الأربعاء، 3 يناير 2018

كانط؛ المكان والزمان؛ ترجمة موسى وهبه.



المكان والزمان
إيمانويل كانط

إن الزمان والمكان مصدران معرفيّان، يمكن أن نستمّد منهما قبليّاً معارف تأليفيّة متنوّعة كتلك التي تعطِي عنها الرياضة المحضة مثلاً ساطعاً بالنسبة إلى معرفة المكان وعلاقاته. ذلك أنهما معاً يُعَدّان صورتين محضتين لكلّ حدسٍ حسيّ، وأنهما يجعلان بذلك القضايا التأليفية القبلية ممكنة. لكنّ هذين المصدرين المعرفيّين يعيّنان بذلك حدودهما (كمجرّد شروطٍ للحساسيّة)، ذلك أنهما لا يتعلقان بالمواضيع إلا من حيث يُنظر إليها بوصفها ظاهراتٍ وليس من حيث تُعَدّ أشياء فيّاها [في ذاتها]. والظاهرات تشكل وحدها حقل صدقيتهما، فإذا ما خرجنا منه، فلن نجد لهما أيَّ استعمالٍ موضوعيّ.
وفيما عدا ذلك تُبقي واقعيّة المكان والزمان الثقة كاملةً بالمعرفة التجرُبيّة، لأننا دائماً على يقين بذلك سواءٌ كانت تَيْنِك الصورتان ملازمتين بالضرورة للأشياء فيّاها، أم لمجرّد حدسنا بالأشياء. وعلى العكس، فإن أولئك الذين يزعمون واقعيّةً مطلقةً للمكان وللزمان، سواءٌ حسبوهما من المقوّمات أم من الملازمات، سيناقضون مبادئ التجربة نفسِها. لأنهم إن اتخذوا الرأي الأول (كما يفعل حزب الفيزيائيين الرياضيين بعامّة) وجب عليهم أن يسلّموا بلَيْسَين [بعدمَيْن] (المكان والزمان) [لا يكونان أو لا يمكن أن يكونا إلا إذا انطويا]* على كلّ ما هو متحقّق، ـ (من دون أن يكون ذلك الشيء متحققاً) ـ بوصفهما سرمديّيْن ولامتناهييْن وقائميْن بالذات. 
وإن تبنَّوْا الرأي الثاني (الذي هو رأي بعض الفيزيائيين الميتافيزيقيين) [يقصد هيوم]، وإذا كان الزمان والمكان عندهم علاقات للظاهرات مستمَدّة من التجربة،  إنما بالطبع متصوّرة بشكلٍ مبهم في ذلك التجريد عن التجربة (علاقات تجاور أو تعاقب) فيجب عليهم أن يُنكروا على التعاليم الرياضية القبليّة المتعلّقة بالأشياء المتحقّقة (في المكان مثلاً) صدقيّتها، أو على الأقل يقينها الضروري، لأن مثل ذلك اليقين لا يمكن أن يكون بعدِيّاً، ولأن أفاهيم المكان والزمان والقبليّة لن تكون، تبعاً لذلك الرأي، سوى اختلاقاتٍ للمخيّلة يجب أن نبحث عن مصدرها الحقيقي في التجربة التي ، من علاقاتها المجرّدة، شكّلت المخيلة شيئاً ما يتضمّن ما فيها من كلّي حقاً، إنما ما لا يمكنه أن يقوم خارج الحدود التي تحدّه بها الطبيعة.
وصحيحٌ أن الرأي الأول يترك حقل الظاهرات مفتوحاً للمزاعم الرياضيّة، إلا أن الشروط عينها بالمقابل تعيقهم بصورةٍ خاصّة عندما تريد الفاهمة أن تغادر ذلك الحقل.
وصحيحٌ أنّ الآخرين يمتازون في هذه النقطة بأن تصوّرات المكان والزمان لا تعيق طريقهم عندما يريدون أن يحاكموا المواضيع لا بوصفها ظاهرات، بل فقط في علاقتها مع الفاهمة، إلا أنه لا يمكنهم لا أن يؤسِّسوا إمكان المعارف الرياضيّة القبليّة (حيث ينقصهم حدسٌ قبليّ حقيقي وذو صدقيّة موضوعيّة) ولا أن يقيموا توافقاً ضرورياً بين قضايا التجربة وتلك المزاعم. أما نظريّتُنا حول القِوام الحقيقي لتيْنِك الصورتين الأصليّتين للحساسيّة، فإنها تتغلّب على الصعوبتين معاً.
لا يمكن للأستطيقا المُجاوِزة أن تتضمّن إلا عنصرين اثنين، أعني المكان والزمان. ذاك ما يتحصّل بوضوح من أن جميع الأفاهيم الأخرى المنتمية إلى الحساسية، تشترط شيئاً أمبيرياً، بما في ذلك أفهوم الحركة الذي يجمع العنصرين. لأن هذا الأخير يشترط إدراك شيءٍ يتحرّك. وليس في المكان، منظوراً إليه فيّاه، من متحرّك؛ يجب إذاً أن يكون المتحرّك شيئاً يُصادَف في المكان فقط من خلال التجربة، وأن يكون بالتالي معطىً أمبيرياً. وليس بوسع الأستطيقا المجاوِزة من ثَمَّ أن تَعُدَّ من بين معطياتِها القبليّة، أفهوم التغيّر، لأن الزمان ليس هو نفسه الذي يتغيّر بل شيئٌ ما في الزمان. المطلوب إذاً إدراك موجودٍ ما مع توالي تعيّناته، والمطلوب بالتالي التجربة.

(كانط؛ نقد العقل المحض؛ ترجمة موسى وهبه؛ دار التنوير؛ بيروت؛ ص 82، 83)



(*) لقد وردت العبارة في نصها الأصلي على الشكل التالي:
"فإن أولئك الذين يزعمون واقعيّة مطلقة للمكان وللزمان، سواءٌ حسبوهما من المقوّمات أم من الملازمات، سيناقضون مبادئ التجربة نفسِها. لأنهم إن اتخذوا الرأي الأول (كما يفعل حزب الفيزيائيين الرياضيين بعامّة) وجب عليهم أن يسلّموا بلَيْسَين (المكان والزمان) لا يكونان إلا لينطويا (من دون أن يكون ذلك شيئاً متحققاً) على كلّ ما هو متحقّق، بوصفهما سرمديّيْن ولا متاهييْن وقائميْن بالذات."

قد يكون المقصود بـ "لا يكونان إلا لينطويا": لا يكونان إلا من أجل أن ينطويا. أو لا يكونان إلا إذا انطويا. وفي غياب نصٍ آخر للمقارنة نضع النص كما ورد في كتاب وهبه هنا ليقرر القارئ ما يراه الأنسب في السياق.

إضافة:

يقول موسى وهبه في مقالته عن الفلسفة النّقديّة في الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ما يلي:" نقد المعرفة النّظريّة، أو نقد العقل من حيث هو ملكة معرفيّة [...] يعني النّظر الى بنية العقل نفسه من حيث توزعه الى قدرات (ملكات) معرفيّة، [...] والقدرات هي: قدرة التلَقّي أو الحدس الحسّي، وتُسمّى الحساسية، والقدرة التّلقائيّة التي تفكر ما هو معطًى وتسمّى الفاهمة. والقدرة المنتجة للتّصوّرات أو المخيّلة. والقدرة على التعقّل أي البحث عن النّهايات المعرفيّة والنّزوع الى السّستمة، وتسمّى الملكة العاقلة أو العقل باختصار".
وتحت عنوان (نقد الحساسية)، يقول:" لدينا نوعان من الانطباعات الحسّيّة: انطباعات تشير الى وجود موضوعات خارجًا عنّا، أي متعلّقة بوضعها في المكان. وانطباعات تُشير الى ترتيب تصوّراتنا الزّمني عن هذه الموضوعات التي تتعلّق بموقعها في الزّمان، في إحساسنا الداخلي بها، فاذا جرّدنا هذه الانطباعات من كل مضمون لا يبقى لدينا سوى مجرّد تلقّيها. أي صورة الحدس المكاني أو الحس الخارجي، وصورة الحدس الزّماني أو الحسّ الباطن. ويظهر التحليل أنّ حدس المكان هو مجرّد حدس متجانس ذي أبعاد ثلاثة، ولا متناهٍ. وأنّ حدس الزّمان هو مجرّد حدس بالتّعاقب المستمر وحدس متجانس ولا متناهٍ. هذان الحدسان هما إذن الصورتان اللتان تسبقان فينا جميع الانطباعات الخارجيّة والباطنيّة وتجعلانها بالتالي ممكنة."
في الحساسية نجد أو بالاحرى نفترض وجود صورتين قبليتين أو حدسين قبليين ، هما حدسا المكان والزمان. وهما حدسان محضان، ومن دون هذا الفرض لا يمكن
لأحكام الرياضة ( أي الهندسة والحساب ) أن تكون ممكنة .
وهذان الحدسان المحضان هما شرطا تلقي الانطباعات الحسية وهما اللذان يسمحان بتشكل الموضوع كظاهرة، أي أن الموضوع لا يمكنه أن يظهر من دون صورتي الحساسية القبليتين.


 (إضافة للدكتور جمال نعيم)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق