الثلاثاء، 9 يناير 2018

هيغل، الفيلسوف ـ المدرّس في الجمناز؛ محمد زرنين.


هيغل، الفيلسوف-المدرس بالجمناز
محمد زرنين

تقديم:
بانتباهنا إلى نصوص هيغل البيداغوجية المكونة من خطبه بالجمناز، -وهي بالمناسبة بمثابة تقرير أدبي ومالي في حياة المؤسسة، يقدم سنويا- ومن تقارير الخبرة والاستشارة التي رفعها إلى السلطات العليا الوصية على التعليم، في شأن تدريس الفلسفة، ما بين 1808 و1816، عندما كان مديرا وناظر دروس وأستاذا بجمناز نورمبورغ، نكون قد عبرنا عن ضرورة التفكير في مشاكل تدريس الفلسفة وقضاياه، انطلاقا من مساهمة الفلاسفة، خصوصا أولئك الذين درسوها وكتبوا عن تدريسها وتأملوه. فمع هؤلاء يتم التفكير في تدريس الفلسفة من داخلها، ووفق مقتضياتها الخاصة، بعيدا عن الخطابات المتهافتة والمتعالمة لسحرة البيداغوجيا والديداكتيك، والذين لا يترددون في تقديم الخطاطات والوصفات، ويغرقون كل تابع أو مريد في بحر الأجرأة والتفاصيل. فيغيبون سؤال الأسس ويحجبون الأفق..
إن السفر إلى هيغل عبر القراءة وإعادتها، من خلال الترجمة وفيها، في سياق مساءلة تدريس الفلسفة وطرح قضاياه، هو إمكانية واحدة فقط ضمن إمكانيات عدة. إذ يمكننا، دائما، التفكير في شروط إمكانية واستحالة تدريس الفلسفة انطلاقا من أفلاطون أو أرسطو أو ابن رشد أو ابن طفيل أو كانط أو نيتشه أو هيدجر أو هوسرل إلخ.. إننا لا نزال في حاجة ماسة إلى الانفتاح على هذه الآفاق الرحبة والسير في اتجاهها، استيعابا وتحويلا وتملكا. فنحن مع هؤلاء العظام في صحبة دائمة ومفتوحة، لم نترجم بعد مجموع أعمالهم إلى اللغة العربية، ولم نفهمهم بعد. وبالتالي، لم يحن الوقت بعد لطرح سؤال التخلص منهم أو تجاوزهم. وربما كان هذا السؤال مغلوطا ولا معنى له. فنحن لا نستطيع التخلص من هؤلاء الذين رسموا بجانب كبار الفنانين والمبدعين والعلماء خرائط ممكنات الوجود البشري. إذ بقدر ما نتقدم إلى الأمام بقدر ما يكون الرجوع إليهم أساسيا وشرطا من شروط هذا التقدم. فالمهمة هي قراءتهم ومحاولة فهمهم والتمكن من منطق تفكيرهم وتأويل نتائج مجهوداتهم لإغناء طريقة تفكيرنا وفتح باب الأمل.
ونحن عندما نلح على هذه الضرورة، فإننا لا نريد قول ولا تأكيد أن حلول مشاكلنا توجد عندهم، وينبغي البحث عنها عندهم. فالتفكير لا يفوض، ولا يمكنه أن يكون موضوع وصاية. لا يمكن إذن تأويل التوقف عندهم باعتباره توقفا عند نموذج أو استيراد له. لا يمكن لهؤلاء مهما كانت عظمتهم أن يفكروا مكاننا. ولكن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن تفكيرنا في قضايانا يمكنه أن يتخلص منهم. إذ يمكننا التفكير بصحبتهم ومعهم، وربما ضدهم. ولكن لا يمكننا أن نتصرف كما لو لم يكونوا. إنه قدر الانتماء إلى الأسرة البشرية وثمن الانخراط في الحداثة. في هذا السياق، إذن، يأتي اشتغالنا على بعض نصوص هيغل، قراءة وترجمة، تلخيصا وتعليقا، انطلاقا من العمل الذي أنجزه الفيلسوف الفرنسي برنار بورجوا، ولكن أيضا بالاعتماد على نتائج الحلقة الدراسية التي نظمها الأستاذ إسماعيل مصدق حول "فينومينولوجيا الروح" لهيغل طوال الموسم الجامعي 1995-1996 بمركز تكوين مفتشي التعليم الثانوي.
ونتوقف، في هذه المقالة، بشكل خاص عند التقارير الثلاثة التي كتبها هيغل حول تدريس الفلسفة ورفعها إلى السلطات الوصية وهي مؤرخة على التوالي كالتالي: 23/10/1812، 02/08/1816، 27/02/1823. وتتزامن مع الفترة التي قضاها هيغل في نورمبرغ كمدير للجمناز (ما يقابل الثانوي) وناظر للدروس وكمدرس ما بين 1808 و1816. والاستثناء الوحيد هو تقرير 1823 الذي كتبه عندما أصبح أستاذا بجامعة برلين.
تعكس إذن التقارير التي كتبها هيغل حول تدريس الفلسفة بالجمناز تصورا واضحا لمبادئ هذا التدريس من حيث المضمون والمنهج وللشروط والغايات. وسنركز في هذا المقال على تقديم هذه التقارير في مضمونها بالدرجة الأولى، ومن خلال ذلك، التوقف عند بعض القضايا المهمة من قبيل القضايا التالية: مضمون العلوم الفلسفية التمهيدية، ومنهج تدريسها، وعلاقة هيغل الفيلسوف-المدرس بالمذكرات الرسمية والكتب المدرسية. على أننا سنختم هذا المقال بتقديم صورة لهيغل المدرس بالجمناز حسب شهادات بعض تلاميذه.
1 – مضمون التدريس: (العلوم الفلسفية التمهيدية)
إن أول ما يسترعي انتباهنا، في التقارير التي كتبها هيغل حول تدريس الفلسفة هو المعنى التمهيدي الذي يعطيه للفلسفة بالجمناز وحصره لدورها في هذا الإطار. فهو يرى ضرورة أن لا ننتظر مؤسسة من مؤسسة الجمناز أكثر مما هي مؤهلة له مجرد التهيء للدراسة الجامعية. وبالتالي، لا يمكن لتدريس الفلسفة أن يأخذ طابعه العلمي الكامل إلا داخل الإطار الجامعي لا خارجه. ولم يتردد هيغل في إعلانه عن قيمة وفائدة دراسة مؤلفات القدامى بالنسبة للتهيئ للدراسة الفلسفية، لدرجة أنه اعتقد في وقت ما في إمكانية التخلي عن العلوم الفلسفية التمهيدية وعن مدرسي الفلسفة بالجمناز! إذ يمكن لمدرسي الآداب واللغات أن يدرسوا المؤلفات القديمة. غير أن ميل الفيلولوجيا إلى التعمق والتخصص تهدد الطابع العام للتكوين داخل الجمناز، وبالتالي سيكون إلغاء تدريس الفلسفة خسارة فادحة، فالحفاظ على الفلسفة بمعناها التمهيدي داخل الجمناز هو في الحقيقة حفاظ على إمكانية التكوين الثقافي العام والأساسي بالنسبة لكل تلميذ، وهي الإمكانية التي لا تستطيع الفيلولوجيا كعلم تمهيدي أول أن تضمنها بفعل ميلها أو انحرافها إلى التخصص.
أول ملاحظة تسجل على المواد الدراسية المبرمجة في الجمناز هو طابعها التسلسلي والتراتبي حسب السنوات والفصول الدراسية، وتفوق هذا التوزيع بشكل عام. ولكن هذا النجاح العام لا يمنع هيغل من تقديم العديد من الملاحظات النقدية والاقتراحات العملية التي أكدت نجاحها وملاءمتها لمتطلبات التدريس.
يتم البدء في الفصل الدراسي الأول بنظرية الدين والحق والواجبات. وفي الفصل الدراسي الثاني تتم دراسة الكوسمولوجيا الطبيعية والمؤلفات النقدية الكانطية والسيكولوجيا. أما في الفصل الدراسي الأعلى فتدرس الموسوعة الفلسفية بصيغة تمهيدية.
يهمنا، هنا، التوقف عند علاقة هيغل بهذا البرنامج. فهو لا يقبله كما هو بل ينظر إليه انطلاقا من مبدأ منهجي يراعي طبيعة المضمون وضرورة الانطلاق من الأكثر بساطة وتجريدا إلى الأكثر غنى وامتلاء. ذلك أن معايير التمهيد هنا هي البساطة واعتماد وتحديدات تكون في مستوى سن التلاميذ. فالمضمون يكون تمهيديا بالقدر الذي يجد مستندا له في الإحساس الطبيعي للتلاميذ. وهذا ما يجعل هيغل يؤجل تدريس المنطق، باعتباره أكثر بعدا عن الواقع الفعلي المباشر للداخلية.
يعطي هيجل، إذن، في الفصل الدراسي الأول، الأسبقية للمضمون الذي يأخذ تحديدات عملية يتم اختبارها يوميا. وفي هذا الإطار تأخذ نظرية الواجبات والحق والدين مكانة خاصة، لأنها تشكل المنطلق الأول. "إن ما يطلب عادة من التدريس التمهيدي للفلسفة، هو بالتأكيد أن نبدأ بما هو موجود وأن نقود، انطلاقا منه الوعي نحو ما هو أكثر سموا أي نحو الفكر. (هيغل، تقرير 1812، فق:8). وقد تعرف هيجل على الفرق بين معالجة المضمون حسب الترتيب الوارد في المذكرة ومعالجة نفس المضمون حسب ما اقتضاه تصوره لطبيعة هذا المضمون ولعلاقته بالتلاميذ، فوجد أن التلاميذ يكونون أكثر اهتماما بالمضامين المباشرة.
والواقع أن هيجل لا يقف في نظرته للمضمون التمهيدي عند حدود مبدأ الانتقال من البسيط والمجرد إلى المشخص والمعقد. بل يقيم تركيبا لهذا المضمون ولدرجاته. فيحددها في المنطقي أولا، والسيكولوجي ثانيا، والميتافيزيقي ثالثا. ويجد أن المنطقي هو الأسهل لأن مضمونه هو التحديدات البسيطة والمجردة. في حين يكون السيكولوجي صعبا لأنه مشخص ولا يمكن تبسيطه، لأن ذلك سيعني، في الأخير، إفقاره.
وينقسم مضمون السيكولوجيا عنده إلى قسمين: قسم أول يصف ظهور الروح وهو الفينومينولوجيا في حركاتها الثلاث الأولى: الوعي، الوعي بالذات، العقل. وقسم ثان يعالج فيه الإحساس والتمثل والخيال والذاكرة والتذكر إلخ… في القسم الأول؛ أي في الفينومينولوجيا، يعالج الروح باعتباره وعيا يمارس تحديداته كما لو كانت موضوعات، أي باعتباره وعيا بموضوع. في القسم الثاني يعالج نشاط الروح على ذاته. وبهذا المعنى يكون القسم الثاني من السيكولوجيا بمعناها الهيجلي تهييئا لدراسة المنطق. غير أن تميز نظرة هيغل يظهر واضحا على مستوى تصوره للميتافيزيقا ولعلاقتها بالمنطق. لقد عرف الحقل الفلسفي تطورات مذهلة غيرت من طبيعة المعرفة الفلسفية، ومن أهم هذه التحولات التجاوز الهيغلي للميتافيزيقا بمعناها التقليدي وتوحيده بين المنطق والميتافيزيقا بحيث سيصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل الفصل بينهما، عنده. وفي هذا الإطار يحتل كانط مكانة خاصة داخل هذا البناء. ويعترف هيجل بقيمة هذه الحلقة بشكل واضح.
غير أن الفقرات الثلاث التي يتعرض فيها هيغل لهذه المسألة، تأخذ قيمتها بشكل خاص من كونها تظهر لنا كيف يعطي هيغل لإسهامه الفلسفي ولمنجزاته مضمونا تمهيديا، وكيف يضع لها الحدود التي ينبغي أن تقف عندها. وكيف يقف عند حدود كانط، بشكل مؤقت.
نفس الملاحظة تصدق على تدريس موسوعة العلوم الفلسفية بالفصل الدراسي الثالث، أي أهمية الكيفية التي يعطي بها هيغل للموسوعة مضمونا تمهيديا. ويجعل تدريسها لا يتجاوز الحدود التي يرسمها له.
تمتاز الموسوعة الفلسفية عن الموسوعة الأدبية بطابعها العلمي والنسقي وبتضمنها للمبادئ العامة والمفاهيم الرئيسية في الفلسفة ولمبادئ كل العلوم التخصصية. ولهذا فتدريسها مفيد تكوينيا مقارنة بالموسوعة بالمعنى الأدبي. لأن الموسوعة الفلسفية تعطي المعرفة طابعها النسقي والترابطي. لكن تدريسها داخل الجمناز يواجه بعض الصعوبات كتلك المتعلقة بتدريس فلسفة الطبيعة، وصعوبة ذلك بالنسبة للشباب المنشغل أكثر بالقضايا الإنسانية والروحية. ذلك أن دراسة فلسفة الطبيعة تتطلب "طاقة لا يتوفر عليها إلا التفكير الذي قويت شوكته"، كما تتطلب اطلاعا مفصلا على الفيزياء التجريبية. لهذا يتوقف هيغل عند هذا الجانب، على أساس أن باقي جوانب الموسوعة، سبق أن عولجت بكيفية محددة بحيث يكفي استرجاع ما تمت دراسته على ضوء العلاقة الجديدة.
لكن التجربة التدريسية لهيجل جعلته يحس بنقص على مستوى تدريس جزء مهم من فلسفة الروح وهو ذلك الجزء الخاص بالجميل. وسيكون من المهم، بالنسبة لهيغل، أن يتعرف التلاميذ على العروض والملحمة والتراجيديا والكوميديا. لأن من شأن هذا التعرف أن يدخلهم إلى مجال ماهية الفن وغايته وأن يجعلهم في علاقة قراءة أصيلة مع كبار الشعراء والمبدعين من مختلف العصور. فالتعلم في هذه الحالة يكون مفيدا وممتعا. وينبغي لنا أن نرى في حكم هيغل على غياب هذا التدريس بكونه نقصا حقيقيا، إصرارا من طرف هيغل على فتح باب التذوق الجمالي باعتباره أحد الأبواب التي تؤدي إلى الطريق الذي يوصل إلى القدامى، وبالتالي وسيلة من الوسائل الحقيقية للتثقف والتكوين.
وإذا كان هيغل يرى في غياب دراسة الجمال نقصا حقيقيا، فإنه من جهة أخرى يقصي تاريخ الفلسفة من المواد الدراسية للجمناز. بالرغم من أنه يظهر ملائما لغاية التمهيد. والحال أن هيغل، برفضه هذا، يسجل تحفظه التام بخصوص تدريس الفلسفة من خلال تاريخها، لأن من شأن هذا الاختيار أن يسقط المدرس والدارس في فخ السرد المجاني والاعتباطي للآراء والمدارس. فتغيب الضرورة وتظهر الفلسفة كتنافر في الآراء وكاختلافات لا يمكنها إلا أن تستمر. فتسود المواقف المناهضة للفلسفة والمروجة لعدم نفعها. لا يكون تدريس الفلسفة من خلال تدريس تاريخها فلسفيا إلا في الحالة التي يفترض فيها هذا التاريخ الفكرة التأملية. وهذا ما لا يمكن للجمناز أن يكون مجالا له باعتبار طابعه التمهيدي.
2 – منهج التدريس:
أ – لا تفلسف بدون مضمون فلسفي أو استحالة الفصل بين الفلسفة والتفلسف:
يتوقف هيغل، مطولا، في تقاريره التي كتبها عن تدريس الفلسفة، عند الفصل المتعسف، من وجهة نظره، بين الفلسفة والتفلسف. ولا يتردد في وصف هذا الفصل بمرض العصر. ويعتبر البيداغوجيا مسؤولة عن ذلك. والحال أن هيغل يربط، بشكل قوي، بين تعلم التفلسف وتعلم الفلسفة لأنهما لا ينفصلان، بل يمكن القول إن هيغل لا يربط بينهما بشكل قوي بقدر ما يعبر عن جوهرهما الكامن في هذا الترابط ذاته.
يكتب هيغل في تقرير 23/02/1812 ما يلي:
"[…] أ-يتم التمييز عموما بين النسق الفلسفي مع علومه الخاصة والتفلسف ذاته. ولا ينبغي لنا، حسب مرض العصر وخاصة البيداغوجيا، أن ندرس مضمون الفلسفة بقدر ما ينبغي أن نتعلم التفلسف بدون مضمون. وهذا يعني تقريبا أن علينا أن نسافر وأن نستمر في سفرنا من دون أن نتعلم معرفة المدن والأنهار والبلدان والرجال… إلخ.
في المقام الأول، لما نتعرف على مدينة ما ونصل بعد ذلك إلى مدينة أخرى إلخ، فإننا بهذه المناسبة نتعلم، علاوة على ذلك، السفر، ولا نكتفي بتعلمه، بل نسافر فعلا. وهكذا، فنحن حين نتعلم التعرف على المضمون الفلسفي، لا نتعلم التفلسف فقط، بل نكون أيضا نتفلسف بالفعل، وعليه ستكون غاية تعلم السفر هي نفسها التعرف على هذه المدن… إلخ أي التعرف على المضمون.
ثانيا، تتضمن الفلسفة الأفكار العقلية الأكثر علوا المتعلقة بالموضوعات الأساسية. فهي تتضمن ما هو حقيقي وعام في هذه الأفكار. وإنه لمن الأهمية بمكان الاستئناس بهذا المضمون وتلقي هذه الأفكار في الرأس. أما السلوك الكئيب والصوري فقط، وكذا البحث والتسكع بعيدا عن كل مضمون، وأخيرا المبالغة في المحاججة أو التأمل غير النسقيين، فلن تكون له من نتيجة سوى أن تكون الرؤوس فارغة من كل فكر، أي لا تعرف شيئا. فنظرية الحق والأخلاق والدين تمثل حقلا له مضمون مهم. وكذلك الشأن بالنسبة للمنطق الذي هو علم غني من حيث المضمون. فالمنطق الموضوعي (عند كانط الترنسندنتالي) يتضمن الأفكار الأساسية للوجود والماهية والقوة والجوهر والعلة…إلخ. أما المنطق الآخر فيتضمن المفاهيم والأحكام والأقيسة…إلخ. وهذه تحديدات مهمة أيضا. وعلم النفس يتضمن الإحساس والحدس…إلخ. وأخيرا فإن الموسوعة الفلسفية تتضمن بشكل عام، الحقل الشامل. لقد اختفت بدرجة ما، دراسات فولف العلمية: المنطق، الأنطولوجيا، الكسمولوجيا…إلخ، الحق الطبيعي والأخلاق…إلخ، لكن لم ينتج عن ذلك أن الفلسفة أصبحت شيئا أقل من مركب نسقي للعلوم الغنية بالمضمون. لكن، من وجهة أخرى لا تكون معرفة المطلق مطلقا ممكنة، إلا من خلال معرفة الكلية في مختلف درجاتها المشكلة للنسق، لأن مثل هذه العلوم تكون مطالبة بالتعرف على مضمونها الخاص في حقيقته، أيضا، أي في إطلاقيته. فهذه العلوم الجزئية هي درجات هذه الكلية. إن الخشية إزاء النسق تتطلب تمثالا له سيكون بدون أي شكل. فالفلسفة اللانسقية فكر عرضي وشذري. في حين أن الانسجام مع الذات هو بالضبط ما يشكل الروح الصورية للمضمون الحق.
ثالثا، إن الإجراء المتبع للتعرف على فلسفة غنية بالمضمون ليس شيئا آخر سوى التعلم. إن الفلسفة يجب بالضرورة أن تدرس وتدرس مثلها في ذلك مثل كل علم. إن الجموح الشقي الذي يدعو إلى أن نربي من أجل التفكير الذاتي والإنتاج الخاص قد ألقى بهذه الحقيقة إلى الظل، كما لو كنت لا أفكر بنفسي، عندما أتعلم ما هو الجوهر وما العلة أو أي شيء آخر، كما لو كنت لا أنتج بنفسي هذه التحديدات في فكري، كما لو كان قد ألقي بها في فكري كما يلقى بالحجارة. وأكثر من ذلك، كما لو كنت عندما أميز حقيقتها وأدلة علاقاتها التركيبية أو انتقالها الجدلي، لا أكتسب أنا نفسي هذا التمييز ولا أقتنع أنا نفسيبهذه الحقائق! كما لو كنت، عندما أعرف مبرهنة فيتاغورس ودليلها لا أعرف أنا نفسي هذه القضية ولا أوافق عليها. بقدر ما تكون دراسة الفلسفة في ذاتها ولذاتها نشاطا شخصيا بقدر ما تكون تعلما، تعلما لعلم قائم ومنشأ مسبقا. هذا العلم هو كنز يحتوي على مضمون مكتسب تم إنشاؤه وتشكيله، هذه الثروة الموروثة المتوفرة ينبغي للفرد أن يكتسبها أي أن يتعلمها. إن الأستاذ يمتلك هذه الثروة ويعمل فيها فكره مسبقا، وبعد ذلك يتخذها التلاميذ موضع تفكيرهم. فالعلوم الفلسفية تتضمن بخصوص موضوعاتها الأفكار العامة الحقيقة، فهي نتاج عمل عباقرة الفكر في كل الأزمنة. هذه الأفكار الحقيقية تفوق ما يستطيع شاب غير مثقف أن ينتجه بتفكيره. كما أن هذا القدر من العمل العبقري يفوق بكثير جهد مثل هذا الشاب. إن التمثل الأصلي والخاص بالشباب حول الموضوعات الأساسية هو من جهة لا زال ناقصا تماما وفارغا ومن جهة ثانية ليس في جزئه الأعظم سوى رأي ووهم ونصف تفكير، تفكير متهافت وغير محدد. بفضل التعلم تأخذ الحقيقة مكان الوهم. إنه فقط عندما يكون الرأس قد امتلأ بالأفكار تتوفر له حتى إمكانية النهوض بالعلم وأن يحصل فيه على أصالة حقيقة. إلا أننا لا نحتاج ذلك في المؤسسات التعليمية العمومية. خاصة في الجمناز، بل ينبغي على الدراسة الفلسفية أن تحرص بشكل أساسي على أن يتم بفضلها تعلم شيء ما وطرد الجهل وملء الرأس الفارغ بالأفكار وبالمضمون المتين وأخيرا طرد هذه الأصالة الطبيعية للفكر التي تم ذكرها، قبل قليل، أي العرضية والاعتباطية وخصوصية الرأي […]" (هيغل، تقرير، 1812).
يعتبر هيغل إذن، انتشار الرأي القائل بالفصل بين التفلسف والفلسفة أمرا خطيرا وخطأ فادحا. فمن شأن هذا الانتشار أن يجعل من أمر دراسة الفلسفة أمرا زائفا وواهما. ومن ثمة "…كان أوجب واجباتنا اليوم العمل على أن نجعل الفلسفة من جديد أمرا جديا، إنه ما من علم أو فن ولا من موهبة أو صنعة إلا ساد اليقين بأن امتلاكها لا يتأتى إلا بقبول المشقة وبالجهد المبذول من أجل تعلمها والتدرب عليها. وإذا كان كل ذي عينين وذراعين ليس بأهل لأن يصنع حذاءين متى وجد الجلد والعدة، فقد عم رغم ذلك الاعتقاد في أيامنا بأن التفلسف يدنو مباشرة لكل وافد كما يتيسر له تقدير الفلسفة وذوقها ما دامت له من عقله الطبيعي الوحدة التي يقيس بها الأمور –كأن كل امرئ لم يكن له أيضا في قدميه مقياس حذاء- لكأننا عدنا نحصر امتلاك الفلسفة في انعدام المعارف والدراسة تحديدا، ولكأن هذه جميعا تنتهي متى بدأت الفلسفة. إننا كثيرا ما نعتبر الفلسفة معرفة شكلية خالية من المحتوى، ونحن بذلك لا نعلم أن كل ما هو بحسب المحتوى في أي علم أو معرفة إنما يستحق اسم الحق طالما كانت الفلسفة هي التي أنجبته. لتسع العلوم الأخرى ما أرادت وراء التقدم مستندة إلى البرهانية دونما حاجة إلى الفلسفة- لهي بغير هذه الفلسفة علوم لا الحياة فيها ولا "العقل ولا الحقيقة" (هيغل، تصدير "علم ظهور العقل"، ص58). "إن الأفكار الحقيقية والنفاذ العلمي يمكن تحصيلهما، فقط، بجهد المفهوم. وحده المفهوم يقدر على إنتاج عمومية المعرفة. وليست [ هذه الأخيرة] اللاتحديد العادي أو الفقر المزري للحس العام، بل [ هي ] معرفة مثقفة مكتملة؛ وليست [ هي ] العمومية الاستثنائية لمواهب العقل وهي تفسد بالكسل وبغرور العبقري، بل هي الحقيقة التي بلغت نضج شكلها الأصيل-الحقيقة القابلة لأن تمتلك من طرف كل عقل واع بذاته" (هيغل، "ف.ر"، ص60). ينبغي للذات الدارسة أن تواجه الشيء ذاته. وهو ما لا يمكن وقوعه بدون مواجهة المضمون الفلسفي، باعتباره هو هذا الشيء ذاته، أي الفلسفة، بما هي "الأفكار العقلية الأكثر علوا المتعلقة بالموضوعات الأساسية. فهي تتضمن ما هو حقيقي وعام فيها. وإنه لمن الأهمية بمكان الاستئناس بهذا المضمون وتلقي هذه الأفكار في الرأس". (هيغل، تقرير 1812، فق:16). لأن الدارس لا يمكنه أن ينتج تلك الأفكار لوحده فثقافته لا تسمح له بذلك. واحتكاكه بمؤلفات العباقرة لا زال ناقصا إن لم يكن منعدما. لهذا لا بد له أن يخضع للموضوع وللمضمون. فوحده هذا الخضوع يسمح بتملك المنهج الملائم لدراسته. فهو يعطي منهجه، بل منهجه نابع منه. "إن وجهة النظر الأساسية هي تعلق الأمر بكيفية أساسية، بمفهوم جديد للمعالجة العلمية. كما أظهرت ذلك، في مكان آخر، إذا أرادت الفلسفة أن تكون علما، فلا [يمكنها] أن تستعير منهجها من علم ثانوي كالرياضيات، ولا أن تقف عند حدود التأكيدات القطعية للحدس الداخلي ولا أن [تلجأ] إلى استخدام الاستدلالات المؤسسة على التأمل الخارجي (la réflexion extérieure). وحدها طبيعة المضمون ينبغي أن تلهم المعرفة العلمية، ما دام هذا الانعكاس الخاص بالمضمون هو الذي يطرح ويخلق تحديده ذاته" (هيغل، المنطق، التصدير، ص8). يستند الموقف الهيجلي على أساس فلسفي أصيل. ذلك أن: "…طبيعة المنهج الفلسفي –تلك التي بحسبها لا ينفصل هذا المنهج، من جهة، عن المحتوى، ويحدده نفسه، من جهة أخرى، وقعه الخاص- إنما تستبين على النحو الصحيح، كما سبق ذكره، في الفلسفة النظرية" (هيغل، علم ظهور العقل، ص50) يستند الموقف الهيغلي على نقد لكل الفلسفات السابقة وتجاوز لها. وبالتالي ينبغي لنا استحضار الموقف الهيغلي بخصوص عدم الفصل بين الفلسفة والتفلسف باعتباره أحد النتائج التربوية لموقفه الفلسفي الأساس، والذي يعتبر الفلسفة علما مطلقا تحقق واكتمل نسقيا. ويقوم هذا التأكيد على أن المطلق وحده يكون حقيقيا. ويتطور كذات ليأخذ شكل نسق. وبالتالي فالفلسفة ليست هي تلك الفكرة البسيطة كما عند كانط، تلك الفكرة التي لم تتحقق عند أي فيلسوف بل هي الفلسفة الهيغلية التي يمكن تعلمها لأن هيغل استطاع بفضل "منهجه" الجدلي أن يجعل من الطريق الذي يقود إلى العلم جزءا من العلم نفسه. بمعنى آخر ينجح هيغل في جعل التمهيد جزءا من النسق العام. فهو يحرص كل الحرص على أن يسلم الفرد السلم الذي ينقل هذا الفرد من لحظته ما قبل العلمية إلى العلم، ومن لحظته ما قبل الفلسفة إلى لحظة الفلسفة.
لقد استطاع هيغل بفضل تصوره الجدلي أن ينجح في ما وقف عنده كانط. تفصيل ذلك:
يكتب كانط: "والحال، أن كل معرفة عقلية هي معرفة بالمفاهيم أو من خلال بناء المفاهيم. نسمي الأولى فلسفية، الثانية رياضية. وقد سبق لي أن تحدثت، في الفصل الأول عن الاختلاف الجوهري بينهما. إن معرفة معينة يمكنها أن تكون موضوعيا فلسفية ومع ذلك، [تكون ]، ذاتيا، تاريخية، كما هو الحال عند أغلب التلاميذ وعند كل أولئك الذين لا يرون، أبدا، أبعد من المدرسة، ويبقون تلاميذ طوال حياتهم. لكن، ينبغي مع ذلك، أن نلاحظ أنه يمكن للمعرفة الرياضية، وكيفما كانت طريقة تعلمنا لها، أن تكون لها قيمة ذاتية، باعتبارها "معرفة عقلية"، وبأنه لا مجال لنقيم داخلها نفس التمييز [الذي نقيمه ] داخل المعرفة الفلسفية. والسبب في ذلك أن مصادر المعرفة التي يستطيع الأستاذ وحده استخدامها، لا توجد إلا في المبادئ الأساسية والحقة للعقل، وبالتالي لا يمكن للتلميذ أن يأتي بها من مكان آخر، ولا أن يرفضها بأية كيفية، لأن استخدام العقل لا يتم هنا إلا بالملموس وإن كان قبليا، أي في حدس خالص، وبالتالي خال من الأخطاء. فمن هذا الاستخدام يقصي كل وهم وكل خطأ. لا يوجد، إذن، من بين كل العلوم العقلية (القبلية) إلا الرياضيات التي يمكن تعلمها وليس، أبدا، الفلسفة (اللهم إذا تعلمناها تاريخيا). أما فيما يخص العقل فإننا لا نستطيع على الأكثر، سوى تعلم التفلسف.
"والحال، أن نسق كل معرفة فلسفية هو الفلسفة، وعلينا قبولها، موضوعيا، إذا فهمنا من هذا، نموذج تقدير كل محاولات التفلسف، تقدير يجب أن يستخدم في الحكم على كل فلسفة ذاتية. غالبا ما يكون بناؤها كثير التغيير والتنوع. بهذه الكيفية ليست الفلسفة سوى الفكرة البسيطة لعلم ممكن، "لا يوجد" بالملموس، في أي مكان، لكن نبحث عن الاقتراب منه بطرق مختلفة، حتى نكتشف الطريق الوحيد الذي يقود إليه، لكن تسده "الحساسية" ولا ننجح في ذلك إلا بقدر ما يسمح للناس بجعل النسخة -الناقصة، لحدود الآن- شبيهة بالنموذج. لا يمكننا، حتى الآن، تعلم أية فلسفة، أين هي، من يملكها، وفيماذا يمكننا التعرف عليها؟ لا يمكننا أن نتعلم سوى التفلسف، أي ممارسة موهبة (قدرة) العقل في تطبيق مبادئه العامة على بعض المحاولات التي تتقدم، ولكن دائما مع الاحتفاظ بالحق الذي يكون للعقل بإعادة البحث عن هذه المبادئ ذاتها في مصادرها، وبحقه في أن يؤكدها أو يرفضها" (كانط، ن.ع.خ، ص:1-560).
لن نتوقف، مطولا، عند هذا النص الطويل لكانط، بالتحليل، وسنكتفي بالانطلاق منه، لنؤكد أن الموقف الهيغلي ورفضه الفصل بين تعلم التفلسف والفلسفة يقومان على تجاوز ونفي التصور الكانطي. ونكتفي هنا بعرض فكرة رئيسية واحدة بخصوص الموقف الكانطي، وهي فكرة الفلسفة ذاتها. حسب كانط وانطلاقا من تحليله الشامل في "نقد العقل الخالص" فإن الفلسفة لا توجد إلا كفكرة بسيطة لعلم ممكن، وتعتبر كل الفلسفات مجرد محاولات ذاتية للاقتراب منه. ولكنها تبقى مجرد محاولات كثيرة التغيير والتنوع. فالفلسفة لا تشبه الرياضيات التي يمكن تعلمها. إن طبيعة هذه الأخيرة تجعلها قابلة للتعلم بالمعنيين الموضوعي والذاتي. ويكون تعلمها الذاتي نشاطا عقليا حدسيا. لأن بناء المفهوم يتم على أساس الحدس الحسي الخالص الذي يمكن اعتباره حكما مشتركا بين كل من العالم الرياضي والمتعلم. وهو ما يسمح للمتعلم بإعادة إنتاج المفهوم بشكل ذاتي. ولهذا السبب يمكن القول بإمكانية تعلم علم الرياضيات ولا يمكن القول بإمكانية تعلم الفلسفة. ولهذا تحتاج الفلسفة الانضباط في نشاطها حتى يكون هذا الأخير خاضعا للنظام الذي يقتضيه النقد الكانطي. تبقى الفلسفة عند كانط، مجرد فكرة بسيطة، فهي علم ممكن نظريا ومستحيل عمليا، وبالتالي تكون الأنسقة الفلسفية مجرد محاولات وبناءات تسعى نحو هذا النموذج الممكن. ثم لا يمكنها أن تعرف المطلق لأنه خارج شروط إمكانيتها.
أما الفيلسوف فهو حسب المفهوم المدرسي للفلسفة، "فنان للعقل" (Artiste de la raison)، ومشرع له، حسب مفهومها العام/الكوني: لكن الفيلسوف كحكيم يبقى مجرد فكرة ومثال ولا يتحقق. وبهذا المعنى لا نتعلم الفلسفة بل فقط ممارسة "قدرة ومهارة العقل" (le talent de la raison) على هذه المحاولات التي تمثلها الأنساق الفلسفية.
عكس كانط، يرى هيغل أن الفلسفة هي العلم (المنطق). وقد مهدت "فينومينولوجيا الروح" لهذا، بأن هيأت مجاله وألغت في نهايتها ذلك الانفصال بين الذات والموضوع. وكشفت عن الوحدة الرابطة بينهما باعتبارها اختلافا. فالمعرفة المطلقة معرفة تحققت وأخذت طابعا نسقيا. والنسق الهيغلي ليس محاولة بل هو التحقيق الفعلي والحقيقي لهذه المعرفة المطلقة. والفيلسوف هيغل هو العالم الذي حقق الحكمة علما. إنه "سكرتير روح العالم". وبهذا المعنى تكون دراسة النسق الهيغلي هي دراسة الفلسفة بما هي التفلسف التام، الذي تحمل جهد المفهوم حتى نهايته. ويمكن القول أن مسألة المفهوم الفلسفي هي أحد مفاتيح فهم الخلفية الفلسفية لموقف كل من هيغل وكانط من علاقة الفلسفة بالتفلسف. وتصورهما لتدريسها انطلاقا من ذلك.
يبقى المفهوم عند كانط صورة منطقية تقوم في الذات التي تسقطها على الموجودات. فبدون مفاهيم ليس هناك عالم وليست هناك أشياء. المفهوم عند كانط هو منظم العالم الحسي كعالم يقوم خارجنا. إنه ما يعطي الانطباعات الحسية صورتها ونظامها. إنه صورة تنظم التجربة. وينبغي أن لا ننسى أن ثمة فاصلا يفصل بين الذات والموضوع عند كانط. هذا الانفصال تصل آثاره إلى المفهوم فتحدد طبيعته: المفهوم الكانطي مفهوم لا زمني ولا تاريخي. إنه مفهوم بدون "تجربة" الصيرورة. وهذا ما يجعل تحول الإحساس إلى فهم، والفهم إلى عقل، والعقل إلى روح، تحولا مستحيلا عند كانط. بالنسبة لهيغل كل شكل من أشكال المعرفة (الإحساس، الفهم، العقل، الروح) هو بالتحديد تاريخ تجربة هذا الشكل. ومن هنا البعد الزمني لهذه الأشكال. فالزمن باعتباره صيرورة نفي هو ما يجعل هذه الأشكال تتحول وتترابط. فإذا كان كانط قد أرجع كل التحديدات، بفضل الثورة الكوبرنيكية، إلى الذات العارفة وجعل الموضوع تابعا لكيفية المعرفة بها، فإن هيغل يعتبر أن الذات نفسها لا يمكنها أن تكون ثابتة، فهي بدورها حركة تكون وتاريخ لا تفصل عن الموضوع.
يحدد المفهوم، عند هيغل، الشيء ذاته، بل هو حركة الشيء ذاته. ليس المفهوم ما يوجد في ذهننا وليس تمثلا. إنه لا ينتمي إلى السيكولوجيا. إنه نشاط وصورة منظمة، لكنه صورة متحركة وفاعلة، صورة تحمل امتلاء الموضوع. وجهد المفهوم هو هذا التحقق التدريجي، النابع من الداخل، من حركة تجاوز اللاتساوي. إنه حركة شاملة: فهو ليس حركة خاصة بالذات بل هو حركة الذات والموضوع معا، إنه حركة الذات وهي تكتشف أنها الموضوع، وحركة رجوع الموضوع باعتباره ذاتا. وبهذا المعنى فهو ليس صورة للفهم بل هو صورة للوجود وللفهم وللنفي. إن تفكير المفهوم محايث للموضوع؛ الحركتان معا هما حركة واحدة. وتعني هذه النتيجة استحالة الفصل، عند هيغل، بين الذات والموضوع. فالتجربة هي اكتشاف هذه الوحدة. كما لا يمكن الفصل بين حركة المفهوم وتكون العلم كنسق. فالنسقية، في معناها الهيغلي، لا تعني ذلك الطابع الذاتي الذي تم إخضاع الموضوع له. فالتحديدات تنبع من صلب العلاقة. وكل نتيجة هي حاملة، بالضرورة، لصيرورتها. وهذا بالضبط ما يجعل المعرفة الفلسفية معرفة مختلفة، بشكل جذري، عن المعرفة الرياضية التي تبقى نشاطا ذاتيا خالصا يجمد "حركية" الموضوع والمضمون. كما أن البرهان الموصل إلى النتيجة يختفي عند ظهور هذه الأخيرة. ويمكن القول إن مجال الرياضيات هو مجال استحالة المفهوم بمعناه الهيغلي. نفس الخاصية، تجعل المعرفة الفلسفية مخالفة تماما للمعرفة التاريخية، التي تقف عند حدود النتيجة العارية من دون تأطيرها داخل الضرورة التي وحدها تجعل هذه النتيجة التاريخية حقيقة، تتجاوز المعرفة الفلسفية، كلا من المعرفة الرياضية والتاريخية والدوغمائية، لأنها تقوم على مبدأ حاسم: الانعكاس الخاص بالمضمون ذاته وبالمادة ذاتها. إنه المبدأ الذي يجعل من الضرورة ضرورة داخلية ولا يجعلها عنفا تمارسه الذات بأسماء مختلفة (عالم الرياضيات، الدوغمائي، المؤرخ، القائل بالحدس).
ينبغي التشديد على هذه النتيجة فـ"الحقيقة هي حركتها الذاتية داخل ذاتها" (هيغل، ف.ر، ص41). لقد كانت هذه بعض المعطيات المتعلقة بالخلفية الفلسفية لموقف هيغل من ادعاء إمكانية ممارسة التفلسف بدون الاستناد على المضمون. وقد فند هيغل هذا الفصل، الذي كان مشروعا جدا بالنسبة للمشروع الكانطي النقدي لكنه لم يعد كذلك بعد التجاوز الهيغلي لهذا المشروع ولكل الفلسفات السابقة والمعاصرة له. غير أن رفض الفصل بين التفلسف والفلسفة لا يعني بالنسبة لهيغل الذهاب بعيدا في ممارسة هذا التفلسف بالجمناز.
ب – الإقامة المطولة داخل الفهم وأهمية التجريد:
يصرح هيغل، في التقرير الذي حرره سنة 1812، بما يلي: "لنقل، فيما يخص عرض الفلسفة بالجمناز، أولا، بأن الشكل المجرد، هو قبل كل شيء، الشيء الرئيسي […] إذا اقتصرنا على الشكل المجرد للمضمون الفلسفي، فسنكون أمام فلسفة تنعت بفلسفة الفهم. ولكن نظرا لأن الأمر يتعلق في الجمناز بالتمهيد وباكتساب المادة، فإن مضمون الفهم هذا […] هو مباشرة المعطى الفلسفي منظورا إليه كمادة وهو التمهيد […] هذه الدرجة الأولى هي ما يجب أن تكون تمهيدية بالجمناز. وأن طابعها التمهيدي يلزم التوقف المطول عند الفهم باعتباره فكر التجريد. ويعترف صراحة، بصعوبة تدريس المضمون الفلسفي الجدلي (العقلي سلبيا) والتأملي (العقلي إيجابيا). والحال أن التوقف عند معطيات هذا الموقف ومحدداته يجعلنا نرى فيه تشبت هيغل بقيم التدريس الحقيقي التكويني الذي يحرص على أن يكشف للفرد عن السلم الذي يقوده نحو العلم من داخله. فيكون التعلم نشاطا ذاتيا وموضوعيا. يواجه، فيه المتعلم الشيء ذاته. بعبارة أخرى، ينبغي أن نتوقف عند الدلالة الفلسفية لهذا الموقف لنعرف قيمته الحقيقية. خاصة تميز الموقف الهيغلي عن الموقف الكانطي، والنتائج التربوية والتدريسية لذلك. وفي هذا الإطار ستساعدنا معطيات "فينومينولوجيا الروح" بشكل أساسي على تحديد هذه الدلالة.
يأتي فصل: "القوة والفهم، الظهور والعالم ما فوق الحسي" في نهاية القسم الأول المتعلق بالوعي. ويكون هذا الفصل، باعتباره طبيعة التجربة الفينومينولوجية، فصلا حاسما ومحددا لأنه يسمح بالانتقال من مرحلة الوعي إلى الوعي بالذات. وهذا ما يعطي هذا الفصل وضع القنطرة الرابطة بين الوعي (كمجال لليقين) والوعي بالذات (كمجال للحقيقة) يقوم الفهم بمعناه الهيغلي بدور الوسيط بين "الوعي ما قبل العلمي" و"الوعي العلمي"، وفي هذه النقطة ينتقد هيغل شيلينغ (Schelling) لأنه ألغى الفهم الذي هو أساسا هذه القدرة على الفصل بين الأشياء والتمييز بينها، إنه ينجح حيث فشل الإدراك، بل هو الإدراك وقد تجاوز ذلك التوتر بين وحدة وتنوع الحسي. يتجاوز الفهم الإدراك، وبفضل هذا التجاوز يصبح ما هو متمثل خاصية من خصائص الوعي. فيرتبط الموضوع بالذات. غير أن هذا الارتباط يعرف لا تساويا داخليا، سيدفعه إلى التحول ليأخذ الفهم شكل النشاط العقلي الإيجابي (الجدلي) يقيم الفهم التحديدات والتمييزات الدقيقة. وهي تحديدات منتهية وتامة، يعتبر الفهم كل واحدة منها مطابقة لما يكون في ذاته. يقوم الفهم بمهام التجريد، بما هو تحليل. ولكنه يقف عند هذا الحد. ولكنه حد أساسي لأنه سينتهي إلى اكتشاف ذاته في الأشياء، أي ذاته في الآخر أو كآخر. وهنا بالضبط، سيعي ذاته. وهو بذلك يكون الحلقة الأساس في "فينومينولوجيا الروح". لأنه يمهد ويدشن لأهم مرحلة فيها: الوعي بالذات. على أساس أن الوعي بالذات هو الوعي بالموضوع من حيث هو الأنا كآخر. كل وعي بالذات هو وعي بوجودها كآخر. هو اكتشاف الذات في العالم. وهو المستوى الذي يصل إليه الفهم.
هذا الاكتشاف يجعل من كشف الاختلافات كلها، اختلافات مرفوعة، فتنحل، في الأخير، في حركة اللانهائي. وعلى أساس ذلك فإن الاختلاف بين الذات والموضوع، هو اختلاف يجب أن يختفي وأن يصبح الوعي وعيا بالذات. أي لا نهاية فاللانهاية هي وضع الاختلافات ورفعها. يأخذ الفهم قيمة أساسية داخل صيرورة ظهور العلم، بل هو الذي سيسمح للعقل بممارسة تركيباته وجمع الاختلافات في وحدة. وبالتالي يؤدي إلى الجدلي (العقلي سلبيا). يحمل، إذن، تأكيد هيغل على ضرورة الإقامة المطولة داخل الفهم، دلالة فلسفية تكوينية قوية، وبالتالي لا ينبغي النظر إلى التأكيد الهيغلي كتشاؤم، فهذه الإقامة تنجز المهمة الأساس والتمهيد الحق لدراسة الفلسفة: ممارسة التجريد والانفصال عن المباشر. "ينبغي، أولا، أن تنمحي الرؤية والسمع بالنسبة للشباب، ينبغي لنا أن نحوله عن التمثلات الملموسة، وأن نرجعه إلى الليل الداخلي للنفس، وأن يتعلم الرؤية في هذا المجال، وأن يؤكد فيه التحديدات ويميز بينها: هذه هي الطريقة التي تقود إلى العلم وبالتالي فهي جزء منه. "إن ما هو محدد، بشكل كامل، هو الذي يكون، في نفس الوقت، عاما، وقابلا للتصور ولأن يعلم للجميع وأن يكون ملكا للجميع. الشكل المعقول للعلم هو طريق العلم، طريق مفتوح للجميع ومتساو بالنسبة للجميع. الوصول إلى المعرفة العقلية بواسطة الفهم، هذا هو المطلب العادل للوعي الذي يقارب العلم، لأن الفهم هو التفكير، هو الأنا الخالص، عامة، والمعقول هو ما سبقت معرفته، هو العنصر المشترك بين العلم والوعي ما قبل العلمي، الذي يمكنه، بهذه الكيفية، أن يفتح لنفسه، مباشرة، ممرا نحو العلم". (هيغل، "ف.ر". ص14).
يحرص هيغل، أشد الحرص على أن ينجح تدريس الفلسفة بالجمناز، لهذا يعطيه طابعا تمهيديا يلعب فيه التجريد الدور الأساس والحاسم. على أساس أن نربط هذا التهييئ بما أسماه بـ"الفلسفة الأولية" أي بالتمكن من النحو والدراسة اللغوية المتعمقة. توقف هيغل، مطولا، في خطابه الأول، سنة 1809، عند دراسة النحو، وهو توقف على درجة عالية من الأهمية، إذا نظرنا إليه من زاوية الشروط التي يجب توفيرها لكل تدريس تمهيدي للفلسفة، يكون بالفعل طريقا نحو الفلسفة وجزءا منها. إن هيغل، بتوقفه المطول عند اللغة، يثير انتباهنا، بل أكثر من ذلك، يسلمنا أحد أسرار جهد المفهوم: ارتباطه باللغة وبالخطاب. لهذا يكتب هيغل: "[…] دراسة النحو التي لا يمكن أن نقدر قيمتها أكثر مما نفعل الآن، لأنها بداية كل ثقافة منطقية. […]إن مضمون النحو هو بالفعل المقولات، المنتوجات والتحديدات الخاصة بالفهم. ففي النحو نبدأ تعلم الفهم ذاته. إن هذه الماهيات الأكثر روحية –أي النحو- هي أول ما يجعلنا نستأنس بها، باعتبارها قابلة للفهم تماما من الشباب[…] هذه التجريدات[…] هي ما يتيمز ببساطته التامة. إنها بالنسبة للمجال الروحي بمثابة الحروف الفريدة التي نبتدئ بها لكي نتعلم تهجي هذا المجال ثم قراءته، ثم إن النحو يعرض هذه التجريدات بكيفية ملائمة لهذه السن، لأنه يعلم التمييز بينها بواسطة العلامات المساعدة الخارجية التي يتضمنها اللسان ذاته في أغلب الأوقات[…]". ويتوقف هيغل مرة أخرى، عند هذه المسألة في تصديره للطبعة الثانية للمنطق. حيث سيعرض مرة ثانية. وبشكل عميق لعلاقة اللغة بالمنطق، مبرزا في نفس الوقت الامتياز الخاص باللغة الألمانية وخاصة، تلك الأهمية التي لا تقدر لكل لغة تجمع بين تحديدات الفهم وتركيبات العقل (هيغل، المنطق، ص123).
إن هيغل بتركيزه على الفهم، إنما يشدد على ضرورة ضمان هذا الانتقال الأساسي من الفهم إلى العقل، وهو الانتقال الذي يحدث بفعل حركة الذات المتعلمة نفسها في علاقتها بالموضوع الذي لا ينفصل عنها. فتكتشف آخريتها وتنعكس على ذاتها وتتأمل ذاتها من حيث هي آخر. تنتقل إلى الجدلي أو العقلي سلبيا. وبذلك تلج مجال التأمل النظري. غير أنها قبل ذلك، مطالبة بأن تستغرق وقتها اللازم لذلك سنوات الدراسة بالجمناز كتهيء. بهذا المعنى يأخذ التوقف عند الفهم، عند هيغل، معنى جذريا، مقارنة بالدور الذي يحدده له كانط. فعند هذا الأخير، يبقى الفهم خاضعا ومنضبطا، إنه مراقب منهجيا، عند هيغل، الفهم محطة من محطات تجربة أعظم: تجربة الوعي وهو يتحول روحا يعي ذاته بذاته من أجل ذاته، ليكون بذلك المعرفة المطلقة. لهذا لا يفصل هيغل بين الفلسفة والتفلسف: فالطريق نحو المطلق هو جزء من المطلق. والنهاية هي البداية وقد رجعت إلى ذاتها.
ج – التفكير الذاتي كعلاقة وكتمرن على مضمون غني:
تعطينا التقارير التي رفعها هيغل، تصورا واضحا عن منهجية تدريس الفلسفة، داخل الجمناز وعن المكانة الخاصة التي تفردها هذه المنهجية للنشاط الذاتي، ولكن بمعنى خاص جدا ينبغي الانتباه إليه. لا يعتبر التفكير الذاتي مرادفا للحرية التامة في اختيار أية طريقة للتعامل مع المضمون الفلسفي. بل ثمة طريقة وحيدة ينبغي اتباعها. وهي مواجهة هذا المضمون والاقتراب منه ما أمكن والاستئناس به. وحده هذا الاقتراب يمنح المتعلم الفرصة الحقة لأن تكون له أفكار حقيقية وضرورية. فمن شأن هذا الاقتراب أن يجعل المتعلم يواجه الأفكار العامة والحقة ويواجه الاغتناء مواجهة حقيقية تجعل تعلمه نشاطا ذاتيا، وفي نفس الآن، تعلما موضوعيا وتثقفا أصيلا. أما ادعاء الأصالة الخاصة بالأفكار على أساس طابعها الشخصي فوهم قاتل لإمكانية النمو الحقيقية. "بقدر ما تكون دراسة الفلسفة في ذاتها ولذاتها نشاطا شخصيا بقدر ما تكون تعلما، تعلما لعلم قائم ومنشأ مسبقا. هذا العلم هو كنز يحتوي على مضمون مكتسب تم إنشاؤه وتشكيله. هذه الثروة الموروثة المتوفرة ينبغي للفرد أن يكتسبها أي أن يتعلمها. إن الأستاذ يمتلك هذه الثروة ويعمل فيها فكرها مسبقا، وبعد ذلك يعمل فيها التلاميذ تفكيرهم (هيغل، تقرير 1812، فق:18) يلعب الأستاذ دورا أساسيا في هذا التهييء، فهو وسيط التراث الفلسفي، ولكن بصفة مؤقتة. فمهمته محددة، مساعدة التلاميذ على الارتباط بهذا المضمون وانطلاقا من هذا الارتباط السير في صيرورة التكوين والتثقف، وحده هذا الاختيار أي مواجهة المضمون الغني يسمح لنا بالتخلص من وهم التفكير الشخصي ومن فخ اعتبار أنصاف الأفكار والأفكار المتهافتة أفكارا حقيقية. لا مجال للإبداع أو للأصالة قبل الامتلاء التام، بل لا يمكن اعتبار مؤسسة الجمناز مجالا لهذا الإبداع. فهدف الجمناز هو التعليم والتكوين: ملء الرأس بالمضمون المتين وطرد كسل الفكر، من أجل التخلص من العرضية والاعتباطية وخصوصية الرأي. علما بأن هذا الجهد الشخصي لا يستطيع تجاوز بعض الحدود الخاصة بطبيعة التكوين في الجمناز. فهو (أي الجهد) يهيء فقط للدراسة الجامعية التي يمكن اعتبارها الإطار المؤسساتي الحقيقي للتفلسف بمعناه الجدلي والتأملي. فأهمية الجهد الشخصي ترجع إلى التمرن على التفكير بشكل مجرد، وحده هذا التمرن وهذا النمط من التفكير يسمح بالانتقال إلى التفكير الجدلي وإلى التفكير التأملي ولكن ذلك يستغرق وقتا طويلا. ولا ينجح فيه الجميع.
3 – علاقة هيغل المدرس بالمذكرات وبالكتب المدرسية:
تعطينا تقارير هيغل، وخاصة تقرير 1812 صورة بالغة الدلالة لعلاقة هيغل بالمذكرات التوجيهية أو التنظيمية وبالكتب المدرسية. لا يتبع هيغل توجيهات المذكرة حرفيا. بل يتصرف وفق ما يراه ملائما، انطلاقا من طبيعة المضمون ومن تقديره الخاص لشروط علاقة التلاميذ بهذا المضمون. وهكذا يتحفظ هيغل، بخصوص تدريس المنطق منذ الفصل الدراسي الأول. ويختار تدريس نظرية الحق والواجبات والدين بعد أن غير ترتيب هذه النظريات ذاتها. فهو لا ينطلق من نظرية الدين بل من نظرية الحق ثم نظرية الأخلاق وبعدها نظرية الدين. على أساس أن هذا الترتيب أكثر بساطة وأكثر تجريدا وبالتالي أكثر ملاءمة لطبيعة التدريس بالجمناز في فصله الأول. نجد عند هيغل علاقة متأنية ومتباعدة مع المذكرة التوجيهية.
يحترم هيغل بالدرجة الأولى الطابع التدريجي للمضمون وخاصة الخط العام الموجه لكل صيرورة تعلم ولكل جهد من المجرد البسيط إلى المعطى الأكثر غنى وامتلاء إلى المشخص.
نفس المبررات تجعله يتصرف بخصوص مواد باقي الفصول والمستويات الدراسية. ويجد هيغل في غياب كتاب مدرسي فرصة لممارسة اختياره: "…وحيث إنه لا يوجد بعد كتاب مدرسي فيجب أن تبقى للمدرس الحرية في أن يقيم نظاما وتسلسلا في هذا المجال حسب وجهة نظره". (هيغل، تقرير 1812، فق:7) إن القراءة المفصلة لهذا التقرير تظهر أن وجهة النظر المقصودة هنا، ليست تلك القائمة على الجهل بطبيعة المضمون، بل تلك التي تفترض تملكه من طرف الأستاذ "إن الأستاذ يمتلك هذه الثروة ويعمل فيها فكره مسبقا. وبعد ذلك يعمل فيها التلاميذ فكرهم". بهذا يكون التمكن المعرفي للأستاذ هو الشرط الضروري لممارسة واعية باختياراتها ومنسجمة مع طبيعة المضمون المدرس.
نجد هيغل في تقرير 7 فبراير 1823، يسجل عدم تفضيله لأي كتاب مدرسي من تلك التي يعرفها. فهو يجدها متوفرة على المادة وإن كانت هذه الأخيرة أكثر غنى وتنظيمها وتحديدا في الكتب المدرسية القديمة. لا يقدم هيغل النصح على هذا المستوى ويترك أمر المواد التي ينبغي إبرازها لتعليمات الوزارة. ويستحق هذا الموقف الانتباه إليه وتأمله.
4 – هيغل المدرس بالجمناز، شهادة التلاميذ:
"كان يملي فقرات ويفسرها بكيفية قاطعة ونافذة، لكن بدون حيوية خارجية كبيرة، بالتأكيد لم يكن يقرأ ما كان يمليه. كانت أوراقه [تحاضيره ] أمامه، وكان ينظر بعيدا، ناثرا تبغ [ غليونه ] يمينا ويسارا. كان على التلاميذ أن يعيدوا تدوين ما كان يمليه في [دفاترهم ] كما كان عليهم أيضا، أن يحاولوا كتابة شروحاته الشفوية. ومن وقت لآخر، يستدعي هيغل هذا الطالب أو ذاك ويطلب منه قراءة ما كتبه، من أجل المحافظة على الانتباه، أثناء الحصة، من جهة أولى، وليراقب رؤوس الأقلام التي دونت، من جهة ثانية، ومن وقت لآخر يطلب إعادة كتابة هذه النقط. وفي بداية كل حصة يطلب من أحد التلاميذ تلخيص درس الحصة السابقة. كان بمستطاع كل واحد أن يسأله إذا لم يفهم جيدا، شيئا ما، وكان هيغل، نظرا لطيبوبته، يسمح بأن يقاطعه [ التلاميذ] حتى أثناء عرضه [بأسئلتهم ]. وعادة ما كان يقضي جزءا كبيرا من الساعة في الاستجابة لهذه الطلبات. [وقد كان] عنده فن إرجاع كل الأسئلة إلى وجهات نظر عامة يربطها بالموضوع الرئيسي للدرس. وكان يأمر، أحيانا، بتحرير موضوع فلسفي باللاتينية.."، هكذا كان هيغل المدرس بجمناز نورمبرغ […].
ويمكن أن نضيف إلى وصف ك.روزنكرانز وصف تلميذ قديم آخر لهيغل ج.ج.أ.فيرت (J.G.A.Wirth) أورده ج.هو فمايستر.." لكي يبدأ، يستدعي هيغل [ في سياق عرضه ] علوم الطبيعة والتاريخ والفن وأدب القدامى وذلك حتى يفسر من خلالها وبكيفية تماثلية موضوعات فلسفية، ثم يملي "فقرات" قصيرة. وتتم مناقشة معناه من طرف مستمعيه أنفسهم، داخل حوار [يسهر عليه ]. كان بمقدور كل واحد أن يطلب الكلمة ويحاول إبراز قيمة رأي محدد ضد باقي الآراء. والعميد نفسه (هيغل) لم يكن يتدخل، أستاذيا، إلا من وقت لآخر، لتوجيه النقاش. بهذه الكيفية، كانت تنقل معارف عديدة إلى التلاميذ، والاندفاع نحو النفاذ إلى العنصر العلمي الخاص، يثار وخاصة تكوين حدة الفكر.
ونجد أيضا، وصفا قابلا للمقارنة، للنشاط الأستاذي لهيغل بالجمناز، من خلال ذكريات أحد تلامذته القدامى، الأستاذ د.زميرمان (Pr. D.Zimmermann)(…) يلح زميرمان بدوره على الطيبوبة والمودة الطبيعية اللتين من خلالهما مارس هيغل سلطته المعترف بها. ويذكر أنه طوال ثلاث سنوات، قضاها متتبعا لتدريسه، لم يسمعه إلا مرة واحدة يوبخ أحد تلامذته" (ب.بورجوا، 1978، ص18).

البيبليوغرافية المعتمدة:

بالعربية:
1 – ج.ف.ف.هيغل "علم ظهور العقل" ترجمة مصطفى صفوان، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1981، ورمزنا إليه بـ(ع.ظ.ع)، في حالة اعتمادنا عليه.

2- بالفرنسية:
2– E.Kant, « Critique de la raison pure », trad. A.Fremsaygues TB. Pacaud, Fréf. Ch. Serrus, éd. PUF, Coll. Quadrige, 4ème éd. 1993.
ورمزنا إليه داخل التعليق بـ(ن.ع.خ).
3– G.W.F. Hegel, « Phénoménologie  de l’esprit », trad. J.Hyppolite, éd. Aubier-Mnotainge, Paris, 1980.
ورمزنا إليه داخل التعليق بـ(ف.ر).
4– ‘’ ‘’ ‘’ Science de la logique, trad. S.Jankélivitch, éd. Aubier-Montainge, Paris, 1947.
ورمزنا إليه داخل التعليق بـ(المنطق).
5– B.Bourgeois, « Textes pédagogiques », éd. Vrin, Paris, 1978.
ورمزنا إليه داخل التعليق بـ(ب.بورجوا).
6– Jean-Michel. Besnier, « La pédagogie de Hegel : une écharde dans la chair(e) » in Revue : Le doctinal de Sapiens (Cahiers d’enseignants de philosophie et d’histoire), n°6, éd. Solin, oct. 1979, pp39-46.
ورمزنا إليه داخل التعليق باسمه.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق