الاثنين، 1 يناير 2018

كانط ومحدودية العقل؛ د. جميل قاسم.


كانط ومحدودية العقل

د. جميل قاسم




يتركز سؤال الدين عند كانط حول علاقة الدين بالأخلاق، أو الأخلاقية moralitat ـ وهو سؤال أفرزه الواقع الديني في أوروبا (الحروب الدينية والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، والإصلاح الديني في ألمانيا (مارتن لوثر) والحروب الصليبية. وقد أثار المسألة الدينية في كتبه كلها لكنه، تناول هذه المسألة، حصراً في كتابيه «نقد العقل العملي» وانصب اهتمامه فيه حول مسألة «الله»، وتناول في كتابه «الدين في حدود العقل المجرد» المسألة الدينية (الدين).
وثمة حادثة يرويها كانط في مقدمة كتابه «نقد العقل العملي» عن سؤال بادره به خادمه، بعد صدور كتابه «نقد العقل المحض Kritik der reinen fernuft عن الله في كتابه فأجابه كانط بصورة اختزالية «لا وجود لله». وبوغت كانط بالدموع تنهمر على خدي خادمه فاستوقفه الأمر، وصار يتساءل عن الخلاص والرجاء؟ ورأى، بعدها، أن الفلسفة وحدها غير قادرة على النظر في مسألة الرجاء والخلاص.
والأمر ذاته، نجده عند جان جاك روسو في كتابه «دين الفطرة» ، فمفهوم الدين ليس طبيعياً (مادياً) كما تصور دافيد هيوم وفلاسفة الأنوار وإنما هو حدسي وفطري. [؟]
وعلى الرغم من فصل السياسة والثيولوجيا عن الدين في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» نجد سبينورا ينطلق في كتابه «الأخلاق» من اللاهوت (الله) على أنه معيار ومقوم للدين والدنيا.
وإذا كان كانط يرى في مفهومه العقل المحض reinen fernuft كل ما يكون في الفكر مسبقاً، لا يأتي من الاختبار الأمبريقي فإنه يرى أن العقل العملي praktische vernuft هو العقل الذي تنبثق منه مصادرات الله والحرية والخلود بوصفها مصادرات أخلاقية.
يعرض كانط في كتابه «الدين في حدود العقل» الصلة بين الأخلاق والدين، فيرى أن الأخلاقية، أو القانون الأخلاقي حتى لو كان يفترض وجود كائن أسمى «الله» لكن فكرة هذا الكائن تصدر من الأخلاق وليست هي الأصل في صدور الأخلاق. يقول: إذا كان ثمة شيء يحق للإنسان الحديث أن يفخر به على سائر البشر السابقين فهو إيمانه العميق بالحرية، بأنه كائن حر، لا يدين بقدرته على التفكير بنفسه، ومن ثمة على إعطاء قيمة خلقية لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أية جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا
هل الإنسان خيّرٌ بالفطرة والطبيعة، أو إنه شرير وخطاء بالطبع والأصل (الخطيئة الأصلية)؟
لا يقبل كانط بكلتا المصادرتين ويرى أن الطبيعة الإنسانية تنطوي على الأمرين معاً كإمكانية (الخير والشر) ويرى أن الإنسان في جنسه Gattung لا هو بالخيّر ولا هو بالشرّير، أو بالأحرى قد يكون أحد الاحتمالين، لا لأنه يقترف أفعالاً مناقضة (للقانون) وإنما لأن أفعاله تنطوي على مسلّمات قبيحة maximum bose.  وبخلاف جان جاك روسو وسينيكا اللذين يفترضان أن الإنسان هو بالطبيعة خيّر يرى كانط أن الطبيعة لا تتحمل وزر الإنسان (حين يكون شريراً) ولا هي لها الفضل فيه (حين يكون خيراً) بل إن الإنسان هو المسؤول عن الخير والشر، من حيث اختياره ومشيئته، وحرية المشيئة تخضع للنية، على أنها أساس ذاتي للقبول بالمسلّمات. وهذا الموقف يقربنا عند كانط من الموقف الإسلامي «إنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى» ـ حديث نبوي شريف ـ
وفيما يتعلق بالاستعداد الأصلي للخير عند الإنسان يقوم عند كانط على ثلاثة مستويات:
الاستعداد بالنسبة إلى حيوانية الإنسان (الإنسان حيوان).
بالنسبة إلى إنسانيته (الإنسان حيوان عاقل).
بالنسبة إلى شخصيته، من حيث هو كائن عاقل، وكائن مسؤول، يتحمل المسؤولية بناء على اختياره ومشيئته.
يقوم الاستعداد (الإمكانية) للحيوانية على حب الذات، والغريزة، (الفردية والإجتماعية) وهي تقوم في ابتعادها عن العقل على الرذيلة (الطمع والفسق والفظاظة).
ويُحمل الاستعداد (الإمكانية) الإنسانية على العقل، ومنه تتأتى القيمة، قيمة التحقق، وهي رغبة عقلية تقوم على (حب الذت، والتعالي والمحبة والتسامح) في مقابل الحسد والجحود والضغينة.
أما الإمكانية الثالثة فتقوم على الشخصية التي تقوم على احترام القانون الخلقي (الواجب) بوصفه دافعاً كافياً للمشيئة، وهو استعداد يقوم على الحرية، ولا يكتسب اكتساباً، وإنما تتضافر فيه قيم العقلانية والإنسانية بالإضافة إلى الشخصية (ويعد هذا الموقف عند كانط من إرهاصات الشخصانية عند الكانطية – المحدثة).
يعني كانط بالاستعداد الأجزاء المقومة له (الإمكانية) وأن يكون الإنسان خيراً أو شريراً هو ما يفعله بالذات، ويكون ناجماً عن مشيئته الحرة، وتصرفاته، واختياراته ودوافعه ونيته (النيات) ومقاصده في الفعل الأخلاقي.
من أجل أن يصبح الإنسان خيراً في خُلقه، عليه أن يصارع علّة الشر التي توجد في ذاته، بوساطة الفضيلة، والفضيلة – بالمعنى الرواقي (نسبة إلى المدرسة الرواقية) تعني كفاح الإنسان مع ميوله أمام واجبه، بأن لا يقبل بأي موجب لشر مناقض للواجب الأخلاقي القائم على الخير.
إن موضوع العناية الإلهية، لإرادة الكائن الأسمى (الله) في العالم هو الإنسانية  Menshheit، في كمالها الخلقي التّام، والإنسان عند كانط ليس مجرد شيء مخلوق، بل هو ابن الله، المخلوق من صلبه، والذي خلقه على صورته ومثاله بكلمة «كن» التي عبرها تكون كل الأشياء الأخرى والإنسان انعكاس لبهاء الله وعظمته
بناء على ذلك يرى كانط أن الكائن الأسمى (الله) أعطى الإنسان مكانة أعلى من الملائكة (إن العالم بنقائصه أفضل من ملائكة بلا إرادة – الشاعر هالر – وقد خص الرب الجنس البشري بمحبته (كذا كان الرب يحب العالم – الإنجيل) لكن الإنسان، المعلّم الذي تحدوه نيّة ربانية بشري تماماً، وهو – بما أنه إنسان – المثل الأعلى للخير والحق والجمال (والدين)، بمنأى عن كل نزعة تشبيهية إنسية anthropomorphisme أو تأليهية – إنسية Anthropo-theisme.
الإنسان – حسب كانط – هو «أمير العالم» لكن مملكته تقوم على الحرية، لا العبودية، وتجعل من النعيم الأرضي غاية الإنسان الأخيرة، بوصفه مناطاً وأساً وأساساً للأخلاقية Moralitat.
والدين الخلقي، عند كانط – هو الذي يقوم على الأخلاقيّة والنيّة والمقاصد الخلقيّة الخيّرة، لا على الإيمان بالمعجزات، لاستغنائه عنها، ويرى كانط أنه في الشؤون العادية لا يمكن للمرء أن يعول على المعجزات، إلا إذا كانت من النوع الخيّر، أو تنطوي على حكمة أو معنى أو مغزى، أو أن يستعملها الطبيب كقول مجازي «المريض يحتاج إلى معجزة لشفائه»! 
علام يتأسس ملكوت الله على الأرض؟
إن الكفاح الذي ينبغي على كل إنسان، ذي نية حسنة على الصعيد الخلقي، أن يخوضه تحت إمرة مبدأ الخير وضد مبدأ الشر، هو أن يكون الإنسان حراً بأن يخلص من العبودية تحت قانون الخطيئة، من أجل العدالة.
وسيطرة مبدأ الخير تقوم على إنشاء مجتمع يضم الجنس البشري، بتمامه، في نطاقه، وتأسيس العقل والواجب على الفضيلة. ومن العقل المشرّع، فضلاً عن القوانين التي يأمر بها لكل فرد، على حدة، يمتد لواء الفضيلة، بوصفه علامة الخير.
وتسمى الرابطة ما بين البشر، تحت قوانين الفضيلة، طبعاً لما تأمر به هذه الفكرة مجتمعاً أخلاقياً، ومن حيث عمومية القوانين، مجتمعاً مدنياً أخلاقياً، ومملكة الفضيلة (مملكة الخير) تستقي فكرتها من العقل الإنساني، وتقوم على الواجب (الواجبات) مقابل الحقوق المدنية .
إذا كانت الأخلاق مؤسسة على مفهوم الإنسان، ومفهوم الأنوار (أن يصنع الإنسان مصيره بنفسه (مقالة ما الأنوار؟ لكانط) وأن هذه الأخلاق لا تحتاج فيما يتعلق بذاتها إلى الدين، فما الذي دفع كانط إلى تقديم نظرية فلسفية في الدين؟
إن الإنسان بحاجة إلى غاية كبرى تكون هي مناط الواجب والأخلاق والعقل، ولكن بشرط أن تكون غاية حرة نهائية، أوسع نطاقاً من الواجب الأخلاقي والوازع العقلي.
إن حاجة الفكر إلى الدين لا تكمن في أي نوع من العبودية، بل في القدرة والحرية، حرية المصير، حرية اقتراح غاية نهائية لوجودهم على الأرض تكون بمنزلة غاية الغايات، تليق بعقولهم، وبقدرتهم على إعطاء قيمة أو معنى في صناعة قدرهم، وتدبير أمورهم وشؤونهم، لا تأتي إلى الأخلاق «من خارج» بل تنبع من الأخلاق فلا يعود الإنسان متخلقاً لأنه متدين، وإنما متدين لأنه متخلق، ولذا تكون العلاقة مع الله (الكائن الأعظم) بالمفهوم الأنواري علاقة حرية لا علاقة عبودية (إلا بمعنى الاحترام والإجلال لكائن يساعد عقولنا على تمثل غاية نهائية (خلاصية) لوجودنا على الأرض.
لماذا يحتاج البشر إلى هذا النوع من الإجلال للكائن الأكبر (الله)؟
لأن الإجلال مرادف للقداسة، والعقل الإنساني (استعمالي الطابع) يحول المفارق إلى مطابق، والتعالي إلى تدانٍ، والمقدس إلى مدنس، ولذا يثار السؤال الكانطي هنا: كيف نجمع بين حاجة البشر إلى تقديس شيء ما، وبين شعورهم الأصلي بالحرية الأخلاقية؟
يرى كانط، جواباً أن القداسة لا تخالف الحرية، بل تقوم عليها، وهي حاجة خلقية في طبيعة البشر الحرة.
ومن أجل ذلك لا تعود الفلسفة نقداً (أو نقضاً) – بالضاد – للدين بل تأصيلاً لإمكانياته الأخلاقية، ولذا لا ينفع الدين أن تحميه الدولة، من أجل حرية التفكير، كما أن دفاع أهل اللاهوت عن الدين لا مسوغ له، ضد فلاسفة الأخلاق (المجردة).
فاللاهوتي الذي يستعمل الكتاب المقدس ضد العلم ومنجزات العقل يكون كمن يسعى إلى إذلال العلوم وإعفاء نفسه من التعب في طلبها، تحت شعارات كأسلمة العلوم “أو “مسحنة” الحقيقة، لأن أسلمة العلوم لا تكون قبلية  aprioique، وإنما بعدية، aposteriorque  أي تكون بتبني الأديان منجزات العلم كالمنطق، والنظريات الكونية والرياضية، والكيميائية والفيزيائية، لأن الدين الذي يناوئ العقل – ومنطق التطور – لا يتمكن من الصمود أمامه.
فسر القدماء الدين والأسطورة بعجز الإنسان عن تفسير الحوادث والعاديات (كالعواصف والزلازل والبراكين) فلجأ إلى تألية هذه الظواهر والصوارف، أو إضفاء البُعد الإلهي عليها.
ورأى بعضهم Euhemerus في حوالي 300 ق.م أن الدين والأسطورة «تمثيل» لأحداث تاريخية حقيقية، وأن الدين يقوم على نزعات تشبيهية anthropomorphisme (أي تشخيص الآلهية وأنسنتها).
وقد رأى دايفيد هيوم، في العصر الحديث، في كتابه «الدين الطبيعي» أن جذور الدين والأسطورة تكمن في المخاوف والحاجات البشرية المحولة على الدين.
وقد حول عصر الأنوار الدين إلى «أخلاقية» Moralité أو مناقبية ذات بعد ديني، تتقدم فيها المعرفة على الإيمان، والعقل على النقل، وقد دعم هذا التوجه الفصل الذي أجراه سبينورا للعقل عن الدين، بحيث صار بوسع المعرفة الفلسفية أن تستخرج في صيغتها الرسالات والعقائد الإيمانية، وهو المذهب الذي أكده مالبرانش أحد فلاسفة عصر الأنوار الذي كان يرى أنه سيأتي يوم يكون فيه العقل البشري قد تمثل بعمق مضمون الإيمان، بحيث يستمر العقل ويحل محل الإيمان.
لقد عارض عصر الأنوار الدين الخلاصي بالدين الطبيعي. فالدين – بالمعنى الميتافيزيقي – يتجاوز الطبيعة، ويتناقض معها، وهو ما يبدو مفروضاً على العقل «من خارج» أي ما يقوم على صلة خارجية متعالية بالمطلق، وحين يتحول الدين إلى شريعة يصبح ديانة «وضعية» تقوم على منطق السلطة والإقرار والإذعان والعبادة والعبودية، وليس على الاختيار والحرية.
أما الدين الطبيعي (الدين الفلسفي التأملي) فهو يقدم الحقيقة على الشريعة، ويقرن القدسي بالدهري، والدين بالدنيا، والعلم بالعالم، والإيمان بالأخلاقية Moralité في علاقة الوجود بالشهود، والغيب بالحضور. وبهذا يرادف الدين – بالمعنى الفلسفي – آداب المعاملة (أو المناقبية الأخلاقية Ethique).
وقد فسر سبينورا الدين بهذه الأخلاقية التي تقوم على العقل.
كما فسر ماكس فيبر بهذه الأخلاقية الدين كما لو كان «دين معاملة» تقوم على العقد والوعد والعهد والإئتمان والمسؤولية، والعمل إلخ...
وقد تبنى هيغل الموقف الأنواري من الدين، باعتبار الدين شكلاً من أشكال «الوعي الشقي»، وبما أن التناهي الوجودي لا يطابق اللامتناهي الميتافيزيقي في الوضعية الدرامية لعلاقة الإنسان بالله، والوجود بالشهود، والناسوت باللاهوت، فلا بد من الوقوع في إسار الوعي الشقي.
والوعي الشقي هو المرادف لمفهوم الاستلاب alienation وهو حالة التعارض والفصام الوجداني. وهي حالة مصيرية (وجودية ووجدانية) تميز الأديان الوضعية عن الأديان أو الفلسفات الدينية الطبيعية.
وحالة «الوعي الشقي» تنعكس في ظواهرية الأديان في المصير القدري للأديان والأفراد والجماعات. فالمصير الدرامي لليهودية يقوم على فكرة «الشعب المختار»، مقابل الأغيار (الغوييم، الغرباء، الأجانب).
أما الوعي الشقي في المسيحية فيكمن في انفصاله الفاعلية الروحية عن الحياة الدهرية (الزهد، التنسك، البتولية)، على الرغم من اعتبار المسيحية «دين المحبة والتسامح»، فهل ثمة محبة ممكنة من دون حب ورغبة؟
على الرغم من هذا المفهوم العقلاني للدين (المفهوم العقلي المجرد logocratique) نجد أن الكانطية – الجديدة (شارل رينوفييه 1815-1903) وماين دوبيران (1766-1844) قبله قد طورت مفهوم «الشخص» personne  عند كانط ليصبح الإنسان، بوصفه ذاتاً، جمعية للعقل والروح والجسد، بل يحتل الروح الشخصية وصدارتها وجوهرها وأسّها، بوصفه مقوم الشخصية الحية: هل ثمة عقل وجسد بلا روح؟
يرى ماين دوبيران أن الأنية (الذات) هي نشاطية تقوم على «علاقة» الحس بالمحسوس، ويميز هنا بين الإحساس العقلي المجرد (الزماني – المكاني) والإحساس النفساني المحض الذي يفترض الشعور بالأنا والأنية، ويقوم على الإرادة، والمبادرة والحس الباطن  sens intime، الذي يميز إحساس الذات بذاتها ليس فقط كموضوع، وإنما في أفكاره وتصوراته، على أنه كائن جوهري.
ويميز دوبيران الأنا من النفس (الروح) فيرى أنه لا يوجد ثمة حدس عياني  intuition، أو تجربة في إمكانها معرفة النفس، بوصفها جوهراً مستقلاً، فهي من أمر الله.
والله، وحده، هو الذي يعرف النفس، أما الإنسان فلا يستطيع أبداً أن يدرك النفس (الروح) إلا مرتبطةً ببدن، ولا يعرف الإنسان كيف تفعل النفس ولا كيف تتلقى الانطباعات، ولكيما أعرف ما نفسي، وروحي فيجب أن أكون في مكان الله نفسه وهذا الموقف يتطابق مع الموقف الإسلامي القرآني «ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” (سورة الإسراء.85).
يميز دوبيران ثلاثة أنواع من الحياة: الحياة الحيوانية، والحياة الإنسانية، وحياة الروح. الحياة بالنسبة إلى الإنسان تبدأ من حيث الشعور بالأنا، أو الحياة الخاصة للقوى الباطنة الفعالة، الحرة.
أما حياة الحيوان، فهي غريزية، غير إرادية، وغير حرة، وتقوم على الانفعالات العمياء.
إن الإنسان (الحيوان الناطق والعاقل) يشارك الحيوان في الحيوانية، ولكنه بالقدر الذي يتحرر من الشهوات البهيمية العمياء، يتعالى بالروح إلى الإنسانية وما فوق – الإنسانية (الألوهية) أو المطلق أو الله.
وينعى شارل رينوفييه في مذهبه «الشخصانية» على كانط أنه يضع مكان الجواهر القديمة كائنات في ذاتها noumens، بينما الحقيقة هي حقيقة ظواهرية pheno – mene [ ومن هنا يعد رينوفييه مؤسس المذهب الظواهري phenomenisme] ليست ظواهر في ذاتها (متعالية ومفارقة) كما تصورها كانط، بل ظواهر ذاتية، تقوم على الوعي، كشخصية تضم أدوات الوعي وأشكاله (الزمان والمكان، والكيفية والكمية، والسببية والغائية) تقوم على العلاقة والتضايف، إذا لا يوجد مكان في ذاته، ولا زمان في ذاته ولا فكر مجرد (محض) في ذاته أو الجوهر في ذاته.
ويأخذ رينوفييه على كانط أنه أنكر الشخصية الذاتية والفردية، في تصوره النومنالي المتعالي، فيما يرى أن الوعي يفترض الذات والذاتية والشخصية ككلية للروح والعقل والجسد.
والعصر الحديث، أعاد الاعتبار للحدس intuition مع هنري برغسون، بوصفه مقوماً للذات الكلية (كتابه «التطور الخالق») كما أصبحت الشخصانية فلسفة وجودية – روحانية تقرن الروح بالعقل بالجسد.
وحتى مفهوم الدين قد أصبح في علم ظواهرية الأديان مرادفاً للدينوية [للدَّيْنَنة] religieusité التي تقرن الدين بالدنيا بالمناقبية الأخلاقية، بمنأى عن كل نزعة دالاتية شمولية (تجمع الدين بالدولة بالدنيا) أو أصولية تمامية integriste أو سلفية حَرْفية، وهو ذا الفرق بين الظواهرية الدينية، دين الظاهر، والحرف، إذ يرى مرشيا إلياد، عالِم الأديان المقارنة، الروماني الأصل أن الدينوية religieusité أشمل من الدين، إذ يقرن الدين بالدنيا، والمعنى، والأخلاق والمناقب السلوكية، باعتبار الدين تعبيراً قدسية وقداسة الوجود.
ولا ننسى أخيراً أن الروحانية في الفن أصبحت اسماً لنزعة دينية (دينوية) قال فيها الفنان هنري ماتيس: يكون الفن المقدس، دينياً أو لا يكون...
في حملته على «العقل في الفلسقة» يرى نيتشه أن الفلاسفة – سقراط وأفلاطون وكانط – كانوا يحولون الفلسفة إلى «مومياء» لافتقارهم إلى الحس التاريخي، والصيرورة، لأنهم كانوا «عبدة أصنام» يقدمون «الحقيقة» على «الظاهرة» بناء على المعادلة السقراطية عقل = فضيلة = سعادة... 
يقول نيشته: «لقد ألغينا العالم الحقيقي أي عالم سيظل هناك؟ العالم الظاهري؟.. كلا! فمع (إلغاء) العالم الحقيقي ألغينا أيضاً عالم الظواهر»...!
المراجع والمصادر
إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل، نقله إلى العربية، فتحي المسّكيني، منشورات جداول، بيروت 2012.
أندريه لالاند، معجم مصطلحات الفلسفة التقنية، منشورات عويدات، ترجمة: خليل أحمد خليل، بيروت 2012.
فريدريك نيتشه، غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت 2015.
تعقيب على مداخلة د. جميل قاسم:
تناقضية كانط الأخلاقية
في حديثكم عن محدودية العقل والمسألة الأخلاقية عند كانط ربما غاب عنكم دكتور جميل قاسم ما كان بيِّنا وصريحاً في ما صرح به القول الفلسفي الإسلامي في هذا الصدد. ويمكننا أن نستنتج من مخازن الفكر الأخلاقي الإسلامي ما يجيب على أسئلة راهنة تطرحها القضية الأخلاقية في أزمنتنا المعاصرة.
بتقديري أن الفلسفة الإسلامية تطرّقت إلى الحديث عن مفهومي الكمال والسعادة في مختلف مباحثها، اذ أشار إليهما الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه (الإشارات) وكذلك تطرّق إليها فلاسفة آخرون. مثل ابن مسكويه في كتابه الشهير "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" والمحور الذي ارتكزت عليه آراؤهم في هذا الصدّد أنّهما أمران متلازمان ولا يمكن الفصل بينهما، فكلّ كمالٍ يعدّ بهجةً وسعادةً؛ إلا أنّ إيمانوئيل كانط فرّق بينهما كما ذكرنا ورأى أنّه ليس من السهل بمكانٍ عدُّ التكليف مندرجاً ضمن مقولة الجمال (جمال الله عزّ وجلّ)، ومن ثم يجب علينا الفصل بين الأخلاق والسعادة. هذا هو رأي كانط، في حين أنّ جميع الفلاسفة في مشارق الأرض ومغاربها يعدّون الأخلاق ملازمةً للسعادة، فالفارابي على سبيل المثال ذكر بحوثاً مسهبةً حول السعادة ودوّن مؤلّفاتٍ عدّة بخصوصها ومنها كتاب (تحصيل السعادة)، والنتيجة التي أكّد عليها هي ملازمتها للكمال لدرجة أنّها لا تنفكّ عنه. وحتّى علماء الأخلاق من أمثال صاحب كتاب (جامع السعادات) و (معراج السعادة) تبنّوا هذا الرأي الشامل وعدّوا السعادة ركناً أساسياً من أركان الأخلاق؛ لكنّ كانط جعل الأخلاق ذات صلةٍ بالكمال فحسب ونأى بها عن السعادة، والطريف أنّه ناقض نفسه فيما بعد واعترض على رأيه قائلاً: «لو أنّنا فصلنا بين الأخلاق والسعادة سوف نواجه صعوبةً على الصعيد الأخلاقي، إذ إنّ من يريد تطبيق الأخلاق سوف يجد نفسه مضطرّاً للاستجابة إلى أوامر ضميره الأخلاقي في عين ابتعاده عن السعادة، ومن الصعب عليه أن يقول بأنّي أعرف مشقّة هذه الحقيقة لكنّها هي السبيل الوحيد لبلوغ الملكوت، لذا يجب عليّ اختيار سبيل الكمال لا السعادة».
أعتقد أن هناك إشكالاً صريحاً يُطرح على نظرية كانط التي تبنّى فيها فكرة تجريد الكمال عن السعادة، وهو أنّه أشار إلى الملكوت وجعله الهدف في مسيرة الكمال؛ فهل أنّ من يبلغ الملكوت الأعلى يكون سعيداً أو شقياً؟! يا ترى هل أنّ الكمال الذي يأخذ بيد الإنسان نحو الملكوت، سيقوده نحو السعادة أو الشقاء؟! من المؤكّد أنّ كانط لا محيص له هنا من القول بكون الكمال لا يمكن أن يقود الإنسان نحو الشقاء، بل لا بدّ من أن يسوقه إلى السعادة.
إذن، نستنتج من هذا الاستدلال أنّ السعادة التي فصل كانط بينها وبين الكمال هي تلك السعادة الحسّية وليست الملكوتية، أي إنّه عدّ الكمال في منأى عن سعادة الملذّات الدنيوية المادّية، وفي غير هذه الحالة ليس من الحكمة بمكانٍ زعم أنّ الكمال أمراً لا يمتّ بصلةٍ إلى السعادة، ومن هذا المنطلق نجد أساطين علم الفلسفة من أمثال الحكيم ابن سينا ذهبوا إلى القول بعدم إمكانية تجريد الكمال عن السعادة.
أود أن أشير أيضاً إلى أنّ كانط بنفسه لم يتمكّن من طرح استدلالٍ مقنعٍ للفصل بين الأمرين، لذا إن أردنا تبرير رأيه فلا مناص لنا من القول بأنّه أراد السعادة الدنيوية المادّية وليست الملكوتية، حيث أكد الحكماء الإلهيون والعلماء المسلمون على وجود سعادتين، إحداهما مادّيةٌ والأخرى روحانيةٌ.
المسألة الأخطر برأيي أن كانط، وبصرف النظر عن إيمانه وعدم إيمانه والجدل التأويلي الطويل بين قرّائه حول هذا الموضوع، قد فصل بين الأخلاق أو مصدرها الإلهي.
وهو ما شكل واحداً من أبرز العيوب التي عصفت بنظامه الفلسفي.

(عن الفيسبوك)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق