أن عدم توظيف علم التأثيل وعلم اللغة المقارن في الدراسات المعجمية والمصطلحية قد يؤدي إلى الوقوع في الخطأ عند تعريب المصطلح الأجنبي وفي سوء التقدير عند صياغته في العربية، وإلى فتح الباب على مصراعيه أمام محاولات تزوير الدلالات وإثارة الشبهات اللغوية وعولمة اللسان العربي. وليس صنيع المدعو لؤي الشريف عنا ببعيد.

يتبع..

 


عملتم مديرًا للمجلس الاستشاري البلدي لشؤون المهاجرين الثقافية والاجتماعية في مدينة أنتورب في بلجيكا، ثم مديرًا لشركة ترجمة مملوكة لكم من عام 1997 – 2007م. برأيكم هل تؤدي المناصب الإدارية دورًا إيجابيًّا في حياة العالم والمفكر؟ أم أنها تقف عائقًا أمام حريته وإبداعه؟
بالنسبة إلى عملي مديرًا للمجلس الاستشاري البلدي، فقد كان تجربة غنية، لكن العمل الإداري لا يصلح للأكاديميين لأني كنت قريبًا من الساسة (محافظ المدينة ووزير الثقافة) وحسابات أهل السياسة ليست هي حسابات الأكاديميين. جعلني هذا العمل أطلع على أشياء كثيرة وكذلك على أحوال الجاليات المهاجرة لكن هذا العمل سبّب لي قرحة في المعدة واستقلت منه ناجيًا بنفسي من القرحة ومما هو أشد من القرحة!
-
أما عملي في شركة الترجمة فكان عملاً لحسابي الخاص. وربما عملت عشرين ساعة في اليوم لكن مردود ذلك كان عليّ وليس على غيري. وهذا يشجع. وقد أغناني الله من فضله، وبعت الشركة سنة 2006 بعدما تفرغت نهائيًّا للعمل في الجامعة. وللفائدة أقول إن الجامعة انتدبتني ووضعت تحت يدي ميزانية كبيرة لإنشاء برنامجي البكالوريوس والماجستير في الترجمة بسبب خبراتي العملية فيها، وليس الأكاديمية فحسب، فالأكاديميون كُثُر، لكنهم قليلون الذين يجمعون بين العلم النظري والخبرات التطبيقية وتكنولوجيا الترجمة. وهذا من فضل ربي.

يقوم مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية بدور ملحوظ في خدمة اللغة العربية من خلال الوصول إلى جماهير العربية من خلال الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت). برأيكم إلى أي مدى استطاع المجمع التقدم نحو تحقيق رسالته؟ وما الذي تأملونه له في الفترة المقبلة؟
-
يقوم مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية في مجال العربية بما تقوم به الجمعية الدولية لمترجمي العربية في مجال الترجمة. والمجمع نشيط وإنجازاته ملموسة بسبب نشاط إدارته عمومًا ورئيسه الأخ الدكتور عبدالعزيز الحربي ونائبه الأخ الدكتور عبدالرحمن بودرع خصوصًا، والدعم المالي الموفر له من جهة أخرى. وهو ضرورة قصوى وينبغي دعمه إلى أبعد الحدود والسهر على سير رسالته في المسار الصحيح دومًا إن شاء الله. إذ لا بد من الاعتناء باللسان العربي، فهو وعاء الحضارة العربية الإسلامية. وأهم يميز اللسان العربي غناه ومنطقه وحلاوته، وأصواته وصرفه، ونحوه ومفرداته الغنية، وقدرته على صياغة الكلام بأبهى الحلل، والتعبير عن دقائق الأمور بما يبهر، فضلاً عن بلاغته وغنى ألفاظه بالمعاني والإيحاءات المختزنة، وتأثيره في مئات الألسن في العالم .. ومما ينفرد اللسان العربي به ويتفوق فيه على كل لغات الأرض: أبينة الأفعال المزيدة وما بُني للمجهول منها. صحيح إن الأبنية المزيدة موجودة في اللغات السامية/الجزيرية ولكن ليس بوفرة وجودها ونسقها وتطورها الملفت للنظر في العربية. وأما البناء للمجهول في الأفعال المزيدة فلا وجود له إلا في العربية. فنحن نقول استكتب (للمعلوم) واستُكْتِب (للمجهول) ونعبر بهما عن أمرين دقيقين يحتاج الإنكليزي والفرنسي والألماني والروسي والإسباني وغيرهم إلى جمل كاملة للتعبير عنهما في لغاتهم. إنه لسان "جوامع الكلم" الذي أوتيها أفصح الناس عليه أفضل الصلاة والسلام.
أما ما نأمل في الفترة المقبلة فهو أن ينشر المجمع كتبًا قيمة وأن يعقد مؤتمرًا في أم القرى ويدعونا، نحن معشر الأعضاء، إليه، فلقد اشتقنا إلى مقابلة الأعضاء الكرام، والتعرف إليهم!

لاحظت من مطالعتي لسيرتكم الذاتية أنكم عملتم فترة أستاذًا لمادة التربية الإسلامية في المعهد الملكي التقني في بلجيكا. برأيكم هل الإسلام بشموله وكماله واضح في ذهن الغرب؟ أم أن الصورة لا تزال غائمة وتحتاج إلى جهود مضنية لتصحيح المفاهيم وإزالة الضبابية؟
-
تعترف بلجيكا إداريًّا بالإسلام واحدًا من الديانات الرسمية للمملكة البلجيكية. ويبلغ عدد المسلمين في بلجيكا حوالي سبع مئة وخمسين ألف مسلم، ومادة التربية الإسلامية مقررة في المدارس الحكومية. وقد أقرت فرنسا تدريس اللغة العربية لغة رسمية في المدارس ابتداء من العام المدرسي المقبل. وسوف تلحق بها بلجيكا أيضًا في ذلك فيما يُتوقع وتبرمج العربية لغة رسمية في مدارسها فيختارها التلميذ كما يختار الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية.
الإسلام دين يتعرض للإساءة على أيدي أبنائه تارة ووسائل الإعلام الدولية تارة أخرى. وأفضل طريقة لتصحيح المفاهيم هو التعايش المبني على الاحترام المتبادل. وعلى الرغم من الحملات التشويهية التي تتسبب بها تصرفات داعش من جهة والحملات الإعلامية الظالمة من جهة أخرى، فإن التعايش المبني على الاحترام المتبادل خير وسيلة لتصحيح المفاهيم. وأذكر أن رئيس الكنيسة في مدينة أنفرس دعانا هذا العام في رمضان إلى إفطار في مقر الأسقفية وخدمنا بيده أثناء الضيافة تواضعًا "واحتراما لمؤمنين يعبدون الله صيامًا عشرين ساعة في اليوم" كما صرّح أثناء الإفطار. إن وقع ذلك خير من ألف خطبة ورسالة ومبادرة! وهذه صورة لذلك الإفطار:
 

سورية- اليونان- بلجيكا- المغرب. محطات هامة في مسيرتكم التعليمية والعلمية. ما الذي تمثله كل بلد منها في نفس الدكتور عبد الرحمن السليمان الأدبية؟
-
سورية: الوطن الأول والهم الكبير.
اليونان: محطة جميلة الوقع والذكرى.
بلجيكا: الوطن الثاني الذي منحني ما ضن به عليّ الوطن الأول.
المغرب: بلد أحبُّه ويُحبُّني وترتاح في ربوعه الخيرة الأعصاب.

وأخيرًا هل تود سيادتكم إضافة شيء لم يتطرق الحوار إليه؟
-
أريد أن أقول إني أسعى منذ عشرين سنة ومع زملاء كثيرين في تأسيس مدرسة عربية وتكوين جيل من الباحثين العرب والمسلمين الذين يتخصصون بدراسة اللغات السامية/الجزيرية لدراسة هذه اللغات وآدابها انطلاقًا من الإطار المعرفي للثقافة العربية الإسلامية. إذ لا تزال الجامعات العربية – باستثناء الجامعات المصرية والجامعات المغربية – غير مهتمة بذلك، ولا تزال تتصرف وكأن هذه اللغات لم تكن لغات أسلافنا وأوائلنا، وتنظر إليها وإلى المشتغلين بها بعين الريبة. إن المشتغلين بهذه اللغات من العرب والمسلمين على ضربين: ضرب مكوَّن تكوينًا ممتازًا في اللغة العربية وعلومها، فهضم ما درسه في الخارج من هذه اللغات وآدابها، ويجتهد في ربط تلك اللغات وآدابها بالإطار المعرفي للثقافة العربية الإسلامية. وضرب غير مكوَّن تكوينًا ممتازًا في اللغة العربية وعلومها، فصار يربط العربية بتلك اللغات وأصبح ينظر إلى العربية من خلالها، فجرفه التيار، تيار الجهل أو تيار الشعوبية المحدثة؛ لذلك صارت المؤسسات العربية التي تملك القدرة على المبادرة ترتاب في المشتغلين بهذه اللغات. وأدت هذه الريبة إلى عدم تدريس هذه اللغات في معظم الجامعات العربية بهدف تنشئة جيل أكاديمي متمكن من هذه اللغات ومن تراث أوائله؛ لأن الشعوب السامية/الجزيرية إنما كانت في معظمهما قبائل عربية! وهذه الفرضية بحاجة إلى تهذيب وتوكيد بالبحث العلمي. ونحن ليس لدينا متخصصون كثر في هذا المجال، لا داخل الجامعات ولا خارجها. والعرب أهملوا هذه الدراسات حتى صرت ترى الأستاذ الجامعي المتخصص في العربية لا يعرف شيئًا عن تلك اللغات. وترك العرب مجال البحث فيها لغير العرب الذين بات مثيرو الشبهات لديهم يتحكمون بعقول الشباب العربي عن بعد، وذلك بعد إخفاق مؤسسات التعليم العربية في تحصين الشباب العربي بالعلم النافع لهم ولثقافتهم ولأمن أوطانهم الإستراتيجي على المدى البعيد. وليس هذا الغلام المنبوز بلؤي الشريف إلا مثالاً لذلك! بل لقد بلغ استخفافه بعقول قومه – إما عن جهل مدقع أو لأنه مُوجَّهمبلغًا صار يقول لهم معه: انظروا إلى هذا الحرف الآرامي، ثم يرسم لهم حرفًا عبريًّا! اسمعوا إلى هذه الكلمة السريانية، ثم ينطق لهم كلمة عبرية! والشباب يصدقونه. لماذا؟ لأن هؤلاء الشباب الذين صدقوه، إنما هم مثله: إسفنجة تغب ما يُهراق عليها من ماء دون أن تميز فيما إذا كان ذلك الماء طاهرًا أو نجسًا.
نعم، إنهم الكبار هم المسؤولون عن سلوك أبنائهم، وليس العكس. وإنهم الحكماء هم المسؤولون عن تكوين النشء، وليس الحزاورة الأغرار. وإنهم العقلاء المخلصون هم المسؤولون عن تهذيب التراث من الشوائب التي علقت به، وليس الجهلة والمرتزقة. ولا بد للكبار والحكماء والعقلاء من القيام بدورهم. لا عذر لأحد منهم عن عدم المشاركة في معركة التنوير المعرفي. في أثناء ذلك تبقى المسؤولية واقعة على عاتق المثقف العربي والمسلم الحر من أجل تحرير العقول من الحجب البالية المضروبة عليها، كل بقدر طاقته. ولا عذروالحالة هذه – لأحد منهم عن التخلف عن المشاركة، ففي وسائل التواصل الحديثة وتقنياتها وبرامجها على الشبكة العالمية مجال واسع لمن يريد المساهمة في عملية التثقيف والتنوير.
وأريد أخيرًا أن أشكركم على إتاحتكم هذه الفرصة الطيبة لي للتواصل مع القراء الكرام ومقاسمتهم هذا الهم الثقيل.


مصطفى يوسف: مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق