الأحد، 25 مارس 2018

الفكر المحظور: في التلقي العربي لفلسفة كارل بوبر؛ علي زغير





الفكر المحظور: في التلقّي العربي لفلسفة كارل بوبر

مارس 2018بقلم علي زغير

علي زغير

باحث عراقي متخصص في العلوم السياسية. من بين منشوراته: " العرب والحداثة، قراءة في إيديولوجيا الفصل الجوهراني" و" لماذا الخوف من الدارونية؟"



600
تخضع الأفكار والنظريات المنقولة إلى المجال الثقافي العربي، قبل وبعد ترجمتها، إلى ما يمكن أن ندعوه بممارسة السيطرة والتقييس الإيديولوجي، وتعتمد هذه الممارسة في جوهرها على فكرة أن الفلسفة أو النظرية التي يراد نقلها يجب أن يتم عرضها ومعايرتها وفقا لجدول اشتراطات أو محددات الايديولوجيا أو مركب الإيديولوجيات السائدة في الوسط الثقافي المنقول إليه، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى أدلجة عملية الترجمة ذاتها، إذ تستبعد وتقصي من دائرة اهتمامها كل خطاب يتسم بالنقد أو المعارضة أو التشكيك بالأصول الابستمولوجية والتمظهرات البراكسيسة المتبناة من قبل قادة سلطة الإيديولوجيا المسيطرة وعمالها القائمين على إدارة أجهزة هيمنتها الثقافية والقمعية.
ولعل أبرز مصداق لمثل هذه الحالة، هو ما تعرضت إليه نتاجات الفيلسوف الشهير كارل بوبر Karl Popper؛ فرغم الثورة المعرفية والتجديدات السياسية التي حفلت بها أطروحات هذا الفيلسوف وكتاباتُه، وانطوائها على العديد من النظريات والمفاهيم والوسائل التي كان من الممكن، لو تعرف العرب عليها مبكراً، أن تساعدهم في تحقيق ما كانت تصبو إليه الحكومات والشعوب العربية، من إصلاح مأمول من شأنه إذا ما تحقق واقعيا، أن يغير حالة التبعية التي تعيشها كياناتهم السياسية المتخلفة. إلا أن المجال الثقافي العربي وتحديداً في منتصف القرن العشرين، بمؤسساته الرسمية وتشكيلاته الثقافية قد تعمد تجاهل هذا الفيلسوف وأعماله بشكل لافت للنظر، حيث لم يجرِ الالتفات إلى ترجمة كتبه، بل، وحتى الترجمة الرائدة لكتاب "عقم المذهب التاريخي" والتي أنجزها المترجم المصري عبد الحميد صبره، وظهرت عام 1959 قد بقيت في طي النسيان"[1]. (نشرته دار الساقي عام 1992 تحت عنوان "بؤس الإيديولوجيا" م.ح)
لم تكن مضامين الفلسفة البوبرية متوافقة مع شعارات وسياسات الأنظمة الشمولية الحاكمة وعقائد الأنتلجنسيا العربية التي كانت متسيّدة آنذاك. فبالنظر إلى واقع السلطة والثقافة في تلك المرحلة؛ نلاحظ أن ترجمة كتاب "عقم المذهب التاريخي" إلى العربية قد صادفت "ازدهار المادية التاريخية والجدلية الماركسية، والخطابات القومية، والتوتاليتارية، والاشتراكية والأصولية، دعاة الأحادية في الفكر والتصور والمفتتنين بالزعماء المنتظرين لفكرة المهدي أو القائد والزعيم المخلص"[2]. هذه الإيديولوجيات التي كانت صاحبة الانتشار الأوسع والسيطرة الأكبر في المجتمع العربي، هي ذاتها التي كرس بوبر سائر أعماله السياسية لنقدها، إذ عمل على تبيان تهافت مقولاتها الدوغمائية، وكشف لاعقلانية مرتكزاتها العنصرية. ففي كتاب "عقم المذهب التاريخي"، وهو أول ما نقل من مؤلفاته إلى العربية، ينجح بوبر في تفنيد أحد أهم الركائز العقائدية لهذه الإيديولوجيات والمتمثل بالمذهب التاريخي (Historicism) القائم على دعوى امتلاك التنبؤات المستقبلية، وكشف طبيعة القوانين أو الاتجاهات أو الأنماط أو الإيقاعات التي يسير التطور وفقها، وما يقتضيه هذا الأمر من تطبيق هندسة اجتماعية كلية يوتوبية، مصاغة لتتوافق ونوع القوانين التاريخية المكتشفة.
في مصر كما في العراق وسوريا وغيرها من البلدان العربية، لم يكن مقبولاً في عرف السلطات العربية الحاكمة، صاحبة المشاريع الكليانية والخطط المركزية، أن يتم تبني أو نشر مبادئ مثل هذه الفلسفة الديمقراطية ذات النزعة الإصلاحية التدرجية، كما لم يكن من المسموح به أيضاً ومن طرف القوى المعارضة للسلطة، اللجوء إلى اعتماد هكذا نوع من الفكر المعادي لكل نزعة أحادية، سواء كانت أصولية دينية أم دوغمائية علمانية، وهي النزعات التي كانت رائجة آنذاك بين صفوف معظم نخب وعوام الشعوب العربية، والمجسدة حركيا في هيئة أحزاب وتنظيمات سلفية وماركسية وقومية، والتي نجحت ولطيلة عقود في ان تتصدر المشهد السياسي المحلي، وكخصم لدود للسلطة عبر سلسلة من أحداث الصدامات والانتفاضات والاغتيالات التي كانت تجري على خلفية الصراع حول صيغة تفكير تساؤلي مغلوط مفاده: من يجب أن يحكم؟ وهو السؤال الذي عمل وبكل قوة على تغييب وطمس طريقة الفهم الصحيحة والعقلانية للسياسة، والتي تنبني على أساس رؤية حداثية، تؤكد عبر استبدالها لصيغة تساؤل الحكم الماهوية بأخرى تواصلية/رقابية على أن طريقة الحكم وكيفيته وليس هوية الحاكم هي ما يجب أن نؤسس عليه مجمل فلسفتنا السياسية. إن السلطة الحاكمة والمعارضة في العالم العربي، كلاهما كانا يحتكمان إلى ذات المنطق الإقصائي، وبحسب التوصيفات البوبرية، فإنهما ورغم اختلافهما الظاهر، لم يكونا في الواقع سوى عدوين لدودين لكل فكرة تنادي بضرورة إقامة مجتمع مفتوح، تحكمه المؤسسات بدلا من الأشخاص، ويتمتع فيه الأفراد بحق أن يغيروا زعماءهم وحكوماتهم متى شاؤوا، دون حاجة لإراقة الدماء والاحتكام إلى العنف.
في مثل هذه الحالة السياسية والفكرية والتي استمرت لعقود، كان من المتوقع أن يبقى بوبر وفلسفته من ضمن المنبوذات الإيديولوجية التي يحرم التقرب منها، وهي ما يمكن أن نعدها بمثابة مرحلة أولى من ضمن أربع مراحل مرّ بها التلقي العربي لفكر هذا الفيلسوف. امتدت هذه المرحلة، منذ العام 1959 وحتى العام 1986، إذ وفيما عدا الترجمة اليتيمة لكتاب عقم المذهب التاريخي، لم يتم ترجمة أي كتاب آخر لبوبر خلال هذه الفترة، كما لم تصدر عنه أية دراسة تتصدى لتقديم فلسفته العلمية أو شرح جوانب نظريته السياسية، سبعة وعشرون عاما مرت على الثقافة العربية وبوبر خارج دائرة اهتمام كتابها ومترجميها.
لم تكن أعمال بوبر من النوع المغمور الذي لا يجذب الانتباه، أو التخصصي الذي لا يتعدى نطاق دائرة اشتغاله الضيقة، بل على العكس من ذلك كان لمؤلفاته حضور واسع وأثر قوي في الفكر الغربي، كيف لا، وهو الذي تصدى لمناقشة ونقد أبرز الموضوعات العلمية والسياسية، ودخل في جدل حولها مع أشهر مدارسها الفلسفية والاجتماعية التي كانت حاضرة آنذاك، فالمثقف العربي المهتم بنقل مقولات الماركسية والفرويدية وحلقة فينا ومدرسة فرانكفورت كان لا بد له، وهو يبحث وينقب في نصوص وتاريخ هذه المدارس الفلسفية والاجتماعية من أن يلتقي بإشارات أو إحالات إلى منجز بوبر النقدي بهذا الخصوص.
لم تكن مشكلة المثقفين العرب مع بوبر تتمثل في صعوبة العثور على أفكاره وفهمها. بقدر ما كانت تكمن في طبيعة مضمونها النقدي الموجه إلى خلخلة وزعزعة أسس العقائد التي ينتمون إليها ويسعون إلى التبشير بكشوفاتها ونبوءاتها. ولم يقتصر هذا الأمر على المثقفين من ذوي التوجهات المعارضة جذريا للفلسفة البوبرية، وإنما تجاوزه ليشمل دعاة مدارس فلسفية قريبة لها، كالوضعية المنطقية، وهو ما يسجله ـ وكنقطة تاريخية لافتة للنظرـ الباحث الجزائري الزواوي بغورة، إذ يقول: "على الرغم من انتشار التيار الوضعي في الفكر العربي المعاصر، وخاصة ما قدمه الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود، إلا أن بوبر لم تتم معرفته بما فيه الكفاية وذلك لأنه ناقد للوضعية ولأنه لم يتوقف عند التحليلات المنطقية للعلم، بل تعدى ذلك إلى المسائل التاريخية والاجتماعية والسياسية بشكل خاص ......والمتتبع للتيار الوضعي الذي مثله المفكر الكبير الدكتور زكي نجيب محمود ومجموعة كبيرة من تلامذته، يرى أن هذا المفكر لم يلتفت إلى أهمية كارل بوبر، وأهمية نظرياته السياسية ونقده التاريخي للماركسية، رغم أنه قد حاول تقديم بعض الملاحظات حول الماركسية دونما الاستفادة من انتقادات بوبر في هذا المجال"[3]. وخلاصة القول؛ إن هذه المرحلة قد اتسمت بالتجاهل شبه التام لهذا الفيلسوف وسائر ما انتجه من مؤلفات ابستمولوجية وسياسية، وذلك سواء على مستوى النقل والترجمة لنصوصه الأصلية، أو على مستوى البحوث والدراسات العربية المتعلقة بها.
ظل تجاهل الوسط الثقافي العربي للفكر البوبري على حاله ودون أي تغير يذكر حتى نهاية النصف الثاني من عقد الثمانينيات، حيث بدأت المرحلة الثانية من التلقي العربي لهذا الفكر. ففي عام 1986 صدرت ولأول مرة عن دار النهضة العربية ترجمة جزئية لكتاب "منطق الكشف العلمي"، كما وشهد أيضا العام نفسه، ظهور أول دراسة عن فلسفة العلوم لدى بوبر وتحت عنوان "كارل بوبر نظرية العلم في ضوء المنهج العلمي"، وهي من إنجاز محمد محمد قاسم ونشر دار المعرفة الجامعية في الإسكندرية، وفي عام 1989 صدرت آخر دراسة في هذه المرحلة، وهي للدكتورة يمنى طريف الخولي وكانت بعنوان "فلسفة كارل بوبر، منطق العلم منهج العلم"[4]، وما يلاحظ على مؤلفات هذه المرحلة، هو أنها قد اقتصرت على نقل ودراسة الجانب الإبستمولوجي لفلسفة بوبر، دون أن تمتد إلى عرض وبحث جوانبها السياسية، وهو ما يؤشر على استمرار حضور الأثر الإيديولوجي في التعاطي مع هذه الفلسفة، غير أن هذا التعاطي كان قد انتقل ـ وبفعل ضعف زخم الحركات الماركسية والقومية وظهور فئة من الباحثين الجدد ـ من دور التجاهل التام إلى دور الاعتراف الانتقائي.
ليس من المصادفة أن تأتي بداية المرحلة الثالثة والجادة للعرب في التعرف على الفلسفة البوبرية مقترنة زمنياً بحدث انهيار الاتحاد السوفيتي وتفتت المعسكر الاشتراكي وما رافقه من انحسار كبير لهالة القداسة الماركسية وضعف جاذبية شعارات أحزابها الشيوعية. لقد مثل هذا التعرف في أحد أبعاده، نوعاً من تلبية حاجة الفهم الماسة لدى الكثير من المثقفين العرب، والمتعلقة برغبة العثور على تحليل مقنع يفسر ما حدث من تفكك لثاني أعظم إمبراطورية دولية، وهو ما كان متوفرا وبمحتوى موضوعي معمق في النصوص البوبرية السياسية المكتوبة بدءا من العام 1945، والتي بين فيها وبسيل متواصل من الحجج المنطقية، مواطن الخلل القاتل الذي انبنت عليه النظرية الماركسية، وبالأخص ما يتعلق منها بجانبي: المنهج التاريخي ذو النبوءات الحتمية، والنزعة اليوتوبية المرتبطة بالهندسة الاجتماعية الكلية ذات المنزع الأحادي.
كتاب أحمد إبراهيم الصادق والموسوم "بموقف كارل بوبر من العلوم الاجتماعية" والصادر عام 1991عن مركز بلال في مصر، كان أول ما ظهر عن بوبر في هذه المرحلة من الدراسات البحثية، ثم أعقبته دراستين لكل من أسامة عرابي عام1994، ومحمد محمد عويضة عام1995، وبينما حملت الأولى عنوان "كارل بوبر، مدخل إلى العقلانية النقدية" فإن الثانية جاءت بمسمى "كارل بوبر، فيلسوف العقلانية النقدية". أما فيما يخص مؤلفات الفيلسوف المترجمة، فقد كانت ثلاثة مؤلفات، غلب على موضوعاتها الطابع السوسيوسياسي، وجاءت وفقا للتسلسل الزمني الآتي: 1996 "بحثاً عن عالم أفضل، ترجمة، د. أحمد مستجير"، 1998 "الحياة بأسرها حلول لمشاكل، ترجمة، د. بهاء درويش"، 1998 "المجتمع المفتوح وأعداؤه، الجزء الأول، ترجمة، السيد نيفادي".
[ملاحظة: يغفل الكاتب هنا الإشارة إلى نشر دار الساقي كتاب "بؤس الإيديولوجيا عام 1992، الذي يبدو أن الكاتب لم يطلع عليه. ما يوحي إليه هو إشارته إلى الكتاب تحت تسمية "عقم المذهب التاريخي" م.ح]
أكدت بداية المرحلة الرابعة أن الوعي العربي الكامل لفلسفة بوبر وأبعادها السياسة ذات المنحى النقدي التحرري، لا يمكن أن يتم دون تحقق شرط كسر الهيمنة الرقابية المفروضة من قبل سلطات الحكم الدكتاتورية، وهو ما أخذ بالتحقق شيئا فشيئا منذ مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث بات ظهور النتائج الواضحة لآثار العولمة أمرا ملموسا لكل المتابعين. لقد نجحت الصيرورة العولمية في اختراق كافة مستويات الدولة في العالم العربي، وإحداث تعديلات كبيرة في كافة مجالات الحياة العامة والخاصة، ولعل ما حصل من تطور كبير في وسائل الإعلام والاتصال الحديثة وما قاد إليه من تغيير في محتوى ومسار الرأي العام، يعتبر خير مثال على ذلك، حيث وفرت وسائط وتقنيات البث الجديدة مع انبثاق عالم السوشيال ميديا للمواطن العربي، فرصة حقيقية لكسر حواجز المنع التي كانت مفروضة من قبل السلطات على دخول وتداول الأفكار والآراء المغايرة لمضمون ما هو مطروح في متون سردياتها العقائدية.
على بعد عام واحد من سقوط أول قطع دومينو الدكتاتورية العربية، والمتمثل بنظام حكم صدام حسين في العراق، وتحديدا في عام 2002، حيث ذكرى المئوية الأولى لولادة كارل بوبر. ظهرت في مجال التداول الثقافي العربي ثلاثة كتب عن هذا الفيلسوف، أحدها كان بعنوان "خلاصة القرن" وهو عبارة عن مجموعة من الحوارات والمقالات التي تعبر عن خلاصة فكر وتجربة هذا الفيلسوف خلال القرن العشرين، وفي معرض الإجابة عن سؤال: ما الذي دفع كل من الزواوي بغورة ولخضر مذبوح إلى اختيار ترجمة نص يتحدث عن قرن مضى، يصرح المترجمان بأن "الوقوف على الآفاق ومحاولة استشراف المستقبل من خلال التجربة الماضية والقائمة على الحاضر، هو الأمر الذي دفعنا إلى ترجمة نصوص هذا الفيلسوف الذي كان سباقا إلى العديد من الأفكار التي أكدها الواقع، وهو ما يزال على قيد الحياة ......نقول لأنه كارل بوبر ولأن ما كتبه عن القرن من النواحي العلمية والفلسفية والتاريخية جدير بالقراءة والنظر"[5].
وضمن هذا التوجه الاحتفائي، اندرج أيضا الكتاب الثاني لمؤلفه الدكتور عادل مصطفى وقد حمل عنوان "مئة عام من التنوير ونصرة العقل" والصادر عن دار النهضة العربية في مصر، والكتاب يدخل في عداد الدراسات العامة التي استهدفت تسليط الضوء على مجمل المنجز البوبري بشقيه الابستمولوجي والفلسفي. اما الكتاب الثالث وهو "الفلسفة السياسية لكارل بوبر" للباحث أحمد إبراهيم الصادق والصادر في نفس العام عن دار الثقافة في القاهرة، فقد امتاز وعلى المستوى العربي، بكونه أول دراسة تخصصية تنشر عن فلسفة بوبر السياسية.
لم تشهد الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2011 وتيرة كبيرة لنقل الفكر البوبري والكتابة عنه، فخلالها لم يطبع سوى ثلاثة كتب، أحدها "أسطورة الإطار" وهو من ترجمة الدكتورة يمنى طريف الخولي، وقد صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام2003، والثاني عبارة عن دراسة أكاديمية نشرت عام 2009 بعنوان "فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر" وهي للباحث الجزائري لخضر مذبوح، إذ عكف فيها على مقاربة فلسفة بوبر من زاوية ارتباطها بفكرة (التفتح) وتعارضها مع الفلسفات ذات النظرة المغلقة في العلم والسياسة. وقد امتازت هذه الدراسة عن سابقاتها بسعة التغطية وتوازن العرض، إذ بلغ عدد صفحاتها 591 صفحة، انقسمت موضوعاتها إلى ثمانية فصول، توزعت وبشكل متساو تقريبا على بحث كل من الموضوعات الابستمولوجية والسياسية التي تناولها كارل بوبر. أما الكتاب الثالث، فهو "إشكالية معيار قابلية التكذيب عند كارل بوبر في النظرية والتطبيق" للباحث ماهر اختيار، وقد صدر عام 2010 عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
مثلت الفترة ما بين عامي 2011 ـ2016، وضمن إطار المرحلة الرابعة من عملية التلقي، نقطة انطلاق جديدة في الإقبال على استدعاء موضوعات فلسفة العقلانية النقدية، ويبدو أن زيادة الطلب الثقافي هذه المرة، قد ارتبطت أيضا، وإلى حد كبير، بحدوث منعطف سياسي حاد داخل حدود الدولة والمجتمع العربيين، حيث ارتفاع وتيرة التحولات الدراماتيكية التي بدأت تعصف بالأنظمة والمجتمعات بدءا من العام 2010، الذي شهد انطلاق الثورة التونسية والنجاح في الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، وما أعقبها من ظاهرة انتقال المد الثوري إلى كل من مصر وليبيا والبحرين وسوريا. بلغ عدد الكتب الصادرة عن بوبر خلال هذه الفترة، والتي استغرقت ستة أعوام، ثمانية كتب: أربعة منها تناولت أطروحات بوبر الإبستمولوجية، وكتابان تخصصا في الجوانب السياسية من فلسفته[6]، أما الكتابان الآخران فقد كانا ترجمتين لمؤلفي بوبر "النفس ودماغها / 2012" و"المجتمع المفتوح وأعداؤه / 2015" بجزأيه الأول والثاني، ولعل صدور الترجمة الكاملة للكتاب الأخير في مثل ظروف ما عرف بالربيع العربي، وبعد سبعين عاماً على صدور طبعته الأولى باللغة الإنكليزية، تعد من أفضل الشواهد المبينة لمدى شدة تأثير الغياب أو التحول الذي يطرأ على سلطة الإيديولوجيا القديمة بتفكك مؤسساتها الرسمية، وما يتمخض عنه من حرية فكرية تتيح للمثقف من أن ينقل لأبناء ثقافته ما هم في أمس الحاجة إلى التعرف عليه والاستفادة منه في بناء تجربتهم الجديدة، وهو ما نجح حسام نايل، مترجم الجزء الثاني، في التعبير عنه، قائلا:
"هذا الكتاب دعوة ضمنية إلى إعادة بناء استراتيجيات التفكير سواء في الشأن السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي على أسس عقلانية نقدية، وأخلاقية جديدة قوية ومريدة عازمة ولا تكل أو تمل، فإعادة البناء هذه يتوقف عليها مصير الجميع: حكاما ومحكومين"[7].
من الملاحظ، وعلى ضوء ما تقدم، أن حضور ما ترجم لبوبر وما كتب عنه من مؤلفات خلال المراحل الأربع من عملية التلقي، قد ارتبط، سواء من جهة النوع أو الكم، بطبيعة المواقف الثقافية المعتمدة سياسيا واجتماعيا في الدول العربية. فالتجاهل شبه التام في المرحلة الأولى، والتعامل الانتقائي في المرحلة الثانية، لم يكونا في جوهرهما سوى أحد انعكاسات الموقف الثقافي الكابت او الاحتكاري monopolistic cultural situation))  وهو الموقف الذي تجسد تاريخاً وعلى المستوى الرسمي، بسيادة حكم الأنظمة الدكتاتورية العربية، وما فرضته من أحادية أيديولوجية على الثقافة والمجتمع، حيث قدمت عقائدها الفكرية بوصفها النظريات العلمية الوحيدة الملائمة لفهم الواقع الاجتماعي وحل مشكلاته. الأمر الذي لم يكن ليسمح للمؤسسات الثقافية العاملة بأن تتبنى اصدار او ترويج كل ما يخالفها من آراء، وهو ما تحقق وبدرجة كبير في التعامل مع بعض المذاهب والنظريات الفلسفية والسياسية، ومنها الفكر البوبري المعارض لهكذا توجه تسلطي، وما يتمخض عنه عمليا من تكريس لنموذج المجتمع المغلق.
اما المرحلة الثالثة، والتي تزامنت دوليا مع انهيار الاتحاد السوفيتي، فإنها كانت بمثابة عتبة انتقالية مهمة، إذ شهدت بداية الانفتاح العربي الجاد على فلسفة بوبر، والذي لم يكن له أن يستمر أو يكتمل، بغير حدوث تحول جذري يطال كافة اشكال الأيديولوجيات السياسية الحاكمة، وبكافة صيغ إدارتها التسلطية، وأنماط شبكاتها الثقافية المهيمنة، وهو ما تم وبدرجة كبيرة من النجاح في المرحلة الرابعة، إذ ومع انطلاق ثورات الربيع العربي عام2011، ساعدت أجواء الاحتفاء بالمقاومة والحرية والديمقراطية، وما رافقها من إقبال على تقوية وتمديد أطر الفضاء العام، بمؤسساته الوسيطة وشخوصه المستقلة على ولادة طلب ثقافي جديد يتلاءم ونوع الحاجات السوسيوسياسية التي استجدت، ولم يكن النتاج البوبري سوى أحد أهم العروض الثقافية المؤهلة لتلبية هذا الطلب، وذلك بما ينطوي عليه من مضامين وإشكالات ذات علاقة وثيقة بتطلعات واهتمامات القوى الاجتماعية الثائرة وخاصة ما يتعلق منها بقضايا الدكتاتورية والديمقراطية والعقلانية والإصلاح والنقد والنقاش الحر.
هذا وبالرغم من أن النصوص البوبرية ونتيجة للمتغيرات السياسية والاجتماعية التي سبق ذكرها، قد استطاعت تجاوز عتبة الحظر الترجمي، إلا أنها وإلى حد هذه اللحظة مازالت تعاني من دائرة الحظر التداولي المفروض عليها وخاصة من جانب أساتذة الجامعات والمثقفين العرب من ذوي الميول الماركسية والدينية، وهم في الغالب من يشكل النسبة الأكبر في كوادر المؤسسات الأكاديمية والثقافية والإعلامية، وتعامل المثقفين العرب في هذا الجانب مع الفكر البوبري، يشبه وإلى حد بعيد طريقة تعامل الأوساط الثقافية الأمريكية مع الأدب العربي، والتي تحدث عنها إدوارد سعيد فيما أسماه بالأدب المحظور (Literature Embargoed)  إذ ينظر معظم الناشرين والأكاديميين الأمريكيين إلى الأدب العربي المترجم بعيون أيديولوجية، فيعملون على ترويج الأعمال الأدبية التي تخدم أغراضهم وتتوافق مع ما يحملون من تمثلات نمطية عن العرب، بينما يتجاهلون الأخرى التي لا تتسق وقناعاتهم، حتى وإن كانت أشد رصانة وأكثر أبداعا.

[1] كارل بوبر، خلاصة القرن، ترجمة: الزواوي بغورة، ولخضر مذبوح، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002، ص 9
[2] لخضر مذبوح، فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2009، ص ص 523ـ524
[3] خلاصة القرن، مصدر سبق ذكره، ص 8
[4] من الجدير بالذكر أن كتاب الدكتورة يمنى طريف الخولي هو في الأصل أطروحة قدمت لنيل شهادة الماجستير من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام1981، وبذلك تعد دراستها هذه من أول ما قدم عن بوبر في مجال الدراسات الأكاديمية في العالم العربي، ونحن إن قدمنا عليها من حيث الترتيب دراسة محمد محمد قاسم والتي صدرت عام1986، فذلك يرجع لأننا اعتمدنا عملية النشر والتداول في المجال الثقافي العام كمعيار لصياغة التسلسل الزمني لما ترجم او كتب عن بوبر، ومن المعلوم أن دراسة السيدة يمنى طريف الخولي لم تظهر على شكل كتاب إلا في العام 1989
[5] خلاصة القرن، مصدر سبق ذكره، ص 8
[6] الكتب الأربعة التي تناولت الجوانب الإبستمولوجية في فلسفة بوبر هي:
ـ نظرية المعرفة العلمية بين المنهج والتطبيق، بوبرـ كون ـ فيرابند، د. علي جمول، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2011
ـ دراسة في مبدأ اللاحتمية عند كارل بوبر، محمد هاني خليل، أزمنة للنشر، عمان، ط1، 2013
ـ مشكلة الاستقراء في ابستمولوجيا كارل بوبر، نعيمة ولد يوسف، منشورات ابن النديم، الجزائر، ط1، 2015
ـ كارل بوبر والمنعطف الابستمولوجي، د. باسل فرحان صالح، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2016
أما الكتابان اللذان تناولا الموضوعات السياسية في فلسفة بوبر، فهما:
ـ فلسفة كارل بوبر السياسية من الابستمولوجيا إلى الأيديولوجيا، د. أحمد فاروق، دار رؤية، ط1، 2014
ـ نظرية الديمقراطية عند كارل بوبر، د. وجدي خيري، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2016
[7] كارل بوبر، المجتمع المفتوح وأعداؤه، ج2، ترجمة: حسام نايل، التنوير، بيروت، ط1، 2015، ص 12


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق